المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أوليّات لم تبلغ العلوم الإنسانية بعد درجة تحديد مصطلحاتها عامة، كما - ميلاد مجتمع

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌ ‌أوليّات لم تبلغ العلوم الإنسانية بعد درجة تحديد مصطلحاتها عامة، كما

‌أوليّات

لم تبلغ العلوم الإنسانية بعد درجة تحديد مصطلحاتها عامة، كما حدث للعلوم الطبيعية، فإن في علم الاجتماع بعض المفاهيم التي تبدو أحياناً غير محددة في ذهن القارئ في البلاد الإسلامية، حيث نجد أن اللغات المحلية لا تتمثل تماماً المصطلحات الحديثة.

وقد يؤدي تعقد المصطلحات إلى مناقشات أقرب إلى الطابع الأدبي منها إلى منطق العلم، كتلك المناقشة التي ثارت وتثور غالباً حول مصطلحي حضارة، ومدنية في البلاد العربية. بيد أن هذه المناقشات لا تعين على جلاء الموضوع، بل تجعله أكثر صعوبة.

فمن المفيد إذن أن ننشئ أولاً الإطار النظري لموضوعنا (ميلاد مجتمع) قبل أن نعالجه من زاويته التاريخية. وهكذا نجد من المناسب أن نذكر في مستهل دراستنا تنوع الظواهر الاجتماعية، التي تنطبق عليها لفظة مجتمع، فنذكر أولاً الفرق الجوهري بين (المجتمع الطبيعي) أو البدائي، وهو الذي لم يعدّل، بطريقة مُحَسَّة، المعالم التي تجدد شخصيته منذ كان، وبين المجتمع التاريخي الذي ولد في ظروف أولية معينة؛ ولكنه عدّل من بعد، صفاته الجذرية ابتداء من هذه الحالة الأولية، طبقاً لقانون تطوره.

وـ[النوع الأول]ـ يحقق نموذج المجتمع الساكن ذي المعالم الثابتة، كالمجتمعات الموجودة في مستعمرة النمل أو النحل. والقبيلة الإفريقية في عصر ما قبل الاستعمار، والقبيلة العربية في العصر الجاهلي تمثلان هذا النموذج.

ص: 7

أما ـ[النوع الثاني]ـ فإنه يحقق النموذج المتحرك، أعني المجتمع الذي يخضع لقانون التغيير، الذي يعدل معالمه هن جذورها.

ومع ذلك فهذا النوع ليس وحيد الصورة، فهو يتنوع من جهة طريقة نشاته، ومن جهة شكل بنائه.

والواقع أن المجتمع التاريخي يمكن أن ينشأ بطريقتين:

فهو إما أن يتركب ابتداء من مواد جديدة، أي من مواد لم تتعرض لأي تغيير تاريخي سابق، فهو يستنفد هذه المواد، في الحالة التي تكون عليها في الطبيعة، وبهذه الطريقة نشأت المجتمعات التاريخية الأولى، إبان الثورة الزراعية في العمر الحجري الجديد.

ولكن هذا النوع قد يتكون أيضاًً من عناصر استخدمت في مجتمع تاريخي سابق، تحولت عناصره المكونة له، بسبب تقادمه أو انبساط رقعته، إلى عناصر مهيأة للاستخدام في مجتمع جديد.

وقد تكون الاستعارة في صورة هجرة تنزع هذه العناصر من المجتمع الأم، كالهجرة التي كونت المجتمع الأمريكي الحالي، وهو المجتمع الذي تكون من عناصر قدمها له مجتمع متحضر في حالة توسعه، هو المجتمع الأوربي في القرن السادس عشر، وكالهجرة التي كونت مجتمع الأسكيمو الذي انتزِعت عناصره المكونة له من المجتمعات المغولية الصينية في الشرق الأقصى.

