المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شبكة العلاقات والجفرافيا - ميلاد مجتمع

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌شبكة العلاقات والجفرافيا

‌شبكة العلاقات والجفرافيا

أتاحت لنا دراسة دورة الحضارة عامة في الفصل السابق أن نستخرج بعض الاعتبارات عن التأثير الاجتماعي للفكرة الدينية. مع أخذنا في الاعتبار عنصر الزمن.

ولسوف تتيح لنا دراسة الدورة المسيحية في هذا الفصل، أن نرى تأثير الفكرة الدينية حين ترتبط بعنصر المكان خاصة.

فالفكرة المسيحية لم تتخذ مجالها في الظروف التاريخية نفسها، التي كانت للفكرة الدينية الإسلامية: فلقد أدت هذه في الواقع دورها في مهدها ذاته. فإذا كانت قد استطاعت أن تحقق أهدافها، فما ذلك إلا لأن شبه الجزيرة العربية كانت أرضاً عذراء، تستطيع أية فكرة دينية جديدة أن تمد فيها جذورها. أما الفكرة المسيحية فهي، على العكس من ذلك، قد ولدت على أرض مزدحمة بالثقافات والأديان القديمة، فكان من العسير عليها في هذه الظروف أن تجد عناصر اجتماعية حرة كافية كيما تحدث تركيباً جديداً. وقد كانت الثقافة الإغريقة والرومانية والديانة اليهودية تحتل منذ عهد بعيد مجال عملها.

فلكي تجد المسيحية مجالها المناسب كان عليها إذن أن تغادر مهدها، وهذا هو الذي يفسر لنا كيف أن المسيحية، وقد ولدت قبل الإسلام بستة قرون، لم تبدأ مهمتها التاريخية إلا بعد الإسلام بستة قرون، بعيداً عن مسقط رأسها.

وهذه الحالة ترينا أن تأثير فكرة دينية معينة رهن ببعض شروط الجغرافية الإنسانية، فإذا لم تجدها في موطنها هاجرت لتجدها في مكان آخر.

والبوذية ذاتها قد اضطرت إلى هجرة مسقط رأسها في الهند، بحثا عن ظروف أكثر ملاءمة، هنالك في الصين حيث غرست تعاليمها.

ص: 57

وإذن فقد غادرت الفكرة المسيحية أرض مولدها (فلسطين)، بحثاً عن هذه الظروف في أوربا الغربية، حيث أنهت الحضارة الرومانية دورتها خلال القرنين الرابع والخامس الميلاديين.

وبقدر ما كان مجتمع غربي أوربا يتحلل ويتفكك، وبالمواد المتخلفة عن هذا التحلل ذاتها، استطاعت المسيحية أن تبني المجتمع الجديد خطوة خطوة، وهو المجتمع الذي نطلق عليه في هذه الأيام (المجتمع الغربي).

وبدهي أن هذه المواد، بحكم كونها متخلفة عن عملية تحلل، لم تكن لتشمل على أدق رباط عضوي فيما بينها. ولقد خلف اختفاء الامبراطورية الرومانية في الواقع جميع مكونات المجتمع الروماني من أشخاص وأفكار وأشياء على حال من الفوضى، كانت هي السمة الظاهرة لما يطلق عليه اسم (العصور الوسطى).

وإذن فلكي تستخدم هذه المواد في بناء جديد، كان من المحتم تنظيمها بطريقة أخرى. وكانت الفكرة المسيحية هي التي استخرجت النسق الغربي من غضون الفوضى التي أعقبت الحضارة الرومانية.

ولقد ألمح جيزو إلى تبيان هذه الحالة، وهو المؤرخ الذي يظل- حتى بعد قرن من الزمن- صاحب الكلمة المسموعة بصدد الحضارة الأوربية، فقد حدثنا جيزو عن: كيف أن تركيب هذه الحضارة كان من عمل الفكرة المسيحية. قال:

((تلكم هي السمة العظيمة الأصيلة للحضارة الأوربية، منذ أن تطورت تحت تأثير الإنجيل، تأثيره الظاهر والخفي، المنكر أو المرضي، حيث عاش القهر والحرية وكبرا معاً)).

