الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمقصود من هذا كله أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله، كما قال- تعالى- وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ «1» .
ثم بين- سبحانه- أن تذللهم هذا لن يجديهم، وأن ما هم فيه من عذاب سببه إعراضهم عن دعوة الحق في الدنيا، فقال: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.
أى: ذلكم الذي نزل بكم من عذاب سببه، أنكم كنتم في الدنيا إذا عبد الله- تعالى- وحده، وطلب منكم ذلك كفرتم به- عز وجل، وإن يشرك به غيره من الأصنام أو غيرها آمنتم، ومادام هذا حالكم في الدنيا، فاخسئوا في النار ولا تؤملوا في الخروج منها، بحال من الأحوال، فالحكم لله وحده دون غيره، وهو سبحانه الذي حكم عليكم بما حكم..
وهو- سبحانه- الْعَلِيِّ أى: المتعالي عن أن يكون له مماثل في ذاته أو صفاته الْكَبِيرِ أى: العظيم الذي هو أعظم وأكبر من أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد.
وجمع- سبحانه- لذاته بين هذين الوصفين للدلالة على كبريائه وعظمته.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك ما يدل على فضله ورحمته بعباده، وعلى وحدانيته وكمال قدرته، وعلى أن يوم القيامة آت لا ريب فيه، وعلى أن كل نفس ستجازى في هذا اليوم بما كسبت بدون ظلم أو محاباة، لأن القضاء فيه لله الواحد القهار. فقال- تعالى-:
[سورة غافر (40) : الآيات 13 الى 22]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَاّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 122.
والمقصود بآياته- عز وجل في قوله: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ
…
الدلائل الدالة على وحدانيته وقدرته، كخلقه للشمس والقمر والليل والنهار، والبحار والأنهار، والسماء والأرض، والمطر والرعد، والنجوم والرياح، والأشجار الكبيرة والصغيرة.. إلى غير ذلك من آياته التي لا تحصى في هذا الوجود..
أى: هو- سبحانه- الذي يريكم آياته الدالة على وحدانيته وقدرته، لتزدادوا- أيها المؤمنون- إيمانا على إيمانكم، وثباتا على ثباتكم، ويقينا على يقينكم، بأن المستحق للعبادة والطاعة هو الله الواحد القهار.
وقد ساق- سبحانه- في كتابه عشرات الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته، ومن ذلك قوله- تعالى-:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ «1» .
وقوله- عز وجل: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ
…
«2» .
وقوله- تعالى-: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ «3» .
والمراد بالرزق في قوله: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً.. الأمطار التي تنزل من السماء على الأرض، فتحييها بعد موتها، بأن تحولها من أرض جدباء يابسة، إلى أرض خضراء بشتى الزروع والثمار.
وأطلق- سبحانه- على المطر رزقا. لأنه سبب فيه، وأفرده بالذكر مع كونه من جملة الآيات التي يريها- تعالى- لعباده لتفرده بعنوان كونه من آثار رحمته، وجلائل نعمه، الموجبة لشكره- عز وجل، ولوجوب إخلاص العبادة له.
وقوله- تعالى-: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ بيان لمن هو أهل للانتفاع بهذه الآيات.
أى: وما يتذكر وينتفع بهذه الآيات إلا من يرجع عن المعصية إلى الطاعة وعن الكفر إلى الإيمان، وعن العناد والجحود، إلى التفكر والتدبر بقلب سليم.
فقوله يُنِيبُ من الإنابة، ومعناها الرجوع عن الكفر والمعاصي: إلى الإيمان والطاعة.
والفاء في قوله- تعالى-: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.. للإفصاح عن شرط مقدر. أى: إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن كل شيء في هذا الوجود يدل على وحدانية الله- تعالى- فأخلصوا له العبادة والطاعة وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ منكم ذلك- أيها المؤمنون- فلا تلتفتوا إلى كراهيتهم، وامضوا في طريق الحق، ودعوهم يموتوا بغيظهم..
وقد أخذ العلماء من هذا الآية الكريمة، وجوب إخلاص العبادة لله- تعالى- ووجوب الإكثار من التضرع إليه بالدعاء.
(1) سورة آل عمران الآية 190.
(2)
سورة الروم الآية 23. [.....]
(3)
سورة يونس الآية 6.
