المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشروط الأولية للتربية الاجتماعية - ميلاد مجتمع

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌الشروط الأولية للتربية الاجتماعية

‌الشروط الأولية للتربية الاجتماعية

لمشكلات الإنسان طبيعتها الخاصة، فهي تختلف اختلافاً كلياً عن مشكلات المادة، لا يمكن معه أن تطبق عليها دائماً حلول تستقي براهينها من الخارج.

ولعلم الاجتماع مناهجه الخاصة، فإذا ما صرفنا النظر عن مناهجه وقعنا أحياناً في ذلك النقص، كمن يداوي بالكي رجلاً من خشب. كما يقول المثل الفرنسي.

ويحدث هذا غالباً في البلاد الإسلامية، فالحلول كلها مستعارة من بلاد متحضرة، لا تحدث عندنا التأثير نفسه الذي لها في أوطانها، حتى كأنها تفقد فاعليتها في الطريق، بمجرد انفصالها عن إطارها الاجتماعي.

ومجال المجتمع ليس كمجال الميكانيكا، وهو لا يرتضي كل الاستعارات، لأن أي حل ذي طابع اجتماعي يشتمل تقريباً ودائماً على عناصر لا توزن، ولا يمكن تعريفها، ولا يمكن أن تدخل في صيغة التعريف، على حين تعد ضمناً جزءاً منه لا يستغنى عنه، عندما تطبق في ظروف عادية، أي في ظروف البلاد التي نستوردها منها.

وبعبارة أدق، هذه العناصر جزء من المحيط الاجتماعي،- في الحالة التي يطبق التعريف خارج هذا المحيط- تطبق تلقائياً في صورة فكرة يفرضها الوسط على سلوكنا. فإن لم توجد يصبح التعريف زائفاً تقريباً، إذ تنقصه بعض الأشياء التي ضاعت حين انفصل عن ظروفه الأصلية.

ولقد سبق أن لفتنا اهتمام القارى إلى هذا الجانب في (مشكلة الثقافة)،

ص: 100

وبوسعنا أن نزيد من إيضاحه بالقياس على مناهج الكيمياء. ولنفترض أن بلداً أياً كان عرف للمرة الأولى الصيغة الكيميائية للماء، وهي التي نعرفها في دراستنا الابتدائية، حيث تعلمنا أن:

هيدروجين2 + أوكسجين1 = ماء

فهذه الصيغة صحيحة من حيث التحليل. ولكن لنفزض أن أحداً من الناس قبسها هكذا، ليطبقها في صناعة الماء، فإنه لن يصل إلى شيء، إذ ينقصه عند التطبيق عنصر جوهري هو: المركب الذي لم تعبر عنه الصيغة، ولا يمكن أن تعبر عنه، لأنها من حيث كانت تعبيراً عن علاقات كمية بين عنصري الايدروجين والأكسجين، اللذين يكونان الماء- تعد صحيحة على وجه الدقة.

فهي صحيحة، ولكنها غير قابلة للتطبيق في يد من لا يجد في ذهنه ما يكملها.

فجميع أنواع الحلول ذات الصيغة الاجتماعية التي نقبسها عن بلاد أخرى ثبتت لها فيها صلاحيتها، تشبه الصيغة الكيميائية المشار إليها، هي صحيحة في هذه البلاد على وجه التأكيد، ولكنها تقتضي عند التطبيق عناصر مكملة لا تأتي معها، ولا يمكن أن تأتي معها، لأنه لا يمكن حصرها. ولا يمكن فصلها عن المحيط الاجتماعي في بلادها، أي لا يمكن فصلها عن (روحها).

وإذن، فلكي نواجه بطريقة فنية أية مشكلة اجتماعية، ينبغي ألا يقتصر عملنا على اقتراض الحلول التي تأكدت صحتها خارج بلادنا، إذ أن الصيغة المقتبسة صحيحة بلا أدق شك، ولكن في إطارها الاجتماعي، في محيطها الذي تَخَلَّقَتْ فيه، في نفحة (الروح) التي تخيلتها.

هل معنى ذلك أن ندين كل اقتباس؟ ..

