المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: مواقيت الصلاة - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٣

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: مواقيت الصلاة

[(1) بسم الله الرحمن الرحيم

وبه أستعين

‌ص: باب: مواقيت الصلاة

ش: أي هذا باب في بيان أحكام مواقيت الصلاة.

والمواقيت جمع ميقات بمعنى الوقت، ويقال: المواقيت جمع وقت على غير القياس، والمناسبة بين الأذان وهذا الباب ظاهرة، وقدمه على أحكام الصلاة لأنه سبب لها، فقدمه عليها لتوقف صحتها على معرفة المواقيت.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن سهل بن حنيف، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما (ح).

وحدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، عن حكيم بن حكيم، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس (ح).

وحدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسيد، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، عن حكيم بن حكيم، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمَّني جبريل عليه السلام مرتين عند باب البيت، فصلى بي الظهر حين مالت الشمس، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، وصلى بي الظهر من الغد حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى

(1) وقع هنا سقط من "الأصل، ك" بمقدار ورقة واستدركتها من "ح" وهي نسخة "أحمد الثالث".

ص: 134

بين المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين مضى ثلث الليل، وصلى بي الغداة عندما أسفر، ثم التفت إليّ فقال: يا محمد، الوقت فيما بين هذين الوقتين، هذا وقت الأنبياء من قبلك".

ش: هذه ثلاث طرق:

الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي العدوي البصري احتج به الأربعة، عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة، هو عبد الرحمن بن الحارث بن عبد اللهَ بن عياش بن أبي ربيعة، واسمه عمرو بن المغيرة بن عبد اللهَ بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المدني والد المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث، روى له الأربعة ووثقه ابن حبان، وقال النسائي: ليس بالقوي. وعن يحيى بن معين: صالح. ولما ذكره أبو داود في روايته قال: عن سفيان، حدثني عبد الرحمن بن فلان بن أبي ربيعة.

وهو يروي عن حَكيم بن حَكيم -بفتح الحاء فيهما- بن عباد بن سهل بن حنيف الأنصاري المدني، قال ابن سعد: لا يحتجون بحديثه. ووثقه ابن حبان وروى له الأربعة.

عن نافع بن جبير بن مطعم المدني، روى له الجماعة، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن سفيان، قال: حدثني عبد الرحمن ابن فلان بن أبي ربيعة، عن حكيم بن حكيم، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " [أمَّني جبريل عليه السلام]، (2) عند البيت مرتين فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد

(1)"سنن أبي داود"(1/ 160 رقم 393).

(2)

سقط من "ح"، والمثبت من "سنن أبي داود".

ص: 135

صلى بي الظهر حين كان ظل كل شيء مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إليّ فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين".

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد اللهَ بن وهب المصري، عن يحيى بن عبد اللهَ بن سالم بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المدني، روى له مسلم وأبو داود والنسائي، عن عبد الرحمن بن الحارث -وهو عبد الرحمن بن عبد اللهَ بن أبي ربيعة المدني، تقدم، عن حكيم بن حكيم، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وأخرجه الحكم في "مستدركه"(1): أنا إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني، ثنا جدي، ثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري، نا عبد العزيز بن محمد، عن عبد الرحمن ابن الحارث، عن حكيم بن حكيم، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس، عن رسول الله عليه السلام نحوه.

الثالث: عن ربيع بن سليمان المصري المؤذن صاحب الشافعي وثقه ابن يونس والخطيب، عن أسد بن موسى بن إبراهيم المصري وثقه النسائي وابن يونس، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- واسمه عبد اللهَ بن ذكوان، احتج به الأربعة، عن عبد الرحمن بن الحارث

إلى آخره.

وأخرجه الترمذي (2): ثنا هناد بن السري، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عباس بن أبي ربيعة، عن حكيم بن حكيم، قال: أنا نافع بن جبير بن مطعم، قال: أخبرني ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمَّني جبريل عليه السلام[عند البيت](3) مرتين وصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء

(1)"مستدرك الحاكم"(1/ 307 رقم 694).

(2)

"جامع الترمذي"(1/ 278 رقم 149).

(3)

ليست في "ح"، والمثبت من "جامع الترمذي".

ص: 136

مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم، وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت إليَّ جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين".

فإن قلت: ما حكم هذا الحديث؟

قلت: قال الترمذي: حديث ابن عباس حديث حسن.

ورواه ابن حبان في "صحيحه"(1) والحكم في "مستدركه"(2) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ورواه أبو بكر بن أبي خزيمة في "صحيحه"(3).