ومن الأحاديث التي أوردها الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية، ما رواه الإمام مسلم وأبو داود، والنسائي، وأحمد، عن أبى الزبير محمد بن مسلم المكي قال: كان عبد الله بن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة «1» .
ثم يذكر- سبحانه- بعد ذلك من صفاته العظمى، ما يزيد المؤمنين في إخلاص العبادة له، فيقول: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ.. أى: هو- تعالى- وحده صاحب الرفعة والمقام العالي، وهو وحده صاحب العرش العظيم، الذي لا يعلم مقدار عظمته إلا هو..
قال الآلوسى قوله: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ رفيع صفة مشبهة أضيفت الى فاعلها من رفع الشيء إذا علا.. والدرجات: مصاعد الملائكة إلى أن يبلغوا العرش، أى: رفيع درجات ملائكته ومعارجهم إلى عرشه.. ويجوز أن يكون كناية عن رفعة شأنه وسلطانه- عز شأنه- كما أن قوله- تعالى-: ذُو الْعَرْشِ كناية عن ملكه- جل جلاله.. «2» .
والمراد بالروح في قوله- تعالى-: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ:
الوحى الذي يوحى به على أنبيائه، وأمين هذا الوحى جبريل- عليه السلام.
أى: هو وحده- سبحانه- الذي يلقى الوحى. حالة كون هذا الوحى ناشئا من أمره وقضائه على من يختاره لهذا الإلقاء من عباده الصالحين. فقوله مِنْ أَمْرِهِ متعلق بمحذوف حال من الروح.
وسمى الوحى روحا، لأن الأرواح تحيا به، كما أن الأجساد تحيا بالغذاء.
وقوله- تعالى-: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ بيان للوظيفة الخاصة بمن يختاره- سبحانه- من عباده لإلقاء الوحى عليه.
والإنذار: الإعلام المقترن بالتخويف والتحذير، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذارا.
والمراد بيوم التلاق: يوم القيامة، وسمى بيوم التلاق لأنه يتلاقى فيه الأولون والآخرون والمؤمنون والكافرون، والظالمون والمظلومون.. الكل يتلاقى في ساحة المحشر ليقضى الله
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 124.
(2)
تفسير الآلوسى ج 24 ص 55.
- تعالى- فيهم بقضائه العادل.
أى: يلقى- سبحانه- بوحيه على أنبيائه، لينذروا الناس ويحذروهم من سوء العذاب يوم القيامة، إذا ما استمروا في كفرهم وعصيانهم لخالقهم.
ثم صور- سبحانه- أحوال الناس في هذا اليوم العصيب، فقال: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ....
وهذه الجملة الكريمة بدل من قوله يَوْمَ التَّلاقِ، أى: يلقى- سبحانه- على من يشاء من عباده، لكي ينذر الناس من أهوال ذلك اليوم الذي تلتقي فيه الخلائق، والذي يظهرون فيه ظهورا تاما، دون أن يخفى منهم شيء على الله- تعالى-.
والله- تعالى- لا يخفى عليه شيء من أمرهم لا في هذا اليوم ولا في غيره، ولكنه- سبحانه- ذكر بروزهم وعدم خفائهم عليه في هذا اليوم، لأنهم- لجهلهم- كانوا يتوهمون في الدنيا أنهم يستطيعون التستر عنه، كما أشار- سبحانه- إلى ذلك في قوله- تعالى- أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
ورحم الله صاحب الكشاف، فقد قال: قوله: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ أى: ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء، لأن الأرض بارزة قاع صفصف، ولا عليهم ثياب، إنما هم عراة مكشوفون، كما جاء في الحديث:«يحشرون عراة حفاة غرلا» لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ أى: من أعمالهم وأحوالهم
…
فإن قلت: قوله: لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ بيان وتقرير لبروزهم، والله- تعالى- لا يخفى عليه منهم شيء برزوا أم لم يبرزوا، فما معناه؟
قلت: معناه أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا أنهم إذا استتروا بالحيطان والحجب، أن الله لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم، فهم اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه قال- تعالى-: وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ.. «1» .
وقوله- تعالى-: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ السائل والمجيب هو الله- تعالى-.
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 156.