ليس أوهن ولا أضعف من أن نرفض الاستنارة بتجارب الآخرين،

ص: 101

والإفادة من جهودهم، ولكن بشرط أن نرد الحل المستعار إلى أصول البلد المستعيرة.

وبعبارة أخرى، ينبغي أن نهيئ بلادنا المحيط اللازم لتطبيق ما نتصور من حلول لمشكلاتنا الاجتماعية.

تلكم هي مشكلة الشروط الأولية، وهي مشكلة تثور أمامنا لا بالنسبة إلى الحلول الجاهزة التي نقبسها من الخارج، بل بالنسبة لجميع الحلول التي نتصورها لحل ما يواجه مجتمعنا من مشكلات، في مرحلته التاريخية الراهنة.

وقد يدهش بعض الناس أحياناً في أوساطنا المفكرة، حيث الفكرة الإصلاحية دائماً موضوع الاهتمام، يدهشون من أن الحلول التي أكدت صلاحيتها من قبل في المجتمع الإسلامي الأول لم تعد لها اليوم فاعليتها.

ولننظر مثلاً إلى (الزكاة)، وقد كانت الدعامة التي قام عليها بناء الإمبراطورية الإسلامية، بجميع مؤسساتها الدينية والحربية، وجميع إداراتها الثقافية، وأعمالها الاجتماعية.

أما الآن، فلقد فقد هذا النظام الإسلامي تقريباً كل فاعليته الاجتماعية.

بل لننظر أكثر من ذلك إلى فكرة (إسلام) ذاتها، وهي التي نعرف دويها العميق في ضمير المسلمين الأولين، هذه الفكرة لم يعد لها اليوم الدوي نفسه، وقوة التوجيه لسلوكنا الفردي، ولأعمالنا وأفكارنا ومشاعرنا؟!

وبعض المسلمين- الذين ما زالوا يحسون بقلوبهم بالمأساة، ولكن ليس لديهم ما يكفي من الصبر والأناة لدراستها- هؤلاء يترجمون دائماً عن المأساة قائلين:

((إننا لم نعد مسلمين إلا بشهادة الميلاد)). وإنهم ليقرون الحقيقة ولكنهم ربما فعلوا شيئاً أكثر فائدة لو أنهم لاحظوا ملاحظات أولية في وسطنا.

ص: 102

ومع ذلك فمن السهل أن نقوم ببعض الملاحظات لأشياء كثيرة الوقوع، لنوجه خطانا في الموضوع.

فيمكن أن نلاحظ مثلاً التأثير العظيم للحقيقة الإسلامية على الحضور الذين يشهدون صلاة الجمعة، وينصتون إلى خطبتها عند قدمي المنبر في المساجد.

إن كلمات الإمام التي تهبط من المنبر على هذا المستمع المنصت تزلزل كيانه.

وكثيراً ما رأينا في جوانب المسجد أحد المصلين ذائباً في دموعه، بل لقد نرى الإمام نفسه، وقد خنقته شهقاته وانفعالاته.

ومع ذلك فإذا ما قضى هذا المستمع صلاته، بقيت (الحقيقة) التي زلزلت كيانه في المسجد، ولم تتبعه إلى الشارع.

فالمسلم حين يتخطى عتبة المسجد ينتقل إذن من حال إلى حال أخرى. وهذا يضطرنا إلى أن نسجل ملاحظتنا: إن هناك انفصالاً بين العنصر الروحي والعنصر الاجتماعي، هناك افتراق بين المبدأ والحياة.

والمسلم يعيش اليوم هذا الانفصال الذي يمزق شخصه شطرين: شطر ينظم سلوكه في المسجد، وشطر ينظمه في الشارع.

إن المسلم يخضع لنظام يشبه إلى حد كبير (الدش الاسكتلندي)(1) فهو يتعرض لأشد التأثيرات النفسية تعارضاً، فإذا ما تخطى عتبة المسجد يوم الجمعة فإنه يشعر بدفء في قلبه، ودفء في نفسه. ولكنه بمجرد أن يضع قدمه في الشارع يعاوده البرد فيحتل قلبه ونفسه. إنه يسمع عند قدمي المنبر مثلاً موعظة في فضائل رمضان، ولكنه منذ يعود إلى بيته يستمع في الراديو إلى العرض الأسبوعي لرئيس إحدى الدول الإسلامية، يحرض خلاله المواطنين في بلاده أن

(1) هذا التعبير يطلق على تقاليد الاسكتلنديين في استخدام (الدش)، لأنهم يصبون منه ماء ساخناً، يتبعونه بماء بارد.

