المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أصل العلاقات الاجتماعية - ميلاد مجتمع

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌أصل العلاقات الاجتماعية

‌أصل العلاقات الاجتماعية

ومع ذلك فإن شبكة العلاقات الضرورية لأداء العمل الاجتماعي المشترك ليست نتيجة أولية تستحدثها العوالم التي يتكون منها مجتمع معين، بل هي نتيجة لظروف والشروط التي تحدث الحركة التاريخية نفسها.

ولقد رأينا أن هذه الحركة يمكن تفسيرها على أنها ثمرة لتعارض معين طبقاً لمنهج (هيجل)، أو على أنها إجابة على تحدٍّ معين على ما ذهب إليه (توينبي).

والمعلوم أن أول عمل يؤديه مجمتع معين في طريق تغيير نفسه مشروط باكتمال هذه الشبكة من العلاقات. وعلى هذا نستطيع أن نقرر أن شبكة العلاقات هي العمل التاريخي الأول الذي يقوم به المجتمع ساعة ميلاد .. ومن أجل ذلك كان أول عمل قام به المجتمع الإسلامي هو الميثاق الذي يربط بين الأنصار والمهاجرين. وكانت الهجرة نقطة البداية في التاريخ الإسلامي، لا لأنها تتفق مع عمل شخصي قام به النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لأنها تتفق مع أول عمل قام به المجتمع الإسلامي، أي مع تكوين شبكة علاقاته الاجتماعية، حتى قبل أن تتكون تكوناً واضحاً عوالمه الاجتماعية الثلاثة.

فإن التاريخ إنما يبدأ في الواقع قبل أن تتكون هذه العوالم، وذلك واضح في حالة المجتمع الإسلامي ساعة ميلاده. كما أنه قد ينتهي- أحياناً- بينما المجتمع غني بما فيه من (أشخاص) و (أفكار) و (أشياء). كما قد حدث أيضاً للمجتمع الإسلامي إبان أفوله، أي عندما نجم في تطوره مركب القابلية للاستعمار. لقد كان المجتمع الإسلامي آنذاك غنياً، ولكن شبكة علاقاته الاجتماعية قد تمزقت.

ص: 26

وهو ما ألمح إليه النبي صلى الله عليه وسلم دون شك- للتربية لا لمجرد الخبر- في قوله: «يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير، ولكنم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قيل: وما الوهن يا رسول الله .. ؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت» . لقد كان هذا الحديث ضرباً من التنبؤ والاستحضار: استحضار صورة العالم الإسلامي بعد أن تتمزق شبكة علاقاته الاجتماعية، أي عندما لا يعود مجتمعاً، بل مجرد تجمعات لا هدف لها كغثاء السيل.

ولا ريب أن جيلنا الحاضر يدرك هذا الحديث أكثر مما كان يدركه أصحاب النبي، لأنه يصف في مضمونه العالم المستعمر والقابل للاستعمار، الأمر الذي تعرضنا فيه لتجربة شخصية.

ومهما يكن من شيء، فإن أحداً من الناس لا يستطيع أن يدعي أن هذه العلاقات مجرد أثر ناتج عن إضافة أشخاص وأفكار وأشياء إلى المجتمع. فالواقع أننا حين نتحدث عن عالم من هذه العوالم الثلاثة، فإنما نقصد إلى الحديث عن المجتمع في مرحلة من مراحل تغييره، أي في مرحلة يعد كل عالم منها- في ذاته- ثمرة هذا التغيير.

(فالشخص) في ذاته ليس مجرد فرد يكون النوع، وإنما هو الكائن المعقد الذي ينتج حضارة. وهذا الكائن هو في ذاته نتاج الحضارة، إذ هو يدين لها بكل ما يملك من أفكار وأشياء.

وبعبارة أخرى كل من العوالم الاجتماعية الثلاثة يتفق مع الصيغة التحليلية التالية:

ناتج حضارة = إنسان + تراب + وقت

ص: 27

هذه العلاقة العضوية التاريخية الأساسية تتجلى في كل عنصر من عناصر المجتمع الثلاثة لتؤكد وحدة تأثيره منفرداً، كما تتجلى في علاقاته بالعنصرين الآخرين لتؤكد وحدة تأثيرها مجتمعة. وهي تتجلى خاصة في الإطار الشخصي للفرد، حين تقدم له بصورة ما جوهر نظام علاقاته الاجتماعية؛ وخلاصة القول إن أصل شبكة العلاقات الاجتماعية- الذي يتيح لمجتمع معين أن يؤدي عمله المشترك في التاريخ- إنما يكمن في تَخلُّقِ تركيبه العضوي التاريخي. وعلى هذا فإن تاريخ هذا التركيب هو الذي يفسر أصله، كما يحدد في الوقت نفسه طبيعة العلاقات الاجتماعية لحظة نشوئها.

***

ص: 28