المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الأذان كيف هو - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٣

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: الأذان كيف هو

‌ص: باب: الأذان كيف هو

ش: أي هذا باب في بيان كيفية الأذان، وقدّمه على الأوقات لأنه إعلام، وتلك أَعلام؛ فقدم الإِعلام لِتلك الأَعلام، وهو اسم للتأذين، من آَذَنَ يُؤْذِنُ إيذانًا، وأَذَّنَ يؤذِّن تأذينًا، والمشدد مخصوص في الاستعمال بإعلام وقت الصلاة.

ومعناه الشرعي: إعلام مخصوص في أوقات مخصوصة، وسببه دخول وقت المكتوبة، وفي السنة الأولى من الهجرة شُرع الأذان، ويقال: وفي السنة الثانية من الهجرة، رأى عبد الله بن زيد بن عبد ربّه الأنصاريّ صورة الأذان في النوم، وورد الوحي به، وروى السهيلي بسنده من طريق البزار، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فذكر حديث الإسراء، وفيه:"فخرج ملك من وراء الحجاب، فَأّذَّن بهذا الأذان، وكلما قال كلمة صدقه الله تعالى ثم أخذ الملك بيد محمد عليه السلام فقدّمه فأمّ بأهل السماء وفيهم آدم ونوح عليهم السلام" ثم قال السهيلي: وأخلق بهذا الحديث أن يكون صحيحًا لما يعضده ويشاكله من حديث الإسراء. وقال ابن كثير: فهذا الحديث ليس كما زعم السهيلي أنه صحيح بل هو منكر تفّرد به زيادُ بن المنذر أبو الجارود، الذي تنسب إليه الفرقة الجارودية، وهو من المتهمين، ثم لو كان هذا قد سمعه رسول الله عليه السلام ليلة الإسراء لأوشك أن يأمر به بعد الهجرة في الدعوة إلى الصلاة.

ص: حدثنا عليّ بن معبد بن نوح وعلي بن شيبة بن الصلت، قالا: ثنا روح ابن عُبادة القيسي (ح).

وحدثنا أبو بكرة بكار بن قتيبة، قال: ثنا أبو عاصم النبيل، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عثمان بن السائب. قال: أبو عاصم في حديثه: أخبرني أبي وأم عبد الملك [بن أبي محذورة -يعني عن أبي محذورة- قال روح في حديثه: عن أم عبد الملك بن أبي محذورة](1) عن أبي محذورة قال: "علّمني

(1) ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 11

رسول الله عليه السلام الأذان كما تؤذنون الآن: الله كبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن لا إله الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، الله كبر، الله كبر، لا إله إلا الله".

قال روح في حديثه: أخبرني عثمان هذا الخبر كله عن أم عبد الملك بن أبي محذورة أنها سمعت ذلك من أبي محذورة.

وقال أبو عاصم في حديثه: وأخبرني هذا الخبر كله عثمان بن السائب عن أبيه، وعن أم عبد الملك بن أبي محذورة أنهما سمعا ذلك من أبي محذورة.

حدثنا عليُّ وعليُّ قالا: ثنا روح، قال: نا ابن جريج، قال: أخبرني عبد العزيز ابن عبد الملك بن أبي محذورة، أن عبد الله بن مُحيْريز حدثه -وكان يتيمًا في حجر أبي محذورة- قال: أخبرني أبو محذورة: "أن رسول الله عليه السلام قال له: قم فأذِن بالصلاة، فقمت بين يَدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألْقيَ عَليّ التأذين هو بنفسه

" ثم ذكر مثل التأذين الأول في الحديث الأول.

ش: هذه ثلاث طرق:

الأول: عن علي بن مَعبد بن نوح المصري الصغير، وثقه العجلي وابن حبان.

وعلي بن شيبة الصلت السدُوسي المصري وكلاهما نزيلان في العصر، بغداديان في الأصل، يَرْويان عن رَوْح بن عبادة بن العلاء القيسي البصري، روى له الجماعة.

وهو يروي عن عبد الملك بن جريج المكي، روى له الجماعة.

عن عثمان بن السائب الجمحي المكي مولى أبي محذورة، وثقه ابن حبان.

عن أم عبد الملك، ذكرها في "الميزان" فيمن لم تُسمّ، وقال: تفردّ عنها عثمان ابن السائب.