وقال ابن عبد البر في "التمهيد": وقد تكلم بعض الناس في حديث ابن عباس هذا بكلام لا وجه له، ورواته كلهم مشهورون بالعلم.

وقد أخرجه عبد الرزاق (4): عن الثوري وابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن الحارث بإسناده.

وقد أخرجه أيضًا (5): عن العمري، عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن ابن عباس نحوه.

(1)"صحيح ابن حبان"(14/ 112 رقم 6223).

(2)

"مستدرك الحاكم"(1/ 306 رقم 693).

(3)

"صحيح ابن خزيمة"(1/ 168 رقم 325).

(4)

"مصنف عبد الرزاق"(1/ 531 رقم 2028).

(5)

"مصنف عبد الرزاق"(1/ 531 رقم 2029).

ص: 137

قوله: "أمّني جبريل عليه السلام" من أممت القوم في الصلاة إمامةً، وائتم به أي اقتدى به.

وجبريل عليه السلام مَلَكٌ ينزل بالوحي على الأنبياء عليهم السلام وأكثر نزوله كان على نبينا محمد عليه السلام، وذكر ابن عديس أن أجود اللغات: جَبْرَئيل مثال جَبْرعِيل، ويقال: جِبْريل، بكسر الجيم والراء من غير همز.

قيل: وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ ابن عامر وأبو عمرو، وجَبْرِيل -بفتح الجيم وكسر الراء- وذكر الزجاج أن بها قرأ أهل الكوفة، وهي لغة تميم وقيس.

قال الزجاج: وهو أجود اللغات.

ويقال أيضًا: جَبْرَئل -بحذف الياء وإثبات الهمزة وتشديد اللام- بها قرأ يحيى بن يَعْمر، ويقال: جبرين بالنون.

وقال الجوهري: ويقال جَبْرئِل مثال جَبْرعِل.

وقال ابن جنِّي: وزنه فَعْلِيل والهمزة فيه زائدة.

وفي "الروض": وهو اسم سرياني ومعناه: عبد الرحمن أو عبد العزيز. كذا جاء عن ابن عباس موقوفًا ومرفوعًا، والوقف أصح، وفي "تفسير عبد بن حميد" الكشِّي الكبير، عن إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن عكرمة قال: اسم جبريل بالعربية عبد اللهَ، ويقال: عبيد اللهَ، وقال السهيلي، وأكثر الناس على أن آخر الاسم منه هو اسم الله عز وجل وهو: إِيل، وقال بعضهم: هذا من الأسماء التي إضافتها مقلوبة كما في الإضافة في كلام العجم يقدمون المضاف إليه على المضاف، فعلى هذا يكون إيل عبارة عن العبد، ويكون أول الاسم عبارة عن اسم من أسماء اللهَ تعالى، وقال: اتفق في اسم جبريل أنه موافق من جهة العربية لمعناه، وإن كان أعجميًا فإن الجبر هو إصلاح ما وَهِيَ، وجبريل موكل بالوحي، وفي الوحي إصلاح ما فسد، وجَبْرُ ما وَهِيَ من الدين، ولم يكن هذا الاسم معروفًا بمكة شرفها اللهَ تعالى ولا بأرض العرب، ولهذا فإن النبي عليه السلام لما ذكره لخديجة رضي الله عنها انطلقت لتسأل مَن عنده

ص: 138

علم من الكتاب كعدَّاس ونسطور الراهب، فقالا: ندري ندري، ومن أين هذا الاسم بهذه البلاد؟

وذكر أبو موسى المديني في "المغيث" أن في الحديث: يوسف بن إسرائيل اللهَ يعقوب بن إسحاق ذبيح اللهَ بن إبراهيم خليل اللهَ، فأضاف إسرائيل جملةً إلى الله عز وجل، وهذا ينقض الأقوال المتقدمة كلها.

وجاء أيضًا جَئِرين بجيم مفتوحة بعدها همزة مكسورة ثم ياء ونون، وجَبرائل بفتح الجيم وهمزة مكسورة وتشديد اللام، وجبرائيل بألف وهمزة بعدها ياء وجبراييل بياءين بعد الألف، وجبريل بهمزة بعد الراء وياء وجبريل بكسر الهمزة وتخفيف اللام مع فتح الجيم والراء، وجبرين بفتح الجيم وكسرها وبدل اللام نون.

قوله: "عند باب البيت" أي بحضرة الكعبة، وأطلق البيت على الكعبة لغلبة الاستعمال كما أطلق النجم على الثريا.