وقد تكون الاستعارة في صورة أخرى عندما تكون الحالة إعادة تركيب أنقاض مجتمع أو مجتمعات اختفت، ومن أمثلة ذلك أن المجتمع الروماني امتص في جيل بنائه كثيراً من المجتمعات التي اختفت، مثل المجتمع الغالي بعد معركة (أليزيا Alesia) والمجتمع القرطاجني Carthaginoise بعد معركة (زاما)، والمجتمع المصري بعد انتصار القيصر على (يومي) .. الخ.

ص: 8

بيد أنه مهما تكن طريقة البناء فإن ظهور مجتمع تاريخي ليس حدثاً عرضياً، بل هو نتيجة عملية تغيير مطرَدة يشترك فيها المجتمع الذي يستعير، والآخر الذي يقدم العارية، هذه العملية تتم طبقاً لتخطيط نظري عام يشتمل بالضرورة على الجوانب الآتية:

أولاً: المصدر التاريخي لعملية التغيير المطردة.

ثانياً: المواد التي تمر بتأثير هذا التغيير من حالتها قبل الاجتماعية، مروراً يمكن معه أن تحوزها اليد المغيرة إلى حالتها الاجتماعية الجديدة.

ثالثاً: القواعد العامة أو القوانين التي تتحكم في هذا التغيير.

فمن الزاوية الأولى نجد أن النموذج التاريخي من المجتمعات يتعرض أيضاً للتنوع الناشئ عن الظرف التاريخي الذي يتيح له ميلاده. وهناك من هذه الزاوية نوعان من المجتمع:

أ - المجتمع التاريخي الذي يولد، فيكون ميلاده إجابة عن اختيار مفروض، تفرضه الظروف الطبيعية الخاصة بالوسط الذي يولد فيه، سواء تعرض هذا الوسط لتنوع مفاجئ، أم أن العناصر المكونة له قد واجهت فجأة ظروف وسط طبيعي جديد:

ـ[وهذا هو النموذج الجغرافي]ـ.

ب - المجتمع التاريخي الذي يرى النور تلبية لنداء فكرة:

ـ[وهذا هو النموذج الفكري (الإيديولوجي)]ـ.

وينتمي المجتمع الأمريكي إلى النوع الأول، إذ هو ثمرة هجرة أوربية، اضطرت إلى أن تتكيف مع الظروف الطبيعية في القارة الجديدة. ولقد عرضت على الشاشة قصة الاختبار الذي منح هذا المجتمع ميلاده، في صورة أفلام تناولت

ص: 9

موضوعاتها حياة الناس في أقصى الغرب الأمريكي ( Far-West)، وفي شخص البطل (بوفالوبيل). تلك الأفلام التي غذت خيال الجيل السابق في أوربا، وألهمته أن يختار ملابس رعاة البقر، زياً رسمياً لحركات الكشافة.

أما النموذج الثاني فإليه ينتمي المجتمع الإسلامي، كما ينتمي إليه المجتمع الأوربي الأصلي، وهو الذي يعد بصورة عامة ثمرة للفكرة المسيحية.

ويمكن أن نعد المجتمع السوفييتي اليوم والمجتمع الصيني من هذا النوع.

وفضلاً عن هذا التنوع ذي الطابع التارخي المتصل بمنشأ المجتمع، فإن من الواجب أن نلاحظ أيضاً وجود تنوع ذي طابع تشكيلي يتصل ببناء المجتمع. وينبغي من هذه الوجهة أن نميز المجتمات التي يقوم بناؤها على طوابق كثيرة، عن المجتمعات ذات الحجر الواحد أو الطابق الواحد.

والمجتمع الإسلامي الذي يعد خاصة موضوع دراستنا، هو من النموذج ذي الحجر الواحد، أعني أن بناءه قد اتخذ صورة واحده تتفق كثيراً أو قليلاً مع الحديث المشهور:

«الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» .

وهو الحديث الذي يعطي الصورة الدقيقة التي كان عليها المجتمع الإسلامي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا التحديد الذي نضعه للمجتمع الإسلامي، لا علاقة له بالحركة المذهبية التي قسمته خلال التاريخ إلى مدارس أو طوائف. فهو تحديد مجتمع ديمقراطي يحتفظ في اتجاهاته، إن لم يكن في مؤسساته، بجوهر الديمقراطية، أعني أنه كان مجتعاً بلا طبقاًت.