ص: 12

وهي تروي عن أبي محذورة القرشي المكي المؤذن الصحابي، واختلف في اسمه واسم أبيه ونسبه، فقيل اسمه أوس. وقيل: سمرة. وقيل: سلمة. وقيل: سلمان. واسم أبيه مِعْيَر -بكسر الميم وسكون العن وفتح الياء آخر الحروف وفي آخره راء- وقال أبو عمر: قد ضبطه بعضهم مُعَيَّن -بضم الميم وتشديد الياء وفي آخره نون-.

وقيل: عمير بن لَوْدان بن وهب بن سَعْد بن جمح، وقيل غير ذلك.

وأخرجه البيهقي (1) بأتم منه من حديث روح بن عبادة قال: قال ابن جريج: أخبرني عثمان بن السائب، عن أم عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبي محذورة قال: "لما رجع رسول الله عليه السلام من حنين، خرجتُ عاشر عشرة من مكة أَطْلُبهم، فسمعتهم يؤذنون [للصلاة](2) فقمنا نؤذن ونستهزئ بهم، فقام النبي عليه السلام فقال: لقد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت، فأرسل إلينا فأذَّنَّا رجالًا رجالًا، فكنت آخرهم، فقال حين أذنت: تعال، فأجلسني بين يديه، فمسح على ناصيتي وبارك عليّ ثلاث مرات، ثم قال: اذهب فأَذِّن عند البيت الحرام. قلت: كيف يا رسول الله عليه السلام؟ فعلّمني الأذان كما يؤذن الآن بها: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم -في الأولى من الصبح- الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.

وعلمني الإقامة مرتين مرتين: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله". قال ابن جريج: أخبرني هذا كله عثمان عن أم عبد الملك أنها سمعت ذلك من أبي محذورة، كذا رواه رَوْحٌ.

(1)"السنن الكبرى"(1/ 417 رقم 1824).

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن البيهقي".

ص: 13

الطريق الثانى: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الملك بن جريج، عن عثمان بن السائب.

عن أبيه السائب، وثقه ابن حبان وذكره ابن أبي حاتم فقال: سائب والد عثمان غير منسوب، روى عنه ابنه عثمان، وسكت عنه.

وعثمان هذا روى هذا الحديث في رواية أبي عاصم النبيل عن أبيه السائب وعن أم عبد الملك، كلاهما يَرويان عن أبي محذورة.

الطريق الثالث: عن علي بن معبد وعلي بن شيبة، وكلاهما عن روح بن عبادة، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة، عن عبد الله بن محيريز المكي يتيم أبي محذورة، عن أبي محذورة

إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (1): نا محمَّد بن بشار، نا أبو عاصم، نا ابن جريج، أخبرني ابن عبد الملك بن أبي محذورة -يعني عبد العزيز- عن ابن محيريز، عن أبي محذورة قال:"ألقي عليَّ رسول الله عليه السلام التأذين هو بنفسه، فقال: قل: الله أكبر الله أكبر (2)، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيّ على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".

وأخرج مسلم (3) أيضًا: عن ابن محيريز وفيه التكبير مرتان في أوله والترجيع أيضًا، وقال: حدثني أبو غسان المِسْمَعي مالك بن عبد الواحد وإسحاق بن إبراهيم -قال أبو غسان: ثنا معاذ، وقال إسحاق: أنا معاذ بن هشام صاحب الدستوائي- قال: حدثني أبي، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن عبد الله بن محيريز، عن أبي محذورة: "أن نبي الله عليه السلام علمه هذا الأذان: الله أكبر الله أكبر،

(1)"سنن أبي داود"(1/ 137 رقم 503).

(2)

كذا "بالأصل، ك" مرتين، وفي "سنن أبي داود" النسخة المطبوعة بتكرار التكبير أربع مرات.

(3)

"صحيح مسلم"(1/ 287 رقم 379).

ص: 14

أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة -مرتين- حي على الفلاح -مرتين-" زاد إسحاق:"الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".

قوله: "الله أكبر" أي أكبر من كل شيء، وقد عرف أن أفعل التفضيل لا تستعمل إلا بأحد الأشياء الثلاثة: الألف واللام، والإضافة، ومن. وقد يُستعمل مجردًا عنها إذا قامت القرينة كقوله تعالى:{فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (1) أي أخفى من السر، ومنه قوله: الله أكبر.