والصَّعِق على خويلد بن نفيل بن عمرو بن كلاب.

قوله: "حين مالت الشمس" وميلانها زوالها وانحطاطها عن كبد السماء يسيرًا، وفي رواية غيره:"حين زالت الشمس".

قوله: "حين غاب الشفق" وهو البياض المعترض في الأفق عند أبي حنيفة؛ لأنه من أثر النهار، وبه قال زفر وداود والمزني، وهو قول المبرد والفراء، ونقل عن أبي بكر الصديق وعائشة وأبي هريرة ومعاذ وأبي وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي.

وقال أبو يوسف ومحمد: هو الحمرة، وهو قول الشافعي ومالك وأحمد والثوري وابن أبي ليلى وإسحاق بن راهويه، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وشداد ابن أوس وعبادة بن الصامت، وحكي عن مكحول وطاوس.

وحكي عن أحمد: أنه البياض في البنيان والحمرة في الصحاري.

ص: 139

وقال بعضهم: اسم الحمرة والبياض جميعًا، إلا أنه إنما يطلق في أحمر ليس بقانٍ وأبيض ليس بناصع.

قوله: "حين حرم الطعام والشراب على الصائم" وهو أول طلوع الفجر الثاني الصادق.

قوله: "وصلى في المغرب حين أفطر الصائم" يعني حين غابت الشمس.

قوله: "عندما أسفرَ" أي نوَّر.

قوله: "الوقتُ" مبتدأ وخبره قوله: "فيما بين هذين الوقتين"، والإشارة إلى وقتي اليوم الأول واليوم الثاني اللذين أمَّ فيهما جبريل النبي عليه السلام.

ويستنبط منه أحكام:

الأول: يستفاد منه أن أول وقت الظهر حين تزول الشمس عن كبد السماء يسيرًا، وهذا لا خلاف فيه لأحد من الأئمة وإنما الخلاف في آخر وقته، فعند أبي حنيفة آخر وقت الظهر حين يصير ظل كل شيء مثليه، وهو أول وقت العصر.

وقال صاحب "البدائع": أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وأما آخره فلم يذكر في ظاهر الرواية، واختلفت الرواية عن أبي حنيفة، روى محمد عنه: إذا صار ظل كل شيء مثليه سوى فيء الزوال، والمذكور في الأصل: ولا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل قامتين، ولم يتعرض لآخر وقت العصر.

وروى الحسن عنه أن آخر وقتها: إذا صار ظل كل شيء مثليه سوى فيء الزوال، وهو قول أبي يوسف ومحمد وزفر والشافعي والحسن.

وروى أسد بن عمرو البجلي: إذا صار ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال خرج وقت الظهر؛ ولا يدخل وقت العصر ما لم يصر ظل كل شيء مثليه.

فعلى هذه الرواية يكون بين وقت الظهر والعصر وقت مهمل كما بين الفجر والظهر.

ص: 140

وقال أبو عمر (1): واختلفوا في آخر وقت الظهر؛ فقال مالك وأصحابه: إذا صار ظل كل شيء مثله بعد القدر الذي زالت عليه الشمس، وهو أول وقت العصر بلا فصل، وبذلك قال ابن المبارك وجماعة.

وقال الثوري (2) والحسن بن حَيّ وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية ومحمد بن جرير الطبري: آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله، ثم يدخل وقت العصر، ولم يذكروا فاصلة؛ إلا أن قولهم: ثم يدخل وقت العصر. يدل على فاصلة.

وقال أبو حنيفة: آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثليه. انتهى.

واستدل هؤلاء بقوله: "فصلى في العصر حين صار ظل كل شي مثله" فدل هذا أن أول وقت العصر هذا، فكان هو آخر وقت الظهر ضرورةً، وقالوا: إن قوله: "وصلى في العصر حين صار ظل كل شيء مثليه" لبيان آخر الوقت، ولم يؤخر الظهر في اليوم الثاني إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، فدل أن آخر وقت الظهر ما ذكرنا.

واستدل أبو حنيفة بما أخرجه البخاري (3) من حديث ابن عمر قال: قال النبي عليه السلام: "مثلكم ومثل أهل الكتاب كمثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم، فغضبت اليهود والنصارى، فقالوا: ما لنا أكثر عملًا وأقل عطاء؟! قال: هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه مَنْ أشاء".

(1)"التمهيد" لابن عبد البر (8/ 73).

(2)

"التمهيد" لابن عبد البر (8/ 75).

