المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العلاقات الاجتماعية وعلم النفس - ميلاد مجتمع

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌العلاقات الاجتماعية وعلم النفس

‌العلاقات الاجتماعية وعلم النفس

بينا فيما سبق أن الوجود الحقيقي لمجتمع ما يبدأ بتكوين شبكة علاقاته، وحاولنا أن نشرح في أي الظروف والشروط التاريخية تتكون هذه الشبكة، تبعاً لوجهات النظر المختلفة باختلاف المدارس الفكرية.

ولقد تناولت هذه المحاولة في التفسير الأشياء في المستوى الاجتماعي، مستوى العدد، ورأينا الدور الذي يؤديه الدين في هذا المستوى حين يتدخل في التركيب الاجتماعي في شكل قيم أخلاقية، متجسدة في العرف والعادات، والتقاليد والقواعد الإدارية والمبادئ التشريعية، وأحياناً تتجسد في أكثر تشكيلات المجتمع ظهوراً، كما في طوائف المجتمع الهندي.

ونحاول الآن أن نرى في أي الظروف يندمج الفرد في الحياة الاجتاعية. ولئن كانت المشكلة قد صيغت من قبل بلغة الاجتماع، فمن الواجب الآن أن نصوغها قصداً بلغة علم النفس والاجتماع، أي إننا ينبغي أن نلجأ خاصة إلى نظرية الفعل (المنعكس الشرطي) لجوءاً نخلع معه على مصطلح بافلوف تفسيراً اجتماعياً.

ولقد سبق أن قلنا: إن المجتمع ليس مجرد عدد من الأفراد، وينبغي أن نحدد هنا أن وحدة هذا المجتمع ليست الفرد، ولكنها الفرد المشروط (المكيف). فإن الطبيعة تأتي بالفرد في حالة بدائية، ثم يتولى المجتمع تشكيله، ليكيفه طبقاً لأهدافه الخاصة، وهو المعنى الذي يقصد إليه رسول الله! في قوله:

«كل مولود يولد على الفطرة ة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه» .

ص: 63

فذلك هو التكييف الذي يجعل الفرد أهلاً لأن يتخذ مكانه، ولأن يقوم بدوره في المجتمع. أي إننا ينبغي إجمالاً أن نحدد العلاقة التي يحتمل أن تكون بين مجموعة من الأفعال المنعكسة المنظمة لسلوك الفرد، وبين شبكة العلاقات التي تتيح لمجتمع ما أن يؤدي نشاطه المشترك.

فكما أن الفرد والمجتمع- في الظروف العادية- يعملان في الاتجاه نفسه، فإن هناك تبادلاً بين الانعكاس الفردي والعلاقة الاجتماعية. وبفضل هذا التبادل ينبغي أن نتوقع تدخل الواقع الديني في هذا الجانب الجديد من المسألة.

ويجب أن نلاحظ مباشرة تأثير الانعكاس في الحياة الاجتماعية، إذ نجد أن هذا التأثير يتطور مع عمر المجتمع.

فإذا وجدنا أن أبا ذر الغفاري يسيء إلى بلال في لحظة من لحظات السأم، كان ذلك أمارة على أن المجتمع الإسلامي لما يزل جنيناً في نفسية المسلم.

ومع ذلك فإن أبا ذر الغفاري تعاوده صحوة ضميره، فينقلب من فوره مرتمياً على قدمي بلال يسترضيه ويعتذر إليه.

وعليه، فالفرد يكتسب مجموعة انعكاساته، كما يكتسب المجتمع شبكة علاقاته، والعلاقة وثيقة بين جانبي المسألة: فهي علاقة كونية تاريخية. إذ أن المجتمع يخلق الانعكاس الفردي، والانعكاس الفردي يقود تطوره.

ويمكننا بفضل هذا التبادل أن نتخذ من المرض الاجتماعي دليلاً على الفساد في شبكة العلاقات، أو أمارة على التحلل في نظام الأفعال المنعكسة.