ص: 103

يفطروا رمضان لمواجهة ضرورات البناء الاجتماعي، كأن هذا البناء يمكن أن تقوم قائمته دون أسس أخلاقية، أو كأنما يمكن في أي بلد فصل الجهد الاجتماعي عن القوى الأخلاقية التي تسانده، دون هدم هذا الجهد ذاته، وطبيعي أن هذا مستحيل.

وإن التجربة الحالية في الاتحاد السوفييتي لترينا إلى أي حد يهتم هذا البلد في تخطيط بنائه الاشتراكي بجميع إمكانيات الإيمان الشيوعي، وبجميع القوى الأخلاقية التي يحركها؛ فلو فرض أن قال أحد القادة الشيوعيين أية قولة تضر بوحدة النشاط التي تضم جميع القوى الأخلاقية والمادية في البلد، في عمله المشترك، إذن لاتّهم بالجنون، وفصل فوراً من قيادة الحزب.

وهذا كله يبين لنا أن المسلم لا يستطيع أن يحقق وحدة شخصه في هذه الظروف.

وتاريخ هذا الانفصال يرجع بلا شك إلى عهد جد بعيد، فقد حدث أولاً بين العنصر الروحي والعنصر السياسي، بين الدولة والفكرة الدينية. ويمكن أن نؤرخ هذا الانفصال الأول بمعركة صفين، ولكن آثاره أخذت تتفشى في العالم الإسلامي كأنها مرض عضال لم يوجد له علاج.

واليوم غدا الانفصال بين الروحي والاجتماعي، وآثاره هي ما نلاحظ في سلوك المسلم الحديث في المسجد وفي الشارع.

وبعبارة أخرى: يجد المسلم (نفسه) في محيط المسجد، لأن المسجد هو الذي ينشئ بالنسبة لضميره الوسط الأولي الذي تكون فيه، فهو يجد (شخصه).

ولكنه على عتبة المسجد يفقد صلته بهذا الوسط الأولي، ويجد نفسه في نطاق الظروق الاجتماعية التي تمحو (شخصه) وتبعث فيه (الفرد) الخام.

ص: 104

ولكي نعطي لهذه المأساة تعبيرها الحديث الروماني نقول: إن المسلم يعيش اليوم تارة في حالة الدكتور جيكل، الذي يجسد تفوق الشخص على (الأنا)، وتارة في حالة مستر هايد الذي يجسد رذائل الفرد (1).

فالمجتمع مضطر أن يستعير من الطبيعة، أعني من غرائز الفرد طاقته الحيوية اللازمة لأداء نشاطه المشترك في التاريخ.

ولكن الطاقة الحيوية قد تهدم المجتمع ما لم يسبق تكييفها، أعني ما لم تكن خاضعة لنظام دقيق تمليه فكرة عليا، تعيد تنظيم هذه الطاقة، وتعيد توجيهها فتحولها من طاقة ذات وظائف بيولوجية خالصة في المقام الأول - حيث تشترك في حفظ النوع- إلى طاقة ذات وظائف اجتماعية يؤديها الإنسان، حين يسهم في النشاط المشترك لمجتمع ما.

فالمشكلة التي نواجهها هنا إذن ذات جانبين: جانب اجتماعي وجانب نفسي. وقد أرتنا أوجه التعارض السالفة أنه لكي نعالجها من كلا جانبيها يجب أن تكون لدينا (فكرة) عليا، تصل ما بين الروحي والاجتماعي، وتجري من جديد تركيب الشخص المسلم تركيباً يجعله يتماثل مع ذاته، في المسجد وفي الشارع.

ولقد أكدت الفكرة الإسلامية فيما مضى صلاحيتها في بناء مجتمع استطاع أن يؤدي نشاطه المشترك بطريقة بالغة التوفيق.