(3)

"صحيح البخاري"(2/ 791 رقم 2148).

ص: 141

فدل الحديث على أن مدة العصر أقصر من مدة الظهر، وأن ما يكون أقصر أن لو كان الأمر على ما قال أبو حنيفة رحمه الله. وقال شمس الأئمة في معنى الحديث: وإنما يكون ذلك أقصر إذا امتدّ وقت الظهر إلى أن يبلغ الظل قامتين، وقال عليه السلام:"أبردوا بالظهر؛ فإن شدّة الحر من فيح جهنم" وأشد ما يكون من الحر في ديارهم إذا صار ظل شيء مثله، ولأنَّا عرفنا دخول وقت الظهر بتيقن، ووقع الشك في خروجه إذا صار الظل مثله أو مثليه؟ واليقين لا يزول بالشك، والأوقات ما استقرت على حديث إمامة جبريل عليه السلام، ففيه أنه صلى الفجر من اليوم الثاني حين أسفر، والوقت يبقى بعده إلى طلوع الشمس، وفيه أيضًا أنه صلى العشاء في اليوم الثاني حين مضى ثلث الليل والوقت يبقى بعده (1)، وأما تأويل إمامة جبريل عليه السلام:"صلى الظهر من الغد حتى صار كل شيء مثله" أي قرب منه، وصلى في العصر -في اليوم الأول- حين صار ظل كل شيء مثله أي زاد عليه وهو نظير قوله تعالى:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} (2). أي قارب بلوغ أجلهن وقال تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} (3). أي تم انقضاء عدتهن.

وقال صاحب "البدائع"(4): وخبر إمامة جبريل عليه السلام منسوخ في الفراغ، فإن المروي أنه عليه السلام صلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول، والإجماع منعقد على تغاير وقتي الظهر والعصر، فكان الحديث منسوخًا في الفراغ. انتهى.

ونقل صاحب "المبسوط"(1) عن مالك أنه قال: إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر، فإذا مضى بقدر ما يصل فيه أربع ركعات دخل وقت العصر، فكان الوقت مشتركًا بين الظهر والعصر إلى أن يصير الظل قامتين؛ لظاهر حديث إمامة

(1) انظر "المبسوط" للسرخسي (1/ 143).

(2)

سورة الطلاق، آية:[2].

(3)

سورة البقرة، آية:[232].

(4)

"بدائع الصنائع"(1/ 123).

ص: 142

جبريل عليه السلام فإنه [ذكر أنه](1) صلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى العصر في اليوم الأول، ويرد هذا قوله عليه السلام:"لا يدخل وقت صلاة حتى يخرج وقت صلاة أخرى" وتأويل حديث إمامة جبريل عليه السلام ما ذكرناه آنفًا.

الثاني: يستفاد منه [أن](2) آخر العصر إلى، غروب الشمس.

وعن الشافعي: إذا صار ظل كل شيء مثليه يخرج وقت العصر، ولا يدخل وقت المغرب حتى تغرب الشمس، فيكون بينهما وقت مهمل.

وعنه: إذا صار ظل كل شيء مثليه يخرج وقته المستحب، ويبقى أصل الوقت إلى غروب الشمس.

وقال أبو عمر (3): اختلفوا في أول وقت العصر وآخره؛ فقال مالك: أول وقت العصر إذا كان الظل قامة بعد القدر الذي زالت عليه الشمس، ويستحب لمساجد الجماعات أن يؤخروا ذلك قليلًا.

قال: وآخر وقتها أن يكون ظل كل شيء مثليه، هكذا حكايته ابن عبد الحكم وابن القاسم عنه، وهذا عندنا على وقت الاختيار، وذكر ابن وهب عن مالك: أن آخر وقت العصر: غروب الشمس.

وقد قال ابن وهب أيضًا عن مالك: وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس. وهذا عندنا أيضًا على أصحاب الضرورات.

وقال الشافعي: أول وقتها في الصيف إذا جاوز ظل كل شيء مثله، ومن أَخَّر العصر حتى يجاوز ظل كل شيء مثليه في الصيف أو قدر ذلك في الشتاء فقد فاته [وقت](4)

(1) ليست في "الأصل، ك، ح"، والمثبت من "المبسوط".

(2)

تكررت في "الأصل".

(3)

"صحيح البخاري"(2/ 791 رقم 2148).

(4)

ليست في "الأصل، ك، ح"، والمثبت من "التمهيد"(3/ 278).

