المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآراء المختلفة في تفسيرالحركة التاريخية - ميلاد مجتمع

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌الآراء المختلفة في تفسيرالحركة التاريخية

‌الآراء المختلفة في تفسير

الحركة التاريخية

هذه الاعتبارات التي أشرنا إليها في الفصل السابق تربط فكرة (المجتمع) بوضع متحرك ذي عناصر ثلاثة:

(أ) حركة مستمرة.

(ب) إنتاج دائم لأسبابها.

(جـ) غايتها.

لكن هذا التخطيط يحبسنا داخل الحلقة المفرغة، حلقة البيضة والدجاجة عندما نريد أن نلهو بتحديد أي منهما كان سبباً في وجود الآخر.

فإذا ما ذهبنا إلى أن ((الحركة هي التي تؤدي إلى أسبابها))، وجدنا انفسنا أمام تعارض ظاهر، فإن تخطيطنا الحركي يعطينا صورة عن المجتمع في حركته، ولكنه لا يفسر الشروط الأولية لهذه الحركه.

وأي وسط (إنساني) ينطوي في الحقيقة على نصيب من الخمود، شأنه في ذلك شأن أي وسط من المادة، ونحن ندل على هذا الخمود في جانب الأفراد بصيغ مختلفة: فنتحدث أحياناً عن الكسل وعن نقص الطاقة، وعن نقص الإرادة .. الخ .. كما أننا ندل عليه في الجانب الجماعي حين نتحدث عن الركود أو الكساد والتخلف .. الخ.

ومعنى هذا أن كل وسط إنساني مندمج في حركته، منتج لأسباب هذه الحركة، ينطوي على عامل أساسي يقهر الخمود الفطري- طبقاً لمبدأ الميكانيكا الكلاسيكي- حين يحيل عناصر الخمود في وسط معين إلى قيم حركية.

ص: 18

لقد فسر كثيرون هذه الظاهرة بصور مختلفة.

فـ (هيجل) يرجع الأسباب التي تحكم كل حركة تاريخية، أعني كل تغيير اجتماعي إلى مبدأ التعارض الذي يتكون من قضية ونقيضها.

فحينما تنشأ الحركة طبقاً لهذه الأسباب المتعارضة، فإن غايتها تتمثل أمامه في صورة اندماج وتركيب محتوم!

فهذه هي الأحوال الثلاث التي تسيطر على كل حركة تاريخية في رأي هيجل، وبالتالي يتلخص فيها كل تغيير اجتماعي.

فالحالة التي توجد فيها جماعة إنسانية في لحظة معينة من تاريخها هي- في رأيه- قضية.

ولكن قد تظهر خلال هذه الحركات أسباب، ذات طابع اقتصادي أو أخلاقي أو مناخي تهدف إلى تعديل اتجاهها. فبتأثير الأفعال وردود الأفعال المتبادلة يصبح الوسط مجالاً لنزعات السكون المتصلة بخموده الفطري، ونزعات الحركة التي تنشئ حالة مناقضة في طريقها إلى الظهور يتكون عنها نقيض القضية.

وفكرة التعارض هذه هي التي تكون في نظر هيجل القوة المحركة التي تخلق الحركة التاريخية، التي من شأنها أن تخلق أسبابها.

والاندماج أو التركيب هو الغاية المنشودة من هذا الكيان كله، ذلك الكيان الذي يجدد دورته تعارض جديد يزلزل التعادل القائم المستقر.

ويعد تفسير فكرة التعارض هذه هو الميدان الذي اختلفت فيه المذاهب الفكرية الحديثة.

فالفكرة الماركسية ترى أن الأسباب المتعارضة التي تؤدي إلى حدوث

ص: 19

التغييرات الاجتماعية ذات طابع اقتصادي: فميلاد المجتمع وشكل الحضارة الذي يتخذه ناشئان عن التعارض الاقتصادي.

