الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَكانُوا يَتَّقُونَ أى: يتقون الله- تعالى-، ويصونون أنفسهم عن كل ما لا يرضيه.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك جانبا من أحوال الظالمين يوم القيامة، يوم تشهد عليهم أسماعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون، يوم يعلمون أن ما جاءهم به رسلهم حق لا ريب فيه، فقال- تعالى-:
[سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 24]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
والظرف في قوله: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ متعلق بمحذوف تقديره: اذكر.
وقوله، يُوزَعُونَ من الوزع وأصله الكف، تقول: وزع فلان فلانا عن الشيء، أى:
كفه ومنعه عنه. ومنه قول الشاعر:
ولن يزع النفس اللجوج عن الهوى
…
من الناس، إلا وافر العقل كامله
والمراد هنا: أن يكف أولهم ويمنع عن التحرك حتى يرد آخرهم فيلحق بأولهم، بحيث
يجتمعون جميعا للحساب ثم يدعون إلى نار جهنم.
والمعنى: واذكر- أيها العاقل- يوم يحشر أعداء الله جميعا إلى النار، بعد أن حوسبوا على أعمالهم السيئة فَهُمْ يُوزَعُونَ أى: فهم يحبسون في هذا اليوم العصيب حتى يلحق آخرهم بأولهم، ويكفون جميعا عن الحركة حتى يقضى الله- تعالى- بقضائه العادل فيهم.
والتعبير بقوله: أَعْداءُ اللَّهِ يدل على ذمهم، وعلى أن ما أبهم من عذاب مهين. إنما هو بسبب عداوتهم لله- تعالى- ولرسله- صلوات الله عليهم-، حيث أعرضوا عن الحق الذي جاءهم به الرسل من عند ربهم.
والتعبير بقوله يُوزَعُونَ يشعر بأنهم يحبسون ويمنعون عن الحركة بغلظة وزجر.
ثم بين- سبحانه- أحوالهم عند ما يعرضون على النار فقال: حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.
والمراد بشهادة هذه الأعضاء عليهم: أنها تنطق- بإذن الله- تعالى- وتخبر بما اجترحوه من سيئات، وبما فعلوه من قبائح.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: «فإن قلت «ما» في قوله: حَتَّى إِذا ما جاؤُها ما هي؟.
قلت: مزيدة للتأكيد، ومعنى التأكيد فيها: أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم، ولا وجه لأن يخلو منها
…
فإن قلت: كيف تشهد عليهم أعضاؤهم وكيف تنطق؟.
قلت: الله- عز وجل ينطقها
…
بأن يخلق فيها كلاما..
وشهادة الجلود بالملامسة للحرام، وما أشبه ذلك مما يفضى إليها من المحرمات. وقيل:
المراد بالجلود الجوارح- وقيل: هو كناية عن الفروج..» «1» .
ثم حكى- سبحانه- ما يقوله هؤلاء الكافرون لجوارحهم على سبيل التوبيخ والتعجيب فقال: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا
…
أى: وقال هؤلاء الكافرون لجلودهم التي تشمل جميع جوارحهم بتعجب وذهول: لماذا شهدتم علينا مع أننا ما دافعنا إلا عنكم. لكي ننقذكم من النار؟.
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 195.
وهنا ترد عليهم جوارحهم بقولها- كما حكى سبحانه عنها- قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ
…
أى: قالوا في الرد عليهم: أنطقنا الله- تعالى- الذي أنطق كل شيء بقدرته التي لا يعجزها شيء وَهُوَ- سبحانه- الذي خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ولم تكونوا شيئا مذكورا.
