الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكرة التربية الاجتماعية
هل يمكن أن نستخرج مما سبق فكرة تربية اجتماعية، أعني: منهجاً يهدي سير مجتع ما؟
لقد رأينا أن عجلة المجتمع تدور بفضل شبكة علاقاته، وأن هذا النشاط هو الذي ينشأ عنه تغير صورته.
بيد أننا رأينا نوعاً من التعادل بين شبكة العلاقات في مجتع ما، ونظام الاستجابة أو رد الفعل لدى الفرد المكيف.
فالمشكلة على هذا واحدة، ولكنها متصورة بمستويين، أو في نطاقين مختلفين: نطاق النفس الإنسانية من ناحية، ونطاق الزمن الاجتماعي من ناحية أخرى.
هذا التعادل هو الذي ترجم عنه مؤرخ مثل جيزو بلغته حين قال- على ما ذكرنا سابقاً-: ((إن شبكة التاريخ يمكن أن تتصور بطريقتين، فإما أن نحلها في نفس الفرد ذاته، ناظرين إلى ما يغير ذاته الإنسانية، وإما أن نحلها في نطاق ما يحيط به، ناظرين إلى ما يغير إطاره الاجتماعي)).
فإذا قلنا إن هناك تربية اجتماعية فإن قواعدها العامة ينبغي أن تستقى من علم التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم النفس.
ومنهجنا الذي اتبعناه حتى الآن يرجع بالتحديد إلى التاريخ، وذلك لكي نستخرج هذه القواعد في صورتها النظرية والواقعية معاً.
هذه القواعد هي ثوابت التاريخ، تلك التي لا يغيرها الزمن على حين يغير المجتمعات. إن نهضة مجتمع ما تتم في الظروف العامة نفسها التي تم فيها ميلاده، كذلك يخضع بناؤه وإعادة هذا البناء للقانون نفسه.
هذا القانون هو الذي عبر عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بلغة أخرى حين قال:«لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها» .
وهو أيضاً القانون العام الذي حاولنا تصويره في الرسم البياني السابق، ولعلنا نستطيع الآن إدراكه على وجه التحديد.
وربما أدركنا خاصة معنى (القيم النفسية- الزمنية) التي أشرنا إليها ببعض أضلاع الرسم المذكور: فهي تمثل درجة النمو في شبكة العلاقات، والمستوى الاجتماعي في نظام الأفعال المنعكسة في مجتمع معين، في لحظة معينة من تاريخه.
وكل مرحلة من المراحل الثلاث في الرسم البياني المذكور يمكن الآن أن تستبين في علاقتها بهذين المصطلحين.
فمثلاً، المرحلة (الروحية)(وهي المرحلة الأولى في الرسم البياني) يمكن أن نفسر بطريقتين، تفسر أولاً بلغة علم الاجتماع حين نقول: إنها تتفق مع شبكة العلاقات الاجتماعية حين تكون في أكثف حالاتها، لا في أكثرها امتداداً، هذه الكثافة هي ما توحي به عبارة (البنيان المرصوص) في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 61/ 4].
ويمكننا أيضاً أن نفسر هذه المرحلة بلغة علم النفس حين نقول: إنها تتفق مع المرحلة التي يكون الفرد خلالها في أحسن ظروفه، أعني الظروف التي يكون فيها نظام أفعاله المنعكسة في أقصى فاعليته الاجتماعية، وتكون طاقته الحيوية أيضاً في أتم حالات تنظيمها.
هذا هو العصر الذهي بالنسبة لأي مجتمع، لا من أجل أنه يبلغ آنئذٍ أوج ازدهاره، وإنما لأنه يتمتع بميزتين: فقواه جميعاً في حركة، وهذه الحركة دائمة صاعدة.
وهذه هي المرحلة الديناميكية التي يدان فيها كل اتجاه نحو التقاعس أو السكون، وهو ما حدث في تاريخ المجتمع الإسلامي الناشئ في قصة (الثلاثة الذين خلفوا) المشهورة.
أما في المرحلة التالية (المرحلة الثانية في الرسم البياني) فإن المجتمع يتمتع بشبكة علاقاته الاجتماعية، حين تكون في أكثر حالاتها سعة وامتداداً، ولكن حين تكون أيضاً بعض الشوائب قد طفت على وجهه، وبعض النقائص قد برزت في صورته: وهذه- مثلاً- هي الحالة التي كان عليها المجتمع العباسي، عندما ظهرت مملكة الأغالبة في المغرب، في إفريقية الشمالية، وحين بدأت النزعة الشعوبية في الظهور في المشرق، في بلاد فارس.