قوله: "أشهد أن لا إله إلا الله " أصله "أنه" فـ"أن" مخففة من المثقلة و"إِلَّا" بمعنى غير، وأشهد من الشهود وهو الحضور في اللغة، ومعناه هنا من الشهادة، وهي خبر قاطع تقول منه: شهد الرجل على كذا، أي قولهم: أَشْهد بكذا، أي أحلف، والمعنى أخبر قطعًا وجزمًا بأنه لا إله في الوجود غير الله.

وكذا معنى قوله: "أشهد أن محمدًا رسول الله" أخبر قطعًا وجزمًا بأن محمدًا رسول الله مرسل من عند الله تعالى.

قوله: "حي على الصلاة" أي أسرعوا إليها وهلمّوا وأقبلوا وتَعَالَوا، وهو اسم لفعل الأمر، وفتحت الياء لسكونها وسكون ما قبلها، كما قيل: ليتَ ولعلَّ، والعرب تقول: حي على الثريد، و"الفلاح" النجاة.

ص: فذهب قوم إلى هذا فقالوا: هكذا ينبغى أن يؤذن.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: محمَّد بن سيرين، والحسن البصري، ومالكًا، وأهل المدينة؛ فإنهم ذهبوا إلى الحديث المذكور وقالوا: ينبغي أن يؤذن هكذا يعني التكبير في أوله مرتين.

(1) سورة طه، آية:[7]، ووقع في "الأصل، ك": الله يعلم

ص: 15

ص: وخالفهم في ذلك آخرون في موضعين من ذلك: أحدهما ابتداء الأذان، فقالوا: ينبغي أن يقال في أول الأذان: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جماهير الفقهاء، وأبا حنيفة والشافعي وأحمد وأصحابهم؛ فإنهم خالفوا هؤلاء في موضعين:

الأول: في ابتداء الأذان، فإن عندهم ابتداء الأذان: الله أكبر، أربع مرات.

قال أبو عمر: علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا محذورة الأذان بمكة عام حنين، فروي عنه فيه تربيع التكبير في أوله، ورُوي عنه فيه تثنيته، والتربيع فيه من رواية الثقات الحفاظ، وهي زيادة يجب قبولها، والعمل عندهم بمكة في آل محذورة بذلك إلى زماننا، وهو في حديث عبد الله بن زيد في قصة المنام، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد.

وقال ابن حزم في "المحلى": وأحب الأذان إلينا أذان أهل مكة وهو: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أربع مرات

إلى آخره، وذكر فيه الترجيح.

وأذان المدينة كما وصفنا إلا أنه لا يقول في أول أذانه: الله أكبر الله أكبر إلا مرتين فقط، وأذان أهل الكوفة كأذان أهل مكة إلا أنهم لا يرجعون، وإن أذن مؤذن أذان أهل المدينة أو بأذان أهل الكوفة فحسن.

وأما الموضع الثانى: فإن الآخرين افترقوا فرقتين: فرقة خالفوا القوم الأولين، وقالوا: لا ترجيع فيه. وهم أبو حنيفة وأصحابه.

وفرقة وافقوهم في الترجيح فقط، وهم الشافعي وأحمد وأصحابهم، على ما يأتي إن شاء الله.

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة وعلي بن عبد الرحمن بن محمَّد بن المغيرة -واللفظ لأبي بكرة- قالا: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا همام بن يحيى، قال: ثنا عامر الأحول، قال: ثنا مكحول، أن عبد الله بن محيريز حدثه، أن أبا محذورة حدثه: "أن النبي عليه السلام علمه الأذان تسع عشرة كلمة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر

" ثم ذكر بقية الأذان على ما في الحديث الأول.

ص: 16

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا موسى بن داود، قال: نا همام (ح).

وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: نا محمَّد بن سنان العَوَقي، قال: نا همام (ح).

وحدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: نا أبو الوليد الطيالسي وأبو عمر الحَوْضِي، قالا: نا همام

ثم ذكروا مثله بإسناده.

ش: أي احتج الآخرون في قولهم إن التكبير في أول الأذان أربع مرات بحديث أبي محذورة أيضًا.

وأخرجه من أربع طرق صحاح:

الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، وعلي بن عبد الرحمن المعروف بِعَلَّان، كلاهما عن عفان بن مسلم الصفار، عن همام بن يحيى البصريّ، عن عامر بن عبد الواحد الأحول البصري، عن مكحول بن زيد الدمشقي، عن عبد الله بن محيريز

إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا الحسن بن [علي](2)، نا عفان وسعيد بن عامر والحجاج -والمعنى واحد- قال عفان: نا همام، نا عامر الأحول، حدثني مكحول، أن ابن محيريز حدثه، أن أبا محذورة حدثه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسعة عشرة كلمة، والإقامة سبعة عشرة كلمة".