وَإِلَيْهِ وحده تُرْجَعُونَ فيحاسبكم على أعمالكم، ويحكم فيكم بحكمه العادل.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية عددا من الأحاديث، منها ما جاء عن أنس ابن مالك- رضى الله عنه- قال: ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وتبسم فقال: «ألا تسألون عن أى شيء ضحكت» ؟ قالوا: يا رسول الله، من أى شيء ضحكت؟ قال:
«عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: أى ربي، أليس قد وعدتني أن لا تظلمني؟
قال: بلى. فيقول: فإنى لا أقبل على شاهدا إلا من نفسي. فيقول الله- تعالى-: أو ليس كفى بي شهيدا. وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال: فيردد هذا الكلام مرارا قال: فيختم على فيه، وتتكلم أركانه بما كان يعمل. فيقول: بعدا لكن وسحقا، فعنكن كنت أجادل» «1» .
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ، بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «2» .
ثم حكى- سبحانه- ما يقال لهؤلاء الكافرين يوم القيامة من جهته- تعالى- أو من جهة جوارحهم التي شهدت عليهم فقال- تعالى-: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ، وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ.
وقوله: تَسْتَتِرُونَ من الاستتار بمعنى الاستخفاء، «وما» نافية. وقوله: أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ.. في موضع نصب على نزع الخافض أى: من أن يشهد عليكم.. أو مفعول لأجله.
أى: مخافة أو خشية أن يشهد عليكم سمعكم.
والمعنى: أن جوارحهم تقول لهم يوم القيامة على سبيل التبكيت: أنتم- أيها الكافرون- لم تكونوا في الدنيا تخفون أعمالكم السيئة، خوفا من أن نشهد عليكم ولكنكم كنتم تخفونها
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 159.
(2)
سورة يس الآية 65.
لاعتقادكم أن الله- تعالى- لا يعلم ما تخفونه من أعمالكم، ولكنه يعلم ما تظهرونه منها.
وما حملكم على هذا الاعتقاد الباطل إلا جهلكم بصفات الله- تعالى- وكفركم باليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء، واستبعادكم أننا سنشهد عليكم.
قال القرطبي: قوله- تعالى-: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ
…
يجوز أن يكون هذا من قول الجوارح لهم، ويجوز أن يكون من قول الله- تعالى- لهم، أو الملائكة.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفر، قرشيان وثقفى، - أى شخص من قبيلة ثقيف- أو ثقفيان وقرشي، قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم.
فقال أحدهم: أترون الله- تعالى- يسمع ما نقول: فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا.
فأنزل الله- عز وجل: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ.
فالآية الكريمة تنعى على المشركين جهالاتهم الفاضحة، حيث ظنوا أن الله- تعالى- لا يعلم الكثير من أعمالهم، وتنبه المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم أن يعلموا أن الله- تعالى- معهم، ولا يخفى عليه شيء من أقوالهم أو أفعالهم، وأنه- سبحانه- يعلم السر، وأخفى ورحم الله من قال:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل
…
خلوت. ولكن قل: على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
…
ولا أن ما يخفى عليك، يغيب
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة ظن هؤلاء الكافرين الجاهلين فقال: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ.
وذلِكُمْ اسم إشارة يعود إلى ظنهم السابق، وهو مبتدأ، وقوله أَرْداكُمْ خبره.
أى: وذلكم الظن الذي ظننتموه بربكم، وهو أنه- سبحانه- لا يعلم كثيرا مما تعملونه سرا، هذا الظن أَرْداكُمْ أى: أهلككم، يقال ردى فلان- كصدى- إذا هلك فَأَصْبَحْتُمْ أيها الكافرون من الخاسرين لكل شيء في دنياكم.
فَإِنْ يَصْبِرُوا عن العذاب فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أى: فالنار هي المكان المعد لثوائهم فيه، ولبقائهم به بقاء أبديا. يقال: ثوى فلان بالمكان إذا أقام به إقامة دائمة. وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أى: وإن يطلبوا الرضا عنهم، فما هم من المرضى عنهم، وإنما هم من المغضوب عليهم، أو وإن يطلبوا منا الرجوع إلى ما يرضينا بأن نعيدهم