لقد أخضعت هذه الفكرة الطاقة الحيوية لدى البدوي العربي لنظامها الدقيق، فجعلت منه إنساناً متحضراً ومحضراً. والأمثلة كثيرة على أن هذه الفكرة

(1) هذه إشارة إلى قصة أوسكار وايلد المشهورة، وهي قصة عالم طبيب يطبق على نفسه طرقاً عملية تنتهي بتحليل ذاته إلى سخصيتين: شخصية الوحش المجرم في شخص مستر هايد، وشخصية العالم الفاضل في الدكتور جيكل.

ص: 105

أظهرت فاعليتها الكاملة في إعادة تتظيم وتوجيه الطاقة الحيوية التي أسلمتها شبه الجزيرة العربية إلى عصر النبي عليه الصلاة والسلام.

فعندما كان النبي مشغولاً في المدينة بالمطالب المادية للدولة الإسلامية الفتية، من أجل مواجهة ضرورات الحرب، التي ستبدأ بمعركة بدر، كان صحابته يقدمون له عن طيب خاطر جزءاً من أموالهم، ويعقب سعد بن عبادة على عمله بتلك الكلمة المعبرة:((يا رسول الله: خذ من أموالنا ما شئت، وما أخذته منها أحب إلينا مما تركت)).

هذا مثال يرينا كيف أن الطاقة الحيوية في صورة غريزة التملك المطبوعة في الإنسان، تتحول إلى طاقة محكومة منظمة موجهة نحو المهام الاجتماعية.

وأياً ما كان الأمر فإن عملية إعادة التنظيم والتوجيه ينبغي أن تكون المهمة الأولى في خطة النهضة الإسلامية، لأن تحقيقها هو الذي يوجد الشرط الأول لتحويل الجهود في نطاق هذه النهضة إلى جهود فعالة.

وقد تم هذا العمل في المجتمع الإسلامي الأول بفضل رعاية الفكرة القرآنية، لا على أنها مفاهيم تدرس وتعلم على يد فقهاء الشريعة، ولكن على أنها (حقيقة) عاملة مؤثرة، تجمع في نظامها مباشرة كل ما يقوم به الفرد من أعمال وإشارات، على ما جاء في حديث ابن عمر وحديث جندب رضي الله عنهما:((لقد عشنا دهراً طويلاً وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتلعم حلالها وحرامها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها)).

وقد خططنا في فصل سابق عملية إعادة تنظيم الطاقة الحيوية من الناحية النظرية.

ص: 106

ويمكن أن نزيد في إيضاحها هنا من حيث هي عمل فكرة (الإسلام) ذاتها في الوسط المسلم، ونريد أن نبين كيف يتم تكييف الفكرة الدينية للطاقة الحيوية، وإخضاعها لنظامها. ولذا يتعين علينا اللجوء إلى لغة التحليل النفسي بغية تتبع اطراد الحضارة، باعتباره صورة زمنية للأفعال وردود الأفعال المتبادلة، والتي تتولد منذ بداية هذا الاطراد بين الفرد والفكرة الدينية التي تثير فيه الحركة والنشاط.

فعندما نعد الفرد عند نقطة الصفر في الصورة التخطيطية التي قدمناها، نجده في الحالة التي يطلق عليها بعض المؤرخين المسلمين كلمة:(الفطرة) أي مع جميع غرائزه كما وهبته إياها الطبيعة، فالفرد في هذه الحالة ليس في أساسه إلا (الإنسان الطبيعي).

غير أن الفكرة الدينية سوف تتولى إخضاع غرائزه لعملية تكييف تمثل ما يعرف في علم النفس (الفرويدي) بـ (الكبت). وليس من شأن هذه العملية القضاء على الغرائز، ولكنها تتولى تنظيمها في علاقة وظيفية مع مقتضيات الفكرة الدينية، فالحيوية الحيوانية الممثلة في الغرائز بصورة محسة لم تلغ، ولكنها خضعت لقواعد نظام معين.

في هذه الحالة يتحرر الفرد جزئياً من قانون الطبيعة المفطور في ذاته، ويخضع وجوده كله للمقتضيات الروحية التي أوجدتها الفكرة الدينية في نفسه، إيجاداً يمارس معه حياته في هذه الحالة الجديدة طبقاً لقانون الروح.

