الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
--
فصل:
ثم يدفع قبل طلوع الشمس إلى منى لقول عمر: (كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فأفاض قبل طلوع الشمس) رواه الجماعة إلا مسلماً لكن في رواية أحمد وابن ماجة (أشرق ثبير كيما نغير) وقوله أشرق ثبير بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وكسر الراء وسكون القاف فعل أمر من الإشراق، وثبير بفتح المثلثة وكسر الموحدة والضم منادى حذف منه حرف النداء، والمعنى لتطلع عليك الشمس، وكيما نغير بالنون أي نذهب سريعاً، يقال أغار يغير: إذا أسرع في العدو والله أعلم، ويدفع وعليه السكينة لقول ابن عباس (ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم الفضل بن العباس وقال: يا أيها الناس إن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل فعليكم السكينة) فإذا بلغ وادي محسر بالحاء المهملة والسين المهملة المشددة، وهو وادٍ بين مزدلفة ومنى وليس من واحد منهما كما تقدم، قال الأزرقي في تاريخه: وهو خمسمائة ذراع وخمسة وأربعون ذراعاً انتهى. أسرع قدر رمية حجر فإن كان راكباً حرك دابته لقول جابر: حتى أتى بطن محسر حرك قليلاً، والعلة فيما كما في المجموع للشافعية أن النصارى كانت تقف هناك فنسرع نحن مخالفة لهم، وعبر الغزالي بالعرب بدل النصارى، قال ابن حجر: ولا مانع أن كلا كان يقف ثمَّ، أو مراده بالعرب العرب من النصارى، وقيل ومشى عليه النووي: لأنه محل هلاك أصحاب الفيل، وبحثه الأسنوي لعدم روايته له منقولاً ثم قال هو كديار ثمود إذ يُسن لمن مر بها الإسراع، ويؤيد الأول قول عمر وابنه رضي الله عنهما عند إسراعهما في وادي محسر:
إليك تعدو قلقاً وضينها
…
معترضاً في بطنها جنينها.
مخالفاً دينَ النصارى دينها
…
قد ذهب الشحم الذي يزينها.
واعترض الثاني بأن نزول العذاب على أصحاب الفيل إنما كان بمحل يسمى المغمس بفتح الميم الثانية وقد تكسر، بل المعروف أن الفيل المذكور لم يدخل الحرم أصلا انتهى، وقائل هذه الأبيات أبو علقمة أخو أسقف نجران لأمه وابن عمه لما توجه يريد النبي صلى الله عليه وسلم، والوضين بطان عريض منسوج من سيور أو شعر، أو لا يكون إلا من جلد كما في القاموس، والقلق: الانزعاج والله أعلم.
قال ابن القيم رحمه الله: فلما أتى صلى الله عليه وسلم بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير، وهذه كانت عادته في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه فإن هنالك أصاب أصحاب الفيل ما قص الله علينا؛ ولذلك سمي ذلك الوادي وادي محسر لأن الفيل حسر فيه: أي أعيي وانقطع عن الذهاب، وكذلك فعل في سلوكه الحجر وديار ثمود فإنه تقنع بثوبه وأسرع السير، ومحسر برزخ بين منى وبين مزدلفة لا من هذه ولا من هذه، وعرنة برزخ بين عرفة والمشعر الحرام، فبين كل مشعرين برزخ ليس منهما، فمنى من الحرم وهي مشعر، ومحسر من الحرم وليس بمشعر ومزدلفة حرم ومشعر، وعرنة ليست مشعراً وهي من الحل، وعرفة حل ومشعر انتهى كلامه رحمه الله، ويكون في دفعه من مزدلفة إلى منى ملبياً إلى أن يرمي جمرة العقبة لقول الفضل بن العباس:(لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى الجمرة) رواه مسلم مختصراً، وجمرة العقبة آخر الجمرات مما يلي منى وأولها مما يلي مكة؛ وهي الجمرة الكبرى وليست من منى، بل هي حد من جهة مكة، وهي التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار عندها على الهجرة، والجمرة
اسم لمجتمع الحصا، سميت بذلك لاجتماع الناس بها، يقال: تجمر بنو فلان إذا اجتمعوا، وقيل إن العرب تسمي الحصا الصغار جماراً فسميت بذلك تسمية الشيء بلازمة، وقيل لأن إبراهيم لما عرض له إبليس فحصبه جمر بين يديه: أي أسرع فسميت بذلك، ويأخذ حصا الجمار من طريقه قبل أن يصل إلى منى، أو يأخذه من مزدلفة، ومن حيث أخذ الحصا جاز لقول ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته (القط لي حصا فلقطت له سبع حصيات هن حصا الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: أمثال هؤلاء فارموا، ثم قال: يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) . رواه ابن ماجة، وكان ذلك بمنى.