ص: 143

الاختيار، ولا يجوز أن يقال: قد فاته وقت العصر مطلقًا، كما جاز على الذي أخر الظهر إلى أن جاوز ظل كل شيء مثله.

قال: وإنما قلت ذلك؛ لحديث أبي هريرة، عن النبي عليه السلام:"من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدركها".

قال أبو عمر: قول الشافعي ها هنا في وقت الظهر يمنع الاشتراك بينها وبين العصر في ظاهر كلامه، وهو شيء ينقضه ما بنى عليه مذهبه في الحائض تطهر، والمغمى عليه يُفيق، والكافر يسلم، والصبي يحتلم؛ لأنه يوجب على كل واحد منهم إذا أدرك ركعة واحدة قبل الغروب؛ الظهر والعصر جميعًا، وفي بعض أقاويله: إذا أدرك هؤلاء مقدار تكبيرة واحدة قبل الغروب لزمهم الظهر والعصر جميعًا، وكيف يَسوغ لمن هذا مذهبه أن يقول: الظهر يفوت فواتًا صحيحًا بمجاوزة ظل كل شيء مثله أكثر من ذوات العصر بمجاوزة ظل كل شيء مثليه؟!

وأما قوله في وقت العصر: إذا جاوز ظل كل شيء مثليه فقد جاوز وقت الاختيار؛ (فهذا أيضًا شيء لا هو ولا غيره من العلماء)(1) يقولون: من صلى العصر والشمس بيضاء نَقِيَّة؛ فقد صلاها في وقتها المختار، لا أعلمهم يختلفون في ذلك، وقول أبي ثور في أول وقت العصر كقول الشافعي، وهو قول داود.

وقال أبو عمر: وأما قول الشافعي وأبي ثور في أن وقت العصر لا يدخل إلا أن يزيد الظل على القامة زيادة تظهر فمخالف لحديث إمامة جبريل عليه السلام؛ لأن حديث إمامة جبريل عليه السلام يقتضي أن يكون آخر وقت الظهر وهو أول وقت العصر بلا فصل، ولكنه مأخوذ من حديث أبي قتادة، عن النبي عليه السلام أنه قال:"إنما التفريط على مَنْ لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى" وقال أحمد بن حنبل في هذه المسألة مثل قول الشافعي أيضًا فيما حكاه الخرقي عنه، وأما الأثرم فقال: سمعت

(1) كذا في "الأصل، ك، ح"، والذي في "التمهيد" لابن عبد البر (3/ 278):"فهذا أيضًا فيه شيء؛ لأن هو وغيره من العلماء".

ص: 144

أبا عبد الله يقول: آخر وقت الظهر هو أول وقت العصر. قال لي ذلك غير مرة، وسمعته يقول: آخر وقت العصر تغير الشمس. قيل له: ولا تقول بالمثل والمثلين؟ قال: لا؛ هذا أكثر عندي.

وقال إسحاق بن راهويه: آخر وقت العصر أن يدرك المصلي منها ركعة قبل الغروب -وهو قول داود- لكل الناس، معذور وغير معذور، والأفضل عندهما أول الوقت.

الثالث: يستفاد منه أن أول وقت المغرب غروب الشمس، وهذا لا خلاف فيه، وأما آخره فقد اختلفوا فيه؛ فقال أصحابنا: حتى يغيب الشفق، وقال الشافعي: وقتها ما يتطهر الإنسان ويؤذن ويقيم ويصلي ثلاث ركعات، حتى لو صلاها بعد ذلك تكون قضاء لا أداءً؛ لحديث إمامة جبريل عليه السلام أنه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد.

وقال أبو عمر: الظاهر في قول مالك أن وقت المغرب وقت واحد عند مغيب الشمس، وبهذا تواترت الروايات عنه، إلا أنه قال في "الموطأ": إذا غاب الشفق فقد خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء.

وبهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن حَيّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري وداود، واحتجوا بحديث أبي موسى وغيره:"أن النبي عليه السلام صلى بالسائل المغرب في اليوم الثاني فأخّر حتى إذا كان عند سقوط الشفق" قالوا: وهذه الآثار أولى من أخبار إمامة جبريل عليه السلام؛ لأنها متأخرة بالمدينة، وإمامة جبريل بمكة، والمتأخر أولى من فعله وأمره عليه السلام؛ لأنه ناسخ لما قبله.

