المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

العلماء والله أعلم، ثم بعد التحلل الثاني قد حل له - مفيد الأنام ونور الظلام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام - جـ ٢

[عبد الله بن جاسر]

الفصل: العلماء والله أعلم، ثم بعد التحلل الثاني قد حل له

العلماء والله أعلم، ثم بعد التحلل الثاني قد حل له كل شيء حتى النساء.

فائدة: إذا مرض من أحرم بالحج وأتى ببعض المناسك وعجز عن طواف الإفاضة فإنه يطاف به محمولاً أو راكباً ولا يستنيب إن كان حجه فرضاً، فإن كان نفلا جاز له أن يستنيب ولو لغير عذر، لأنه إذا جازت الاستنابة في كل الحج ولو لغير عذر جازت في بعضه من باب أولى، والله أعلم.

تتمة: إذا توفي إنسان وقد بقي عليه بعض مناسك الحج فإنها تفعل عنه بعد موته، ولا فرق بين الفرض والنفل ولا كون الحج عن نفسه أو عن غيره، وتقدم في‌

‌ فصل

الاستنابة في الحج أول الكتاب فليراجع كما تقدم ذلك أيضاً في باب محظورات الإحرام، ولكن في صحيح البخاري ما نصه: باب المحرم يموت بعرفة، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدى عنه بقية الحج، ثم ذكر حديث الرجل الذي وقصته راحلته وهو واقف بعرفة، قال القسطلاني في شرحه على البخاري بعد قول المصنف بقية الحج: أي كرمي الجمار والحلق وطواف الإفاضة لأن أثر إحرامه باق لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، وإنما لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدى عنه بقية الحج لأنه مات قبل التمكن من أداء بقيته فهو غير مخاطب به كمن شرع في صلاة مفروضة أول وقتها فمات في أثنائها فإنه لا تبعة عليه فيها إجماعاً انتهى كلام القسطلاني.

-- فصل:

ثم يأتي زمزم فيشر منها لما أحبَّ لحديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له) . رواه أحمد وابن ماجة وابن أبي شيبة والبيهقي والدارقطني والحاكم وصححه المنذري والدمياطي وحسنه الحافظ وفي إسناده عبد الله بن المؤمل وقد تفرد به كما قال البيهقي وهو ضعيف وأعله ابن القطان

ص: 90

به، وقد رواه البيهقي من طريق أخرى عن جابر، وفيه سويد بن سعيد، وهو ضعيف جداً وإن كان مسلم قد أخرج له فإنما أخرج له في المتابعات، لكن يأتي في كلام ابن القيم رحمه الله تعالى أن عبد الله بن المبارك روى هذا الحديث عن ابن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر، وأن ابن أبي الموالي ثقة وعن عائشة رضي الله عنها (أنها كانت تحمل من ماء زمزم وتخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمله) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب، وأخرجه البيهقي والحاكم وصححه، وعن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل اذهب إلى أمك فأت الله رسوله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال: اسقني، فقال: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال: اسقني فشرب، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه، يعني عاتقه وأشار إلى عاتقه) رواه البخاري.

وفي الحديث كراهة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات وأن الأصل فيها الطهارة والنظافة حتى يتحقق ما يخالف الأصل. وفيه تواضعه صلى الله عليه وسلم حيث شرب من ماء زمزم وهم يضعون أيديهم فيه.

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتضلعون من ماء زمزم) رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ماء زمزم لما شرب له، إن شربته لتستشفي به شفاك الله، وإن شربته يشبعك أشبعك الله به، وإن شربته لتستشفي به شفاك الله، وإن شربته يشبعك أشبعك الله به، وإن شربته لقطع ظَمِئك قطعه الله، وإن شربته مستعيذاً أعاذك الله، وهي هزمة جبريل وسقيا إسماعيل) . رواه الدارقطني قال: فكان ابن عباس إذا شرب ماء زمزم، قال: اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً

ص: 91

واسعاً، وشفاء من كل داء. قوله: ماء زمزم لما شرب له، فيه دليل على أن ماء زمزم ينفع الشارب إذا شاء الله لأي أمر شربه لأجله سواء كان من أمور الدنيا أو الآخرة، لأن (ما) في قوله لما شرب له من صيغ العموم. قوله: لولا أن تغلبوا وذلك بأن يظن الناس أن النزع سنة فينزع كل رجل لنفسه فيغلب أهل السقاية عليها. قوله: لا يتضلعون: أي لا يروون من ماء زمزم.