ولقد بينا فيما سبق، فيما يتصل بالمجتمعات التاريخية المعاصرة- بصرف النظر عن المجتمعات التي خرجت من التاريخ، أو التي تحجرت فأصبحنا نطلق عليها (المجتمعات البدائية)، ولا نستطيع أن نصدر عليها حكماً ما- أن أصول هذه المجتمعات تمتد إلى أعماق غيب ميتافيزيقي.

ص: 64

فإذا ما صغنا الآن المشكلة بلغة علم النفس ننتهي إلى الملاحظة نفسها من طريق أخرى. فالفرد لكي يدخل في شبكة علاقات اجتماعية معينة ينبغي أن يجسد في ذاته واقعاً نفسياً معيناً، وهذا الواقع الذي يعد شرطاً لإقرار الفرد وقبوله داخل الحياة الاجتماعية يمد هو أيضاً جذوره في أعماق غيب ميتافيزيقي.

لقد قررنا من قبل أن وحدة المجتمع لا تتمثل في الفرد، ولكن في الفرد المشروط. ولقد عرف علم النفس التجريي- منذ التجارب التي أجراها بافلوف- الفعل المنعكس الشرطي، حين تناول الأشياء من الناحية الوظيفية لا من ناحية التحليل. ونحن نتناولها هنا من الناحية الاجتماعية. إن إدماج الفرد في شبكة اجتماعية عملية تنحية، وهو في الوقت ذاته عملية انتقاء. وتتم هذه العملية المزدوجة في الظروف المادية، أي في حالة المجتمع المنظم- بوساطة المدرسة- وذلك ما يسمى التربية.

أما إذا كان المجتمع في طريق التكوين فإن العملية تبدأ تلقائياً في الظروف النفسية الزمنية التي تتفق مع ما أطلقنا عليه من قبل: (الظرف الاستثنائي)، الذي يتوافق مع ظهور المجتمع والحضارة.

فجهاز الأفعال المنعكسة لدى رجل كالغزالي قد تكون في المدرسة، ولكنه لدى صحابي كأبي ذر الغفاري تكون تلقائياً.

فالاطراد النفسي في كلتا الحالتين واحد: إذ يجد الفرد نفسه متخلياً عن عدد من الانعكاسات المنافية للنزعة الاجتماعية، ليكسب مكانها أخرى أكثر توافقاً مع الحياة الاجتماعية.

وذلك هو تكييف الفرد: فهو عملية تنحية تجعل الفرد لا يعبأ ببعض المثيرات ذات الطابع البدائي (كتلك الحمية التي كانت تعتري عرب الجاهلية وتدفعهم إلى الأخذ بالثأر)، وهو عملية انتقاء أو إحساس، تجعل الفرد قابلاً لمثيرات ذات طابع أكثر سمواً، طابع أخلاقي أو جمالي مثلاً.

ص: 65

وتعد هذه العملية من الوجهة النفسية المحضة عملية بناء للذات أو (الأنا) أو بعبارة أخرى: عملية تحديد لعناصر الشخصية.

ولقد أوضح (يونج) أن كل بناء شخصي يقوم دائماً على أساس نفسي عام في مجموع النوع، ويتمثل في التجارب المتلاحقة التي خاضتها الإنسانية منذ عهودها الأولى.

فالفرد على هذا يحمل في نفسه لدى مجيئه إلى الدنيا ملخصاً لهذه التجارب: فهو يستقبل عند ولادته ميراثاً نفسياً معيناً، كما يستقبل تراثاً حيوياً. هذا الميراث هو الذي يكون مجال اللاشعور ويمثل رصيد العقائد والخرافات التي كدستها الإنسانية في نفسيتها منذ بدء التاريخ.

والماضي الديني للإنسانية في نظر يونج حاضر في نفسية الفرد، وهو يظهر هنا وهناك في ألوان نشاطه النفسي، ويتجلى في أحلامه في هيئة رموز، أو في أفكاره في صورة مجازات لا شعورية.

بل إن رجعة التاريخ الديني على هذه الصورة تتجلى أيضاً لدى الملحد في صورة مجازات.

وهذه عبارة على سبيل المثال: ((منذ أكثر من ثلاثين عاماً طبقت فلسفة تقوم على أساس فكرة أن الحياة الإنسانية لا معنى لها- على طول الزمن- إلا أن تكون في خدمة الخلود)) (1).