قلت: أجاب صاحب "البدائع" عن حديث إمامة جبريل عليه السلام أنه إنما لم يؤخر المغرب عن أول الغروب في اليومين لأن التأخير عن أول الغروب مكروه إلا لعذر، وإنه جاء ليعلمه المباح من الأوقات، ألا ترى أنه لم يؤخر العصر إلى الغروب مع بقاء

ص: 145

الوقت إليه؟! وكذا لم يؤخر العشاء إلى ما بعد ثلث الليل وإن كان ما بعده وقت العشاء بالإجماع. انتهى.

وقال أبو عمر: قال الشافعي: في وقت المغرب قولين:

أحدهما: إلى آخر الشفق.

والآخر: -وهو المشهور عنه-: أن وقتها وقت واحد لا وقت لها إلا حين تجب الشمس.

وقال الثوري: وقت المغرب إذا غربت الشمس فإن حبسك عذر [فأخّرتها](1) إلى أن يغيب الشفق في السفر فلا بأس، وكانوا يكرهون تأخيرها.

الرابع: يُستفادُ منه أن أول وقت العشاء من حين مغيب الشفق، وهذا لا خلاف فيه بين أصحابنا، وآخره إلى أن يطلع الفجر الصادق.

وقال أبو عمر: أجمعوا على أن وقت العشاء الآخرة للمقيم مغيّب الشفق، واختلفوا في آخر وقتها، فالمشهور من مذهب مالك في آخر وقت العشاء في السفر والحضر لغير أصحاب الضرورات: ثلث الليل الأول، ويستحب لأهل مساجد الجماعات أن لا يعجلوا بها في أول وقتها إذا كان ذلك غير مضر بالناس، وتأخيرها قليلًا أفضل، وروى ابن وهب عن مالك: أن وقتها من حين يغيب الشفق إلى أن يطلع الفجر.

وهو قول داود.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: المستحب في وقتها إلى ثلث الليل ويكره تأخيرها إلى نصف الليل، ولا تفوت إلا بطلوع الفجر.

وقال الشافعي: آخر وقتها إلى أن يمضي ثلث الليل، فإذا مضى الليل فقد فاتت.

(1) في "الأصل": فأخرها، والمثبت من "التمهيد"(8/ 84).

ص: 146

وقال أبو ثور: وقتها من مغيب الشفق إلى نصف الليل.

وفي "الحاوي في فروع الحنابلة": وقت العشاء -وهي أربع ركعات- إلى الفجر الثاني، والمستحب تأخيرها إلى الثلث الأول، وعنه -أي عن أحمد-: إلى نصفه -إن سهل على المأمومين- ويحرم بعده بلا عذر في أحد الوجهين، ويكره في الآخر.

الخامس: يستفاد منه أن أول وقت الفجر عند طلوع الفجر الصادق؛ لأنه في هذا الوقت يحرم الطعام والشراب على الصائم، وآخره عند طلوع الشمس.

وقال أبو عمر: أجمع العلماء على أن وقت صلاة الصبح طلوع الفجر الثاني إذا تيقن طلوعه وهو البياض المنتشر في أفق المشرق الذي لا ظلمة بعده.

واختلفوا في آخر وقتها، فذكر ابن وهب عن مالك قال: وقت الصبح من حين يطلع الفجر إلى طلوع الشمس، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه.

وكذلك قال الشافعي: آخر وقتها طلوع الشمس لضرورة وغير ضرورة، وهو قول داود وإسحاق.

وأما سائر العلماء فجعلوا هذا وقتًا لأصحاب العذر والضرورات، وممن ذهب إلى هذا مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد.

وقال ابن القاسم عن مالك: وقت الصبح الإغلاس والنجوم بادية مشتبكة، وآخر وقتها إذا أسفر.

السادس: فيه دليل على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يصلون في هذه الأوقات، ولكن لا يلزم أن يكون قد صلى كل منهم في جميع هذه الأوقات والمعنى: أن صلاتهم كانت في هذه الأوقات.

السابع: فيه دليل على أن أوقات الصلوات الخمس فيما بين الوقتين اللذين صلى جبريل عليه السلام إمامًا بالنبي عليه السلام في أولها وآخرها.

فإن قيل: فعل هذا ينبغي أن لا يكون الأول والآخر منها وقتًا لها.

ص: 147

قلت: لما صلى في أول الوقت وآخره وُجِدَ بيان منه فعلًا وبقي الاحتياج إلى بيان ما بين الأول والآخر ة فبيَّن بالقول.

وجواب آخر: أن هذا بيان للوقت المستحب؛ إذ الأداء في أول الوقت مما يتعسر على الناس ويؤدي أيضًا إلى تقليل الجماعة، وفي التأخير إلى آخر الوقت خشية الفوات، فكان المستحب ما بينهما مع قوله عليه السلام "خير الأمور أوساطها".