قال في القاموس: وتضلع: امتلأ شبعاً أو رياً حتى بلغ الماء أضلاعه انتهى. قوله: هزمة جبريل بالزاي: أي حفرة جبريل لأنه ضربها برجله فنبع الماء، قال في القاموس: هزمه يهزمه: غمزه بيده فصارت فيه حفرة، ثم قال: والهزائم البئار الكبيرة الغزر الماء. قوله: وسقيا إسماعيل: أي أظهره الله ليسقي بها إسماعيل في أول الأمر.

فائدة: سبب ظهور زمزم هو ما روى ابن عباس رضي الله عنهما (أن هاجر لما أشرفت على المروة حين أصابها وولدها العطش على ما تقدم في السعي سمعت صوتاً فقالت صهٍ، تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضاً، فقالت قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا تغترف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغترف) قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال: لو لم تغترف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً، قال فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنى هذا الغلام وأبوه فإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله) . أخرجه البخاري.

ص: 92

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ماء زمزم سيد المياه وأشرفها وأجلها قدراً وأحبها إلى النفوس وأغلاها ثمناً وأنفسها عند الناس، وهو هزمة جبرائيل وسقيا إسماعيل. وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر وقد أقام بين الكعبة وأستارها أربعين ما بين يوم وليلة، وليس له طعام غيره فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إنها طعام طُعم) وزاد غير مسلم بإسناده (وشفاء سقم) . وفي سنن ابن ماجة من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(ماء زمزم لما شرب له) وقد ضعف هذا الحديث طائفة بعبد الله بن المؤمل رواية عن محمد بن المنكدر، وقد روينا عن عبد الله بن المبارك أنه لما حج أتى زمزم فقال: اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه عن نبيك صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء زمزم لما شرب له) فإني أشربه لظمأ يوم القيامة، وابن أبي الموالي ثقة، فالحديث إذاً حسن، وقد صححه بعضهم وجعله بعضهم موضوعاً، وكلا القولين فيه مجازفة، وقد جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة واستشفيت به من عدة أمراض فبرأت بإذن الله، وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد قريباً من نصف الشهر أو أكثر ولا يجد جوعاً ويطوف مع الناس كأحدهم وأخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يوماً وكان له قوة يجامع بها أهل ويصوم ويطوف مراراً انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.

وفي صحيح مسلم في فضائل أبي ذر ثم قال يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم (متى كنت هاهنا؟ قال: قلت قد كنت هاهنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم، قال: فمن كان يطعمك؟ قال قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، قسمنت حتى تكسرت عُكن بطني، وما أجد على كبدي سخفة جوع، قال: إنها مباركة إنها طعام طُعمٍ) .

وعن

ص: 93

ابن عباس رضي الله عنهما قال: (سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم، قال عاصم: فحلف عكرمة ما كان يومئذ إلا على بعير) . رواه البخاري. قوله: قال عاصم، يعني الأحول. قوله فحلف عكرمة يعني مولى ابن عباس، قوله ما كان يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله يومئذ: أي يوم سقاه ابن عباس من ماء زمزم إلا راكباً على بعير.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى، ثم أتى صلى الله عليه وسلم زمزم بعد أن قضى طوافه وهم يسقون فقال:(لولا أن يغلبكم الناس لنزلت فسقيت معكم ثم ناولوه الدلو فشرب وهو قائم فقيل هذا نسخ لنهيه عن الشر قائماً، وقيل بل بيان منه لأن النهي على وجه الاختيار وترك الأولى، وقيل بل للحاجة وهذا أظهر، وهل كان في طوافه هذا راكباً أو ماشياً؟ فروى مسلم في صحيحه عن جابر قال (طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الركن بمحجنه لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه فإن الناس غشوه وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن) وهذا الطواف ليس بطواف الوداع فإنه كان ليلاً، وليس بطواف القدوم لوجهين ثم ذكرهما عمار رحمه الله تعالى انتهى. قلت: فإذا لم يكن طواف الوداع ولا طواف القدوم فإن الطواف المذكور هو طواف الإفاضة الذي هو ركن الحج والله أعلم.