ومع ذلك فلو أننا طبقنا على هذه الفكرة مقياسها الاقتصادي الخاص، فستبرز أمام أعيننا حدود امتدادها على الخريطة الاقتصادية للعالم. فإن تأملنا امتداد الفكرة الماركسية باعتبارها ظاهرة اقتصادية، يدلنا على أنها ترسم منطقة اقتصادية، يقع متوسط دخل الفرد السنوي فيها تقريباً بين مئتي دولار وسبع مئة دولار، وهو المستوى الذي وصلت إليه اليابان من ناحية، وإنجلترا من ناحية أخرى.

وبذلك نستطيع أن نقرر- إلى أن يثبت العكس- أن انتشار الفكرة الشيوعية، محدود داخل هذه الحدود الاقتصادية المطابقة لحدود جغرافية معينة، وأن التفكير الماركسي لم يجد وراء هذه الحدود المزدوجة ظروف تأقلمه، فهو بهذه الصورة لا يستطيع أن يقدم لنا تفسيراً معقولاً للمجالات التي لم ينتشر فيها على الخريطة.

بيد أن هذه الملاحظة ذاتها تؤدي بنا ضمنا إلى نظرية (جون ارنولد توينبي)، تلك التي تحدد بدقة مشكلة الحدود التي يمكن أن يتم فيها تغيير اجتماعي معين، وهي بذلك تفسر لنا: لماذا كان مجال انتشار الفكرة الماركسية على خريطة العالم الاقتصادية واقعاً داخل حدود معينة؟

لقد اتبع المؤرخ الإنجليزي الكبير منهجاً، ينطبق في جانب منه على تخطيط هيجل، وذلك حين شبه فكرة التعارض بعقبة ذات طابع اقتصادي أو فني عبر عنها بكلمة (التحدي).

وفي رأيه أن التحدي يتوجه إلى ضمير الفرد أو الجماعة، وتكون مواجهته له

ص: 20

بالقدر الذي تكون عليه أمية الاستفزاز وخطورته، فهناك تناسب بين طبيعة الاستفزاز وبين الموقف الذي يتخذه الضمير في مواجهته.

وعلى هذا فلو افترضنا ان التحدي كان ضعيفاً ضعفاً لم يصل إلى مستوى معين، فإن (الإجابة) عليه ستكون هي أيضاً ضعيفة، وبعبارة أخرى، لا ضرورة لهذه (الإجابة)، وبذلك يفقد التحدي معناه بوصفه عاملاً في إحداث التغيير الاجتماعي.

فهناك إذن حد يبدأ منه ما أطلق عليه توينبي (التحدي المناسب) الذي يستلزم نشوء (إجابة) كافية لتحريك أسباب التغيير.

ثم إن فاعملية الإجابة تنمو متناسبة مع قيمة التحدي، حتى يصل إلى حد معين، فإن استمر في نموه فإنه يصبح منعدم التأثير، لأنه ينصب أمام الضمير استحالة ليس في طوقه أن يحلها. فالإجابة في مثل هذه الحال تصبح عديمة الجدوى.

وهكذا يضع توينبي التغيير الاجتماعي بين حدين، لا يتم خارج نطاقهما، وذلك في حالة شبيهة بالتفريط تنشأ من نقص في التحدي، أو شبيهة بالإفراط تنشأ عن زيادته على قدر معين.

وبهذه الطريقة يفسر المؤرخ الانجليزي الكبير أهم المراحل في التاريخ الإنساني، فهو يذهب إلى أن العلة في بقاء بعض الجماعات الإنسانية في حالة راكدة، لا تكون (مجتمعاً) بالمعنى المقصود من هذه الكلمة، لا تخرج عن أحد احمالين: فإما أن التحدي لم يكن كافياً لدفع طاقتها إلى إجابته، وإما أن هذه الجماعات قد عمدت إلى الفرار من طريقه؛ ثم إنه يسوق لنا أمثلة على ذلك حين يحدثنا عن الشعوب التي هاجرت إلى أعالي النيل إبان العصر الحجري الجديد، فلم تستطع أن تحدث تغييراً ذا بال في شرائط حياتها منذ ذلك الحين، لأنها قد عمدت

ص: 21

إلى الفرار من قسوة التحدي، أما إخوانهم الذين كانوا يعيشون في الوادي المنخفض فقد آثروا مواجهة التحدي، الذي واجهتهم به الطبيعة والمناخ فغيروا بذلك شرائط حياتهم تغييراً تاماً، ونجحوا في إقامة أول مجتمع متحضر شهده التاريخ.

