الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة الزمر (39) : الآيات 10 الى 16]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14)
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)
والمعنى: قل- أيها الرسول الكريم- لعبادي المؤمنين الصادقين: داوموا على الخوف من ربكم، وعلى صيانة أنفسكم من كل ما يغضبه.
وفي التعبير بقوله- تعالى-: قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا دون قوله: قل لعبادي الذين آمنوا.. تكريم وتشريف لهم، لأنه- سبحانه- أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يناديهم بهذا النداء الذي فيه ما فيه من التكريم لهم، حيث أضافهم إلى ذاته- تعالى- وجعل وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هي التبليغ عنه- عز وجل.
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر المؤمنين ويحملهم على التقوى والطاعة، إثر تخصيص التذكر بأولى الألباب، وفيه إيذان بأنهم هم.
أى: قل لهم قولي هذا بعينه، وفيه تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة ومزيد اعتناء بشأن المأمور به، فإن نقل عين أمر الله- تعالى- أدخل في إيجاب الامتثال به «1» .
(1) تفسير الآلوسى ج 23 ص 248.
وجملة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ تعليل لوجوب الامتثال لما أمروا به من تقوى الله- تعالى- والاستجابة لإرشاداته.
وقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا متعلق بمحذوف خبر مقدم، وقوله فِي هذِهِ الدُّنْيا متعلق بقوله: أحسنوا، وقوله حَسَنَةٌ مبتدأ مؤخر.
أى: للذين أحسنوا في هذه الدنيا أقوالهم وأعمالهم.. حسنة عظيمة في الآخرة، ألا وهي جنة عرضها السموات والأرض.
وقوله- تعالى-: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ جملة معترضة لإزاحة ما عسى أن يتعللوا به من أعذار، إذا ما حملهم البقاء في أوطانهم على التفريط في أداء حقوق الله.
قال صاحب الكشاف: ومعنى: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ أن لا عذر للمفرطين في الإحسان ألبتة، حتى إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفر على الإحسان، وصرف الهمم إليه قيل لهم: فإن أرض الله واسعة، وبلاده كثيرة، فلا تجتمعوا مع العجز، وتحولوا إلى بلاد أخر، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم، وطاعة إلى طاعتهم «1» .
ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله- تعالى-: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ.
ثم بين- سبحانه- حسن عاقبة الصابرين فقال: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أى: إنما يوفى الصابرون على مفارقة الأوطان، وعلى تحمل الشدائد والمصائب في سبيل إعلاء كلمة الله
…
يوفون أجرهم العظيم على كل ذلك بغير حساب من الحاسبين. لأنهم لا يستطيعون معرفة ما أعده- سبحانه- لهؤلاء الصابرين من عطاء جزيل، ومن ثواب عظيم، وإنما الذي يعرف ذلك هو الله- تعالى- وحده.
قال الإمام الشوكانى: أى: يوفيهم الله أجرهم في مقابلة صبرهم بما لا يقدر على حصره حاصر، ولا يستطيع حسبانه حاسب.
والحاصل أن الآية تدل على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له، لأن كل شيء يدخل تحت الحساب فهو متناه، وما كان لا يدخل تحت الحساب فهو غير متناه. وهي فضيلة عظيمة ومثوبة جليلة، تقتضي أن على كل راغب في ثواب الله، وطامع فيما عنده من الخير، أن يتوفر
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 117.
على الصبر، ويزم نفسه بزمامه، ويقيدها بقيده، فإن الجزع لا يرد قضاء قد نزل، ولا يجلب خيرا قد سلب، ولا يدفع مكروها قد وقع.. «1» .
ثم أمر- سبحانه- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس ما أمره به خالقه فقال: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ.
أى: قل لهم يا محمد إنى أمرت من قبل الله- عز وجل أن أعبده عبادة خالصة لا مجال معها للشرك أو الرياء، أو غير ذلك مما يتنافى مع الطاعة التامة لخالقي- سبحانه-.