قال ابن القيم: (ثم سار صلى الله عليه وسلم من مزدلفة للفضل بن عباس وهو يلبي في مسيره وانطلق أسامة بن زيد على رجليه في سباق قريش، وفي طريقه ذلك أمر ابن عباس أن يلتقط له حصى الجمار سبع حصيات ولم يكسرها من الجبل تلك الليلة كما يفعل من لا علم عنده، ولا التقطها بالليل فالتقط له سبع حصيات من حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول أمثال هؤلاء فارموا) الحديث. وينفضهن بالنون والفاء الموحدتين من فوق، وفي بعض الروايات يقبضهن والأولى أصح والله أعلم.
قال في المنتهى وغيره: ويأخذ حصا الجمار سبعين حصاة أكبر من الحمص ودون البندق كحصا الخذف انتهى. قلت: والسبعون لمن أراد التأخر، وأما من أراد التعجل فيكفيه تسع وأربعون حصاة كما هو ظاهر. والحديث يدل على أن ابن عباس لم يلقط للنبي صلى الله عليه وسلم غداة العقبة، أي صباح يوم النحر إلا سبع حصيات فقط وهي التي رمى بها جمرة العقبة والله أعلم. والخذف بالخاء والذال المعجمتين: هو الرمي بنحو
حصاة بين السبابتين يخذف بها، وليس المراد أن رمي الجمار يكون على هيئة الخذف وإنما المراد أن حصا الجمار بقدر حصا الخذف، قال النووي: وقدرهن نحو حبة الباقلا انتهى، قال الخرقي: ويأخذ حصا الجمار من طريقه أو من مزدلفة، قال في المغني: إنما استحب ذلك لئلا يشتغل عند قدومه مني بشيء قبل الرمي فإن الرمي تحية منى كما أن الطواف تحية المسجد فلا يبدأ بشيء قبله؛ وكان ابن عمر يأخذ الحصا من جمع وفعله سعيد بن جبير وقال: كانوا يتزودون الحصا من جمع واستحبه الشافعي، وعن أحمد قال: خذ الحصا من حيث شئت، وهو قول عطاء وابن المنذر وهو أصح إن شاء الله تعالى لأن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته (القط لي حصا) وذكر الحديث ثم قال وكان ذلك بمنى، ولا خلاف في أنه يجزئه أخذه من حيث كان إلى أن قال: قال الأثرم يكون أكبر من الحمص ودون البندق، وكان ابن عمر يرمي بمثل بعر الغنم انتهى ومثله في الشرح الكبير.
قال في الإقناع وشرحه: ويأخذ حصا الجمار من طريقه قبل أن يصل إلى منى أو يأخذه من مزدلفة، ومن حيث أخذه أي الحصا جاز لقول ابن عباس وذكر الحديث، قال في المنتهى وشرحه ومن حيث شاء أخذ حصا الجمار، وكره أخذ الحصا من الحرم يعني المسجد؛ لما تقدم من جواز أخذه من جمع ومنى وهما من الحرم، وقد أوضحته في الحاشية انتهى ملخصا. وعبارة الشيخ منصور في الحاشية قال هكذا في الإنصاف وغيره وفيه نظر فإنه ذكر أن جواز أخذها من طريقه ومن مزدلفة ومن حيث شاء هو المذهب وأن عليه الأصحاب، وأيضاً فابن عباس جمعها للنبي صلى الله عليه وسلم من منى وابن عمر أخذها من جمع، قال سعيد بن جبير: كانوا يتزودون الحصا من جمع، ومزدلفة ومنى من الحرم، ولعل المراد
بالحرم هاهنا نفس المسجد الحرام، وأصل العبارة لصاحب الفروع قال في تصحيحها: وهذا والله أعلم سهو، وقال ولعله أراد حرم الكعبة وفي معناه قوة انتهى: أي أراد بالحرم المسجد الحرام، يؤيده قوله في المستوعب وإن أخذه من غيرها جاز إلا من المسجد لما ذكرنا أنه يكره إخراج شيء من حصا الحرم وترابه وتمامه فيه. قلت: الصحيح من كلامهم أن له أخذ حصا الجمار من مزدلفة ومن طريقة منها إلى منى ومن منى ومن حيث شاء إلا من نفس المسجد الحرام والله أعلم، وكره أخذ الحصا من الحش لأنه مظنة نجاسته، وكره تكسير الحصا لئلا يطير إلى وجهه شيء يؤذيه، ولا يسن غسله. قال الإمام أحمد: لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله انتهى. إلا أن تعلم نجاسته فيغسله خروجاً من الخلاف في أجزائه، وتجزئ مع الكراهة حصاة نجسة، أما أجزاؤها فلإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم (أمثال هؤلاء فارموا) وأما كراهتها فخروجاً من الخلاف، فإن غسل الحصاة النجسة زالت الكراهة لزوالها علتها، وتجزئ حصاة غير معهودة كحصاة من مسن وبرام ومرمر، ومرو: وهو حجر الصوان، ورخام وكدان، وسواء السوداء والبيضاء والحمراء لعموم الخبر.