ولقد يتساءل القارئ عن الصوفي أو القديس الذي كتب هذا النص، ومع ذلك فهي فكرة ملحد أرسلها إلى صديقه تروتسكي- ملحد آخر- قبيل إقدامه على الانتحار.

(1) هذا النص مقتبس من كتاب (أوربا وروح الشرق)[ص:191]، لوالتر شوبارت الذي قبسه بدوره عن كتاب تروتسكي (حقيقة الحال في روسيا).

ص: 66

لقد انطلقت العبارة على هذه الصورة من لا شعور الرجل، كأنه يجدها في رصيد حركاته الفطرية، ولكن سرعان ما تتدخل جدليته المادية كأنما لتطمس الانعكاس الذي خطه قلمه على الورق، فإذا به يختم حديثه قائلاً:((وبالنسبة لنا .. الوحدة هي الخلود)).

فالرجل قد عاش لحظة حماسة، لم يستطع فيها أن يلتزم فكره المشروط، ولكنه بعد هذه اللحظة لم يرد أن يترك لدى محدثه- تروتسكي- شكاً في تعصبه الماركسي.

ومع ذلك فهذا المثال لا يعطينا صورة كاملة للظاهرة التي نشير إليها، ولكن يرينا كيف أن الماضي الديني- وهو هنا ماض جد قريب- يتجلى في صورة انعكاس، صادر عن فكر ملحد.

فنفسية الفرد في المجتمعات التاريخية على الأقل مفعمة بالنزعة الدينية، تلك التي تعد جزءاً من طبيعته، وهو ما جعل علم الاجتماع يقول في تعريف الإنسان بأنه (حيوان ديني)، وهو بذلك يحدد جانباً من الأساس النفسي العام في أفراد النوع، وكل فرد يبني شخصيته الخاصة على هذا الأساس.

ومعنى ذلك أن الدين يتدخل أيضاً في هذا البناء؛ أعني في تحديد العناصر الشخصية للفرد، أو (الأنا).

وهو هنا يتدخل مباشرة في عملية التكييف، التي عرفناها على أنها عملية ترشيح أو تنحية من جانب، وعملية انتقاء أو بعث للإحساس من جانب آخر.

ولكي نحدد أهميته الاجتماعية تحديداً دقيقاً ينبغي أن نقول إن العملية هنا عملية تخالُفٍ من ناحية، وتَوافُقٍ من ناحية أخرى. فالفرد المشروط أو المكيف يختلف عمن ليس كذلك، وهو من جانب آخر لا بد أن يتفق مع نموذج يحتويه المجتمع الذي يكيفه ليدخل في شبكة علاقاته.

ص: 67

فالاطراد النفسي يفسر بطرق مختلفة. ويذهب يونج الى التمييز بين جانبين في الفرد القناع la Persona (1) وما وراء القناع، وأطلق عليه كلمة الظل ( l'ombre) ، ويقصد بالقناع الجانب المتجه ناحية المجتمع. ويقصد بالظل الجانب المتجه نحو الطبيعة والغريزة، أي نحو ما هو حيوي.

والظل هو مجال الطاقة الحيوية في حالة البدائية غير المكيفة، بالنسبة للحالة الاجتماعية، هو مجال الغرائز الناشطة فردياً، كل غريزة من أجل إشباع ذاتها، دون أي قانون آخر سوى هذا الإشباع.

والقناع هو المجال الذي تتم فيه عملية تكييف هذه الطاقة الحيوية الخام، من أجل تحويلها إلى طاقة قابلة للاستخدام اجتماعياً.

وهو المجال الذي يصبح فيه الأفراد المهذبون المثقفون وسائل في خدمة ضمير، كما يتم اتصالهم بالحياة عن طريق الضمير، لا عن طريق الغريزة مباشرة.

إنها عملية إدماج رئيسية تمنح نشاط الغرائز كل فاعليته الاجتماعية، حين تضع طاقاتها في خدمة الأفكار والمبادئ.

فالإنسان يجب أن يشرب ويأكل وينسل ويملك، ويكافح من أجل استمرار النوع. ولكنه يجب أن يراقب هذه الأعمال الأولية جميعها، وأن يوجهها لغايات تتفق وتقدم النوع.

