الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع والمجتمع
حاولنا فيما سبق أن نحدد معنى المصطلح (مجتمع)، على الأقل من الوجهة التاريخية، التي تشمل أصول الكيان الاجتماعي ومن الوجهة التشكيلية التي تتصل ببنائه.
ونريد هنا أن نحدد الأمر من الوجهة الوظيفية، ولعل من نافلة القول أن نذكر أن مصطلح (مجتمع) في معناه البسيط- المعنى الأدبي الذي يعطيه القاموس- يعني: تجمع أفراد ذوي عادات متحدة، يعيشون في ظل قوانين واحدة، ولهم فيما بينهم مصالح مشتركة.
وهذا تحديد خارجي وصفي، لا يعطى أدنى تفسير (للوظيفة) التاريخية التي تناط بتجمع من هذا القبيل، كما أنه لا يفسر تنظيمه الداخلي، الذي قد يكون كفئاً لأداء مثل هذه الوظيفة.
فمن الضروري إذن أن نزيد في تحديد نطاق موضوعنا.
ولذا ينبغي أن نستبدل بالتحديد الوصفي المقدم في الفصل السابق تحديداً جدلياً، وبعبارة أخرى: ينبغي أن نحدد (المجتمع) في نطاق (الزمن).
فتجمعات الأفراد الذين لا يعدل الزمن من علاقاتهم الداخلية، ولا تتغير أشكال نشاطهم خلال المدة، لا تعد من التجمعات الخاصة التي نقصدها بمصطلح (مجتمع).
والجماعات الإنسانية المقصودة منذ (ليفي بريل)، بعبارة (المجتمعات
البدائية) التي لا تتغير صورة حياتها، كما لا تتغير مستعمرات النمل خلال آلاف السنين، هذه الجماعات خارجة عن نطاق التحديد.
فحياة هذه الجماعات الإنسانية تصور لنا حتى الآن مرحلة، مرت بها الإنسانية في عصور ما قبل التاريخ.
وفي هذه المرحلة تتحجر الصفات الاجتماعية، ويندر تنوعها من عصر لآخر: ولو أخذنا قطاعين من حياتها الاجتماعية يفصل بينهما آلاف السنين لوجدناهما متطابقين، على ما لاحظه المختصون في (علم الأجناس)، الذين يدرسون اليوم الحياة الإنسانية في بعض أقطار إفريقية الاستوائية.
وبما أن كل تغيير يطرؤ على الخصائص التشكيلية، أو يحدث في التوجيه الثقافي لجماعة إنسانية معينة، هو نتيجة مباشرة لوظيفتها التاريخية فإن كل جماعة لا تتطور، ولا يعتريها تغيير في حدود الزمن، تخرح بذلك من التحديد الجدلي لكلمة (مجتمع).
وفضلاً عن ذلك فإن الجماعات التي ما زالت في هذه المرحلة الأولى من التطور، تتجه بدورها إلى الاندماج في (المجتمع العالمي)، الذي يتكون في هذه الأيام بفعل العوامل الفنية، تلك التي تدخل في ثقافة القرن العشرين مفهوم (العالمية).
وأياً كان الأمر (فالمجتمع) هو الجماعة الإنسانية، التي تتطور ابتداء من نقطة يمكن أن نطلق عليها مصطلح (ميلاد).
ولكن حين نتحدث عن (ميلاد) معين، فإنا نعرفه ضمناً بوصفه (حدثاً) يسجل ظهور شكل من أشكال الحياة المشتركة، كما يسجل نقطة انطلاق لحركة التغيير التي تتعرض لها الحياة.
ويظهر هذا الشكل في صورة نظام جديد للعلامات بين أفراد جماعة معينة.
ومع ذلك فإن هذه الصورة الجديدة للحياة المشتركة قد تبدأ بفرد واحد، يمثل في هذه الحالة نواة المجتمع الوليد، وذلك بلا شك هو المعنى المقصود من كلمة (أمة)، عندما يطلقها القرآن الكريم على إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النمل: 16/ 120] ففي هذه الحالة نجد أن المجتمع (الأمة) يتلخص في (إنسان واحد)، أي أنه يتلخص في مجرد احتمال حدوث تغيير في المستقبل، ما زال في حيز القوة، تحمله فكرة يمثلها هذا (الإنسان).