والمسن بكسر الميم: ما تسن عليه السكين ونحوها. والبرام من الحجارة، يعمل منه قدور البرام، ولا تجزئ حصاة صغيرة جداً أو كبيرة لأمره صلى الله عليه وسلم بالرمي بمثل حصا الخذف، فلا يتناول ما لا يسمى حصا، ولا كبيرة تسمى حجراً، ولا تجزئ حصاة رمي بها لأخذه صلى الله عليه وسلم الحصا من غير المرمى ولأنها استعملت في عبادة فلا تستعمل فيها ثانيا كماء وضوء.
وقال الشافعي يجزئه لأنه حصا فيدخل في العموم انتهى، ولا يجزئ الرمي بغير حصا كجوهر وزمرد وياقوت وذهب وفضة ونحاس وحديد ورصاص وخشب وطين، ومدر، وهو قطع الطين اليابس ونحو ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم
رمى بالحصا وقال (خذوا عني مناسككم) وقال أبو حنيفة: يجوز بالطين والمدر وما كان من جنس الأرض، وقال نحوه الثوري، فإذا وصل إلى منى، قال القاموس: مِنَى كَإلى ويصرف، سميت بذلك لكثرة ما يمنى بها من الدماء، وروي عن ابن عباس (إنما سميت بذلك لأن جبريل لما أراد أن يفارق آدم قال له تمنَّ قال أتمنى الجنة فسميت منى لأمنية آدم عليه السلام. انتهى.
وحدها من وادي محسر إلى جمرة العقبة، ووادي محسر وجمرة العقبة ليسا من منى سلك استحباباً الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلكها وبدأ بجمرة العقبة سواء كان راكباً أو ماشياً لحديث ابن مسعود (إنه انتهى إلى جمرة العقبة فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات وهو راكب يكبر مع كل حصاة، وقال: اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً، ثم قال: هاهنا كان يقوم الذي أنزلت عليه سورة البقرة) . رواه أحمد، فلا يبدأ بشيء قبل رميها لأنها تحية منى، وامتازت جمرة العقبة عن الجمرتين الأخرتين بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النحر، وأن لا يوقف عندها، وكونها ترمى يوم النحر بعد الشروق وترمى من أسفلها استحباباً أي لا من أعلى العقبة التي أزيلت في زمننا هذا، ويرميها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة بعد طلوع الشمس ندباً لقول جابر (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعدُ فإذا زالت الشمس) . أخرجه الجماعة.
قال في الإقناع وشرحه، فإن رمى بعد نصف ليلة النحر أجزأه الرمي إن كان قد وقف بعرفة وإلا فبعده كطواف الإفاضة، لما روى أبو داود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت) وروي (أنه أمرها أن تعجل الإفاضة وتوافي مكة مع صلاة الفجر) احتج به أحمد، ولأنه وقت للدفع من مزدلفة
فكان وقتاً للرمي كما بعد طلوع الشمس، وحديث أحمد عن ابن عباس مرفوعاً (لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) محمول على وقت الفضيلة جمعاً بين الأخبار انتهى كلام الإقناع وشرحه.
قلت: قد تقدم كلام ابن القيم رحمه الله على حديث عائشة وحديث ابن عباس المذكورين وذكر أن حديث عائشة هذا منكر أنكره الإمام أحد وغيره وذكر في زاد المعاد أدلة إنكاره فليراجع عند الحاجة إليه. وجزم الشيخ مرعي في غايته بأن وقت الحلق من نصف ليلة النحر لمن وقف قبله كرمي والله أعلم، وإن غربت الشمس من يوم النحر قبل رمي جمرة العقبة فإنه يرميها من غده بعد الزوال لقول ابن عمر: من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرمي حتى تزول الشمس من الغد، فإن رمى بسبع الحصيات دفعة واحدة لم يجزئه الرمي إلا عن حصاة واحدة يحتسب بها ويتمم عليها لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى سبع رميات وقال:(خذوا عني مناسككم) ويؤدب نصاً من رمي أكثر من حصاة دفعة واحدة زجراً له وردعاً لغيره عن الاقتداء به. ويؤخذ من هذا أن من فعل بدعة يؤدب لا سيما إذا خيف أن يقتدي به فيها، ويشترط علمه بحصول ما يرميه من الحصا في المرمى في جمرة العقبة وغيرها، لأن الأصل بقاء الرمي في ذمته فلا يزول عنه بالظن ولا بالشك فلا يبرأ إلا بيقين.
قال في المغني: وإن رمى حصاة فشك هل وقعت في المرمى أو لا لم يجزئه لأن الأصل بقاء الرمي في ذمته فلا يزول بالشك، وإن كان الظاهر أنها وقعت فيه أجزأته لأن الظاهر دليل انتهى.