لطيفة: سأل الحفاظ بن حجر العسقلاني الشيخ ابن عرفة حين اجتماعه به في مصر عن ماء زمزم لِمَ لم يكن عذباً فقال ابن عرفة في جوابه إنما لم يكن عذباً ليكون شربه تعبداً لا تلذذاً، فاستحسن ابن حجر جوابه وطرب به انتهى.

قال الأزرقي في تاريخ مكة: وعن وهب بن منبه أنه قال في زمزم: والذي نفسي بيده إنها لفي كتاب الله تعالى مضنونة، وإنها لفي كتاب الله برة وإنها لفي كتاب الله سبحانه

ص: 94

شراب الأبرار، وإنها لفي كتاب الله طعام وشفاء سقم، إلى أن قال: والذي نفس وهب بيده لا يعمد إليها أحد فيشرب منها حتى يتضلع إلا نزعت منه داء وأحدثت له شفاء، وبسند الأزرقي إلى علي رضي الله عنه قال: خير بئر في الناس بئر زمزم، وبسنده إلى العباس بن عبد المطلب قال: تنافس الناس في زمزم في الجاهلية حتى إن كان أهل العيال يغدون بعيالهم فيشربون منها فتكون صبوحاً لهم وقد كنا نعدها عوناً على العيال. وبسنده إلى ابن عباس قال: كانت تسمى في الجاهلية شباعة يعني زمزم وإنها نعم العون على العيال، وبسنده إلى ابن عباس أيضاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق) وبسنده إلى الضحاك بن مزاحم قال: بلغني أن التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق وأن ماءها يذهب الصداع انتهى. قال في المنتهى وشرحه. ثم يشر من ماء زمزم لما أحب ويتضلع منه ويرش على بدنه وثوبه لحديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: كنت جالساً عند ابن عباس فجاءه رجل فقال من أين جئت؟ قال: من زمزم، قال فشربت منها كما ينبغي؟ قال فكيف؟ قال إذا شربت منها فاستقبل القبلة أي الكعبة واذكر اسم الله وتنفس ثلاثاً من ماء زمزم وتضلع منها، فإذا فرغت منها فاحمد الله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (آية ما بيننا وبين المنافقين أنه لا يتضلعون من ماء زمزم) . رواه ابن ماجة انتهى، وأخرجه أيضاً الدارقطني والحاكم من طريق ابن أبي مليكة.

فائدتان: الأولى قال الشيخ محمد السفاريني: ورد أن زمزم عين من الجنة، وذكر بعضهم أن حبشياً وقع في بئر زمزم فنزحت من أجله فوجدوها تفور من ثلاث أعين، أقواها وأكثرها ماء عين من ناحية الحجر الأسود، والثانية من جهة الصفا، والثالثة من جهة المروة انتهى.

الثانية قال الشيخ ابن العماد في شرح الغاية: لا بأس بنقل ماء زمزم للهدية تبركاً به كما

ص: 95

يفعله كثير من الحجاج، وخاصيته من أنه طعام طعم وشفاء سقم لا ترفه كما ظنه بعضهم، ولا تبدله الملائكة كما ظنه آخرون لكن من صحبه معه وفقد الماء في الطريق لا يباح له التيمم لأن عنده ماءاً طهوراً ويجب عليه استعماله، وكذا إن اضطر إليه عطشان من حيوان محترم فيجب بذله، فليحفظ فإنه مهم انتهى. قلت: لا نسلم لابن العماد إطلاقه هذا الكلام في عدم إباحة التيمم لمن كان معه ماء من زمزم لا سيما إذا كان قليلاً لأن المسلمين قديماً وحديثاً وفيهم العلماء المحققون يتيممون ومعهم الماء الذي يحتاجونه لشربهم وطبخهم خصوصاً في الطرق التي لا يوجد فيها الماء مسافة اليومين والثلاثة والأربعة على الإبل، وقد يردون الماء ومعهم شيء فاضل من الماء الذي يحملونه ولا يوجب ذلك عدم صحة تيممهم، أما وجوب بذله إذا اضطر غليه عطشان فهو صحيح بشرط أن لا يحتاج إليه صاحبه فإن احتاج إليه صاحبه واضطر إلى شربه فلا يلزم بذله لغيره، لأن حاجته مقدمة على حاجة غيره، والضرر لا يزال بالضرر كما نص العلماء على ذلك، والله أعلم.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ومن حمل شيئاً من ماء زمزم جاز فقد كان السلف يحملونه انتهى. ويسن أن يدخل البيت والحجر منه لحديث عائشة قالت: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين طيب النفس، ثم رجع إليّ وهو حزين فقلت له؟ فقال إني دخلت الكعبة ووددت أني لم أكن فعلت إني أخاف أن أكون أتعبت أمتي من بعدي) . رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي، وأخرجه أيضاً وصححه ابن خزيمة والحاكم، وعن أسامة بن زيد قال (دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت، فجلس فحمد الله وأثنى عليه وكبر وهلل، ثم قام إلى ما بين يديه من البيت فوضع صدره عليه وخده ويديه ثم هلل وكبر ودعا، ثم فعل ذلك بالأركان كلها، ثم خرج فأقبل على القبلة وهو على الباب