أى: ينادى الله- تعالى- في المخلوقات في ذلك اليوم، لمن الملك في هذا اليوم الهائل الشديد؟ ثم يجيب- سبحانه- على هذا السؤال بقوله: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
قال القرطبي ما ملخصه: قال الحسن: هو السائل- تعالى- وهو المجيب، لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه، فيجيب نفسه سبحانه فيقول: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
وعن ابن مسعود قال: يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة، لم يعص الله- جل وعلا- عليها، فيأمر مناديا ينادى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم:
لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
فيقول المؤمنون هذا الجواب سرورا وتلذذا، ويقوله الكافرون غما وانقيادا وخضوعا.
ثم قال: والقول الأول ظاهر جدا، لأن المقصود إظهار انفراده- تعالى- بالملك عند انقطاع دعاوى المدعين، وانتساب المنتسبين، إذ قد ذهب كل ملك وملكة «1» .
وبعد أن قرر- سبحانه- أن الملك في هذا اليوم له وحده. أتبع ذلك ببيان ما يحدث في هذا اليوم فقال: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ
…
أى: في هذا اليوم الهائل الشديد تجازى كل نفس من النفوس المؤمنة والكافرة، والبارة والفاجرة. بما كسبت في دنياها من خير أو شر، ومن طاعة أو معصية.
لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ولا جور ولا محاباة ولا وساطات.. وإنما تعطى كل نفس ما تستحقه من ثواب أو عقاب.
إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لأنه- سبحانه- لا يحتاج إلى تفكير عند محاسبته لخلقه، بل هو- سبحانه- قد أحاط بكل شيء علما، كما قال- تعالى-: عالِمِ الْغَيْبِ، لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.
ثم يوجه الله- تعالى- أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحذر كفار قريش من أهوال هذا اليوم فيقول: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ
…
والآزفة: القيامة. وأصل معنى الآزفة: القريبة، وسميت القيامة بذلك لقربها، يقال:
أزف- بزنة فرح- يوم الرحيل. إذا دنا وقرب.
والحناجر: جمع حنجرة وهي الحلقوم.
(1) تفسير القرطبي ج 15 ص 301.
وكاظمين: حال من أصحاب القلوب على المعنى. فإن ذكر القلوب يدل على ذكر أصحابها.
وأصل الكظم: الحبس والإمساك للشيء. يقال: كظم القربة إذا ملأها بالماء، وسد فاها، حتى لا يخرج منها شيء من الماء.
والمعنى: وأنذر- أيها الرسول الكريم- الناس، وحذرهم من أهوال يوم عظيم قريب الوقوع، هذا اليوم تكون قلوبهم فيه مرتفعة عن مواضعها من صدورهم. ومتشبثة بحناجرهم، ويكونون كاظمين عليها وممسكين بها حتى لا تخرج مع أنفاسهم. كما يمسك صاحب القربة فمها لكي لا يتسرب منها الماء.
فالآية الكريمة تصوير يديع لما يكون عليه الناس في هذا اليوم من فزع شديد، وكرب عظيم. وخوف ليس بعده خوف.
والحديث عن قرب يوم القيامة قد جاء في آيات كثيرة منها قوله- تعالى-: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ
…
وقوله- سبحانه- اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ.
والظاهر أن قوله هنا يَوْمَ الْآزِفَةِ هو المفعول الثاني للإنذار ليس ظرفا له. لأن الإنذار والتخويف من أهوال يوم القيامة واقع في دار الدنيا.
وقوله: إِذِ الْقُلُوبُ بدل من يوم الآزفة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت «كاظمين» بم انتصب؟ قلت: هو حال من أصحاب القلوب على المعنى، لأن المعنى: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها. ويجوز أن يكون حالا من القلوب، وأن القلوب، كاظمة على غم وكرب فيها مع بلوغها الحناجر.
وإنما جمع جمع السلامة، لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء، كما قال- تعالى-: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ
…
«1» .
وقوله- تعالى-: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ نفى لكون هؤلاء الظالمين يوجد في هذا اليوم من ينفعهم أو يدافع عنهم.
والحميم: هو الإنسان الذي يحبك ويشفق عليك ويهتم بأمرك، ومنه قيل لخاصة الرجل:
حامّته.
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 157.
والشفيع: من الشفع، بمعنى الانضمام، يقال شفع فلان لفلان إذا انضم إليه ليدافع عنه.