قال في الشرح الكبير: وإن رمى حصاة فشك هل وقعت في المرمى أو لا؟ لم يجزئه لأن الأصل بقاء الرمي في ذمته فلا يزول بالشك، وعنه يجزئه ذكره ابن البنا في الخصال، وإن غلب على ظنه أنها وقعت فيه أجزأته لأن الظاهر دليل انتهى. قال الشيخ منصور وعنه يكفي ظنه وقواعد المذهب
تقتضيه إلا أن يقال لا مشقة في اليقين انتهى.
قلت المذهب اشتراط العلم بحصول ما يرميه من الحصا في المرمى والله أعلم. ولا يجزئ وضع الحصا في المرمى لأن الوضع ليس برمي بل يعتبر طرحها لفعله صلى الله عليه وسلم وقوله: (خذوا عني مناسككم)، قال في الإقناع: ولو أصابت الحصاة مكاناً صلباً في غير المرمى ثم تدحرجت إلى المرمى أو أصابت ثوب إنسان ثم طارت فوقعت في المرمى أجزأته لأن الرامي انفرد برميها، وكذا لو نفضها أي الحصاة من وقعت على ثوبه فوقعت في المرمى أجزأته نصاً لحصولها في المرمى انتهى.
قال مرعي في الغاية: ويتجه إن نفضها من وقعت على ثوبه فوراً وأنه لا بد من مريها بيد فلا يجوز الرمي بالقوس أو الرجل أو الفم انتهى، قال في المنتهى: فلو وقعت خارجه ثم تدحرجت فيه أو على ثوب إنسان ثم صارت فيه ولو بنفض غيره، أي الرامي أجزأته انتهى، قال الخلوتي في حاشيته على المنتهى: قوله ثم صارت فيه يؤخذ من العطف بثم أنه لا تشترط الفورية انتهى. قلت: وما اتجه الشيخ مرعي من اشتراط الفورية وجيه خصوصاً في رمي الجمرات الثلاثة بعد يوم النحر، فإن لو رمي مثلاً حصاة من الجمرة الأولى وتأخرت فلم تقع في المرمى إلا بعد رميه شيئاً من الجمرة الثانية لحصل خلل في الترتيب وهو شرط في الرمي والله أعلم. وقال ابن عقيل في مسألة ما إذا نفض الحصاة: من وقعت على ثوبه لا تجزئه لأن حصولها في المرمى بفعل الثاني دون الأول، قال في الفروع وهو أظهر، قال في الإنصاف وهو الصواب، قال الشيخ منصور وهو كمال قال. قالت: والمذهب الإجزاء كما تقدم، ولكن ما ذهب إليه ابن عقيل وجيه لا سيما وقد استظهره ابن مفلح في الفروع وصوبه المرداوي في الإنصاف، وارتضاه الشيخ منصور والله أعلم. وإن رمى الحصاة فاختطفها طائر قبل حصولها في المرمى أو ذهبت بها ريح
عن المرمى لم يعتد له بها لعدم حصولها في المرمى، والمرمى: هو مجتمع الحصا لا نفس الشاخص، قال الشيخ سليمان بن علي في منسكه تنبيه: المرمى الذي تترتب عليه الأحكام بقولهم: يعتبر حصول كل حصاة في المرمى، هو الأرض المحيطة بالميل المبني، فلو طرح الحصاة في رأس البناء لم يعتد بها لأنها لم تحصل في المرمى انتهى ملخصا.
قلت: إذا طرح الحصاة في رأس البناء كما يفعله كثير من الحجاج فتدحرجت في المرمى المحطوط بالبناء في الجمرات الثلاث فإنها تجزئة، أما إذا بقيت على رأس البناء فإنها لا تجزئه فيما يظهر لي والله أعلم. ويكبر مع كل حصاة لفعله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم من حديث جابر ويقول مع كل حصاة اللهم اجعله حجاً مبروراً: أي مقبولاً، يقال بر الله حجه: أي تقبله. وذنباً مغفوراً وعملاً مشكوراً، لما روى حنبل عن زيد بن اسلم قال:(رأيت سالم بن عبد الله استبطن الوادي ورمى الجمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة الله أكبر الله أكبر ثم قال: اللهم اجعله فذكره فسألته عما صنع؟ فقال: حدثني أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة من هذا المكان ويقول كلما رمى مثلما قلت) . وكذا كان ابن عباس يقول، ويرفع الرامي للجمار يمناه حتى يرى بالبناء للمفعول بياض إبطه لأن في ذلك معونة على الرمي، قال في المغني والشرح: فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة ثم ينصر ولا يقف.