فإذا ما ترجمنا حكم هذا المؤرخ، إلى لغة علم الاجتماع كان معناه أن الفكرة المسيحية هي التي صاغت شبكة العلاقات الضرورية التي أتاحت للمجتمع الغربي

ص: 58

منذ نشأته أن يسجل نشاطه في التاريخ وهكذا أعطانا جيزو الخيط الموجه الذي يدخلنا إلى صميم الموضوع.

فلقد شكلت الفكرة المسيحية (أنا) الأوربي أو ذاته، كما صاغت (منظر) أوربا الذي نشهده في منتصف هذا القرن العشرين.

ولا ريب أن الناظر المتطلع سوف يذوب دهشة من وحدة هذا المنظر، والشخصية التي تعطيه الحياة وتحركه، فإن أوجه التشابه بين الأشخاص والأفكار والأشياء هناك تعد في الواقع في منتهى الوضوح. وبرغم هذا فإن تلك ظاهرة عامة.

والحق أن تطور الإنسانية هو ما يحدث من نمو في مشاعرها الدينية المسجلة في واقع الأحداث الاجتماعية، تلك التي تطبع حياة الإنسان وعمله على وجه البسيطة.

نشرت المجلة العالمية (ديوجين) في عددها الثاني عام 1953 مقالاً هاماً في الموضوع، بقلم بيير دي فونتين Pierre Desfontaines الذي أعطانا لمحة أخاذة عن ((التقسير الديني في الجغرافية الإنسانية)).

وقد أرانا الكاتب تحت هذا العنوان كيف أن الإنسان لم يستخدم ذكاءه في جهات كفاحه ضد عناصر الطبيعة وحدها، فهناك على ما ذهب إليه الكاتب: الإنسان والغابة، والإنسان والريح، والإنسان والماء، والإنسان والقفر .. إلخ .. وهناك أيضاً الإنسان في مواجهة ذاته، بل في صراعه مع عناصر هذه الذات، مع أفكارها، ومع مشاعرها، وهذا العمل (الروحي) قد طبع أيضاً الجفرافية الإنسانية، حين نثر على سطح الأرض الواقع الديني، ونتائجه المرئية في (المنظر)، ولا سيما فيما يتصل بالإعمار والاستيطان والاستثمار والمواصلات.

ونحن نرى اليوم أيضاً في المنظر الأوربي نتائج هذا العمل (الروحي) الذي تم خلال ألفي سنة من تاريخ المسيحية.

ص: 59

وما كان لعمل كهذا أن يتم إلا بفضل شبكة العلاقات الضرورية لوجود النشاط المشترك في المجتمع الأوربي.

بيد أننا إذا أردنا أن نتتبع أداء هذا العمل خلال القرون، فكأننا نتتبع إجمالاً مجرى تاريخ أوربا كله.

وعليه، فإن كتابة تاريخ أوربا، أو وصف عملها (الروحي) هو تعبير عن اطراد واحد بطريقتين مختلفتين: أي إننا إذا ما تحدثنا عن الظاهرة الأوربية أو الظاهرة المسيحية، فإن حديثنا سيكون مخلصاً لشيء واحد، لأن إحداهما متركبة على الأخرى على الخريطة، وهي تتفق معها في الزمن، والظاهرتان كلتاهما ترجع إلى الأخرى، مهما بدا لنا أن بينهما أحياناً تعارضاً ظاهرياً.

ومع ذلك فإن هذا التعارض الظاهري يختفي حين نعود إلى الوراء قرنين أو ثلاثة قرون، لأن كلمة (أوربي) ذاتها تختفي. إذ الواقع أنها لم تدخل في اللغة الدبلوماسية إلا منذ الحروب النابليونية، وعلى وجه التحديد في مؤتمر فيينا عام 1814.