أى: ليس للظالمين في هذا اليوم قريب أو محب يعطف عليهم، ولا شفيع يطيعهم في الشفاعة لهم، لأنهم في هذا اليوم يكونون محل غضب الجميع ونقمتهم، بسبب ظلمهم وإصرارهم على كفرهم.
فالآية الكريمة نفت عنهم الصديق الذي يهتم بأمرهم، والشفيع الذي يشفع لهم، والإنسان الذي تكون له أية كلمة تسمع في شأنهم.
ثم أكد- سبحانه- شمول علمه لكل شيء فقال: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ.
والمراد بخائنة الأعين: النظرة الخائنة التي يتسلل بها المتسلل ليطلع على ما حرم الله الاطلاع عليه.
والجملة خبر لمبتدأ محذوف. والإضافة في قوله خائِنَةَ الْأَعْيُنِ على معنى من، وخائنة:
نعت لمصدر محذوف.
أى: هو- سبحانه- يعلم النظرة الخائنة من الأعين، وهي التي يوجهها صاحبها في تسلل وخفية إلى محارم الله- تعالى- كما يعلم- سبحانه- الأشياء التي يخفيها الناس في صدورهم، وسيجازيهم على ذلك في هذا اليوم بما يستحقون.
قال القرطبي: ولما جيء بعبد الله بن أبى سرح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما اطمأن أهل مكة، وطلب له الأمان عثمان بن عفان، صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا، ثم قال:
«نعم» .
فلما انصرف قال صلى الله عليه وسلم لمن حوله: «ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» .
فقال رجل من الأنصار: فهلا اومأت إلى يا رسول الله؟ فقال: «إن النبي لا تكون له خائنة أعين» «1» .
ثم بين- سبحانه- أن القضاء الحق في هذا اليوم مرده إليه وحده فقال: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ....
أى: والله- تعالى- يقضى بين عباده قضاء ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ.. أى: والآلهة الذين يعبدهم الكفار من
(1) تفسير القرطبي ج 15 ص 303.
دون الله- تعالى- لا يقضون بشيء أصلا، لأنهم لا يعلمون شيئا، ولا يقدرون على شيء، وإذا فهم أعجز وأتفه من أن يلتفت إليهم.
إِنَّ اللَّهَ- تعالى- هُوَ السَّمِيعُ لكل شيء الْبَصِيرُ بكل شيء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
ثم وبخ- سبحانه- هؤلاء الظالمين على عدم اعتبارهم واتعاظهم بمن كان قبلهم فقال:
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ.
أى: أبلغت الجهالة والغفلة وانطماس البصيرة بهؤلاء المشركين من قومك- يا محمد- أنهم لم يعتبروا ولم يتعظوا بالظالمين السابقين الذين دمرناهم تدميرا.
إنهم يمرون عليهم مصبحين وبالليل، وإنهم ليشاهدون آثارهم ماثلة أمام أعينهم، يشاهدون آثار قوم صالح، ويشاهدون آثار غيرهم.
ولقد كان هؤلاء السابقون الظالمون، أشد من مشركي قريش في القوة والبأس، وأشد منهم في إقامة المبانى الفارهة، والحصون الحصينة..
فلما استمروا في جحودهم وكفرهم، أخذهم الله- تعالى- أخذ عزيز مقتدر، بسبب ذنوبهم. وما كان لهم من دون الله- تعالى- من يدفع عنهم عذابه، أو يقيهم من بأسه.
ذلِكَ الأخذ من أسبابه بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أى: بالدلائل الواضحات على صدقهم فيما يبلغونهم عن ربهم.
فَكَفَرُوا أى: بالرسل وبما جاءوهم به فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أى: فأهلكهم- سبحانه- إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ أى: إنه- سبحانه- قوى لا يحول بين ما يريد أن يفعله حائل، شديد العقاب لمن كفر به، وأعرض عن دعوة رسله.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت لنا أنواعا متعددة من مظاهر قدرة الله، ومن أهوال يوم القيامة، ومن علمه الشامل لكل شيء، ومن قضائه العادل ومن أخذه للظالمين أخذ عزيز مقتدر.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن جانب من قصة موسى- عليه السلام مع فرعون. فذكرت جانبا من التهديدات التي وجهها فرعون إلى موسى وقومه، وكيف أن موسى- عليه السلام رد عليه ردا قويا حكيما، فقال- تعالى-: