المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدين والعلاقات الاجتماعية - ميلاد مجتمع

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌الدين والعلاقات الاجتماعية

‌الدين والعلاقات الاجتماعية

رأينا أن المجتمع لا ينتج القيمة الخلقية التي تنظم حياته، أو بحسب ما اصطلحنا عليه: تنظيم العلاقة التي تتيح له أن يتم نشاطه المشترك.

ورأينا من ناحية أخرى أن هذا العمل يبدأ إذا ما تم تركيب الإنسان والتراب والوقت.

لكن هذا التركيب- الذي يتفق من الوجهة التاريخية مع ظهور حضارة معينة- لا ينتج تلقائياً، إذ أن هناك جماعات بشرية ما زالت تعيش حتى الآن في حالة ما قبل الحضارة.

وإنما يتم هذا التركيب على أثر حدوث (عارض غير عادي)، أو بعبارة أخرى (ظرف استثنائي).

لقد اختلفت آراء المدارس المختلفة فيما بينها في تفسير ماهية هذا (العارض).

فتوينبي يرى أنه يظهر في صورة (تحدٍّ) يخلقه الوسط الطبيعي أو البشري، خلقاً يصبح معه المجتمع ملزماً بمواجهته والإجابة عليه، كما سبق أن رأينا.

وهيجل يرى أن (الظرف الاستثنائي) إنما يظهر في صورة تعارض بين قضية ونقيضها.

والمجتمعات المعاصرة لا تخرج عن إحدى مجموعتين: مجموعة المجتمعات

ص: 52

التاريخية، أعني المجتمعات التي تتفق مع تعريفنا الذي وضعناه فيها سبق لتلك الكلمة، ومجموعة المجتمعات الراكدة التي يطلقون عليها كلمة (بدائية).

فأما المجموعة الأولى- وهي المجموعة التاريخية، التي تتفق مع تعريفنا من ناحية، والتي تكون 80% من مجموع سكان البسيطة من ناحية أخرى- فإن (الظرف الاستثنائي) الذي يسجل نقطة الانطلاق في تاريخ مجتمع معين منها يتفق في الحقيقة مع ظهور فكرة دينية، في فجر حضارة معينة.

ويتمثل تطور هذه الحضارة المعينة حسب التخطيط البياني في دورة ذات مراحل ثلاث:

ـ[تخطيط بياني]ـ

فنقطة الصفر من الدورة تسجل الحالة السابقة على الحضارة، كما تسجل بدء ظهور (الظرق الاستثنائي) اللازم لإحداث التركيب العضوي التاريخي بين العناصر الثلاثة: الإنسان والتراب والوقت، وهو التركيب الذي يتفق مع ميلاد مجتمع معين، كما يتفق بصورة ما مع بداية عمله التاريخي.

فالقيم الاجتماعية في هذه النقطة لم تصبح بعد واقعاً قائماً. وإنما هي مجرد

ص: 53

احتمالات. والمجتمع ذاته ليس حينئذ سوى (احتمال) في ضمير الغيب، و (بذرة) من الإمكانيات في غضون التاريخ.

وفي هذه الحالة يحتمل وجوده أن يكون أو ألا يكون، إذ أن (عالم أشخاصه) و (عالم أشيائه) لم يوجدا بعد، ولكن عالم أفكاره يحتوي على الأقل بذرة إمكانياته، كما تحتوي النطفة كل العناصر العضوية والنفسية المسهمة في تركيب الكائن المقبل. فليس وجوده حينئذ سوى فكرة متجسدة، أحياناً في رجل مثل (إبراهيم) الذي قال فيه القرآن الكريم حقاً:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 16/ 120].