قال في المنتهى والإقناع وغيرهما من كتب المذهب: ويستبطن الوادي ويستقبل القبل ويرمي على حاجبه الأيمن ندباً انتهى لحديث عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي أبي بكر الكوفي قال (لما أتى عبد الله بن مسعود جمرة العقبة استبطن الوادي واستقبل القبلة وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن ثم رمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم قال: والله الذي لا إله
غيره من هاهنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة) . قال الترمذي حديث حسن صحيح ورواه ابن ماجة، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: يرمي جمرة العقبة مستقبلا لها يجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، هذا هو الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها انتهى. قلت: وما ذكره الأصحاب من استقبال القبلة عند رمي جمرة العقبة هو استناد على رواية الترمذي المذكورة، وقد روى هذا الحديث البخاري وفيه:(وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه) وكذلك رواه مسلم وأبو داود، ولفظه: حدثنا حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم المعني، قالا: أنبأنا شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن زيد عن ابن مسعود قال: (لما انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ورمى الجمرة بسبع حصيات وقال هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة) انتهى، وما رواه البخاري ومسلم وأبو داود هو الصحيح، وما رواه الترمذي وابن ماجة شاذ في إسناده المسعودي وقد اختلط والله أعلم، وقوله في الحديث سورة البقرة، خصها بالذكر لأن كثيراً من أفعال الحج مذكور فيها فكأنه قال هذا مقام الذي أنزلت عليه أحكام المناسك منبها بذلك على أن أفعال الحج توقيفية، ويحتمل أنه خص سورة البقرة بذلك لطولها وعظم قدرها وكثرة ما فيها من الأحكام والله أعلم.
وله رمى جمرة العقبة من فوقها لأن عمر رضي الله عنه جاء والزحام عند الجمرة فرماها من فقوها، قال في الإقناع وشرحه، وله رميها؛ أي جمرة العقبة من فوقها لفعل عمر انتهى، قال في المنتهى وشرحه، وله رميها؛ أي الجمرة من فوقها لفعل عمر لما رأى من الزحام عندما انتهى، لكن الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم هو رمي جمرة العقبة مستقبلاً لها والبيت عن يساره ومنى عن يمينه وقد استبطن الوادي وقال:(لتأخذوا عني مناسككم)
فاتباع سنته صلى الله عليه وسلم أولى من الأخذ بفعل عمر رضي الله عنه من رميها من فوقها، قال ابن حجر العسقلاني: وقد أجمعوا على أنه من حيث رماها: أي جمرة العقبة جاز سواء استقبلها أو جعلها عن يمينه أو يساره أو من فوقها أو من أسفلها أو وسطها والاختلاف في الأفضل انتهى كلامه.
وقولهم له رمى جمرة العقبة من فوقها وذلك أن هناك عقبة معتلية في جانب الجمرة وقد أزيلت العقبة في زمننا هذا فما ذكره العلماء في كتبهم من الآثار وأقوال العلماء من ذكر رمي جمرة العقبة من فوقها إنما كان ذلك قبل إزالة العقبة التي في ظهر الجمرة المذكورة شمالاً شرقاً وكان إزالة العقبة في شهر جمادى الأولى سنة ستة وسبعين وثلثمائة وألف، وزوال العقبة لا يؤثر في حكم الرمي المتعلق بالجمرة من أن الأفضل رميها مستقبلا لها منى عن يمينك ومكة عن شمالك، ولا يقف الرامي عند جمرة العقبة بل يرميها وهو ماش بلا وقوف عندها لقول ابن عمر وابن عباس (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى جمرة العقبة مضى ولم يقف) رواه ابن ماجة وروى البخاري معناه من حديث ابن عمر، قال في شرح الإقناع والمنتهى: ولضيق المكان أي عندها، وقال ابن القيم وقيل وهو أصح: إن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها، فلما رمي جمرة العقبة فرغ الرمي. والدعاء في صلب العبادة قبل الفراغ منها أفضل منه بعد الفراغ منها انتهى ويأتي.
(فائدة) : يكره طرد الناس عند رمي الجمار لحديث أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله العامري قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمار على ناقة ليس ضرب ولا طرد ولا إليك إليك) قال الترمذي. هذا حديث حسن صحيح،
وإنما يعرف هذا الحديث من هذا الوجه وهو حديث أيمن بن نابل وهو ثقة عند أهل الحديث، ورواه ابن ماجة من حديث قدامة بن عبد الله المذكور ولفظه:(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر على ناقة له صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك) . ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي، يروى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وميمونة رضي الله عنهم، وبه قا عطاء وطاووس وسعيد بن جبير والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لحديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما قال:(كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع إلى منى فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة) . رواه الجماعة، ورديفه يومئذ أعلم بحاله من غيره، ويستحب قطع التلبية عند أول حصاة لما في بعض ألفاظ حديث الفضل (حتى رمي جمرة العقبة قطع عند أول حصاة) رواه حنبل في المناسك وهذا بيان يتعين الأخذ به، وفي رواية من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر مع كل حصاة دليل على أنه لم يكن يلبي ولأنه يتحلل بالرمي، وإذا شرع فيه قطع التلبية كالمعتمر يقطع التلبية بالشروع في الطواف.