وهذا القانون عينه هو الذي كان يحكم بلالاً تحت سياط العذاب، فيرفع سبابته وهو يقول:((أحد! أحد!)). ومن الواضح أن هذه القولة لا تمثل صيحة الغريزة، فموت الغريزة قد صمت، ولكنه لا يمكن أن يكون قد ألغي بوساطة التعذيب، كما أنها لا تمثل نداء العقل فالألم لا يتعقل الأمور.

ص: 107

إنها صيحة الروح تحررت من إسار الغرائز بعد ما تمت سيطرة العقيدة عليها نهائياً في ذات (بلال بن رباح).

كذلك كان المجتمع الإسلامي يحكمه هذا التغيير ذاته، إذ كان شأنه شأن (بلال)، لا يتحدث بلغة اللحم والدم، كما أن صوت العقل كان لا يزال صامتاً في المجتمع الوليد. فكل لغة هذا العصر كانت روحية المنطق، إذ هي بنت الروح أولاً وقبل كل شيء.

ذلكم هو الطور الأول من أطوار حضارة معينة، الطور الذي تروض فيه الغرائز وتلك في نظام خاص يكبح جماحها، ويقيد انطلاقها.

الروح في صوت بلال هي التي تتكلم، وتتحدى بلغتها اللحم والدم، وكأنما كان يتحدى هو أيضاً بسبابته المرفوعة طبيعة البشر، ويرفع بها في لحظة معينة مصير الدين الجديد.

والروح أيضاً هي التي كانت تتحدث بصوت (الزانية) حين أقبلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعلن عن خطيئتها، وتطلب إقامة حد الزنا عليها. فهذه الوقائع جميعها تخرج عن معايير الطبيعة، وتدل على أن الغريزة قد كبتت، غير أنها ظلت محتفظة بنزوعها إلى التحرير. وهنا ينشب الصراع المحتدم بين هذا النزوع وسيطرة الروح.

وفي الوقت نفسه يواصل المجتمع، ربيب الفكرة الدينية، طريق تطوره، وتكتمل شبكة علاقاته الداخلية، بقدر امتداد إشعاع هذه الفكرة في العالم، فتنشأ المشكلات المادية لهذا المجتمع الوليد، نتيجة توسعه، كما تتولد ضرورات جديدة نتيجة اكتماله.

وحتى تتفق تلك الحضارة مع المقاييس المستجدة تسلك منعطفاً جديداً، يتطابق مع (النهضة)، كما نراها بالنسبة إلى الدورة الأوربية، ومع استيلاء الأمويين على الخلافة بالنسبة للدورة الإسلامية.

ص: 108

وفي الحالتين كلتيهما فإن المنعطف هو منعطف العقل. غير أن هذا العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، وحينئذ تشرع الغرائز في التحرر من قيودها بالتدريج على الصورة التي عرفناها عن عهد بني أمية، إذ أخذت الروح تفقد نفوذها، كما كف المجتمع عن ممارسة ضغطه على الفرد.

وطبيعي ألا تنطلق الغرائز دفعة واحدة، وإنما تتحرر بقدر ما يضعف سلطان الروح.

وكلما واصل التاريخ سيره، واصل التطور عمله في نفسية الفرد، وفي البناء الأخلاقي للمجتمع، الذي يكف عن تعديل سلوك الأفراد. وبقدر ما تتحرر هذه النزعة من قيودها في المجتمع، ينكمش التحرز الأخلاقي في أفعال الفرد الخاصة شيئاً فشيئاً.

ولو استطعنا مراقبة هذه الظروف النفسية بوسيلة دقيقة، بغية تتبع نتائجها- كما هو الشأن في معامل الطبيعة- لأمكننا أن نلاحظ انخفاضاً في مستوى أخلاق المجتمع.

وبعبارة أخرى: نلاحظ نقصاً في الفاعلية الاجتماعية للفكرة الدينية، وإن هذه الفكرة تتناقص دائماً، منذ أن دخلت الحضارة منعطف العقل.

