الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما أقلت. وفي هذه السموات وما أظلت.. من أكبر الأدلة التي تحمل العقلاء على إخلاص العبادة لله الواحد القهار.
وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله في هذا الكون، انتقلت السورة إلى تهديد المشركين، وإنذارهم بأن عاقبتهم ستكون كعاقبة الظالمين الذين سبقوهم، فقال- تعالى-:
[سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 18]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)
ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات والتي قبلها روايات تتعلق بما بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بعض المشركين، منها ما ذكره محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة قال يوما لقريش- ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه، وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها.
فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلمه. فقام إليه عتبة فقال: «يا محمد، يا بن أخى، إنك منا حيث قد علمت من السلطة- أى من الشرف- في العشيرة وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل بعضها.
ثم قال: إن كنت- يا بن أخى- تريد ما لا أعطيناك من المال حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد ملكا جعلناك ملكا علينا.. وإن كان الذي يأتيك رئيا تراه- أى ترى بعض الجن- طلبنا لك الطب حتى تبرأ.
فلما فرغ عتبة قال صلى الله عليه وسلم: «أفرغت يا أبا الوليد؟» قال: نعم. قال: «فاسمع منى» قال: افعل. فتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم من أول سورة «فصلت» .
- وفي رواية أنه لما بلغ قوله- تعالى-: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ
…
قال له عتبة: حسبك ما عندك غير هذا.
ثم عاد عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: لقد جاءكم عتبة بوجه غير الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا له: ما وراءك يا أبا الوليد؟
فقال: لقد سمعت من محمد صلى الله عليه وسلم قولا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوها لي، خلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ.
فقالوا: لقد سحرك محمد صلى الله عليه وسلم فقال: «هذا رأيى فيه فاصنعوا ما بدا لكم» «1» .
فقوله- تعالى-: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ تهديد لهؤلاء المشركين، بعد أن وضح الحق لهم في أكمل صورة..
والصاعقة- كما يقول ابن جرير-: كل أمر هائل رآه الرائي أو عاينه أو أصابه. حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وذهاب عقل، يكون مصعوقا.. «2» .
والمراد بها هنا: العذاب الشديد الذي أنزله الله- تعالى- على قوم عاد ثمود فصعقهم وأهلكهم.
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 152.
(2)
تفسير ابن جرير ج 1 ص 290.
والمعنى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المشركين لقد أقمت لكم الأدلة الناصعة على وحدانية الله- تعالى- وعلى عظيم قدرته، وعلى أنى رسول من عنده، وصادق فيما أبلغه عنه.
فَإِنْ أَعْرَضُوا عن دعوتك، ولجوا في طغيانهم، واستمروا في كفرهم وعنادهم.
فَقُلْ لهم على سبيل التحذير: لقد أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ.
وخص- سبحانه- عادا وثمود بالذكر، لأن مشركي قريش يعرفون ما جرى لهؤلاء الظالمين. إذ قوم عاد كانوا بالأحقاف- أى بالمكان المرتفع الكثير الرمال- في جنوب الجزيرة العربية ورسولهم هو هود- عليه السلام.
وأما ثمود فهم قوم صالح- عليه السلام، ومساكنهم كانت بشمال الجزيرة العربية، وما زالت آثارهم باقية، وأهل مكة كانوا يمرون عليها في طريقهم إلى بلاد الشام للتجارة.
والضمير في قوله- تعالى-: إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ
…
يعود إلى قوم عاد وثمود.
والمراد بالرسل: هود وصالح- عليهما السلام من باب إطلاق الجمع على الاثنين، أو من باب إدخال من آمن بهما معهما في المجيء إلى هؤلاء الأقوام لدعوتهم إلى عبادة الله وحده.
وقوله: إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ
…
حال من قوله صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ وقوله مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ متعلق بجاءتهم.
والمراد بالجملة الكريمة: أن الرسل بذلوا كل جهدهم في إرشاد قوم عاد وثمود إلى الحق ولم يتركوا وسيلة إلا اتبعوها معهم وبينوا لهم بأساليب متعددة حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة الكافرين.
وقوله: أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بيان لما نصح به الرسل أقوامهم و «أن» يصح أن تكون مصدرية، أى: بأن لا تعبدوا إلا الله، ويصح أن تكون مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف. أو تفسيرية لأن مجيء الرسل يتضمن قولا.
أى جاء الرسل إلى قوم عاد وثمود بكل دليل واضح على وجوب إخلاص العبادة لله، ولم يتركوا وسيلة إلا اتبعوها معهم، وقالوا لهم: اجعلوا عبادتكم لله- تعالى- وحده.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: قوله: إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ....
أى: أتوهم من كل جانب، واجتهدوا بهم، واعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض، كما حكى الله- تعالى- عن الشيطان أنه قال: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ
…
يعنى لآتينهم من كل جهة، ولأعملن فيهم كل حيلة.
وعن الحسن: أنذروهم بعذاب الله الدنيوي والأخروى.
وقيل معناه: إذ جاءتهم الرسل من قبلهم ومن بعدهم، بمعنى أن هودا وصالحا قد أمروهم بالإيمان بهما وبجميع الرسل الذين من قبلهم والذين من بعدهم، فكأن الرسل جميعا قد جاءوهم «1» .
وقوله- تعالى-: قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ حكاية للرد السيئ الذي رد به قوم عاد وثمود على رسلهم.