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد اللهَ بن يوسف، قال: ثنا عبد اللهَ بن لهيعة، قال: ثنا بكير بن الأشج، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الساعدي، سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمني جبريل عليه السلام في الصلاة، فصلى الظهر بي حين زاغت الشمس، وصلى العصر حين فاءت قامة، وصلى المغرب حين غابت الشمس، وصلى العشاء حين غاب الشفق، وصلى الصبح حين طلع الفجر.

ثم أمَّني في اليوم الثاني، فصلى الظهر وفيء كل شيء مثله، وصلى العصر والفيء قامتان، وصلى المغرب حين غابت الشمس، وصلى العشاء إلى ثلث الليل الأول، وصلى الصبح حين كادت الشمس أن تطلع، ثم قال: الصلاة فيما بين هذين الوقتين".

ش: رجاله ثقات، إلا أن ابن لهيعة فيه مقال.

وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا أبو يزيد القراطيسي، ثنا عبد اللهَ بن الحكم، أنا ابن لهيعة، عن بُكير بن عبد اللهَ بن الأشج

إلى آخره نحوه سواء.

قوله: "زاغت" أي مالت، وأصل الزيني العدول، يقال: زَاغَ عن الطريق يَزِيغُ: إذا عدل عنه، ومعنى قوله تعالى:{لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} (2) أي لا تمله عن الإيمان.

(1)"المعجم الكبير"(6/ 37 رقم 5443).

(2)

سورة آل عمران، آية:[8].

ص: 148

قوله: "فاءت قامة" أراد به حين صار ظل كل شيء مثله.

قوله: "وفيء كل شيء" جملة حالية، والفيء: الظل الذي يكون بعد الزوال، وأصل الفيء الرجوع، يقال: فاء يفيء فيئةً إذا رجع، ومنه سُمي الظل؛ لأنه يرجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق.

قوله: "والفيء قامتان" أراد به ظل كل شيء مثليه.

قوله: "وصلى العشاء إلى ثلث الليل، يجوز أن يكون "إلى" ها هنا بمعنى "في"، أي: صلى في ثلث الليل، ومنه قوله:{لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (1) أي في يوم القيامة، ويجوز أن يكون على بابها، ومحلها النصب على الحال، أي: وصلى العشاء حال كونه مؤخرًا إلى ثلث الليل، وهذا وقت استحباب، أما وقت الجواز ما لم يطلع الفجر، وهو قول عطاء وطاوس أيضًا، وهو مروي عن ابن عباس.

وقال الشافعي ومالك وأحمد: هو وقت الضرورة، والوقت المختار إلى ثلث الليل.

ص: وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا الفضل بن موسى السيناني، قال: ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل يعلمكم أمر دينكم

" ثم ذكر مثله، غير أن قال في العشاء الآخرة: "وصلاها في اليوم الثاني حين ذهبت ساعة من الليل".

ش: إسناده صحيح.

والسيناني نسبة إلى سينان -بكسر السين المهملة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ثم نون بعدها ألف ثم نون أخرى- قرية من قرى مرو.

وأبو سلمة عبد اللهَ بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر على اختلاف كثير في اسمه.

(1) سورة النساء، آية:[87]، وسورة الأنعام، آية:[12].

ص: 149

وأخرجه الدارقطني في "سننه"(1): ثنا أبو حامد محمد بن هارون، ثنا أبو عثمان الحسين بن حريث المروزي، ثنا الفضل بن موسى السيناني، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل يعلمكم دينكم فصلى

" ثم ذكر حديث المواقيت، وقال فيه: "ثم صلى المغرب حين غربت الشمس"، وقال في اليوم الثاني: "ثم جاءه من الغد فصلى، ثم صلى المغرب حين غربت الشمس في وقت واحد".

وفي طريق آخر له (2): "ثم جاءه الغد فصلى له المغرب لوقت واحد حين غربت الشمس وحلّ فطر الصائم".

وفي طريق أخر له (3): "أن رسول الله عليه السلام حدثهم أن جبريل عليه السلام أتاه فصلى الصلوات وقتين وقتين إلا المغرب، قال: فجاءني في المغرب فصل بي ساعة غابت الشمس، ثم جاءني -يعني- من الغد في المغرب فصلى بي ساعة غابت الشمس ولم يغيِّره".

قوله: "حين ذهبت ساعة من الليل" معناه: بعد ساعة مضت من غروب الشمس، ولا يجوز أن يكون معناه بعد ساعة من غروب الشمس؛ لأن بعد الغروب إلى وقت العشاء أكثر من ساعة، فافهم.