ص: 96

فقال هذه القبلة هذه القبلة مرتين أو ثلاثاً) . رواه أحمد والنسائي ورجاله رجال الصحيح، وأصله في صحيح مسلم بلفظ (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ في البيت ولكنه كبر في نواحيه) . قال الشوكاني: في هذا الحديث دليل على مشروعية وضع الصدر والخد على جميع الأركان مع التهليل والتكبير والدعاء انتهى. وعن عبد الرحمن بن صفوان قال (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انطلقت فوافقته قد خرج من الكعبة وأصحابه قد استلموا البيت من الباب إلى الحطيم وقد وضعوا خدودهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم) . رواه أحمد وأبو داود، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد ولا يحتج بحديثه، وقد ذكر الدارقطني أن يزيد بن أبي زياد تفرد به عن مجاهد، ولكن ذكر الذهبي أنه صدوق من ذوي الحفظ، وكر في الخلاصة أنه كان من الأئمة الكبار، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وله أن يفعل الالتزام قبل طواف الوداع فإن هذا الالتزام لا فرق بين أن يكون حال الوداع أو غيره، والصحابة كانوا يفعلون ذلك حين يدخلون مكة. انتهى.

قلت: الالتزام للقادم قد يكون من باب الاشتياق للبيت بعد الغربة الطويلة عنه وللمسافر أيضاً لأنه أراد مفارقة بيت الله العتيق، وقد يكون الالتزام من باب الذل والخضوع بين يدي الله في هذا المقام الشريف على حسب نية الملتزم وقصده، خلافاً لما يعتقده بعض الجهلة من أن التزام البيت والتمسح به ووضع الخد والصدر عليه يحصل لهم به بركة البيت من الشفاء والنفع ودفع الضرر والسقم، وهذا الاعتقاد من أعظم الضلال عياذاً بالله من الخذلان.

وكان ابن عباس رضي الله عنهما يلتزم ما بين الركن والباب ويقول لا يلتزم ما بينهما أحد يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه، فيجب على كل مسلم أن يخلص عمله لله جل وعلا، وأن يتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإخلاص في العمل والمتابعة للرسول

ص: 97

صلى الله عليه وسلم شرطان لقبول العمل، فإن فقد الشرطان أو أحدهما فالعمل غير مقبول عند الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً والله أعلم.

قال الشيخ مرعي في الغاية: ولا يرفع بصره إلى سقف البيت ولا يشتغل بذاته بل بإقباله على ربه انتهى. قلت: وذلك لما ذكره المحب الطبري في القرى عن عائشة أنها قالت: واعجبا للمرء المسلم إذا دخل الكعبة كيف يرفع بصره قبل السقف لا يدع ذلك إجلالاً لله تعالى وإعظاماً له (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ما خلَّف بصره موضع سجوده حتى خرج منها) أخرجه أبو ذر وابن الصلاح في منسكيهما انتهى. قال ابن ظهيرة في الجامع اللطيف: ومنها أنه لا يرفع بصره إلى السقف لحديث عائشة رضي الله عنها قالت (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ما خلَّف بصره موضع سجوده حتى خرج منها) أخرجه البيهقي في سننه والحاكم في المستدرك.

