الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دفاع عن شبكة العلاقات الاجتماعية
هناك ظروف يشعر فيها الجسم مباشرة وبطريقة عفوية بالمعنى الأولي لبعض الأشياء، التي لا يدرك مغزاها أحياناً الفكر نفسه، بوساطة الطرق التي يتبعها العقل.
وهكذا يمكن أن نتعلم في هذه الظروف المعنى الأولي للحضارة، وأن معنى التحضر: أن يتعلم (الإنسان) كيف يعيش في جماعة، ويدرك في الولت ذاته الأهمية الرئيسية لشبكة العلاقات الاجتماعية، في تنظيم الحياة الإنسانية، من أجل وظيفتها التاريخية.
فإذا فهمنا هذا أدركنا في هذه الحالة قيمة نظام الدفاع الذي ينصبه مجتمع بطريقة غريزية حول شبكة علاقاته، كما يحميها من أي مساس بها.
فجميع التعاليم المقدسة التي يحيط بها مجتمع ما- ولو كان بدائياً- حياته الاجتماعية، هي في الواقع ترجمة ذات أشكال خاصة عن هذا النظام الدفاعي الذي يحوط شبكته، ولكنها ترجمة ذات حظ متفاوت من التوفيق.
وجميع القوانين التي أملتها السماء، أو وضعتها محاولات البشر، هي في حقيقة الأمر إجراءات دفاعية لحماية شبكة العلاقات الاجتماعية، وبدونها لا تستطيع الحياة الإنسانية أن تستمر، لا أخلاقياً، ولا مادياً.
فالوصايا العشر الموحاة إلى موسى هي أقوى الصور التي تظهر فيها تلك الإرادة العليا التي تحوط وجودنا من كل جانب بشبكة من الحماية الإلهية، وهي تعلمنا أن نعيش مع أهلينا وأقربائنا:((أمك وأبوك، وقرهما، لا تقتل، لا تسرق، لا تكذب .. )).
هذا هو أول نظام للدفاع الفعال الذي يحوط شبكة العلاقات الاجتماعية من أجل حمايتها، في أي مجتمع وليد، ذلك المجتمع الذي سيحقق وعد الله لذرية إبراهيم، ويتم هذا في رسالة النبي العربي، وفي النشاط المشترك الذي تضطلع به أمته، تلك الأمة (الوسط) التي يناط بها تحقيق العلاقة بين الإنسانية المتحضرة الممثلة في شخص (سلمان)، والإنسانية العذراء الممثلة في شخص (بلال)، وهي العلاقة التي تمد جذورها البعيدة في أعماق تلك الوصية الإلهية الأولى:((لا يكن لك من آلهة أمامي)) (1).
إن جميع المبادئ الأخلاقية، دينية كانت أو لا دينية إنما تنتهي إلى هذا الأساس المقدس الذي يرتفع فوقه بناء الأنسانية الأخلاقية، كما أنه هو الذي يؤمن نشاطها المشترك.
بل إن جميع التعاليم المقدسة التي دانت لها الإنسانية العذراء وجميع المبادئ الأخلاقية التي اتخذتها الإنسانية المتحضرة ليست إلا تطبيقاً متنوعاً لتعاليم أخلاقية مشتركة، يختلف التطبيق فيها تبعاً لتعاقب ظروف التاريخ الإنساني، والهدف الأساسي لهذه التعاليم هو الدفاع عن شبكة العلاقات الاجتماعية، التي يقوم عليها كل مجتمع، كيما يؤدي نشاطه المشترك في التاريخ.
وليست القوانين الحديثة سوى تطبيق لهذه التعاليم في حالات خاصة، ناشئة عن الحياة، وعن التجربة الخاصة لمجتمع يؤدي نشاطه المشترك، في مستوى قومي وعالمي معاً. وكل قانون من هذه القوانين، هو في نهاية الأمر، للإقلال من الآثار المفرقة الطردية، والإكثار من الآثار الموثقة الجذبية في شبكة العلاقات، التي تتيح له جميع أوجه النشاط الاجتماعي، وتشملها جميعاً، ابتداء من أكثرها بساطة، في المجتمعات، إلى أشدها تعقيداً، في المجتمعات التي ارتقت سلم الحضارة صعداً.
(1) العهد القديم- سفر الخروج- الإصحاح العشرون.
وإلا فماذا يقصد بالإقلال من الآثار المفرقة الطردية، والإكثار من الآثار الموثقة الجذبية في العلاقات المتحققة بين أفراد مجتمع معين، إن لم يكن يقصد بها تعليم هؤلاء الأفراد كيف يعيشون معاً، أعني: كيف يتحضرون.
لا تصرق .. لا تقتل .. لا تكذب .. ماذا تعني هذه الكلمات .. إنها تعني بلا شك أشياء كثيرة، ولكن أهم هذه الأشياء هو الإقلال من الآثار الطردية في ميول الأفراد الذين يكونون المجتمع.
وكلمات مثل: ((تصدق .. أحبب أخاك كما تحب نفسك .. احترم الوعد الذي تبذله .. )) ماذا يقصد بها.؟ أشياء كثيرة ولا شك. ولكن أمها جميعاً هو الإكثار من الآثار الجذبية في الميول الجماعية التي توحد الأفراد في مجتمع.
وماذا يقصد بهذه التعاليم الأخلاقية- التي يستخف بها أحياناً أولئك الذين يدعون تحضيرنا، بإطلاق غرائزنا من عقالها- سوى أنها تضعنا على طريق الحضارة، وهي تعلمنا فن الحياة مع أقراننا.؟؟
وبهذا وحده تختلف الثقافة في جوهرها عن العلم.
فليست الثقافة سوى تعلم الحضارة، أعني استخدام ملكاتنا الضميرية والعقلية في عالم الأشخاص.
وليس العلم سوى بعض نتائج الحضارة، أي إنه مجرد جهد تبذله عقولنا حين تستخدم في عالم الأشياء.
فالأولى تحركنا وتقحمنا كلية في موضوعها. وأما الثاني لإنه يقحمنا في مجاله جزئياً.
والأولى تخلق علاقات بيننا وبين النظام الإنساني، والآخر يخلق علاقات بيننا وبين نظام الأشياء.
ومن هنا يتبين لنا أن الذين عملوا على تحرير غرائزنا، مدعين أنهم يحضروننا بعملهم هذا- يكشفون تماماً عن جهلهم: فهم يعرفون كلمة: (حضارة)، وربما كان مصدر تعلمهم هذه الكلمة معجم لغوي، أو صحيفة سيارة، على حين يجهلون تماماً ماذا تعني في الواقع.
هؤلاء الأساتذة المتساهلون في الحضارة هم في الواقع شر أعداء التقدم: إنهم قوارض، يقرضون جوهر الحضارة ذاته، كما تقرض الفئران كومة من القمح، لتحيله غير صالح لشيء.
فإذا احتجنا اليوم أن نعد في بلادنا دفاعاً من أجل الحضارة، فمن الواجب أن يكون دفاعاً ضد هذه القوارض.
ومن الواجب أن يعد مجتمعنا جائزة كبرى لمن يستطيع أن يكشف عن أحسن مبيد للفئران، دفاعاً عن شبكة علاقاته ضد هذه القوارض.
ومع ذلك فليست هذه القوارض وحدها النوع الحيواني الذي يهدم المجتمع، حين يقرض شبكة علاقاته التي تعينه على أداء نشاطه المشترك، بل إن هناك نوعين من خيانة المجتمع:
ـ[نوع يهدم روحه، وآخر يهدم وسائله]ـ.
والخيانة الأولى تخلق الفراغ الاجتماعي حين تهدم المبادئ والأخلاق والروح، وهي الأمور التي تبقي للمجتمع التوتر الضروري، كيما يواصل نشاطه المشترك في التاريخ.
والخيانة الثانية تخلق الفراغ حين توجه جميع الملكات المبدعة وجميع الفضائل الأخلاقية في المجتمع خارج عالم الوقائع والظواهر.
فإحدامها تجهل أوامر السماء، والأخرى تجهل مقتضيات الأرض، ولكنهما
تنتهيان بطرق مختلفة، وأحياناً متعارضة إلى نتيجة واحدة هي: الفراغ الاجتماعي، حيث تغور الروح، وتغور معها وسائل الحضارة.
وإنما تختان الحضارة إذا ما فارق دعاتها سبيلهم التي يسلكونها لأداء نشاطهم المشترك. واتبعوا سبلاً وطرائق متخالفة، تجعل النشاط مستحيلاً: فسبل تنسل إلى حظيرة التصوف، وأخرى تنحدر إلى عالم العجائب الذي هبت منه الريح ألف ليلة وليلة، وثالثة تختار طريق الرقص والغناء بدعوى أنها تَحَضُّر.
وهنا تأتي الساعة التي يقع فيها حكم الله، كأنه شاطور على رأس المجتمع:{وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 6/ 153]
فمن الواجب إذن أن نواجه مشكلة الدفاع عن شبكة العلاقات، لا بالنسبة لنوع معين من القوارض الخاصة، أولئك النواتج المجازون من قبل ثقافة أجنبية أساؤوا تمثلها، ولكن بالنسبة لجميع الأنواع التي تخلق بطريقة أو بأخرى حالة الفراغ الاجتماعي.
فمبيدات القوارض إذن لا تكفي، تدلنا على ذلك التجربة اليومية، فنحن نرى مثلاً أنه في اللحظة التي تعلن فيها السلطات المختصة في شوارع إحدى العواصم العربية لسائقي السيارات ألا يستخدموا النفير إلا في حالات الضرورة القصوى، في هذه اللحطة بالذات نجد هؤلاء السائقين يلعبون بهذه الآلة بصورة غير معقولة.
ذلك واقع صغير ولا شك، ولكنه عرض من أعراض التبطل وانعدام الفاعلية في دفاعنا عن شبكة علاقاتنا الاجتماعية.