كذلك يورد المؤرخ الإنجليزي حالة الأسكيمو، الذين يعدون اليوم نموذجاً للجماعة الإنسانية التي لا تغير شرائط وجودها، لأن تحدي الطبيعة لها- وقد أربى على إمكانياتها وقواها- جمدها في شكل من أشكال الحياة الساكنة.

وبهذه الأمثلة يرينا توينبي كيف أن نقص التحدي أو زيادته وعنفه يؤثران بصورة واحدة على قوى التاريخ الإنساني.

ونحن يمكننا إلى حد ما أن نصوغ هذا الرأي الذي ذهب إليه المؤرخ صياغة جديدة في ضوء القرآن الكريم، لقد نستطيع- ما دمنا لم نصل بهذه الطريقة إلى تفسير واضح لمنشأ الحركة التي ولدت المجتمع الإسلامي وغايته التاريخية- أن نفسّر هذه الحركة بالعوامل النفسية التي حفزت القوة الروحية في هذا المجتمع، أعني شروط حركته عبر القرون.

والواقع أن القرآن قد وضع الضمير المسلم بين حدين هما: الوعد والوعيد، ومعنى ذلك أنه قد وضعه في أنسب الظروف التي يتسنى له فيها أن يجيب على تحدٍّ روحي في أساسه.

فالوعيد هو الحد الأدنى الذي لا يوجد دونه جهد مؤثر، والوعد هو الحد الأعلى الذي يصبح الجهد من ورائه مستحيلاً، وذلك حين تطغى قساوة التحدي على القوة الروحية التي منحها الإنسان.

وبذلك نجد أن الضمير المسلم قد وضع بين حدي العمل المؤثر، وهما الحدان اللذان ينطبقاًن على مفهوم الآيتين الكريمتين:

ص: 22

(أ){فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 7/ 99].

(ب){إنه لا ييئس إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 12/ 87].

وبين هذين الحدين تقف القوة الروحية متناسبة مع الجهد الفعال، الذي يبذله مجتمع يعمل طبقاً لأوامر رسالة، أعني طبقاً لغايته.

في هذه الحالة الروحية صبر بلال رضي الله عنه على ما كان يلقاه من عذاب ومحن، فوجدناه وهو في قمة المحنة يرفع إصبعه وهو يكرر إجابته على تحدي قريش: ((أحد

أحد .. ))، ولم تستطع قوة في الأرض، وما كان لها أن تستطيع أن تخفض إصبعه، إذ أن روحه، في اللحظة التي كانوا يصبون فيها العذاب على بدنه كانت منغمرة في فيض نوراني لا يوصف، هو (وعد) الحق.

وقصة المرأة التي طلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم إقامة حد الزنا عليها تبرز لنا قيمة الوعيد في توجيه الطاقات النفسية في حالة معينة.

وربما أفدنا من هذه القصة ومن سابقتها، كيف تكون الحركة التاريخية التي تقع بين حدي- الوعد والوعيد- هادفة إلى ما هو أعلى، محلقة فوق ما هو أدنى.

فالقوة الروحية التي تتطابق مع العمل المثمر الفعال تقع إذن بين حالين من أحوال النفس، لا يوجد وراءها إلا الخمول والرخاوة في جانب، واليأس والعجز في جانب آخر.

وإن القرآن الكريم ليعرض لنا صورة أخاذة لهذين الحدين اللذين يضمان العمل المثمر في قوله تعالى:

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 11/ 9 و10].

ص: 23