قال المحب الطبري: وإنما كره ذلك لأنه يولد الغفلة واللهو عن القصد انتهى، ويكون حال دخول البيت والحجر حافياً بلا خف ولا نعل لما روى الأزرقي عن الواقدي عن أشياخه: أول من خلع الخف والنعل فلم يدخل الكعبة بهما الوليد بن المغيرة إعظاماً لها فجرى ذلك عادة وبغير سلاح نصاً، ويكبر في نواحيه، ويدعو في نواحيه، ويصلي فيه ركعتين لقول ابن عمر (دخل النبي صلى الله عليه وسلم وبلال وأسامة بن زيد البيت، فقلت لبلال: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قلت: أين؟ قال: بين العمودين تلقاء وجهه قال ونسيت أن أسأله كم صلى) متفق عليه، فإن لم يدخل البيت فلا بأس لحديث عائشة وتقدم قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ودخول نفس الكعبة ليس بفرض ولا سنة مؤكدة بل دخولها حسن والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدخلها في الحج ولا في العمر لا عمرة الجعرانة ولا عمرة القضية، وإنما دخلها عام فتح

ص: 98

مكة. ومن دخلها يستحب له أن يصلي فيها ويكبر الله ويدعوه ويذكره، وإذا دخل من الباب حتى يصير بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع والباب خلفه فذلك هو المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدخلها إلا حافياً والحجر أكثره من البيت من حيث ينحني حائطه فمن دخله فهو كمن دخل الكعبة، وليس على داخل الكعبة ما ليس على غيره من الحجاج بل يجوز له من المشي حافياً وغير ذلك ما يجوز لغيره، والإكثار من الطواف بالبيت من الأعمال الصالحة انتهى.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وهاهنا ثلاث مسائل: هل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت في حجته أم لا؟ وهل وقف في الملتزم بعد الوداع أم لا؟ وهل صلى الصبح ليلة الوداع بمكة أو خارجهاً منها؟ فأما المسألة الأولى: فزعم كثير من الفقهاء وغيرهم أنه دخل البيت في حجته، ويرى كثير من الناس أن دخول البيت من سنن الحج اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، والذي تدل عليه سنته أنه لم يدخل البيت في حجته ولا في عمرته وإنما دخله عام الفتح، ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقة لأسامة حتى أناخ بفناء الكعبة فدعا عثمان بن طلحة بالمفتاح فجاء به ففتح فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة، فأجافوا عليهم الباب ملياً ثم فتحوه، قال عبد الله: فبادرت الناس فوجدت بلالاً على الباب فقلت: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بين العمودين المقدَّمين، قال: ونسيت أن أسأله كم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صحيح البخاري عن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، قال: فأمر بها فأخرجت، قال: فأخرجوا

ص: 99

صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاتلهم الله، أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط، قال فدخل البيت فكبر في نواحيه ولم يصل فيه) فقيل كان ذلك دخولين صلى في أحدهما ولم يصل في الآخر، وهذه طريقة ضعفاء النقد كلما رأوا اختلاف لفظ جعلوه قصة أخرى كما جعلوا الإسراء مراراً لاختلاف ألفاظه، وجعلوا شراءه من جابر بعيره مراراً لاختلاف ألفاظه، وجعلوا طواف الوداع مرتين لاختلاف سياقه ونظائر ذلك. وأما الجهابذة النقاد فيرغبون عن هذه الطريقة ولا يجبنون عن تغليط من ليس معصوماً من الغلط ونسبته إلى الوهم.

قال البخاري وغيره من الأئمة: والقول قول بلال لأنه مثبت شاهد صلاته، بخلاف ابن عباس، والمقصود أن دخوله إنما كان في غزاة الفتح لا في حجة ولا عمرة، وفي صحيح البخاري عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في عمرته البيت؟ قال: لا، وقالت عائشة:(خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين طيب النفس ثم رجع إليَّ وهو حزين القلب، فقلت يا رسول الله خرجت من عندي وأنت كذا وكذا؟ فقال: إني دخلت الكعبة ووددت أني لم أكن فعلت إني أخاف أن أكون قد أتعبت أمتي من بعدي) فهذا ليس فيه أنه كان في حجته بل إذا تأملته حق التأمل أطلعك التأمل على أنه كان في غزاة الفتح والله أعلم. وسألته عائشة أن تدخل البيت فأمرها أن تصلى في الحجر ركعتين.