ومعنى هذا بلغة علم النفس أن نظام الأفعال المنعكسة في المجتمع الإسلامي قد تعرض لصدمة (صدمة صفين)، تعرّضاً لم يعد معه الفرد المسلم يتصرف في كل طاقاته الحيوية، وهو يباشر وظيفته الاجتماعية، أعني إن جانباً من غرائزه لم يعد تحت رقابة نظام أفعاله المنعكسة.
وفي هذه المرحلة يواصل المجتمع نموه بفضل السرعة المكتسبة، ولكن قواه لا تكون جميعها في نطاق الحركة، وما كان منها في حركة قد لا يكون على الطريق الصاعدة: فهناك جانب من الطاقة مضى إلى السكون، وهو ما يمكن أن نمثل له في التخطيط الإسلامي بحركة المرجئة، ومضى جانب آخر إلى الهاوية، كحركة القرامطة: فمجموع من الطاقات لم يعد يعمل، ومجموع آخر يعمل في اتجاه مضاد، وبعبارة أصح: ضد المثل الأعلى للمجتمع.
وفي المرحلة الثالثة، تتفكك الغرائز، فلا تعود تعمل بشكل منسجم
متوافق، ولكن بصورة فردية، كل منها يعمل لحسابه الخاص، وهنا يختل نظام الطاقة الحيوية، ويفقد قيمته الاجتماعية حين يهرب من مراقبة نظام الأفعال المنعكسة الناشئ عن عملية التكييف.
في هذه المرحلة تسود الفردية تبعاً لتحرر الغرانز، وتتفسخ شبكة العلاقات الاجتماعية نهائياً: وهو ما يطلق عليه في التاريخ عصر الانحطاط، كذلك العصر الذي هيأ في المجتمع الإسلامي ظروف القابلية للاستعمار والاستعمار.
وبذلك نرى أن تاريخ مجتمع ما هو تاريخ شبكة علاقات ونظام الأفعال المنعكسة لدى نموذجه، وهو الفرد المكيف.
فكل فكرة عن التربية الاجتماعية يجب أن تصدر من هنا:
إنه لكي يمكن التأثير في أسلوب الحياة في مجتمع ما، وفي سلوك نموذجه الذي يتكون منه، وبعبارة أخرى: لم يمكن بناء نظام تربوي اجتماعي ينبغي أن تكون لدينا أفكار جد واضحة، عن العلاقات والانعكاسات التي تنطم استخدام الطاقة الحيوية، في مستوى الفرد، وفي مستوى المجتمع.
ولقد حاولنا حتى الآن أن نستنبط هذه الأفكار بطريق التحليل، أي بطريقة نظرية. ولكن يحسن في كل عمل من هذا القبيل تحقيق النتائج النظرية التي يسفر عنها التحليل بواسطة اختبار مضاد، أعني: بواسطة التركيب.
ومع ذلك، فقد لجأنا خلال بحثنا أحياناً إلى تأكيد الواقع النظري بواقع التاريخ، الذي سقناه شاهداً على ما نذهب إليه.
ولربما كان هذا التأكيد غير كاف، إذا ما علمنا أن الواقع التاريخي المقطوع عن سياقه لا يعطي فكرة دقيقة عن نشاط قوى التاريخ، الذي استخلصنا وصفه النظري.
إن من الواجب أن نرى هذا النشاط في حيويته، نراه وهو يمنح الفرد القدرة على التكيف حسبما يعرض له من المواقف، ثم وهو ينتقل تحت رقابة نظام انعكاساته إلى المجتمع الذي يحيله نشاطاً مشتركاً بفضل شبكة علاقاته.
وخير طريقة نرى بها دليل التاريخ على الاحتمالات النظرية المتعلقة بمجتمع ما، هي أن نرى التاريخ نفسه في تكونه، أي أن نتتبع العملية المتصلة بتكوين مجتمع ما إبان ولادته.
فبهذه الطريقة نستطيع أن نشهد دور الدين في حيويته، وهو يحقق عمله الاجتماعي، بطريقة غير مباشرة، أو غير أساسية، حين يهدف إلى غاياته الخاصة: فالدين حين يخلق الشبكة الروحية التي تربط نفس المجتمع بالإيمان بالله، وهو يخلق بعمله هذا أيضاً- كما بينا- شبكة العلاقات الاجتماعية التي تتيح لهذا المجتمع أن يضطلع بمهمته الأرضية، وأن يؤدي نشاطه المشترك: وهو بذلك يربط أهداف الماء بضرورات الأرض.