فأوج الحضارة، وأعني به ازدهار العلوم والفنون فيها، يلتقي من وجهة نظر (علم العلل Ethiologie) مع بدء مرض اجتماعي معين لا يلفت انتباه المؤرخين وعلماء الاجتماع، لأن آثارها المحسة لا تزال بعيدة، وبهذا تواصل الغريزة- المكبوحة الجماح بيد الفكرة الدينية- سعيها إلى الانطلاق والتحرر، وتستعيد الطبيعة سيطرتها على الفرد، وعلى المجتمع، شيئاً فشيئاً.

فإذا ما بلغ هذا التحرر تمامه، عادت الغرائز إلى سيطرتها على مصير الإنسان، وبدأ التطور الثالث من أطوار الحضارة، بظهور الغريزة التي تسفر

ص: 109

عن وجهها تماماً. وهنا تنتهي الوظيفة الاجتماعية للفكرة الدينية، وتعود الأشياء كما كانت في مجتمع منحل، ضرب نهائياً في ليل التاريخ، وبذلك تتم دورة في الحضارة.

هذه الدورة الكاملة تضيء لنا جميع المراحل التي تمر بها الطاقة الحيوية خلال حضارة، ولكنها تضيء خاصة المرحلة الأولى، عندما تخضع خضوعاً تاماً لنظام فكرة دينية.

وهي ترينا في أي الظروف تتم عملية التنظيم لتلك الطاقة الحيوية، في ظل سيطرة الفكرة الدينية. وهذه النظرة أساسية في أي مشروع يستهدف إعادة تنظيم الطاقة، بغية إعادة بناء شبكة علاقات معينة.

فإعادة التنظيم تستلزم الظروف نفسها، أعني فكرة دينية جديدة. ولقد برهنت تجربتنا اليومية على أمرين:

1 -

إن الفكرة الاسلامية لم يعد لها في سلوك الفرد ما كان لها من فاعلية على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

2 -

وأنها تستعيد خلقها بصورة تلقائية عند قدمي المنبر، في محيط المسجد.

ونستخلص من الملاحظة الأولى أن المسلم لا يحتفظ باستقلاله الأخلاقي، ابتداء من اللحظة التي يغادر فيها المسجد، فهو يسقط تحت سطوة قانون العدد. وبدلاً من أن يؤثر على الوسط طبقاً لمثله الأعلى ومبادئه، نجد أن الوسط هو الذي يؤثر عليه، فيجرده من مثله الأعلى، ويهدم مبادئه.

وقد تبرز هذه الملاحظة أحياناً بصورة روائية مؤسية، عندما نجد أحد قادة الحركة الإصلاحية في بلد إسلامي، كالشيخ العقبي بالجزائر، يبذل جهده في دفع حركة كهذه خلال أعوام طويلة، ثم إنه يفقد استقلاله الأخلاقي ليصبح نهائياً

ص: 110

حليفاً للاستعمار. ويجب أن نضيف أن الفرق ليس كبيراً عندما يصبح الفرد حليفاً للقابلية للاستعمار.

والملاحظة الثانية ترينا أن المسلم يعثر على استقلاله الأخلاقي في جو المسجد، إذ يكون اجتماع أشخاص، يخلق تأثير الوعظ لديهم الظروف الأولية التي ظهرت فيها الفكرة الإسلامية على عهد المسلمين الأولين. وقد كانت الطاقة الحيوية لدى صحابة النبي عليه الصلاة والسلام في تلك الظروف لا منظمة فحسب، وإنما موجهة لأداء نشاط مشترك، نعرف تاريخه.

فإذا ما شعر المسلم في عصرنا هذا، في جو المسجد، بسيطرة الفكرة الإسلامية على غرائزه، وإذا ما وجد نفسه يضل عن هذا الشعور بمجرد خروجه إلى الشارع، فمعنى ذلك أنه لا يجد في الحياة الإطار الضروري الذي ينقذ استقلاله الأخلاقي، حين يوجه طاقته وجهة أغراض حسية ليست مناقضة لمثله الأعلى فحسب، من الناحية النظرية، ولكنها تذكره دائماً بأنه مدفوع مع غيره من المسلمين في نشاط مشترك يجب أن يحقق عملياً هذا المثل الأعلى المشترك.