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ أى: أمرنى ربي بأن أخلص له العبادة إخلاصا تاما وكاملا، لكي أكون على رأس المسلمين وجوههم له، حتى يقتدى بي الناس في إخلاصى وطاعتي له- عز وجل.
قال- تعالى-: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ.
وقوله- سبحانه-: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ بيان لسوء عاقبة الشرك والمشركين.
أى: وقل لهم- أيها الرسول الكريم- إنى أخاف إن عصيت ربي، فلم أخلص له العبادة والطاعة، عذاب يوم عظيم الأهوال: شديد الحساب، وهو يوم القيامة، ولذلك فأنا لشدة خوفي من عذاب خالقي، أكثرهم إخلاصا له- عز وجل وامتثالا لأمره، ومحافظة على طاعته.
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي أى. وقل لهم- أيضا-: الله- تعالى- وحده هو الذي أعبده عبادة لا يحوم حولها شرك، ولا يخالطها شيء من الرياء أو التكلف.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلن للناس بأساليب متنوعة، أنه لن يتراجع عن طاعته التامة لربه، وأن عليهم أن يتأسوا به في ذلك.
قال الجمل: أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أولا: بأن يخبرهم بأنه مأمور بالعبادة والإخلاص فيها. وثانيا: بأن يخبرهم بأنه مأمور بأن يكون أول من أطاع وانقاد وأسلم.
وثالثا: بأن يخبرهم بخوفه من العذاب على تقدير العصيان. ورابعا: بأن يخبرهم بأنه امتثل الأمر وانقاد وعبد الله- تعالى- وأخلص له الدين على أبلغ وجه وآكده، إظهارا لتصلبه في
(1) تفسير فتح القدير ج 4 ص 454.
الدين، وحسما لأطماعهم الفارغة، وتمهيدا لتهديدهم بقوله: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ
…
«1» .
فالأمر في قوله- تعالى-: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ
…
للتهديد والتقريع والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
والمعنى. إذا كان الأمر كما ذكرت لكم- أيها المشركون- من أنى أول المسلمين وجوههم لله- تعالى- وحده، فاعبدوا ما شئتم أن تعبدوه من دونه- عز وجل فسترون عما قريب سوء عاقبة شرككم وجحودكم لنعم الله- تعالى-.
وقوله: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بيان لسوء عاقبة من أعرض عن دعوة الحق، وقوله: الَّذِينَ خَسِرُوا.. خبر إن.
أى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: ليس الخاسرون هم الذين أخلصوا عبادتهم لله- تعالى- وحده- كما زعمتم- وإنما الخاسرون هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، بسبب إلقائهم في النار، وحرمانهم من النعيم الذين أعده الله- تعالى- لعباده المؤمنين.
وقال- سبحانه- خسروا أنفسهم وأهليهم للإشعار بأن هؤلاء المشركين لم يخسروا أنفسهم فقط بسبب دخلوهم النار، وإنما خسروا فوق ذلك أهليهم لأنهم حيل بينهم وبين أهليهم، لأن أهليهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده.
وجملة: أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ مستأنفة لتأكيد ما قبلها، وتصديرها بحرف التنبيه، للإشعار بأن هذا الخسران الذي حل بهم قد بلغ الغاية والنهاية في بابه.
وقوله- سبحانه-: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ
…
تفصيل لهذا الخسران بعد تهويله عن طريق الإبهام والإجمال.
والظلل: جمع ظلة، وأصلها السحابة التي تظل ما تحتها، والمراد بها هنا طبقات النار التي تكون من فوقهم ومن تحتهم. وأطلق عليها هذا الاسم من باب التهكم بهم، إذ الأصل في الظلل أنها تقى من الحر، بينما الظلل التي فوق المشركين وتحتهم محرقة.
أى: لهؤلاء المشركين طبقات من النار من فوقهم، وطبقات أخرى من النار من تحتهم، فهم محاطون بها من كل جانب، ولا يستطيعون التفلت منها.
(1) حاشية الجمل ج 3 ص 594.