فإذا قال الدين قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات 51/ 57] فإن الله عز وجل لم يرد بهذا القانون أن يفصل الناس عن الأرض، ولكن أراد أن يفتح لهم طريقاً خيراً ليضطلعوا بعملم الأرضي.
والتاريخ يرينا مدى القدرة التي امتاز بها أصحاب الدين، وخاصة المسلمون، حين ساروا في هذه الطريق.
بيد أننا نعلم أن أول شيء في هذه الطريق هو تكوين نظام الانعكاسات الذي يغير سلوك الفرد، وهذا التغيير النفسي هو الذي يستهل حياة المجتمع، وهو أيضاً الشرط النفسي في كل تغيير اجتماعي.
أليس ذلك وارداً بوضوح في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد 13/ 11].
وهكذا نرى أن كل ما يغير النفس، يغير المجتمع، ومن المعلوم أن أعظم التغييرات وأعمقها في النفس قد وقعت في مراحل التاريخ مع ازدهار فكرة دينية.
ولو أننا استطعنا أن نتتبع في دقة عمل الفكرة الدينية إبان ولادتها فربما أصابتنا الدهشة لما نشهد في عملها من جوانب غير متوقعة.
بل ينبغي أيضاً أن يمارس المرء بعض التجارب التربوية كما يفهم التغيرات المثيرة التي يمكن أن تتم في كيان الفرد بهذه الطريقة.
وذلك هو ما يلاحظ عندما يدخل التعليم وسطاً بدائياً، فإن الأفكار التي يتولى نشرها لا تؤثر في عقلية التلاميذ فحسب، بل يبرز أثرها على ملامحهم أيضاً.
إن الفكرة الدينية تحدث تغييرها حتى في سمت الفرد ومظاهره، حين تغير في نفسه، وبذلك يكون لمنهج التربية الاجتماعية أثره في تجميل ملامح الفرد، أي إن مجموعة من الانعكاسات تؤدي إلى خلق صورة جديدة، كأنها تتمثل في وجه جديد.
أي إن الرأس لها شكل الأفكار التي تحملها.
وإذا أردنا الاختصار قلنا: إن المجتمع يصوغ نموذجه، لا من الناحية العقلية فحسب، بل من الناحية العضوية أيضاً.
ولو أن أحداً شهد ميلاد المجتمع الإسلامي فلعله- فيما أظن- كان يشهد موجة التغيير تغمر الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، لا في خصائصهم النفسية فحسب، بل في سماتهم العضوية أيضاً.
ولم يدع لنا التاريخ الإسلامي وثيقة عن التغيير ذي الطابع التجميلي الذي
ربما كان قد صحب ميلاد المجتمع الإسلامي، ولكنه أعطانا وثائق يمكن أن تكون تأكيداً لما سبق إيراده من اعتبارات نظرية، تخول لهذه الاعتبارات قيمة تربوية قابلة للتطبيق، لدى نهظة المجتمع الإسلامي وإعادة بنائه.
ومع ذلك فلقد عرفنا في ضوء ما سبق ما هي العناصر التي يمكن أن تكون موضوع تربية اجتماعية، إذ يجب أن نغير أساساً الصفات النوعية الخاصة بالفرد، إلى صفات اجتماعية تحدد معالم (الشخص)، أعني تغيير الطاقة الحيوية المنطلقة بواسطة الغرائز إلى طاقة اجتماعية خاضعة لمراقبة نظام الانعكاسات المتكونة لدى الفرد بفضل تكييفه.
ومعنى ذلك خلق شبكة العلاقات القادرة على توحيد هذه الطاقات المنطلقة بواسطة الغرائز، توحيدها في صورة نشاط مشترك، يقوم به مجتمع، وظيفته تجميع هذه الطاقات الفردية لمصلحته بفضل هذه الشبكة.
وهذا هو موضوع التربية الاجتماعية عامة.
ولقد بينا نصيب العنصر الديني في هذا الموضوع، وهو أنه يعمل على تكوين نظام الانعكاسات لدى الفرد المكيف المشروط، كما يعمل على تكوين شبكة العلاقات التي تتيح للمجتمع أن يؤدي نشاطه المشترك.
فبقدر ما تكون هنالك فكرة واضحة تمام الوضوح عن دور هذا العنصر في (ميلاد مجتمع) معين، يمكن أن تكون هنالك فكرة دقيقة تمام الدقة عن دورها الذي يمكن أن تؤديه في (نهضة) هذا المجتمع.
وبهذا ندرك معنى قوله صلى الله عليه وسلم:
((إنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها)) بمفهومه الاجتماعي الدقيق.