الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجتمع والقيمة الخلقية
هذه الاعتبارات التي فرغنا من عرضها يمكن أن تعود إلى ملاحظتين سبق أن أكدناهما، هما:
1 -
أن مجتمعاً معيناً لا يمكن أن يؤدي نشاطه المشترك دون أن توجد فيه شبكة العلاقات التي تؤلف عناصره المختلفة؛ النفسية والزمنية.
2 -
وأن كل علاقة هي في جوهرها قيمة ثقافية يمثلها القانون الخلقي، والدستور الجمالي الخاص بالمجتمع.
فمن الطبيعي إذن أن نعد القيمة الخلقية عنصراً جوهرياً في النشاط المشترك الذي يتم بفضل وجود شبكة العلاقات الاجتماعية.
هنا تواجهنا مشكلة ذات طابع تكويني هي: هل ينتج المجتمع تلقائياً القيمة الخلقية التي تدفع تغييره في اتجاه غايته .. ؟.
ليكن مجال بحثنا للإجابة عن هذا السؤال المجتمع العربي الجاهلي، ولنأخذ منه للتجربة عادة وأد البنات، فتلك (حالة) سوف نجد فيها قيمة خلقية تؤثر كقوة من قوى التغيير في نطاق مجتمع، هو المجتمع الجاهلي، في الوقت الذي كان يتهيأ فيه لدخول التاريخ.
ولدينا إلى جانب هذا شهادة مباشرة على العوامل التي كان لها دور مؤثر في هذه الحالة، ففي القرآن الكريم- بوصفه وثيقة تاريخية- شهادة لا ترد على منشأ عادة وأد البنات، فلقد وجه القرآن إلى عرب الجاهلية خطابه في موضعين:
أ - {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام 6/ 150].
ب - {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء 17/ 30].
فإذا تناولنا هذين النصين باعتبارهما وثيقتين من وثائق ذلك العصر، وجدنا أنهما لا تدعان أدنى ريب فيما يتعلق بمنشأ عادة الوأد، فلقد كان للظروف الاقتصادية التي عاشها العصر الجاهلي أكبر الأثر في نشأة تلك العادة الأليمة، إن لم تكن هي العامل الوحيد.
ولكن النصين يعبران في الوقت ذاته عن قيمة خلقية معينة في الوقت الذي تدخل فيه في حياة المجتمع- لا عن طريق الظروف الاقتصادية التي لم تكن تغيرت بعد، ولكن مباشرة، عن طريق النفس- لتحدث تغييره. فنحن إذن أمام مثال مفيد يتيح لنا أن نبحث مشكلة القيمة الخلقية متمثلة في حالة واقعية.
ولنأخذ الآيتين الكريمتين في مجموعهما، على أنهما تشريع لقانون معين، تماماً كما تسن الشرائع الحديثة في زماننا قوانينها.
إن تفسير قانون معين في عصرنا إنما يكون على اعتبار أنه مجرد حدث اجتماعي، أي إن الذي يسنه إنما هو حقائق المجتمع وحدها.
فهل الأمر كذلك بالنسبة للحالة التي ندرسها؟.
ذلك يقتضينا أن ندرس الآيتين اللتين تشرعان (قانون) الموءودة، على أنهما نتيجة للظروف الاقتصادية التي كات تسود المجتمع الجاهلي، تمشياً مع منطق عصرنا في تفسير الأشياء.
لكنا نلاحظ أن هذا التفسير يؤدي بنا تلقائياً إلى تناقض صريح، إذ لا يمكن أن يحمل إثبات واقع اجتماعي معين ونفي هذا الواقع على أسباب واحدة.
فلو قيل إن (الوأد) نشأ في البيئة الجاهلية بتأثير أسباب اقتصادية خاصة بذلك المجتمع، كما تشهد بذلك وثائق العصر، وفي مقدمتها القرآن، فإن من العسر أن ينسب نفي هذا الوأد إلى تأثير العوامل الاقتصادية ذاتها ما دامت لم تتغير.
وإذا كانت الآيتان المذكورتان تعدان من الناحية التاريخية إبطالاً (للوأد) فإننا نجد أنفسنا أمام تناقض صريح إذا ما فسرنا (قانون) الوأد تفسيراً اقتصادياً.
ولقد يؤدينا هذا الموقف إلى أن نفسره تفسيراً نفسياً، حين نعزوه لأسباب تتصل بالتغيير الأخلاقي الذي سبق أو صاحب نزول القرآن في الوسط الجاهلي، ومع ذلك فليس هذا التغيير مقبولاً أيضاً، لأن الذين عاصروا قانون التحريم المذكور قد مارسوا بأنفسهم تلك العادة الأليمة. وحسبنا أن نضيف أن عمر بن الخطاب نفسه كان من بين هؤلاء المعاصرين، حتى يصبح التفسير النفسي التلقائي غير ذي موضوع أو قيمة، شأن التفسير الاقتصادي.
والحق أن عادة وأد البنات كانت ثابتة في عقلية العصر، وأن هذه العقلية في ذاتها لم تتغير عند نزول قانون التحريم، فلقد ذكر مؤلف الأغاني قصة عن جد الفرزدق الشاعر العربي الكبير، الذي لقب (محيي الموءودات) لقاء ما كان يبذله من فضل في هذا السبيل (1).
ولكننا نجد في هذه القصة شهادة غير مباشرة على ما نحن بصدده، فالواقع أنها تضيف أن جد الشاعر الأموي، عندما أقدم على إنقاذ أول ضحية من الموت بأن دفع لأبويها فدية- أراد أن يسوغ لنفسه هذا السلوك فقال:((هذه مكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب))، فلو أننا لمسنا في هذه القولة معناها التاريخي
(1) أورد هذه القصة السيد بشير العوا في كتابه القيم (االأسرة بين الجاهلية والاسلام)[ص:63].
لعلمنا أن شيئاً ما لم يكن قد تغير بعد في الوسط وفي العقلية الجاهلية، فيما يتعلق بمسألة الموءودة إبان نزول قانون التحريم.
وعليه، فإن القيمة الخلقية التي عبر عنها هذا القانون لا يمكن أن تكون على أية حال ثمرة من ثمرات المجتمع الجاهلي.
فلكي نعمم هذه النتيجة ينبغي أن نضع السؤال التالي:
هل يمكن لمجتمع معين أن ينتج قيمه الخلقية؟
وهنا ايضاً يستطيع المجتمع الجاهلي ان يعطينا مثالاً نحتذيه في وضع إجابتنا عن هذا السؤال، إن لم يكن له أن يعطينا مفتاحاً للمشكلة في صورتها العامة.
فالحق أن هذا المجتمع قد شهد وجوه حياته تتغير فجأة بتأثير بعض القيم الخلقية التي شهد مولدها.
وهو إلى جانب ذلك يتيح لنا أن نعقد موازنة بين هذه الحقبة من التغيير وبين ما مضى من تاريخه، وهذا التاريخ يمتد في الواقع أكثر من ألفي عام، أبتداء من الجد الأكبر إسماعيل حتى محمد عليهما الصلاة والسلام.
ولقد أثمر هذا التاريخ الطويل فناً شعبياً غنياً، وخلف تراثاً أدبياً لا نظير له بين آداب الأمم الأخرى. وتلك هي القائمة التاريخية للمجتمع الجاهلي خلال تلك الحقبة من الزمان.
ولو استخدمنا لغة علم الاجتماع لقلنا: إن هذا هو كل ما أثمره المجتمع الجاهلي، كثمرة نشاط استقطب حول (الحاجة) و (المنفعة).
وبذلك نلاحظ أولاً أن هذا المجتمع لم ينتج في جلته كثيراً، ما دام نشاطه قد استقطب على تلك الصورة، أي ما دام لم يخضع إلا لاتجاهات الحياة اليومية وقواعدها.
وفي مقابل ذلك نجده وقد هب فجأة لينتج حضارة رائعة منذ بدأ نشاطه يستقطب حول مجموع من القيم الخلقية التي ولدت في نطاقه، والتي لا يمكن أن نفسر سر تخلقها بما كان فيه من الأوضاع الاقتصادية والنفسية، كما وجدنا ذلك واضحاً في الموءودة.
هذه الاعتبارات لا تقدم لنا حتى الآن الإجابة العامة على السؤال الذي قد وضعناه، وإنما تقدم لنا قرائن قوية تزكيها اعتبارات أخرى.
…
فالزواج مثلاً يعد علاقة اجتماعية جوهرية، وهو من الناحية التاريخية يعد أول عقدة في شبكة العلاقات التي تتيح لمجتمع معين أن يؤدي نشاطه المشترك.
ومع ذلك فمن الواضح أنه لو كان أمر الإنسانية يجري تبعاً (لحاجة) النوع و (منفعته) فحسب، فإن مجرد اختلاط الرجل بالمرأة- كما كانت الحال في العصر الجاهلي- يتفق كثيراً مع القواعد البيولوجية التي يخضع لها النوع، علماً بأن عدد الأفراد ستكاثر حتماً، بفعل ما يطلق عليه (الاتصال في نطاق الحرية الجنسية). ييد أننا نجد أن كل مجتمع معاصر، بما في ذلك المجتمعات التي تخلع على نفسها الصفة (المدنية)، لا يتم فيه اتحاد الجنسين إلا على أساس قيمة خلقية معينة، هي الزواج، الذي يبارك اتحادهما بإشهاره طبقاً لخطة دينية رمزية؛ وبهذا الإشهار يأخذ اتحاد الرجل والمرأة كل معناه الاجتماعي باعتباره عقداً يتفق، لا مع حاجة النوع، بل مع غاية المجتمع.
وهكذا تجري الأمور بصورة عامة فيما يتصل بقضية المجتمع، فإن تنظيمه يجري طبقاً لمقاييس وقواعد، وهي في حقيقتها قيم خلقية لم ينتجها، ولكنها تنظم نشاطه في سبيل غايته.
وكلما حدث إخلال بالقانون الخلقي في مجتمع معين، حدث تمزق في شبكة العلاقات التي تتيح له أن يصنع تاريخه.
بل إن محدثي مثل هذا الإخلال، أولئك الذين يدعون- مثلاً- إلى حرية الأخلاق من أجل التقدم، ليسوا في أعماق نفوسهم سوى أطفال استثارتهم حواسهم، وهم لا يرتابون لحظة فيما يجرونه على المجتمع من أخطار هائلة. فهم يلعبون بحواسهم كما يلعب الأطفال باأعواد الكبريت دون أن يشكوا في أنهم يتركون حيث يلعبون بوادر حريق يلتهم المدينة بأسرها.
***