الأذان: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 137 رقم 502).

(2)

في "الأصل، ك": مسلم، وهو خطأ أو تحريف، والمثبت من "سنن أبي داود"، و"تحفة الأشراف"(9/ 285 رقم 12169).

ص: 17

والإقامة: الله كبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدَّاَ رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".

كذا في كتابه في حديث أبي محذورة، ويستفاد منه ثلاثة أحكام:

الأول: أن التكبير في أول الأذان أربع مرات وهو حجة للجمهور، خلافًا لمالك وأهل المدينة.

والثاني: فيه الترجيع، وهو حجة للشافعي ومالك وأحمد.

والثالث: فيه الإقامة مثنى مثنى، وهو حجة أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله.

الثانى: عن علي بن معبد، عن موسى بن داود بن عبد الله الضبيّ قاضي طرسوس ومصيصة الثقة المصنف، عن همام بن يحيى، عن عامر الأحول، عن مكحول عن عبد الله بن محيريز، عن أبي محذورة.

وأخرجه النسائي (1): أنا سُوَيْد بن نَصْر، قال: أنا عبد الله، عن همام بن يحيى، عن عمار بن عبد الواحد، قال: ثنا مكحول، عن عبد الله بن محيريز، عن أبي محذورة، أن رسول الله عليه السلام قال:"الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة، ثم عَدَّها أبو محذورة تسع عشرة، وسَبع عشرة".

الثالث: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد البصري، عن محمَّد بن سنان العَوَقي -بفتح العين والواو، وبالقاف- أحد مشايخ البخاري، عن همام، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن ابن محيريز، عن أبي محذورة.

وأخرجه ابن ماجه (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عفان، نا همام بن يحيى، عن عامر الأحول، أن مكحولًا حدثه، أن عبد الله بن محيريز حدثه، أن أبا محذورة

(1)"المجتبى"(2/ 4 رقم 630).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1/ 235 رقم 709).

ص: 18

حدثه، قال: "علمني رسول الله عليه السلام الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة، الأذان: الله أكبر الله أكبر

إلى آخره".

الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، وعن أبي عمر حفص بن عمر بن الحارث النَّمُري الحَوْضي، أحد مشايخ البخاري، كلاهما عن همام، عن عامر، عن مكحول، عن ابن محيريز، عن أبي محذورة

نحوه.

وأخرجه الدارمي في "سننه"(1) وقال: أنا أبو الوليد الطيالسي وحجاج بن المنهال، قالا: نا حماد، نا همام، نا عامر الأحول- قال حجاج في حديثه: عامر بن عبد الواحد- قال: حدثني مكحول، أن ابن محيريز حدثه، أن أبا محذورة، حدثه:"أن رسول الله عليه السلام علمه الأذان تسعة عشر كلمة، والإقامة سبعة عشر كلمة".

ص: قال أبو جعفر: ففيم هذا الأثر أنه يقول في أول الأذان: الله أكبر -أربع مرات- وكان هذا القول عندنا هو أصح القولين في النظر؛ لأنَّا رأينا الأذان منه ما يُردّد في موضعين، ومنه ما لا يُردّد إنما يذكر في موضع واحد، فأما ما يذكر في موضع واحد ولا يردد فالصلاة والفلاح، فذلك يُنادَى بكل واحد منه مرتين.

والشهادة تُذكر في موضعين في أول الأذان وفي آخره، فتُثَنّى في أوله، فيقال: أشهد أن لا إله إلا الله -مرتين- ثم تفرد في آخره فيقال: لا إله إلا الله ولا يثنى ذلك.

فكان ما يُثنى من الأذان إنما هو على نصف ما هو عليه في الأول منه، وكان التكبير في موضعين في أول الأذان وبعد الفلاح فاجمَعُوا أنه بعد الفلاح يقول: الله أكبر الله أكبر، فبالنظر على ما وصفنا أن يكون ما اختلف فيه مما يُبتدأ [به](2) الأذان

(1)"سنن الدارمي"(1/ 292 رقم 1197).

(2)

من "شرح معاني الآثار"(1/ 131).