ومن الممكن أن نقيس، بالنظر إلى الماضي، أهمية هذه الملاحظة حين نسأل أنفسنا عما كان يمكن أن يحدث من المسلمين الأولين لو أنهم بدلاً من أن يدعوا إلى تحقيق مثلهم الأعلى بالطرق العملية، اكتفوا بصلاة داخل مسجد من أجل تحقيقه؟ .. من المؤكد في هذه الحالة أنهم ما كانوا ليغيروا من الوسط الجاهلي باحتفاظهم باستقلالهم الأخلاقي في جميع الظروف، وإنما هو الوسط الجاهلي الذي ربما كان قد حولهم إلى مشركين.

فالنشاط المشترك هو الذي أنقذهم، وهو الذي أنقذ الوسط الجاهلي في الوقت ذاته.

إن المشكلة التي تواجه المسلم اليوم هي تقريباً المشكلة نفسها التي عبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:

ص: 111

((لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها)).

فنحن بحاجة إلى إعادة تنظيم طاقة المسلم الحيوية وتوجيهها، وأول ما يصادفنا في هذا السبيل هو أنه يجب تنظيم تعليم (القرآن) تنظيماً (يوحي) معه من جديد إلى الضمير المسلم (الحقيقة) القرآنية، كما لو كانت جديدة، نازلة من فورها من السماء على هذا الضمير.

وثاني ما يصادفنا هو أنه يجب تحديد رسالة المسلم الجديدة في العالم. فبهذا يستطيع المسلم منذ البداية أن يحتفظ باستقلاله الأخلاقي، حتى ولو عاش في مجتمع لا يتفق مع مثله الأعلى ومبادئه، كما أنه يستطيع أن يواجه- على الرغم من فقره أو ثرائه- مسؤولياته مهما يكن قدر الظروف الخارجية الأخلاقية أو المادية.

وهو بهذه الطريقة يستطيع أيضاً أن ينشئ وسطه الخاص شيئاً فشيئاً، حين يؤثر على الظروف الخارجية بحياة نموذجية ينتقل أثرها إلى ما عداها، كما كانت حياة حفنة الرجال الذين عاشوا حول النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، أيام الإسلام الأولى.

ومع ذلك فإن هذه التأملات لا تنشئ حلاً، ولكنها مجرد خطوة على طريق المشكلة ذات الأهمية الخطيرة بالنسبة لمستقبل العالم الإسلامي.

ولكي نعطي هذه التأملات قيمة عملية يجب أن نعرضها لاختبار الحياة، في صورة إجراءات تربوية فعلية، في المستوى الإسلامي، ومن أجل هذا لابد من الممارسة العملية. ولكي تكون مثمرة يجب أن يتولاها مجمع من المتخصصين، الخالين من العقد البيروقراطية التي تنتاب الموظف، ومن (نظارة) رجل السياسة، المحدودة حريته الأخلاقية بأوامر حزبه أو جماعته، ومن أخلاق الفوضويين المغرمين بتملق الرأي العام.

يجب أن نحفظ لكل مشكلة استقلالها بالنسبة إلى غيرها، وإلا أغرقنا مشكلة

ص: 112

العلاقات بين المسلين في ألف مشكلة أخرى، كمشكلة فلسطين أو كشمير أو الجزائر.

وعلى أية حال، ينبغي على الحكومات الإسلامية أن تعقد هذا المشروع لبعث المسلمين، إذ أن كل ما يقوي ثبكة العلاقات الاجتماعية في المستوى الإسلامي، يقويها من باب أولى في المستوى القومي.

هذا دون أن ننسى أنه باسم الفكرة السامية يرتضي المواطنون في أي بلد قساوة نظام التقشف الذي يسوي بين الأغنياء والفقراء، ويعطي لكل إنسان حظه، مع أكبر قدر من الفاعلية، في ظل الحكمة القائلة:

((الفرد للمجموع - والمجموع للفرد)).

وهذا ما يعبر عن شبكة العلاقات الاجتماعية في أرقى معانيها، وفي أقصى فاعليتها.

القاهرة في

10 من المحرم 1382 هـ

13 من حزيران (يونيو) 1963 م

ص: 113