وهو بهذه الطريقة يشترك واقعياً في عمل الله عز وجل، ومع ذلك فهو محكوم- إذا ما نظرنا إلى الأمر من الوجهة الدينية- تبعاً لهذا الاشتراك المنوط بتكليفه الديني، أعني تبعاً لخضوعه لقانون التقدم الأخلاقي، فإذا ما حملته طبيعته على العمل فإن ضميره هو الذي يعطي لعمله معنى تاريخياً وأخلاقياً.

(1) Persona تعني القناع الذي كان يضعه الممثل اللاتيني في المسرح الروماني ليحاكي الشخصية التي يريد تمثيل دورها.

ص: 68

وهكذا يعمل الإنسان بداعٍ من طبيعته من أجل الحفاظ على النوع، وبوحي من ضميره من أجل تقدمه، فهو إذن مزود بسلطة مزدوجة، لكن التكليف هو الذي ينظم العلاقة الداخلية لهذه السلطة المزدوجة، تنظيماً يكون معه عمل الغرائز واندماجها مطابقاً لرسالته الاجتماعية.

ومن هذا التركيب ينتج نظام الأفعال الاجتماعية المنعكسة، تلك التي تتفق مراحلها مع عمليات البناء الأولية، والتي قد تكون أحياناً ذات طابع مرضي كما في حالة الكبت.

لقد تحدث علماء النفس بإفاضة عن هذه العمليات التي تماثل ما أطلقنا عليه من قبل: التنحية والانتقاء، والتي تحدد في نهاية المطاف السلوك الاجتماعي للفرد.

ولو أننا تتبعنا مثلاً تفسير (هدفيلد Z.A. Hodfield)، فسوف ندرك دور الأفكار والمبادئ في هذه العمليات وهو في الواقع دور العنصر الديني في بناء الأنا. وبعض هذه العمليات بنائي، بمعنى أنها تنظيم للغرائز في علاقتها بالتوازن الأساسي داخل الفرد، وبعضها- على العكس - مرضي، لأنه يعارض جانباً من الطاقة الحيوية، أعني حين يكبت جانباً من الغرائز.

فدور العنصر الديني بوصفه عامل تنظيم نفسي دور رئيسي، لا من حيث إنه يعمل في صورة مبادئ موجهة تنطبع في ذاتية (الأنا) لتصبح دوافع وقواعد للسلوك فحسب، ولكن لأنها تستطيع أن تتجلى في صورة تحريم مانع في بعض الظروف المرضية، كما في حالة الكبت.

فتأثير الدين على (الأنا) هو إذن تأثير عام سواء كان ذلك لتحديد عناصر الشخصية الأساسية، أم كان لأنه في بعض الحالات الشاذة يؤدي إلى نشأة جوانب

ص: 69

مرضية، إذا بدا هذا التأثير في صورة يتحلل فيها العنصر الديني أو يفسد وفق ما ستشير إليه الفقرة التالية.

فالعنصر الديني عامة- فضلاً عن أنه يغذي الجذور النفسية العامة على ما بينا- يتدخل مباشرة في الشخصية التي تكون (الأنا) الواعية في الفرد، وفي تنظيم الطاقة الحيوية التي تضعها الغرائز في خدمة هذه (الأنا).

ولما كانت هذه الطاقة الحيوية المنظمة تتحول إلى نشاط اجتماعي لدى الفرد، وكان هذا النشاط لدى الفرد سبباً في وجود النشاط المشترك للمجتمع خلال التاريخ، فإن ذلك يرينا بصورة واضحة أهمية دور العنصر الديني، بطريقتين مختلفتين.

ومن ناحية أخرى فإن الآلية النفسية- أكثر من أي شيء آخر- هي التي تولد (الحركة الدائمة): إذ أن نشاطها يبدأ بعمليات متكررة.

والطاقة الحيوية الصادرة عن الغرائز والمنظمة بفعل التكيف، والموضوعة تحت تصرف (الأنا)، هذه الطاقة إنما تتصرف فيها الإرادة. أي إن الإرادة هي التي ستتصرف في توزيع تلك الطاقة الحيوية في مختلف قطاعات النشاط الاجتماعي لدى الفرد، وبالتالي تتحكم في توزيع النشاط المشترك للجماعة.