ص: 19

من التكبير أن يكون مِثْلَي ما يثنى به؛ قياسًا ونظرًا على ما [بَيَّنَّا](1) من الشهادة أن لا إله إلا الله، فيكون ما يُبْتَدأ به الأذان من التكبير على ضِعْف ما يثنى به من التكبير، فإذا كان الذي يثنى هو: الله كبر، كان الذي يبتدأ به هو ضعفه الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، فهذا هو النظر الصحيح عندنا، والله أعلم.

وهو قول أبي حنيفة وأي يوسف ومحمد رحمهم الله، غير أن أبا يوسف قد روي عنه أيضًا في ذلك مثل القول الأول.

ش: أي ففي الأثر الذي رواه عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة أن المؤذن يقول في أول الأذان: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر -أربع مرات- وهذا القول هو أصح من القول الذي يقول فيه المؤذن: الله أكبر الله أكبر -مرتين- في النظر والقياس، وهذا كما رأيت ترجيع الطحاوي الرواية التي فيها التكبير من أول الأذان أربع مرات، على الرواية التي فيها التكبير مرتين، بما يقتضيه وجه النظر والقياس، وغيره رجح بأن هذه زيادة من الحفاظ الثقات (فيجب بها العمل) (2) وأما بيان وجه النظر فنقول: إن ألفاظ الأذان على أنواع:

الأول: يذكر في موضع واحد ويكرر فيه ثم لا يردد، نحو لفظه الصلاة والفلاح، فإن كلا منهما يذكر مرتين في موضع واحد، فهذا في نفسه متكرر ولكن موضعه متحد.

الثاني: ما يذكر في موضعين فيُكررّ في موضع ويردد في موضع، نحو لفظ الشهادة، فإن يُكرر في أول الأذان حيث يقال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله -مرتين- ويفرد في آخره حيث يقال: لا إله إلا الله -مرة واحد-.

الثالث: ما يذكر في موضعين أيضًا ولكن يُكرر فيهما جميعًا نحو لفظ التكبير، فإنه يذكر في أول الأذان مكررًا، وبعد قوله: حي على الفلاح مكررًا، وهذا القسم

(1) في "الأصل، ك": بنينا، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

(2)

كذا في "الأصل، ك".

ص: 20

هو المتنازع فيه ولكنهم أجمعوا على أنه بعد الفلاح مكرر يقال مرتين: الله أكبر الله أكبر، فبالنظر والقياس ينبغي أن يقال في أول الأذان: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر -أربع مرات- وذلك لأن ما كُرر منه في موضع نحو لفظ الشهادة؛ الذي يُكرر في أول الأذان يكون في الأخير على نصف ما هو عليه في الأول، حيث يقال: لا إله إلا الله مرةً واحدةً، فبالنظر على ذلك ينبغي أن يكون التكبير الذي في الأذان الذي اختلف فيه مثلي ما يثنى به في الأخير على نصف ما هو عليه في الأول كما في لفظ الشهادة، ولو لم يجعل لفظ التكبير في الأول أربع مرات لم يكن التكبير الذي في آخره على النصف منه، فحيمئذ يكون التكبير الذي يُبتدأ به الأذان على ضِعْف ما يُثنَّى به من التكبير في الأخير.

فإذا كان الذي يثنى في الأخير: الله أكبر الله أكبر مَرّتين كان الذي يبُدأ به ضِعفه الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر -أربع مرات- فهذا هو النظر الصحيح، فافهم فإنه دقيق.

ص: والموضع الذي اختلفوا فيه منه هو التَرْجيع، فذهب قوم إلى الترجيع.

ش: هذا هو الموضع الثاني من الموضعين اللذين ذكرهما فيما سلَف بقوله: "وخالفهم في ذلك آخرون في موضعين". وقد قلنا: إن الذين خالفوا أهل المقالة الأولى افترقوا فرقتين: فرقة ذهبت إلى الترجيع بظاهر الأحاديث المذكورة، وأشار إلى، ذلك بقوله:"فذهب قوم إلى الترجيع" وأراد بهم: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور وآخرون؛ فإنهم قالوا: لا بد من الترجيع وهو أن يرجّع فيرفع صوته بالشهادتين بعد أن خفض بهما.

ص: وتركه آخرون.

ش: أي وترك الترجيح جماعة آخرون وأراد بهم: أبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، وزفر، وأهل الكوفة؛ فإنهم قالوا: ليس في الأذان ترجيع.