فسواء كنا بصدد المجتمع الإسلامي أو المجتمع المسيحي، أم كنا بصدد المجتمعات التي تحجرت اليوم أو اختفت تماماً من الوجود، نستطيع أن نقرر أن الفكرة التي غرست بذرتها في حقل التاريخ هي فكرة دينية. ومعنى هذا أن (الظرف الاستثنائي) الذي يلد مجتمعاً يتفق في الواقع مع الفكرة الدينية التي تحمل مقاديره. كما تحمل النطفة جميع عناصر الكائن الذي سيخرج فيما بعد إلى الوجود. ومعنى هذا أيضاً أن شبكة العلاقات بكل ما تحتويه من خيوط وأطراف، والتي سيتسنى للمجتمع بفضلها أن يؤدي عمله التاريخي- هي ذاتها تعد في حيز القوة، داخل البذرة التي تشتمل جميع أقدارها.

إذن فالعلاقة الروحية بين الله وبين الإنسان، هي التي تلد العلاقة الاجتماعية، وهذه بدورها تربط ما بين الإنسان وأخيه الإنسان، ولقد علمنا من حديثنا في الفصل السابق أنها تلدها في صورة القيمة الأخلاقية. فعلى هذا يمكننا أن ننظر إلى العلاقة الاجتماعية والعلاقة الدينية معاً من الوجهة التاريخية على أنهما حدث، ومن الوجهة الكونية على أنهما عنوان على حركة تطور اجتماعي واحد.

فنحن نرى من الوجهة التاريخية أن الحدثين يتوافقان، ونلاحظ من الوجهة

ص: 54

الكونية بناء على ما أسلفنا من اعتبارات أن الحدثين يرتبطان ارتباط الأثر بالسبب في حركة التطور الاجتماعي، فالعلاقة الاجتماعية التي تربط الفرد بالمجتمع هي في الواقع ظل العلاقة الروحية في المجال الزمني.

لكنا قد رأينا في فصل مضى أن عدد العلاقات التي تربط الفرد بمجتمع معين متكون من (ن) من الأفراد هو: (ن - س) من العلاقات.

وبهذا نستطيع أن نقدر بصورة ما درجة الفاعملية الاجتماعية في العلامة الدينية، بأن نقر نسبة حسابية بن عدد العلاقات الدينية في مجتمع معين وعدد العلاقات التي تكون شبكته الاجتماعية.

على أنه من المعلوم أن فرداً ما يحتفظ ب (ن - س) من العلاقات الاجتماعية في مجتمع مكون من (ن) من الأفراد، ولكنه يحتفظ بعلاقة دينية واحدة، ففاعملية هذه العلاقة في المجتمع تتضح إذن في النسبة الإجمالية التالية:

ن (ن - س) / ن = (ن - س)

ومعنى هذا أن الدين يخلق نظاماً اجتماعياً يستحيل فيه الفرد إلى أفراد كثيرين، حين يضرب في العدد (ن - س) من العلاقات الاجتماعية.

وكلما ضعفت العلاقة الدينية تناقص هذا العدد، أي إنه يتناقص كلما تجاوز المجتمع المرحلة التي تنطبق عليه نقطة (أ) من تخطيط تطوره البياني. ومن هنا تزداد درجة الفراغ الاجتماعي بين الأفراد في محيط هذا المجتمع.

وعلى عكس ذلك نجد أنه عندما تقوى العلاقة الدينية، وبقدر ما تقوى هذه العلاقة مثلاً بين نقطتي صفر وأ- فإن درجة الفراغ الاجتماعي تقل، قلة تصبح معها صورة المجتمع بعض ما يوحي به قوله صلى الله عليه وسلم:«المؤمن للؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» فتلك صورة المجتمع الذي لا يوجد فيه فراغ اجتماعي.

ص: 55

لكننا نعلم أنه للوصول إلى هذه الدرجة من الكمال ينبغي أن تتوافر في المجتمع شبكة علاقات اجتماعية نامية، كيما تمنح البناء الاجتماعي ما يلزمه من متانة واتساق.

كما نعلم مدى الصعوبة التي تحول دون الوصول إلى تلك الدرجة، وهي المثل الأعلى الذي تستهدفه الشرائع جميعاً، الشرائع التي تحاول بما لديها من وسائل إنسانية خالصة أن تسد الفراغ الاجتماعي.

ذلكم ولا ريب هو الدرس الذي أراد القرآن أن يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . [الأنفال 8/ 63].

***

ص: 56