المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الثروة الاجتماعية لا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من (أشياء)، - ميلاد مجتمع

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌ ‌الثروة الاجتماعية لا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من (أشياء)،

‌الثروة الاجتماعية

لا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من (أشياء)، بل بمقدار ما فيه من أفكار.

ولقد يحدث أن تلم بالمجتمع ظروف أليمة، كأن يحدث فيضان أو تقع حرب، فتمحو منه (عالم الأشياء) محواً كاملاً، أو تفقده إلى حين ميزة السيطرة عليه، فإذا حدث في الوقت ذاته أن فقد المجتمع السيطرة على (عالم الأفكار) كان الخراب ماحقاً. أما إذا استطاع أن ينقذ (أفكاره) فإنه يكون قد أنقذ كل شيء، إذ أنه يستطيع أن يعيد بناء (عالم الأشياء).

لقد مرت ألمانيا بتلك الظروف ذاتها، كما تعرضت روسيا لبعضها، إبان الحرب العالمية الأخيرة. ولقد رأت الدولتان- وخاصة ألمانيا- الحرب تدمر (عالم الأشياء) فيهما. حتى أتت على كل شيء تقريباً. ولكنهما سرعان ما أعادتا بناء كل شيء، بفضل رصيدهما من الأفكار.

هذا البناء هو في ذاته نوع من العمل المشترك الذي يقوم به مجتمع معين، ولقد رأينا فيما تقدم أن تمام هذا العمل ضرب من المستحيل، ما لم تكن هناك شبكة العلاقات التي تنظمه، وتجعله سبيلاً إلى غاية معينة. وبذلك نستنتج أن ثروة الأفكار وحدها ليست بكافية، كما دلنا على ذلك تاريخ المجتمع الإسلامي في موقفين.

فعندما بدأ هذا المجتمع دخوله حلبة التاريخ في القرن السابع الميلادي كان (عالم أفكاره) ما زال جنيناً غامضاً، إذا ما قيس بالمجتمعات المتحضرة التي غزاها وهزمها في مصر وفي فارس وفي الشام.

ص: 35

فإذا ما نظرنا إليه وقد أخذ بعد ذلك بستة قرون يترنح في مهاوي التدهور والانحطاط، وجدناه يملك أغنى مكتبات العالم آنذاك .. !! ..

لقد انهار تحت ضربات شعوب حديثة العهد بالوجود، كالإسبانيين الذين كان (عالم أفكارهم) لا يزال فقيراً نسبياً. وبذلك نرى أن المكتبات لا تغني من الهزيمة شيئاً.

ففاعملية (الأفكار) تخضع إذن لشبكة العلاقات، أي إننا لا يمكن أن نتصور عملاً متجانساً من الأشخاص والأفكار والأشياء دون هذه العلاقات الضرورية. وكما كانت شبكة العلاقات أوثق، كان العمل فعالاً مؤثراً.

وعليه، فإذا كانت ثروة مجتمع معين يتوقف تقديرها على كمية أفكاره من ناحية، فإنها مرتبطة بأهمية شبكة علاقاته من ناحية أخرى.

والحد المثالي للتطور الاجتماعي الذي يمكن أن يبلغه مجتمع ما، متوقف على الحالة التي يحقق فيها هذا المجتمع أفضل الظروف النفسية الزمنية لأداء نشاطه المشترك.

وهذا يحدث بوجه عام عندما يكون المجتمع في حالة النشوء: كالمجتمع الإسلامي في العهد المدني، وكالمجتمع المسيحي في مغارات روما، إذ إنه في هذه الحالة يحقق أرفع درجات الاندماج والانسجام، فيكون التوتر الأخلاقي قد بلغ ذروة درجاته.

ويبلغ المجتمع الحد النهائي في تطوره عندما يفقد بالتدريج خاصة الانسجام، فيتفرق أفراده ذرات، ويصبح في نهاية تحلله عاجزاً تماماً عن أداء نشاطه المشترك. أي إنه يتوقف عن أن يكون (مجتمعاً) بالمعنى الدقيق الذي نقصد إليه من هذه الكلمة في عرضنا.

وطبيعي أن نجد العناصر الوظيفية في المجتمع تتغير بين هذين الحدين، في

ص: 36

الاتجاه نفسه. ويمكننا أن نمثل هذا التطور بطريقتين: من ناحية الكم بوساطة معادلة تترجم عن عدد العلاقات التي تحتويها شبكة العلاقات الاجتماعية، ومن ناحية الكيف بوساطة معادلة تترجم عن المستوى النفسي الزمني، أو بعبارة أخرى: عن فاعملية هذه الشبكة.

وأساس الترجمة الكمية متمثل في عدد العلاقات التى تربط الفرد بغيره من أعضاء الجماعة، في لحظة معينة من تطور الجماعة.