ص: 21

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: نا عبد الله بن داود الخرَيبي، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أن عبد الله بن زيد الأنصاريّ رضي الله عنه رأى رجلًا نزل من السماء عليه ثوبان أخضران -أو بُرْدان أخضران- فقامَ على جِذْمِ حائط، فنادى: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر

" - فذكر الأذان على ما في حديث أبي محذورة، غير أنه لم يذكر الترجيح، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له: "نِعْمَ ما رأيتَ، عَلِّمْها بلالًا".

ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه من ترك الترجيح، بحديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه.

ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق، ولكن الحديث مرسل؛ لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يَسْمع من عبد الله بن زيد الأنصاري قاله الترمذي وغيره.

والخُرَيْبيِ -بضم الخاء المعجمة وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف بعدها باء موحدة-: نسْبة إلى الخَرَيْبَة محلة بالبصرة، كان عبد الله بن داود يسكن فيها، وهو أحد الأئمة الحنفية، وكان ثقة عابدًا ناسكًا، روى له الجماعة.

والأعمش هو سليمان بن مهران.

وأخرجه أبو داود (1) بأتمّ منه، نا عمرو بن مرزوق، أنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت ابن أبي ليلى.

ونا ابن المثنى، نا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى قال: "أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال: قال: ونا أصحابنا، أن رسول الله عليه السلام قال: لقد أعجبني أن تكون صلاة المسلمين أو المؤمنين واحدة، حتى لقد هممت أن أبت رجالًا في الدور يُنادون الناس بحين الصلاة وحتى هممت أن آمُر رجالًا يقومون على الآطام يُنادون المسلمين بحين الصلاة، حتى نقسوا أو كادَوا أن يَنقسوا، قال: فجاء رجال من الأنصار، فقال: يا رسول الله، إني لما رجعت -لما

(1)"سنن أبي داود"(1/ 138 رقم 506).

ص: 22

رأيت من اهتمامك- رأيتُ رجلًا" كأن عليه ثوبين أخضرين، فقام على المسجد فأذن، ثم قَعَد قعدةً ثم قام فقال مثلها إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة، ولولا أن يقول الناس- قال ابن المثنى أن تقولوا- لقلت: إني كنت يقظانًا غير نائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقال ابن المثنى-: لقد أراك الله خيرًا- ولم يَقل عمروٌ: لقدْ- فَمُرْ بلالًا فليؤذن، قال: فقال عمر رضي الله عنه: أما إني قد رأيت مثل الذي رأى، ولكني لما سُبِقْتُ استَحْسَنْتُ الحديث".

وأخرجه الطبراني في "الكبير" نا عيسى بن محمَّد السمسار الواسطي، نا وهب ابن بقية، نا خالد، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال:"اهتمّ رسول الله عليه السلام بالأذان حتى همّ أن يَنْقُس، فبينما هو كذلك إذْ جاءه عبد الله بن زيد، قال: يا رسول الله، لولا أني أتهم نفسي لحدثتك أني كنت مستيقظا رأيت رجلًا عليه ثوبان أخضران، قائم على سقف المسجد، ثم نادى بالصلاة الله أكبر الله أكبر، مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، ثم قعد قعدة، ثم قال مثل ما قال، غير أنه قال في آخر ذلك: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، فقال: قم فادْع إليك بلالًا فليرفع بها صوته، فألقاها عليه، ثم رفع بها بلالًا صوتَه، فجاء المسلمون سراعًا لا يَروْن إلا أنه فزعًا، ثم جاء عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، والله لولا أن عبد الله بن زيد سبقني لحدثتك أنه طاف بي ما طاف به".

قوله: "بُرْدان" تثنية برد، وهو نوع من الثياب معروف، والجمع أبراد وبُرُود، والبردة: الشملة المخططة، وقيل: كساء أسود مربع فيه صغر تلبَسه الأعراب، وجمعها بُرُد.

قوله: "حِذْم حائط" بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة، وهو أصل الحائط، وأراد به بقية حائط أو قطعة حائط.

ص: 23

قوله: "لقد هممت" من هممت بالشيء أهِمُّه همًّا إذا أردته.

ومعنى "أبث" أُفَرِّق، من البَثّ، وهو النشْر.

قوله: "في الدور" أي في القبائل.

قوله: "بحين الصلاة" أي بوقتها.