وأما المسألة الثانية وهي وقوفه في الملتزم، فالذي روي عنه أنه فعله يوم الفتح ففي سنن أبي داود عن عبد الرحمن بن أبي صفوان قال: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انطلقت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من

ص: 100

الكعبة هو وأصحابه وقد استلموا الركن من الباب إلى الحطيم ووضعوا خدودهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم) وروى أبو داود أيضاً من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه قال: (طفت مع عبد الله فلما حاذى دبر الكعبة قلت: ألا تتعوذ؟ قال نعوذ بالله من النار، ثم مضى حتى استلم الحجر فقام بين الركن والباب فوضع صدره وجبهته وذراعيه وكفيه هكذا وبسطهما بسطا، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) ، فهذا يحتمل أن يكون في وقت الوداع وأن يكون في غيره، ولكن قال مجاهد والشافعي وغيرهما إنه يستحب أن يقف في الملتزم بعد طواف الوداع ويدعو، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يلتزم ما بين الركن والباب، وكان يقول لا يلتزم ما بينهما أحد يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه والله أعلم انتهى كلام ابن القيم، ومراده بقوله طفت مع عبد الله هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فعمرو هو ابن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، فعبد الله بن عمرو هو جد شعيب المذكور، والطائف هو محمد مع أبيه عبد الله بن عمرو، والله أعلم.

وأما المسألة الثالثة، وهي موضع صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح صبيحة ليلة الوداع، فنذكرها إن شاء الله عند الكلام على وجوب طواف الوداع على من خرج من مكة. قال في الإقناع وشرحه: ومن أراد أن يستشفي بشيء من طيب الكعبة فليأت بطيب من عنده فليرقه على البيت ثم يأخذه ولا يأخذ من طيب الكعبة شيئاً: أي يحرم ذلك لأنه صرف للموقوف في غير ما وقف عليه انتهى. قلت: وفي جواز الاستشفاء بالطيب الذي يضعه على الكعبة نظر ظاهر، ولو قيل بالمنع من ذلك لكان له وجه صحيح لأنه من قبيل التبرك ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم جواز ذلك، ولا فعله الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم

ص: 101

ولا سائر الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه والله الموفق الهادي إلى سواء السبيل.

تنبيهات: الأول؛ منع الإمام مالك أن يشترك مع بني شيبة غيرهم في خدمة البيت لأنها ولاية منه صلى الله عليه وسلم لهم، وأما نزعها منهم بالكلية فقد نص الحديث على منعه، وذلك (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض من عثمان بن طلحة يوم الفتح مفتاح الكعبة ودخل به الكعبة ومعه أسامة بن زيد وبلال بن رباح وعثمان بن طلحة فخرج وهو يتلو هذه الآية (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) فدعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح وقال: خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله سبحانه لا ينزعها منكم إلا ظالم) ، وروى الأزرقي بسنده قال: (ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة ومعه المفتاح فتنحى ناحية من المسجد فجلس وكان قد قبض السقاية من العباس، وقبض المفتاح من عثمان بن طلحة، فلما جلس بسط العباس بن عبد المطلب يده فقال: بأبي وأمي يا رسول الله أجمع لنا الحجابة والسقاية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيكم ما ترزءون منه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ادع لي عثمان، فقام عثمان بن عفان، فقال: ادع لي عثمان، فقام عثمان بن طلحة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن طلحة يوماً وهو بمكة يدعوه إلى الإسلام ومع عثمان بن طلحة المفتاح فقال صلى الله عليه وسلم لعلك سترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت، فقال عثمان: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل عزت وعمرت يومئذ يا عثمان، قال عثمان: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أخذه المفتاح، فذكرت قوله صلى الله عليه وسلم وما كان قال لي، فأقبلت فاستقبلته ببشر واستقبلني ببشر، ثم قال: خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة

ص: 102

لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله سبحانه وتعالى استأمنكم على بيته فخذوها بأمانة الله عز وجل، قال عثمان: فلما وليت ناداني فرجعت إليه فقال صلى الله عليه وسلم، ألم يكن الذي قلت لك؟ قال فذكرت قوله لي بمكة، فقلت بلى

أشهد أنك رسول الله فأعطاه المفتاح والنبي صلى الله عليه وسلم مضطبع عليه بثوبه وقال عليه السلام غيبوه) . انتهى.