فلكي نعطي لموضوعنا تعريفاً منطقياً، ينبغي ان نربطه بمعامل الزمن، ربطاً نحدد معه لهذا العامل دلالته النفسية والاجتماعية. ومن هذا الوجه يصبح المجتمع هو: الجماعة التي تغير دائماً خصائصها الاجتماعية بإنتاج وسائل التغيير، مع علمها بالهدق الذي تسعى إليه من وراء هذا التغيير.
ومن الحقائق المقررة في علم الكيمياء منذ درس العلماء المركبات المتشابهة الجوهر Isomères، أن الأجسام قد تتماثل في التركيب الكيميائي دون أن تتشابه خصائصها. واستنبط العلماء من هذا أن مجموعة الذرات ليست مجرد كلية من المادة، بل هي تنظيم هذه المادة طبقاً لنظام معين؛ فاختلاف الخصائص في الكيمياء إنما يرجع في الحقيقة إلى اختلاف التنظيم الداخلي، أو بتعبير أوضح اختلاف الهندسة الداخلية.
والأمر كذلك بالنسبة للمجتمع، فهو ليس مجرد مجموعة من الأفراد، بل هو تنظيم معين ذو طابع إنساني يتم طبقاً لنظام معين.
وهذا النظام في خطوطه العريضة يقوم بناء على ما تقدم على عناصر ثلاثة:
" 1 " حركة يتسم بها المجموع الإنساني.
" 2 " وإنتاح لأسباب هذه الحركة.
" 3 " وتحديد لاتجاهها.
فهذه هي العوامل الثلاثة التي يدين لها مجموع إنساني معين، بخصائصه الاجتماعية التي تحيله (مجمتعاً) بالمعنى المنطقي للكلمة.
والواقع أن فكرة الحركة، تلك التي تتطابق مع مفهوم التغير والتطور، تعد عنصراً جوهرياً في التعريف في علم الاجتماع.
وهذه الفكرة نفسها قد ساعدتنا في دراسة أخرى، على التفرقة بين فكرة (رأس المال) وفكرة (الثروة)، إذ كان المصطلح الأول يعني المال المتحرك، وكان الثاني يعني المال الساكن.
وفكرة الحركة ستساعدنا هنا على التفرقة بين (المجتمع)، وبين سائر أشكال الجماعات الإنسانية، التي لا تتصف بما سبق أن أشرنا إليه من خصائص اجتماعية.
ومع ذلك فإن الحركة في علم الاجتماع تستتبع فكرة ذات قيمتين: فإن تطور الجماعة يؤدي بها إما إلى شكل راق من أشكال الحياة الاجتماعية، وإما أن يسوقها عل عكس ذلك إلى وضع متخلف.
وعلى أية حال فإن أمام كل مجتمع غاية، فهو يندفع في تقدمه إما إلى الحضارة، وإما إلى الانهيار.
وفي مقابل ذلك نجد أنه حينما تنعدم الحركة، فإن الجماعة الإنسانية تفقد تاريخها: إذ تصبح .. ولا غاية لها.
فهذا هو في نهاية الأمر المقياس الأساسي الذي يساعدنا على أن نواجه مشكلة ميلاد مجتمع معين: تكسب الجماعة الإنسانية صفة (المجتمع) عندما تشرع في الحركة، أي عندما تبدأ في تغيير نفسها من أجل الوصول إلى غايتها. وهذا يتفق من الوجهة التاريخية مع لحظة انبثاق حضارة معينة.
أما الجماعات الساكنة فإن لها حياة اجتماعية دون غاية، فهي تعيش في مرحلة ما قبل الحضارة.
وخلاصة القول: إن الطبيعة توجد النوع، ولكن التاريخ يصنع المجتمع. وهدف الطبيعة هو مجرد المحافظة على البقاء، بينما غاية التاريخ أن يسير بركب التقدم نحو شكل من أشكال الحياة الراقية، هو ما نطلق عليه اسم الحضارة.
***