قوله: "على الآطام" جمع أُطُم -بضم الهمزة والطاء-: وهو بناء مرتفع، وآطام المدينة: أبنيتها المرتفعة، وفي الصحاح: الأُطُم مثل الأجُمُ يخفف ويثقل، والجمع آطام، وهي حصون لأهل المدينة، والواحدة: أَطَمَة، مثل: أَكَمَة. انتهى.

ويقال: الآطام جمع إِطام -بكسر الهمزة-: وهو ما ارتفع من البناء.

قوله: "حتى نقَسوا" -فتح القاف- من النَقْس: وهو الضرب بالناقوس، وهي خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها، والنصاري يُعلمُون بها أوقات صلواتهم.

وقال ابن الأعرابيّ: الناقوس يُنظر فيه، أعربيٌّ أم لا؟

قلت: النَقْس هو الضرب بالناقوس يدل على أنه عربي، وزنه فاعول كقَابُوس البَحر، فيكون الألف والواو فيه زائدين.

قوله: "أو كادوا أن يَنْقُسوا" بضم القاف لأنه من نقس يَنْقُس، من باب نَصَرَ يَنْصُر.

وهو شك من الراوي، والمعنى: أو قَرُبوا من نَقْس الناقوس؛ لأن "كاد" من أفعال المقاربة.

قوله: "كان عليه ثوبين أخضرين" وقع كذا في رواية أبي داود، ووقع في رواية غيره:"كان عليه ثوبان أخضران" وهو القياس؛ لأن ثوبان فاعل "كان" وهو اسمه، فيكون مرفوعًا وخبره قوله:"عليه" ووجه رواية أبي داود -إن صحت-: أن تكون "كان" زائدة، وهي التي لا تخل بالمعنى الأصلي، ولا تعمل في شيء أصلًا، ويكون نصب "ثوبين" بالفعل المقدر، والتقدير، رأيت رجلًا، ورأيت عليه ثوبين أخضرين، فقوله:"رأيت" يكون دَالًّا على "رأيت" الثاني المقدر.

ص: 24

قوله: "ثم قعد قعدة" بفتح القاف.

قوله: "أما إني"، بفتح الهمزة في "أما" وكسرها في "إني".

قوله: "لما سُبقت" على صيغة المجهول، فافهم.

ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: نا يحيى بن يحيى النيسابوري، قال: نا وكيع، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: حدثني أصحاب محمَّد: "أن عبد الله بن زيد الأنصاري رضي الله عنه رأى الأذان في المنام، فأتى النبي عليه السلام فأخبره، فقال: علّمه بلالًا، فأذن مثنى مثنى".

ش: هذا طريق آخر، وهو متصل صحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): حدثني وكيع، قال: نا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ثنا أصحاب محمَّد عليه السلام:"أن عبد الله بن زيد الأنصاري جاء إلى النبي عليه السلام فقال: يا رسول الله عليه السلام رأيت في المنام كأن رجلًا قام وعليه بردان أخضران على خذْمة حائط، فأذن مثنى مثنى، وأقام مثنى، وقعد قعدة. قال: فسمع ذلك بلال رضي الله عنه، فأذن مثنى، وأقام مثنى، وقعد قعدة".

ويستفاد منه أحكام:

الأول: أن الأذان ليس فيه ترجيع، وهو حجة على مَنْ رآه.

الثاني: أن الإقامة مثنى مثنى وهو حجة على من يقول الإقامة فرادى.

والثالث: استحباب الفصل بين الإقامة والشروع في الصلاة، وكذا بين الأذان والإقامة.

الرابع: استحباب اتخاذ المؤذن الذي صوته طيب عالي؛ لأنه عليه السلام إنما قال لعبد الله: "علمه بلالًا"؛ لكونه حسن الصوت وعَالِيَه.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 185 رقم 2118).

ص: 25

ص: قال أبو جعفر: فهذا عبد الله بن زيد لم يذكر في حديثه الترجيع، فقد خالف أبا محذورة في الترجيع في الأذان، فاحتمل أن يكون الترجيع الذي حكاه أبو محذورة إنما كان لأن أبا محذورة لم يَمدّ بذلك صوته على ما أراد النبى عليه السلام منه، فقال له النبي عليه السلام: ارجعْ وامدُده صوتك، وهكذا اللفظ بهذا الحديث الذي ذكر فيه، فلما احتمل ذلك وجب النظر؛ لنستخرج من القولين قولًا صحيحًا، فرأينا ما سوى ما اختلفوا فيه من الشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله لا ترجيعَ فيه، فالنظر على ذلك أن يكون ما اختلفوا فيه من ذلك معطوفًا على ما أجمعوا عليه منه، ويكون إجماعهم أن لا ترجيع في سائر الأذان غير الشهادة يَقْضِي على اختلافهم في الترجيع في الشهادة، وهذا الذي وصفنا وما بيّناه من نفي الترجيع؛ قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله.