فالإرادة هي التي تتحكم في هذا التوزيع، ولكن حركتها الخاصة تخضع هي ذاتها لاطراد نفسي.

ومن هنا تأتي مشكلة توجيه الطاقة الحيوية الخاضعة لتصرف (الأنا).

ولنعد الآن إلى ما كتبه (هدفيلد) تفسيراً لهذه المشكلة من بين التفسيرات التي ضمنها بالتحديد كتابه (علم النفس والأخلاق) فهي تفيدنا في هذا المجال، فهو ينظر إلى الأشياء نظرة طبيب، أعني من جانبها المرضي.

ص: 70

بدأ هدفيلد بالسؤيل التالي:

((ما هو المنبه المناسب لتنشيط الإرادة؟))

واستطرد يجيب عن سؤاله بقوله:

((إن المثل الأعلى هو أقوى عامل في تقرير خلق الإنسان، وفي تعيين مسلكه، لأنه هو وحده الذي يستطيع تنبيه الإرادة، وتنظيم جميع الغرائز)).

فهو هنا يبين لنا أن الطاقة الحيوية الموضوعة تحت تصرف (الأنا)، هي في نهاية الأمر في ظل مراقبة ما أسماه (المثل الأعلى).

فقد أعلمنا بصورة عارضة أن تنظيم الغرائز الحيوية ليس هو وحده الواقع تحت المراقبة، وإنما يخضع لها أيضاً توجيه هذا التنظيم داخل النشاط الاجتماعي للفرد، وهو ما عبر عنه بقوله:((تقرير خلق الإنسان وتعيين مسلكه)).

وعلى ذلك فإن مشكلة اختيار المثل الأعلى من أهم المشكلات، التي تصادف الفرد في إطاره الخاص لتنظيم (الطاقة الحيوية)، وفي الإطار الاجتماعي (لتوجيه هذه الطاقة الحيوية).

وهنا يأتي سؤال أورده هدفيلد على هذه الصورة:

((هل نترك لكل إنسان إذن اتباع الطريق الذي يبدو له مؤدياً إلى المثل الأعلى؟!)):

إننا إن فعلنا ذلك فسوف يجد اللص مثله الأعلى في السرقة، كما سيجده في عبادة القوة.

وبديهي أن هذه (الحرية) لا تتفق في النهاية، لا مع مصالح الفرد، ولا مع مصالح الجماعة.

ص: 71

ومن ناحية أخرى، لو أننا حرمنا الفرد من حرية الاختيار فسنجعل منه آلة صماء، أو مخلوقاً صناعياً، أكثر من أن يكون كائناً إنسانياً يتصرف في طاقته الحيوية لغايات يلمحها ضميره لمحاً جلياً.

فهناك إذن شرط مزدوج لهذا الاختيار، بينه هدفيلد حين قال:

((لقد أثبتت التجربة أن اختيار الفرد لمثله الأعلى أهدى طريق إلى السعادة)). ولكن هذا الاختيار من ناحية أخرى ((أعظم من أن يكون حكماً خاصاً نتيجة تفكير الفرد))، فهدفيلد يرى إذن أن هناك (مثلاً أعلى موضوعياً) يتفق مع (التقاليد الأخلاقية التي تلخص تجربة الجنس).

ولما كانت هذه (التقاليد) معبرة عن القيم الأخلاقية، تلك التي بينا من قبل أهمية العنصر الديني فيها، فإن مشكلة توجيه الطاقة الحيوية ترجع بدورها إلى مشكلة دينية في جوهرها.

وهكذا يظهر لنا من وجهة نظر علم النفس أن العنصر الديني يتدخل في تكوين الطاقة النفسية الأساسية لدى الفرد، وفي تنظيم الطاقة الحيوية الواقعة في تصرق (أنا) الفرد، ثم في توجيه هذه الطاقة تبعاً لمقتضيات النشاط الخاص بهذه (الأنا) داخل المجتمع، تبعاً للنشاط المشترك الذي يرديه المجتمع في التاريخ.

***

ص: 72