والتجربة الراهنة في الجمهورية العربية المتحدة هي في الواقع محاولة لإعادة التعبير عن هذا الجوهر في صورة حديثة.

ص: 10

أما المجتمع البرهمي، فهو على العكس من ذلك، نموذج للمجتمع المبني على طوابق، المجتمع المنقسم إلى طوائف متراكبة، حتى في داخل البناء الاجتماعي في الهند الحديثة، على الرغم من جهود غاندي.

والمجتمع الأوربي في القرن التاسع عشر، يقدم لنا مثالاً آخر للتراكب الاجتماعي بين الطبقاًت المختلفة التي كان يتألف منها.

فهذه إذن طائفة من الأمثلة على التنوع التاريخي أو التشكيلي في المجتمع الذي ندرسه. بيد أن في هذه الأمثلة جميعاً عدداً من الخصائص المشتركة. فالمجتمع - أيا كان نموذجه التاريخي أو التشكيلي- ليس مجرد جمع لعناصر، أو أشخاص، تدعوهم غريزة الجماعة إلى أن يتكتلوا في إطار اجتماعي معين.

هذه الغريزة وسيلة لإنشاء المجتمع، وليست سبباً في إنشائه، إذ يضم المجتمع ما هو أكثر من مجرد مجموعة من الأفراد الذين يؤلفون صورته، يضم عدداً من الثوابت التي يدين لها بدوامه، وبتحديد شخصيته في صورة مستقلة تقريباً عن أفراده.

ويمكن أن نفصل الأمر بطريقتين:

أ - فقد يحدث في بعض الظروف التاريخية أن يفقد مجتمع ما شخصيته ويمحى من التاريخ، ومع ذلك فإن عدد أفراده قد لا يتغير في هذه الحالة، بل يحتفظ كل فرد بغريزة العيش في جماعة، وهي الغريزة التي تحدد معالم الإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً، وإنما أصبح الأفراد مجرد أنقاض لمجتمع بائد، أنقاض مهيأة لأن تدخل في بناء جسد اجتماعي جديد.

ففي أعقاب معركة (أليزيا Alésia) اختفى المجتمع الغالي، ولكن الغال أفرادا لم يختفوا، بل تحولوا إلى مواد مهيأة للدخول في بناء جسد اجتماعي آخر، هو المجتمع الروماني.

ص: 11

ب - فإذا حدث أن اختفى الأفراد الذين يكونون مجتمعاً ما في نهاية جيل معين، فإن المجتمع يبقى، ويحتفظ بشخصية لا يمسها شيء، كما يحتفظ بدوره في التاريخ.

بل إنه يفرض على القادمين الجدد أنفسهم- حتى ولو كانوا أجانب- عبقريته وتقاليده وعاداته، وقد رأينا ذلك عندما ابتلع المجتمع الصيني قبائل المانشو والمغول، حين غزوا مملكة الصين.

فالمجتمع يحمل إذن في داخله الصفات الذاتية التي تضمن اسمراره، وتحفظ شخصيته ودوره عبر التاريخ.

وهذا العنصر الثابت هو المضمون الجوهري للكيان الاجتماعي، إذ هو الذي يحدد عمر المجتمع، واستقراره عبر الزمن، ويتيح له أن يواجه ظروف تاريخه جميعاً.

وهو الذي يتجسد في نهاية الأمر في شبكة العلاقات الاجتماعية، التي تربط أفراد المجتمع فيما بينهم، وتوجه ألوان نشاطم المختلفة في اتجاه وظيفة عامة، هي رسالة المجتمع الخاصة به.

فتكوُّن هذه الشبكة، ولو في مرحلة ابتدائية، هو الذي يعبر عن حدث (ميلاد مجتمع) في التاريخ.

***

ص: 12