(تنبيه) عبارة الأصحاب صريحة في أنه لا يقطع التلبية إلا إذا ابتدأ في رمي جمرة العقبة، فهل إذا أخر رميها حتى طاف للإفاضة وسعى يلبي حتى يرميها أم لا؟ ظاهر عبارتهم أنه يلبي حتى يشرع في رميها لإطلاقهم ذلك، والذي يترجح عندي أنه إذا شرع في طواف الإفاضة يقطع التلبية كما يقطعها المعتمر إذا شرع في طواف العمرة، لأن طواف الإفاضة شروع في التحلل كالشروع في الرمي وأولى، ولأنه إذا حلق بعد الطواف حصل له التحلل الأول فلم يبق وجه لمشروعية التلبية بعد التحلل مع أنه لم يرم جمرة العقبة، هذا ما ظهر لي والله أعلم.
(فائدة) أصل مشروعية الرمي كما في مثير الغرام الساكن لابن الجوزي: أنه لما فرغ أبونا إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بناء البيت أتاه جبريل فأراه الطواف ثم أتى به جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطاها إبراهيم، وأخذ سبعاً أيضاً وقال له ارم وكبر، فرميا وكبرا حتى غاب الشيطان، ثم أتى الجمرة الوسطى فعرض لهما الشيطان ففعلا كما تقدم، ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما ففعلا كذلك انتهى. قلت وفي حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى) . رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ولفظه (إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله تعالى) وسكت عنه أبو داود، وأما الترمذي فقال إنه حديث حسن صحيح. فاتضح من هذا الحديث أن أصل مشروعية الرمي هو أيضاً لإقامة ذكر الله تعالى ويأتي في فصل، ثم يرجع من أفاض إلى مكة شيء من أحكام رمي الجمار إن شاء الله تعالى.
(فائدة) : قال ابن القيم رحمه الله (سئل صلى الله عليه وسلم أن يبنى له بمنى بناء يظله من الحر فقال: لا، منى مناخ لمن سبق إليه) قال وفي هذا دليل على اشتراك المسلمين فيها وأن من سبق إلى مكان منها فهو أحق به حتى يرتحل عنه ولا يملكه بذلك انتهى كلامه.
وعن عائشة قالت: (قلت يا رسول الله: ألا تبني لك بمنى بناء يظلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، منى مناخ من سبق) رواه الدارمي في سننه والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي حديث حسن صحيح وقال ابن القيم أيضاً في الهدي فالحرم ومشاعره كالصفا والمروة والمسعى ومنى وعرفة ومزدلفة لا يختص بها أحد دون أحد بل هي مشتركة بين الناس؛ إذ هي
محل نسكهم ومتعبدهم فهي مسجد من الله وقفه ووضعه لخلقه ولهذا امتنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبنى له بيت بمنى يظله من الحر وقال منى مناخ من سبق انتهى.
تنبيه: إذا ضاقت أرض منى بالحاج ولم يجد موضعاً ينزل فيه بمنى ساغ له أن ينزل في أي أرض تلي أرض منى كمزدلفة ولا دم عليه لأنه معذور حكمه حكم المكره المضطر لأنه لا يستطيع سوى ذلك والله أعلم. وفي أول السنة أعني سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة وألف صدر أمر صاحب السمو الملكي ولي عهد المملكة العربية السعودية علي وعلى جماعة من أعيان أهالي مكة بالنظر في البناء المحدث بمنى وتقرير ما نراه، فتوجهنا إلى منى ونظرنا فيه فقررنا إزالة الأبنية المحدثة والأحوشة التي كادت أن تبلغ وادي محسر فوافق سموه على قرارنا وأمر بإزالة البناء وتوسيع الشوارع فكان ذلك حسنة من حسناته يلقى بها ربه يوم يجزي الله المحسنين ثم عاد بعض الناس إلى البناء بمنى وهذا لا يجوز.
(نكتة) قال الشيخ محمد السفاريني: قال الحافظ بن الجوزي: ربما قال قائل نعلم أن الحجيج خلق كثيرون ويحتاج كل واحد منهم أن يرمي سبعين حصاة (يعني إن تأخر وأما إن تعجل فيكفيه تسع وأربعون) وهذا من زمن أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، والمرمى مكان صغير ثم لا يجوز أن يرمي بحصاة قد رمى بها قبل، ونرى الحصا في المرمى قليلاً فما وجه ذلك؟ فالجواب ما روى عن سعيد بن جبير أنه قال:(الحصا قربان فما قبل منه رفع وما لم يقبل منه بقى) انتهى. قال في المغني: ولأن ابن عباس قال: ما تقبل منها يرفع انتهى وكذلك في الشرح الكبير، وروى الأزرقي بسنده إلى سعيد بن جبير أنه قال: (إنما الحصا قربنان فما تقبل منه
رفع، وما لم يتقبل منه فهو الذي يبقى) وبسنده إلى ابن عمر أنه قال:(والله ما قبل الله من امرئ حجة إلا رفع حصاه) وبسنده إلى ابن عباس أنه قال: (والله ما قبل الله من امرئ حجة إلا رفع حصاه) انتهى، ثم ينحر هديه إن كان معه واجباً كان أو تطوعاً لقول جاب في صفة حجته صلى الله عليه وسلم (إنه رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها) . رواه أحمد ومسلم.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وكان ينحرها قائمة معقولة يدها اليسرى، وكان عدد هذا الذي نحره عدد سني عمره، ثم أمر عليا أن يتصدق بجلالها ولحومها وجلودها في المساكين وأمره أن لا يعطي الجزار في جزارتها شيئاً منها وقال نحن نعطيه من عندنا، وقال من شاء اقتطع انتهى.