وعلى الرغم من هذا فقد كانت هناك (ظاهرة أوربية) منذ العصر الوسيط الأول، ونحن مضطرون إلى أن نطلق عليها هذا الوصف لأنها متصلة بالمجال الجغرافي لأوربا.

وإن كان الواقع مرتبطاً بالإطار التاريخي، أي بالفكرة المسيحية، أو إذا شئنا تعبيراً آخر، بالعمل الروحي للفكرة المسيحية، تحت تأثير العامل الزمني خلال رحلتها من مسقط رأسها وتأقلمها بأوربا.

فكل حدث يسجله الزمن في ملحمة من ملاحم التاريخ الأوربي هو في الواقع نوع من التجسيد للفكرة المسيحية.

ومن الممكن أن نتتبع النشاط المشترك الذي قام به المجتمع الأوربي، وأن

ص: 60

نلاحظ خاصة بعض جوانب هذا النشاط حتى نخرج منه باللوحة التالية على سبيل المثال:

الظاهرة الأوروبية:

:

نهاية الحضارة الرومانية

:

الإقطاع

:

اللاتينية: لغة الكنائس والجامعات

:

الحروب الصليبية

:

النهضة

:

الإصلاح

:

الاستعمار الذي بدأ منذ اكتشاف أميركا

:

ثورة 1848، التي أثرت على أوربا كلها

ولو أننا ذهبنا إلى أن الحروب الصليبية وثورة 1848 هما تجسيد مختلف لفكرة دينية واحدة، فمن المحتمل أن نتوهم أن في الأمر تناقضاً، لأن الحدث الأول ذو دلالة مباشرة على نشاط الفكرة المسيحية، بينما يترجم الثاني عن نوع من التيار الصادر عن الأفكار الاجتماعية واللادينية التي نمت في الثقافة الأوربية، مع فلسفة لوك Loche، والعلمانيين الفرنسيين.

فهناك إذن تعارض ظاهر بين ما ينبعث مباشرة عن الفكرة المسيحية وما يأتي عن الأفكار اللادينية. والواقع أن هذين الحدثين نتيجة النشاط المشترك لعالم واحد من الأشخاص والأفكار والأشياء، أعني أنها نتاج النشاط المشترك لمجتمع واحد يفكر ويعمل في صف واحد، بفضل شبكة العلاقات الاجتماعية وحدها.

ومن ناحية أخرى، لو أننا نظرنا إلى أحداث اللوحة السابقة منفصلاً بعضها عن بعض، فربما هدمنا بذلك وحدة التاريخ العضوي. بل على العكس من ذلك نرى أن كل حدث منها يجد تفسيره في الأحداث السابقة عليه:

ص: 61

فثورة 1848 قد تخلقت بالصورة نفسها التي تخلقت بها النهضة أو الحروب الصليبية، أعني أنها تمثل نوعاً من تجسيد الفكرة المسيحية.

وبصفة عامة، كل ما ينتسب إلى (عالم أشياء) أوربا، و (عالم أفكارها) أو (عالم أشخاصها) إنما ينتسب بالضرورة إلى تكوين الظاهرة الأوربية، فهو ذاته ظاهرة أوربية، أعني أنه هو ذاته ناتج عن شبكة العلاقات التي أنتجت الحروب الصليبية أو ثورة عام 1848.

ولو أننا نظرنا في (عالم أشياء) أوربا مثلاً إلى جهاز الراديو البسيط، وحاولنا أن نرسم على الخريطة العلاقات العقلية التي انتهت إليه، منذ التجارب المتواضعة التي قام بها جلفاني، حتى اختراع ماركوني، مارين بهرتز، وبوبوف وبرانلي، وكثيرين آخرين من مشاهير الرواد، لأنشأ هؤلاء شبكة واحدة.

ولو أننا رسمنا بعد ذلك على الخريطة ذاتها العلاقات التي أنتجت (الإصلاح) أو النهضة، فلسوف نجد أنفسنا أمام الشبكة نفسها، التي تفسر كل ظاهرة أوربية على أنها ظاهرة مسيحية.

***

ص: 62