ش: لما لم يُذكَر الترجيع في حديث عبد الله بن زيد، خالف ذلك حديث أبي محذورة المذكور فيه الترجيع، والأصل في مثل هذا التوفيق بينهما، وأشار إلى التوفيق بقوله: "فاحتمل أن يكون

" إلى آخره، وهو ظاهر.

وقوله: "وهكذا اللفظ بهذا الحديث الذي ذكر فيه" أراد أن لفظ الحديث الذي فيه الترجيع: "ارجع وامدُد صوتك" على ما رواه أبو داود، وقال: نا محمَّد بن بشار، نا أبو عاصم، نا ابن جريج، أخبرني ابن عبد الملك بن أبي محذور -يعني عبد العزيز- عن ابن محيريز، عن أبي محذورة، قال:"ألقي عليّ رسول الله عليه السلام التأذين هو بنفسه فقال: قل: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم قال: ارجعْ فمُدْ من صَوْتك: أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله" انتهى.

ص: 26

وقال صاحب "البدائع"(1): الترجيع كان في ابتداء الإِسلام، فإنه روي أنه لما أذّن وكان حديث العهد بالإِسلام قال: الله أكبر الله أكبر أربع مرات بصوتين ومَدّ صوته، فلما بلغ إلى الشهادتين خفض بهما صوته، فقال بعضهم: إنما فعل ذلك مخافة الكفار، وبعضهم قال: إنه جهوريّ الصوت وكان في الجاهلية يجهر بسَبِّ رسول الله عليه السلام، فلما بلغ إلى الشهادتين استحيى، وخفض بهما صوته، فدعاه رسول الله عليه السلام وعرك أذنه، وقال: ارجع وقل: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله ومُدّ بهما صوتك غيظًا للكفار.

وقال شمس الأئمة في "مبسوطه"(2): وأما حديث أبي محذورة فإنه عليه السلام أمر بالتكرار حالة التعليم ليحسن تعلمه، وهو كان عادته فيما يُعلّم أصحابَه، فظنّ أنه أمر بالترجيع وحديث عبد الله بن زيد هو الأصل وليس فيه ترجيع، ولأن المقصود من الأذان قوله: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، ولا ترجيع في هاتين الكلمتين، ففيما سواهما أولى.

قلت: أخذ هذا من قول الطحاوي "فرأينا ما سوى ما اختلفوا فيه من الشهادة

" إلى آخره.

قوله: "معطوفًا على ما أجمعوا" أي مصروفًا عليه موجهًا إليه.

قوله: "منه" أي من الأذان.

قوله: "يقضي" خبر لقوله: "ويكون إجماعهم" فافهم.

فإن قيل: كيف يقال: حديث عبد الله بن زيد هو الأصل؛ بل الأصل حديث أبي محذورة؛ فإن فيه تعليم النبي عليه السلام بنفسه وفيه الترجيح؟

(1)"بدائع الصنائع"(1/ 148).

(2)

"المبسوط"(1/ 128).

ص: 27

قلت: قد روي عن أبي محذورة أيضًا ما ليس فيه الترجيح وهو ما رواه الطبراني فى "الأوسط"(1) قال: نا أحمد بن عبد الرحمن، ثنا أبو جعفر النفيلي ثنا إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي محذورة، قال: سمعت جدّي عبد الملك بن أبي محذورة، أنه سمع أبا محذورة يقول: "ألقي عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان حرفًا حرفًا: الله أكبر، الله أكبر، [الله أكبر، الله أكبر](2) أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله

" إلى، آخره ولم يذكر فيه ترجيعًا.

فهذا يعارض سائر الروايات التي فيها الترجيح ويوافق حديث عبد الله بن زيد، فالرجوع إلى المتفق عليه أولى بلا خلاف.

(1)"المعجم الأوسط"(2/ 23 رقم 1106).

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المعجم الأوسط".

ص: 28