وفي حديث البراء بن عازب قال: (لما قدم علي من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي انحر من البدن سبعا وستين أو ستا وستين وانسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين) رواه أبو داود والنسائي وحديث جابر أصح سنداً من حديث البراء، قوله أو ستاً وستين هكذاً في سنن أبي داود، وكان جملة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة كما في صحيح مسلم. قال النووي والقرطبي ونقله القاضي عياض عن جميع الرواة: إن الصواب ما وقع في رواية مسلم من (أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين بيده ثم أعطى علياً فنحر ما غَبَر) لا ما وقع في رواية أبي داود والله أعلم، فإن لم يكن معه هدي وكان عليه هدي واجب لتمتع أو قران أو نحوهما اشتراه وذبحه، وإن أحب أن يضحي اشترى ما يضحي به، وكذا إن أحب أن يتطوع
بهدي ثم يحلق رأسه لقوله تعالى: (محلقين رءوسكم ومقصرين) ولحديث ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع) . متفق عليه. ويبدأ بشق رأسه الأيمن لحديث أنس (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس) .
رواه أحمد ومسلم وأبو داود، ويستقبل القبل في الحلق لأنه نسك أشبه سائر المناسك، ويكبر وقت الحق كالرمي، والأولى أن لا يشارط الحلاق على أجرة، وإن قصر فمن جميع شعر رأسه نص عليه الإمام أحمد لا من كل شعرة بعينها لأن ذلك يشق جداً ولا يكاد يعلم إلا بحلقه، قال في الإنصاف: قلت هذا لا يعدل عنه ولا يسع الناس غيره انتهى لقوله تعالى: (محلقين رءوسكم ومقصرين) وهو عام في جميع شعر الرأس، ولا يجزئ حلق بعض الرأس أو تقصيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه فكان ذلك تفسيراً لمطلق الأمر بالحلق أو التقصير فيجب الرجوع إليه، قال في الشرح الكبير يلزمه الحلق أو التقصير من جميع شعره وكذلك المرأة (يعني في التقصير) وبه قال مالك، وعنه يجزئه بعضه كالمسح كذلك قال ابن حامد، وقال الشافعي يجزئه التقصير من ثلاث شعرات، وقال ابن المنذر يجزئه ما يقع عليه اسم التقصير لتناول اللفظ له انتهى، وعند أبي حنيفة يجزئ ربع الرأس، وعند أبي يوسف نصفه، ومن لبّد رأسه أو ضفره أو عقصه فكغيره في جواز التقصير، والمرأة تقصر من شعرها على أي صفة كان من ضفر وعقص وغيرهما قدر أنملة فأقل من رؤوس الضفائر لحديث ابن عباس مرفوعاً (ليس على النساء الحلق إنما على النساء التقصير) رواه أبو داود والدارقطني والطبراني وقد قوى إسناده البخاري في التاريخ وأبو حاتم في العلل، وحسنه الحافظ، وأعله ابن القطان،
ورد عليه ابن المواق ولأن الحلق مثله في حقهن فتقصر من كل قرن قدر أنملة، ونقل أبو داود تجمع شعرها إلى مقدم رأسها ثم تأخذ من أطرافه قدر أنملة، وكذا عبد يقصر ولا يحلق إلا بإذن سيده لأن الحلق ينقص قيمته، قال الزركشي لأن الشعر ملك للسيد ويزيد في قيمته ولم يتعين زواله فلم يكن له ذلك كغير حال من الإحرام، نعم إن أذن له سيده جاز إذ الحلق له انتهى، قال في الغاية: لوا يحلق بلا إذن سيده ويتجه إن نقصت به قيمته انتهى.
ويسن لمن حلق أو قصر أخذ أظفاره وشاربه وعانته وإبطه، قال ابن المنذر:(ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه قلم أظفاره) وكان ابن عمر يأخذ من شاربه وأظفاره، ويستحب إذا حلق أن يبلغ العظم الذي عند منقطع الصدغ من الوجه لقول ابن عمر للحالق: ابلغ العظمين، افصل الرأس من اللحية، وكان عطاء يقول: من السنة إذا حلق أن يبلغ العظمين، وقال في المغني والشرح وكان عطاء وطاووس والشافعي يحبون لو أخذ من لحيته شيئاً انتهى، قال في الفروع: ويسن أخذ أظفاره وشاربه، وقال ابن عقيل وغيره ومن لحيته انتهى. قال النووي قال الشافعي رحمه الله تعالى: ولو أخذ من شاربه أو شعر لحيته شيئاً كان أحب إليّ ليكون قد وضع من شعره شيئاً لله تعالى انتهى. قال ابن حجر الهيتمي: وقد يستأنس لما قاله الشافعي بما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما (أنه كان إذا حلق في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه) انتهى. وفي الموطأ عن مالك عن نافع (أن عبد الله بن عمر كان إذا حلق في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه) .