ومفعول المشيئة محذوف أى: قال هؤلاء الكافرون لرسلهم على سبيل التكذيب لهم، والتهكم بهم. أنتم لستم رسلا، ولو شاء الله- تعالى- أن يرسل إلينا رسلا لأرسل ملائكة، ومادام الأمر كذلك فإنا بما أرسلتم به- أيها الرسل- كافرون، وإلى ما تدعونا إليه مكذبون.
والسبب الذي حمل هؤلاء الجاهلين على هذا القول: زعمهم أن الرسل لا يكونون من البشر، مع أن كل عقل سليم يؤيد أن الرسول لا يكون إلا من البشر كما قال- تعالى-: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ
…
ثم فصل- سبحانه- بعد ذلك حال كل فريق منهم، وبين ما نزل به من عذاب مهين فقال: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً
…
أى. هذا هو قولهم على سبيل الإجمال لرسلهم، وإليك جانبا من حال قوم عاد، ومن أقوالهم الباطلة.
إنهم قد استكبروا في الأرض بغير الحق. واغتروا بما بين أيديهم من نعم، وقالوا على سبيل التباهي والتفاخر والتكبر: من أشد منا قوة.
وقيد استكبارهم في الأرض بأنه بغير الحق. لبيان واقعهم، حيث كانوا كما وصفهم الله- تعالى- في آيات أخرى متجبرين متعالين على غيرهم، ومن ذلك قوله- تعالى:
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 191.
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ.
الاستفهام في قوله- تعالى- الذي حكاه عنهم مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً للإنكار والنفي.
أى: لا أحد أقوى منا، فنحن في استطاعتنا أن ندفع كل عذاب ينزل بنا، وهذا هو الشعور الكاذب الذي يشعر به الطغاة الجاهلون في كل زمان ومكان.
وقد رد الله- تعالى- عليهم وعلى أمثالهم ردا منطقيا حكيما يخرس ألسنتهم فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ.
أى: أعموا وصموا عن الحق، ولم يعلموا أن الله- تعالى- الذي أوجدهم من العدم، هو- سبحانه- أشد منهم قوة وبأسا.
إنهم لغرورهم وجهالاتهم نسوا كل ذلك، وكانوا بآياتنا الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا يجحدون، ويعاندون وينكرون الحق الذي جاءتهم به رسلهم.
ثم حكى- سبحانه- ما نزل بهم من عذاب بسبب إصرارهم على كفرهم، وبسبب غرورهم وبطرهم فقال: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ، لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا....
ولفظ «صرصرا» من الصر- بفتح الصاد- وهو شدة الحر، أو من الصر- بكسر الصاد- وهو شدة البرد الذي يقبض البدن، أو من الصرة التي هي الصيحة المزعجة، ومنه قوله- تعالى- فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ
…
أى: في صيحة.
ولا مانع من أن تكون هذه الريح التي أرسلها الله- تعالى- عليهم، قد اجتمع فيها الصوت الشديد المزعج، والبرد الشديد القاتل.
وقوله: نَحِساتٍ جمع نحسة- بفتح النون وكسر الحاء- صفة مشبهة من نحس- كفرح وكرم- ضد سعد.
أى: فأرسلنا على قوم عاد ريحا شديدة الهبوب والصوت، وشديدة البرودة أو الحرارة في أيام نحسات أو مشئومات نكدات عليهم بسبب إصرارهم على كفرهم وفعلنا ذلك معهم لنذيقهم العذاب المخزى لهم في الحياة الدنيا.
وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى أى: أشد خزيا وإهانة لهم من عذاب الدنيا.
وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ أى: وهم لا يجدون أحدا يدفع عنهم هذا العذاب بحال من الأحوال.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك، حال ثمود وما نزل بهم من عذاب فقال: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ....
أى: وأما قوم ثمود الذين أرسلنا إليهم نبينا صالحا، فبينا لهم عن طريقه سبيل الرشاد وسبيل الغي. فالمراد بالهداية هنا: البيان والإرشاد والدلالة على الخير.
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أى: فاختاروا الكفر على الإيمان، وآثروا الغي على الرشد.
فالمراد بالعمى هنا الكفر والضلال، والمراد بالهداية الإيمان والطاعة.
فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أى: فكانت نتيجة إيثارهم الكفر على الإيمان، وتصميمهم على ذلك.. أن أنزلنا عليهم الصاعقة التي أهلكتهم، والعذاب المبين الذي أبادهم، بسبب ما اكتسبوه من ذنوب وقبائح.
وقد حكى- سبحانه- ما أنزله بعاد وثمود من عذاب في آيات كثيرة، منها قوله- تعالى-: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ. فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ. وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «1» .
وقد ذكر بعضهم أن الأيام النحسات التي نزل فيها العذاب على قوم عاد، كانت في أواخر شهر شوال، وأن أولها كان في يوم الأربعاء، وآخرها- أيضا- كان في يوم الأربعاء، ولذا صار بعض الناس يتشاءم من هذا اليوم.
والحق أن ما ذكروه في هذا الشأن لا دليل عليه، ولا يلتفت إليه، وأن ما أصاب هؤلاء إنما كان بشؤم كفرهم ومعاصيهم.
قال بعض العلماء بعد أن ذكر بعض الآثار التي ذكروها في أن يوم الأربعاء يوم نحس:
ثم بين- سبحانه- فضله على المؤمنين، ورحمته بهم فقال: وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا.. أى ونجينا الذين آمنوا من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة.
(1) سورة الحاقة الآيات من 4- 7.
(2)
تفسير أضواء البيان ج 7 ص 124 للشيخ الشنقيطى.