المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وما جاز له أكله كأكثر هدي التطوع فله هديته لغيره - مفيد الأنام ونور الظلام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام - جـ ٢

[عبد الله بن جاسر]

الفصل: وما جاز له أكله كأكثر هدي التطوع فله هديته لغيره

وما جاز له أكله كأكثر هدي التطوع فله هديته لغيره لقيام المهدي له مقامه وما لا يملك أكله كالهدي الواجب غير دم تمتع وقران وغير ما أوجبه بالتعيين ابتداء على ما ذهب إليه الموفق والشارح فلا يملك هديته بل يجب صرفه لفقراء الحرم لتعلق حقهم، فإن أكل مما لا يجوز له الأكل منه أو أهدى منه ضمنه بمثله لحماً لأن الجميع مضمون عليه بمثله فكذلك أبعاضه، وكذا إن أعطى الجزار عن أجرته شيئاً منها، كما لو باع شيئاً من الهدي أو أتلفه فإنه يضمنه بمثله لحماً، قال في المنتهى وشرحه: ويضمنه أي الهدي والأضحية أجنبي أتلفه بقيمته كسائر المتقومات. وأما اللحم بعد الذبح فينبغي ضمانه بالمثل لأنه مثلي انتهى. وفي الفصول: لو منعه الفقراء حتى أنتن فعليه قيمته: أي إن لم يبق فيه نفع قال في المنتهى وشرحه: وإن منع الفقراء منه أي مما لا يملك أكله حتى أنتن ضمن نقصه إن انتفع به.

إذاً فيغرم أرشه وإلا ينتفع به فإنه يضمنه بقيمته كإعدامه، قال في الإنصاف: ويتوجه أن يضمن بمثله انتهى كلام المنتهى وشرحه. قال الشيح منصور في حاشية المنتهى: ضمانه بالمثل مقتضى القواعد. قلت: وهو كما قال لأن اللحم من الموزونات فهو مثلي وضمانه بالمثل والله أعلم.

--‌

‌ فصل:

والأضحية مشروعة إجماعاً لقوله تعالى: (فَصَلِّ لربكَ وانحر) . قال جماعة من المفسرين: المراد بذلك التضحية بعد صلاة العيد، ولما روى (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أمحلين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما) متفق عليه وهي سنة مؤكدة لمسلم تام الملك. وهو الحر والمبعض فيما ملكه بجزئه الحر أو مكاتب بإذن سيده لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث كتبت عليّ وهن لكم تطوع: الوتر والنحر

ص: 247

وركعتا الفجر) رواه الدارقطني، وقوله صلى الله عليه وسلم (من أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئاً) . رواه مسلم فعلقه على الإرادة والواجب لا يعلق عليها، ولأن الأضحية ذبيحة لا يجب تفريق لحمها فلم تكن واجبة كالعقيقة.

قال في شرح الإقناع: وأما حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا) وحديث (يا أيها الناس إن على أهل كل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة) فقد ضعفه أصحاب الحديث، ثم يحمل على تأكد الاستحباب جمعاً بين الأحاديث كحديث (غسل الجمعة واجب على كل محتلم، ومن أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مصلانا) انتهى.

قلت: حديث أبي هريرة هذا رواه أحمد وابن ماجة وصححه الحاكم، قال ابن حجر في بلوغ المرام: ورجع الأئمة غيره وقفه، وقال في فتح الباري: رجاله ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه والموقوف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره انتهى.

وحديث (يا أيها الناس) هو من رواية مخنف بن سليم ولفظه (كنا وقوفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فسمعته يقول: يا أيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تسمونها الرجبية) . رواه أحمد وابن ماجة والترمذي، وقال هذا حديث حسن غريب، وأخرجه أيضاً أبو داود والنسائي وفي إسناده أبو رملة، واسمه عامر.

قال الخطابي: هو مجهول والحديث ضعيف المخرج، وقال أبو بكر المعافري: حديث مخنف بن سليم ضعيف لا يحتج به. والعتيرة: ذبيحة كانوا في الجاهلية يذبحونها في العشر الأول من رجب ويسمونها الرجيبة كما وقع في الحديث، وفي الحدي (لا فرع ولا عتيرة في الإسلام) متفق عليه. والفرع: نحر أول ولد الناقة، والعتيرة: ذبيحة رجب. وممن قال بأن الأضحية سنة مؤكدة أبو بكر

ص: 248

وعمر وابن مسعود رضي الله عنهم، وبه قال سويد بن غفلة وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وعطاء والشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر، ولا تسن الأضحية لمكاتب بغير إذن سيده لنقصان ملكه ولأنه ممنوع من التبرع لحق سيده. ويكره ترك الأضحية لقادر عليها لحديث أبي هريرة السابق، ومن عدم ما يضحى به اقترض وضحى مع القدرة على الوفاء، ذكره شيح الإسلام في الاختيارات وهو قياس ما ذكروه في العقيقة، وليست الأضحية واجبة إلا أن ينذرها فتجب بالنذر لحديث (من نذر أن يطيع الله فليطعه) وكانت الأضحية واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم لحديث ابن عباس السابق وعن الإمام أحمد رواية بوجوب الأضحية مع الغنى، وهو قول ربيعة ومالك والثوري والليث والأوزاعي وأبي حنيفة لحديث أبي هريرة المتقدم، والمذهب عدم الوجوب كما تقدم. وذبح الأضحية ولو عن ميت أفضل من الصدقة بثمنها وكذا الهدي، صرح به ابن القيم رحمه الله في تحفة الودود وابن نصر الله في حواشيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى والخلفاء بعده، ولو كانت الصدقة بالثمن أفضل لم يعدلوا عنه، ولحديث عائشة مرفوعا (ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله تعالى من إهراقه دماً وإنه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا) .