وعن مالك أنه بلغه أسن سالم بن عبد الله كان إذا أراد أن يحرم دعا بالجملتين فقص شاربه وأخذ من لحيته قبل أن يركب وقبل أن يهل محرماً انتهى. قلت يحمل ما ذكروه في الأخذ من اللحية على ما إذا كانت كثيفة وأخذ منها ما زاد على القبضة لأن الأحاديث الصحيحة
صريحة في وجوب إعفاء اللحى، وقد حرم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء المعتبرين حلقها والله أعلم. وكلام الشافعي يدل على أن الأخذ منها لأجل التقرب إلى الله بذلك لقوله ليكون قد وضع من شعره شيئا لله تعالى والله أعلم.
ويجب الاحتراز عند الحلق والتقصير من حلق أو تقصير الشعر النازل عن حد الرأس كالعنق والعارض قبل إكمال حلق الرأس أو تقصيره فإنه محظور، أما إذا كان الحلق بعد رمي جمرة العقبة وطواف الإفاضة جاز له ذلك لأنه قد حصل له التحلل الأول بهما فحل له كل شيء إلا النساء والله أعلم. قال في شرح الإقناع قال أبو حكيم ثم يصلي ركعتين انتهى، يعني بعد الحلق أو التقصير، قال بعض علماء الشافعية: لم أر أحداً من أصحابنا قال بسنية الركعتين بعد الحلق بل الذي يتجه كراهتهما قياساً على الصلاة بعد السعي بجامع عدم ورود كل انتهى. قلت ما قاله البعض وجيه لعدم ورود سنية الركعتين عنه صلى الله عليه وسلم وقد قال (خذوا عني مناسككم) ولم ينقل أنه فعل ذلك ولا أمر به ولا أقرّ عليه والله أعلم. قال في المغني: والأصلع الذي لا شعر على رأسه يستحب أن يمر الموسى على رأسه، روى ذلك عن ابن عمر، وبه قال مسروق وسعيد بن جبير والنخعي ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الأصلع يمر الموسى على رأسه وليس ذلك واجباً، وقال أبو حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) فهذا لو كان ذا شعر وجب عليه إزالته وإمرار الموسى على رأسه، فإذا سقط أحدهما لتعذره وجب الآخر. ولنا أن الحلق محله الشعر فسقط بعدمه كما يسقط وجوب غسل العضو في الوضوء بفقده، ولأنه إمرار لو فعله في الإحرام لم يجب به دم فلم يجب عند التحلل كإمراره على الشعر من غير حلق انتهى. قال في المنتهى: وسن إمرار الموسى على من عدمه انتهى. قال في الإقناع
ومن عدم الشعر استحب أن يمر الموسى على رأسه انتهى، قال في الإنصاف وفي النفس من ذلك شيء وهو قريب من العبث انتهى.
قال في الشرح الكبير: وبأي شيء قصر الشعر أجزأه وكذلك إن نتفه أو أزاله بنورة لأن القصد إزالته ولكن السنة الحلق أو التقصير لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق رأسه انتهى. والحلق أفضل من التقصير لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، ولحديث أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(اللهم اغفر للمحلقين، قالوا يا رسول الله وللمقصرين، قال اللهم اغفر للمحلفين، قالوا يا رسول الله وللمقصرين، قال اللهم اغفر للمحلقين، قالوا يا رسول الله وللمقصرين قال وللمقصرين) متفق عليه. ولفظ أبي داود: (ارحم) . ثم بعد رمي جمرة العقبة وحلق أو تقصير قد حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام من الطيب والصيد واللباس وغير ذلك إلا النساء، نص عليه في رواية الجماعة وطئاً ومباشرة وقبلة ولمساً بشهوة وعقد نكاح لحديث عائشة مرفوعاً:(إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء) رواه سعيد، وعن عائشة قالت:(كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك) متفق عليه. وللنسائي (طُيَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله بعد ما رمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت) وهذا قول ابن الزبير وعائشة وعلقمة وسالم وطاووس والنخعي وعبد الله بن الحسين وخارجة بن زيد والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي، وعن الإمام أحمد أنه يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج لأنه أغلظ المحرمات ويفسد النسك بخلاف غيره، وقال مالك لا يحل له النساء ولا الطيب ولا قتل الصيد لقوله تعالى:(لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) وهذا حرام. ومذهب الجمهور يرد هذا القول ويمنع أنه محرم وإنما بقي عليه بعض أحكام الإحرام، قال في الفروع