فإذا كان المجموع الكلي للأفراد أعضاء الجماعة هو (ن)، فإن فرداً واحداً يستطيع أن يحوز عدداً من العلاقات هو (ك)، هكذا:

ك = ن - س

وإذن فالمجموع الكلي للأفراد (ن) الذي يكون الشبكة الاجتماعية في مجموعها، مع اشتمالها على المجموع الكلي للعلاقات هو (ل) هكذا:

ل = ن ك = ن (ن - س)

والعدد (س) هو الذي يمثل- كما نرى- دليل التطور من ناحية الكم. وقيمة هذا العدد تقع بالضرورة بين حدي التطور الاجتماعي الذي أشرنا إليه، كما أنها تدل عليهما. فهي إذن بالضرورة واقعة بين (أ) و (ن)، أو بتعبير الجبر:

ن > س > أ

وعليه فإذا ما بلغ المجتمع ذروة نموه فإن شبكته الاجتماعية تكون:

ل1 = ن (ن - أ)، أعني الحد الأقصى. وهذه هي الحالة التي يشير إليها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» .

وهو قول يعكس حالة المجتمع الإسلامي الأول، حين حقق بالمدينة نموذج

ص: 37

المجتمع المنسجم في طبقة واحدة، وكان كل فرد مرتبطاً ارتباطاً واقعياً بكل الآخرين من أعضاء المجتمع بوساطة علاقات شخصية.

أما حين يبلغ المجتمع نهاية تحلله فإن شبكته الاجتماعية تكون على صورة:

ل2 = ن (ن - ن) = صفر. أي إن الشبكة الاجتماعية قد بليت، فلم تعد قادرة على مواجهة نشاط مشترك، غدا منذئذ مستحيلاً.

والواقع أن هذا الانتقال من الحالة المثالية إلى الحالة النهائية يحدث في هيئة انفصال داخلي، تنشأ عنه ألوان من التمزق في الجسد الاجتماعي، أو صدوع وثغرات في انسجامه وتوافقه.

والعدد (س) الذي يرمز إلى كمية هذه الثغرات والانفصالات يدل إذن وبصورة ما على الفراغ الاجتماعي، وهو ينطبق من الوجهة العددية على درجة الافتقار في الشبكة بأكملها.

ويمكن التعبير عن هذا التطور بطريقة أخرى، من ناحية الكيف، في الرسم البياني الذي يترجم عن الدورة التطورية التي تمر بها كل حضارة (1).

والمراحل الثلاث في هذه الدورة تعبر عن الأدوار الثلاثة التي يمر بها المجتمع: الحالة الكاملة، فيها تكون جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (الروح)، ومتصلة بالاعتبارات ذات الطابع الميتافيزيقي.

والمرحلة التالية هي المرحلة التي تكون فيها جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (العقل) خاصة، ومتجهة نحو المشكلات المادية. أما المرحلة الثالثة فتصور نهاية تحللها تحت سلطان (الغرائز) المتحررة من وصاية الروح والعقل، وفيها يصبح النشاط المشترك مستحيلاً، ضارباً بأطنابه في أغوار الفوضى

(1) يجد القارئ تخطيط هذه الدورة في صفحة 55 من هذا الكتاب.

ص: 38

والاضطراب، وهو ما نجده في حالة المجتمع الإسلامي في الأندلس، في العصر المشؤوم المسمى بعصر (ملوك الطوائف).

ومن الممكن أيضاً أن نصف هذه العصور المختلفة للنمو الاجتماعي حين ندل عليها بتخطيط ثقافي، هو الذي أوردنا تحليله في كتابنا (مشكلة الثقافة).

والواقع أن بإمكاننا أن نعد كل مرحلة من مراحل النمو الاجتماعي متميزة بغلبة عنصر ثقافي محدد. وبديهي أن تكون ثقافة أي مجتمع ناشئ ثقافة أخلاقية. وعلى عكس ذلك حالة المجتمع لحظة أفوله، إذ نجده يفرق في نزعة جمالية تبتعد قليلاً قليلاً عن أصول الجمال الحق.

ومن ناحية أخرى ينبغي ان نذكر أن المجتمعات الحديثة تحقق انسجامها وتوافقها حين تنشئ شبكة علاقات حكومية، غير شخصية، وهي شبكة منبسطة وكاملة بقدر الإمكان. وما صناديق التأمينات الاجتماعية في البلاد المتقدمة إلا صورة مادية لهذه الشبكة.

وبديهي أن الدولة التي تحقق في هذا النطاق التقدم الانساني في أعظم أشكاله هي التي تحقق شبكة العلاقات الاجتماعية على أقرب ما تكون من التي نسجها الإسلام في العهد المدني.

***

ص: 39