رواه ابن ماجة والترمذي وقال هذا حديث حسن غريب، ولأن إيثار الصدقة على الأضحية يفضي إلى ترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في الاختيارات: والتضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها انتهى، قال في الشرح الكبير: وما روي عن عائشة من قولها: لأن التصدق بخاتمي هذا أحب إلي من أن أهدى إلى البيت ألفاً، فهو في الهدي

ص: 249

لا في الأضحية انتهى، قال الشيخ منصور: وفيه نظر إذ الهدي كالأضحية كما تقدم عن ابن القيم وغيره فالأولى أن يجاب عن الأثر بأن الموقوف لا يعارض المرفوع انتهى. قلت: وما قاله منصور جواب وجيه سديد جداً والله أعلم. ويعمل بالأضحية عن ميت كأضحية عن حي من أكل وصدقة وهدية. قال الفتوحي في شرح المنتهى: والتضحية عن ميت أفضل منها عن حي لعجزه واحتياجه للثواب، ولا يضحي عما في البطن لأنه لا تثبت له أحكام الدنيا إلا في الإرث والوصية، لكن يقال قد ذكر الفقهاء أنه يسن إخراج الفطرة عنه إلا أن يقال ذلك لفعل عثمان، ولأن القصد من زكاة الفطر الطهرة وما هنا على الأصل، ومن بعضه حر إذا ملك بجزئه الحر ما يضحي به فله أن يضحي بغير إذن سيده لأن ملكه تام على ما ملكه بجزئه الحر.

والسنة أن يأكل ثلث الأضحية ويهدي ثلثها ولو لغني ويتصدق بثلثها، ولا يجب الأكل والإهداء (لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس بدن وقال: من شاء فليقتطع ولم يأكل منهن شيئاً) ولأنها ذبيحة يتقرب بها إلى الله فلم يجب الأكل منها كالعقيقة فيكون الأمر للاستحباب: ويجوز الإهداء من الأضحية لكافر إن كانت تطوعاً، قال الإمام أحمد رحمه الله: نحن نذهب إلى حديث عبد الله: يأكل هو الثلث ويطعم من أراد الثلث ويتصدق بالثلث على المساكين.

قال علقمة بعث معي عبد الله بهدية فأمرني أن آكل ثلثاً وأن أرسل ثلثاً إلى أهل أخيه وأن أتصدق بثلث، فإن كانت الأضحية واجبة لم يعط منها الكافر شيئاً كالزكاة والكفارة، ويأكل ويهدي ويتصدق أثلاثاً ولو كانت الأضحية واجبة بنذر أو تعيين أو وصية أو وقف على أضحية، وقال في الإنصاف: جمهور الأصحاب على أنه لا يأكل من الأضحية المنذورة، واختار أبو بكر والقاضي

ص: 250

والمصنف والشارح الجواز، انتهى.

قلت: المذهب هو الجواز والله أعلم، وفي حديث ابن عباس في صفة أضحية النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ويطعم أهل بيته الثلث ويطعم فقراء جيرانه الثلاث ويتصدق على السؤال بالثلث) رواه الحافظ أبو موسى في الوظائف، وقال حديث حسن، وهو قول ابن مسعود وابن عمر ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، ولقوله تعالى:(فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) .

والقانع: السائل، يقال قنع قنوعاً: إذا سأل، والمعتر: الذي يعتريك أي يتعرض لك لتطعمه ولا يسأل، وهذا تفسير سعيد بن جبير والحسن، وقيل القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل، والمعتر الذي يسأل، قال عكرمة وقتادة، فذكر سبحانه ثلاثة أوصاف ومطلق الإضافة يقتضي التسوية فينبغي أن يقتسم بينهم أثلاثا، ويستحب أن يتصدق بأفضلها لقوله تعالى:(ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) وأن يهدى الوسط؛ وأن يأكل الأدون ذكره بعضهم، وكان من شعار الصالحين تناول لقمة من الأضحية من كبدها أو غيرها خروجاً من خلاف من أوجب الأكل، وإن كانت الأضحية ليتيم فلا يتصدق الولي عنه منها بشيء ولا يهدى منها شيئاً ويوفرها له لأنه ممنوع من التبرع من ماله، وكذا المكاتب لا يتبرع منها بشيء إلا بإذن سيدة لما سبق، فإن أكل أكثر الأضحية أو أهدى أكثرها أو أكلها كلها إلا أوقية تصدق بها جاز أو أهداها كلها إلا أوقية تصدق بها جاز لأنه يجب الصدقة ببعضها نيئاً على فقير مسلم لعموم قوله تعالى:(وأطعموا القانع والمعتر) فإن لم يتصدق بشيء منها ضمن أقل ما يقع عليه الاسم كالأوقية بمثله لحماً لأن ما أبيح له أكله لا تلزمه غرامته ولا يلزمه غير ما وجبت الصدقة به لأنه حق يجب عليه أداؤه مع بقائه فلزمته غرامته إذا أتلفه كالوديعة، ويعتبر تمليك الفقير كالزكاة والكفارة

ص: 251