ومن الممكن بداهة أن نكتب في هذا الموضو كتاباً كاملاً ولكنه لا يساوي هذا القدر من المشقة.
وعلى ذلك ينبغي أن نتصور المشكلة بوجه عام، وأن نصوغها بلغة التربية الاجتماعية، فليس الأمر أن نتصور حلولاً جزئية أثبتت التجربة بعد فوات الأوان عدم جدواها، وأنها ضرب من ضروب العبث والسخرية، عندما نلاحظ مثلاً في مدخل أحد المستشفيات لافتة تدعو الزوار إلى احترام راحة المرضى، على حين نرى مدير المبنى نفسه يربي داخله كلباً ضخماً ينبح طول النهار.
هل يجب في هذه الحالة أن نقول للسيد المدير: إنه قد نسي أن يضع هذه اللافتة على مكتبه .. (1)؟
إننا لو اتبعنا هذه اللغة فلربما فقدت التربية الاجتماعية أهميتها وكرامتها.
إذ ليس الهدف منها أن نعلم الناس أن يقولوا أو يكتبوا أشياء جميلة، ولكن الهدف أن نعلم كل فرد فن الحياة مع زملائه، أعني: أن نعلمه كيف يتحضر.
فإذا ما تصورنا التربية الاجتماعية في نطاق هذه المصطلحات أمكننا أن نلخصها في كلمة واحدة هي: الثقافة.
هل هذا يكفي .. ؟. لا لأن هذه الكلمة ذاتها قد تعرضت للتشويه والابتذال نتيجة الاستعمال السيئ، على ما شرحناه في دراسة سابقة (2).
فليست التربية مجموعة من القواعد والمفاهيم النظرية التي لا سلطان لها على الواقع، على عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء.
وليست هي من إنتاج المتعالمين وبحار العلوم، الذين يعرفون جميع كلمات
(1) طبيعي أننا لو سألنا هذا المدير عن سلوكه الشاذ، فلسوف نجد لديه أسباباً لتفسيره. ولكن ليس من شك في أن هذه الأسباب ذاتها هي التي تضطرنا إلى ان نجعله بين القوارض التي تهدم المجتمع من حيث تظن أنها تخدمه.
(2)
انظر كتاب (مشكلة الثقافة).
المعاجم، دون أن يلموا بما تترجم عنه هذه الكلمات من وقائع، خيراً كانت أم شراً، أو أولئك الذين يعرفون جميع المبادئ والتعاليم التي جاءت في الإسلام، دون أن يستطيعوا تطبيق مبدأ أو تعليم واحد لتغيير أنفسم، أو تغيير بيئتهم.
فكل حقيقة لا تؤثر على الثالوث الاجتماعي: الأشخاص، والأفكار، والأشياء، هي حقيقة ميتة.
وكل كلمة لا تحمل جنين نشاط معين، هي كلمة فارغة، كلمة ميتة مدفونة في نوع من المقابر، نسميه: القاموس.
وكلمة (تربية اجتماعية) تشترك في هذا المصير العام: فهي لا تعني شيئاً إذا لم تكن- في الواقع وبما تحمل من معنى- وسيلة فعالة لتغيير الإنسان، وتعليمه كيف يعيش مع أقرانه، وكيف يكون معهم مجموعة القوى التي تغير شرائط الوجود نحو الأحسن دائماً، وكيف يكون معهم شبكة العلاقات التي تتيح للمجتمع أن يؤدي نشاطه المشترك في التاريخ.
وكذلك كلمة (ثقافة)، ليست سوى كلمة فارغة رنانة لو لم تخلع على (التربية الاجتماعية) المضمون الضروري، الذي يتيح لها الاضطلاع بوظيفتها المغيرة.
ومن الواجب أن نفكر مليا في هذه المصطلحات، لا من طريق الاستعانة بقاموس تمسك به اليد، ولكن من طريق الاستعانة برأس مستقر بين اليدين.
فليس الأمر إذن أن تقول: إن الثقالة تحتوي بصفة عامة عدداً من الفصول هي: الأخلاق، والجمال، والمنطق العملي، والصناعة الفنية. ولكن الأمر يقتضينا أن نتساءل: كيف ينبغي أن ندركها في صورة برنامج تربوي يصلح لتغيير الإنسان الذي لم يتحضر بعد، في ظروق نفسية زمنية معينة، أو لإبقاء الانسان المتحضر في مستوى وظيفته الاجتماعية، وفي مستوى أهداف الإنسانية-
أما فيما يتعلق بحالتنا، أعني البلاد العربية والإسلامية، فينبغي أن نفكر في الإنسان الذي لم يتحضر بعد، أو الذي خرج من دورة حضارته في أزمة تاريخية معينة، كيما نحدد- بالنسبة إليه- شروط الفاعلية التي يمكن أن تقوم على منهج للأخلاق أو الجمال مثلاً.
أي إنه ينبغي أن نحدد من أجل الإنسان الشروط الأولية التي تحقق له ما يبتغي من ثقافة.
***