التنبيه الثاني: قال الحطاب: أجمع العلماء على حرمة أخذ خدمة الكعبة أجرةً على فتحها لدخول الناس خلافاً لما يعتقده بعض الجهلة من أن بني شيبة ولا ولاية عليهم وأنهم يفعلون بالبيت ما شاءوا انتهى كلام الحطاب. قلت وهو كما قال، لأن هذا ينافي أخذ الحجابة بأمانة الله التي اشترطها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمننا هذا إذا فتح آل شيبة الكعبة في موسم الحج يحصل لهم من الحجاج الذين يدخلونها شيء من المال ولو تنزهوا عن الأخذ لكان هو اللائق بهم والأحسن في حقهم والله ولي التوفيق. قال في لباب المناسك وشرحه لملا علي قاري: أمر كسوة الكعبة زادها الله شرفاً وكرماً إلى السلطان إذا صارت خلقاً إن شاء باعها وصرف ثمنها في مصالح البيت كما اقتصر عليه في الفتاوى السراجية وإن شاء ملكها لأحد ولو لواحد من المسلمين إذا كان من المساكين، وإن شاء فرّقها على الفقراء: أي جمع منهم سواء من أهل مكة وغيرهم ويستوي بنو شيبة وخدمهم فيهم، ولا بأس بالشراء منهم، أي من الفقراء بعد أخذهم وقبضهم على ما في النخبة، لكن في البحر الزاخر أنه لا يجوز قطع شيء من كسوة الكعبة ولا نقله ولا بيعه ولا شراؤه ولا وضعه في أوراق المصحف، ومن حمل شيئاً من ذلك فعليه رده، ولا عبرة بما يتوهم الناس أنهم يشترونه من بني شيبة فإنهم لا يملكونه انتهى. وفي النخبة: رجل اشترى

ص: 103

من بعض الخدام ستر الكعبة لا يجوز، ولو نقله المشتري إلى بلدة أخرى يتصدق به على الفقراء وهذا إذا لم ينقله الإمام، أما إذا نقله الإمام للخدام أو لآخر من المسلمين فجائز كما تقدم أن الأمر رفيه إلى الإمام انتهى، وهو محمول على ما إذا كانت الكسوة من عمد الإمام بخلاف ما إذا كانت من وقف فإنه يراعي شرط واقفه في جميع الأحكام انتهى.

قال في الدر المختار على متن تنوير الأبصار للحنفية: يندب دخول البيت إذا لم يشتمل على إيذاء نفسه أو غيره، وما يقوله العوام من العروة الوثقى والمسمار الذي في وسطه أن سرة الدنيا لا أصل له، ولا يجوز شراء كسوة الكعبة من بني شيبة بل من الإمام أو نائبه وله لبسها ولو جنباً أو حائضاً انتهى، قال في رد المحتار لابن عابدين الحنفي قوله: إذا لم يشتمل على إيذاء نفسه ومثله فيما يظهر دفع الرشوة على دخوله، لقوله في شرح اللباب: ويحرم أخذ الأجرة ممن يدخل البيت بلا خلاف بين علماء الإسلام وأئمة الأنام كما صرح به في البحر وغيره انتهى. وقد صرحوا بأن ما حرم أخذه حرم دفعه إلا لضرورة ولا ضرورة هنا لأن دخول البيت ليس من مناسك الحج انتهى من رد المحتار. وقال أيضاً قوله: وله لبسها: أي للشاري إن كان امرأة أو كان رجلاً وكانت الكسوة من غير الحرير كما في شرح اللباب، ونقل بعض المحشين عن المنسك الكبير للسندي تقييد ذلك أيضاً بما إذا لم تكن عليها كتابة لا سيما كلمة التوحيد انتهى من رد المحتار. قال في الإقناع وشرحه: ويتصدق بثياب الكعبة إذا نزعت نص عليه الإمام أحمد لفعل عمر رواه مسلم عن ابن أبي نجيح عنه فهو مرسل، وروى الثوري أن شيبة كان يدفع خلقان البيت إلى المساكين وقياساً على الوقف المنقطع بجامع انقطاع المصرف انتهى، وفي هذه الأزمان يأخذ آل شيبة كسوة الكعبة القديمة كل سنة ويبيعونها في الدكاكين وغيرها جهاراً ويتمولون

ص: 104