ثم اختلفت الألفاظ في هذا الموضع، ففي رواية ابن عباس وجابر:"ثلث الليل"، وفي حديث أبي هريرة هذا:"ساعة من الليل"، وفي حديث عبد اللهَ بن عمرو:"نصف الليل"، وفي حديث عائشة:"حتى ذهب عامة الليل" أرادات أكثر الليل، والكل بيان وقت الاستحباب، أما وقت الجواز إلى طلوع الفجر.

ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا حامد بن يحيى، قال: ثنا عبد اللهَ بن

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 261 رقم 18).

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 261 رقم 19).

(3)

"سنن الدارقطني"(1/ 261 رقم 20).

ص: 150

الحارث، قال: ثنا ثور بن يزيد، عن سليمان بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:"سأل رجل نبي الله هو عن وقت الصلاة، فقال: صلِّ معي، فصلى رسول الله عليه السلام الصبح حين طلع الفجر، ثم صلى الظهر حين زاغت الشمس، ثم صلى العصر حين كان فيء الإنسان مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس، ثم صلى العشاء قبل غيبوبة الشفق، ثم صلى الصبح فأسفر، ثم صلى الظهر حين كان فيء الإنسان مثله، ثم صلى العصر حين كان فيء الإنسان مثليه، ثم صلى المغرب قبل غيبوبة الشفق، ثم صلى العشاء، فقال بعضهم: ثلث الليل، وقال بعضهم: شطر الليل".

ش: حامد بن يحيى بن هانئ البلخي نزيل طرسوس شيخ أبي داود، وثقه ابن حبان وغيره، وعبد اللهَ بن الحارث بن عبد الملك القرشي روى له مسلم، وثور بن يزيد بن زياد الكلاعي أبو خالد الشامي الحمصي روى له الجماعة سوى مسلم، وسليمان بن موسى القرشي الأموي الدمشقي الأسدي روى له الأربعة، قال البخاري: عنده المناكير. وقال النسائي: أحد الفقهاء وليس بالقوي في الحديث.

وقال أبو حاتم: محله الصدق.

وهذا الحديث أخرجه خلق كثير بألفاظ مختلفة وأسانيد متغايرة.

ولكن أحمد بن حنبل أخرجه في "مسنده"(1) نحو رواية الطحاوي: ثنا عبد الله ابن الحارث، حدثني ثور ابن يزيد، عن سليمان بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد اللهَ قال: "سأل رجل رسول الله عليه السلام عن وقت الصلاة

" إلى آخره نحوه سواء، غير أن في لفظه: "ثم صلى العشاء حين غيبوبة الشفق، ثم صلى الصبح فأسفر".

وأخرجه الترمذي (2): ثنا أحمد بن محمد بن موسى، قال: أنا عبد اللهَ بن المبارك،

(1)"مسند أحمد"(3/ 351 رقم 14832).

(2)

"جامع الترمذي"(1/ 281 رقم 150).

ص: 151

قال: أنا حسين بن علي بن حسين، قال: أخبرني وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله عليه السلام قال: "أمَّني جبريل عليه السلام

" فذكر نحو حديث ابن عباس بمعناه، ولم يذكر فيه: "لوقت العصر بالأمس".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح وحديث ابن عباس حسن.

وقال محمد -يعني البخاري-: أصح شي في المواقيت حديث جابر عن النبي عليه السلام.

وقال ابن القطان في كتابه: هذا الحديث يجب أن يكون مرسلًا؛ لأن جابرًا لم يذكر من حدَّثه بذلك وجابر لم يشاهد ذلك صبيحة الإسراء؛ لِمَا عُلِمَ أنه أنصاريّ، إنما صحب بالمدينة، ولا يلزم ذلك في حديث أبي هريرة وابن عباس؛ فإنهما رويا إمامة جبريل عليه السلام من قول النبي عليه السلام.

وقال في "الإِمام": هذا إرسالٌ غير ضارّ فيبعد أن يكون جابر رضي الله عنه قد سمعه من تابعي غير صحابي.

وأخرجه النسائي أيضًا (1): ثنا سويد بن نصر، قال: أنا عبد اللهَ، عن حسين بن علي بن حسين، قال: أخبرني وهب بن كيسان، قال: ثنا جابر بن عبد اللهَ قال: "جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين زالت الشمس فقال: قم يا محمد فصلّ الظهر -حين مالت الشمس- ثم مكث حتى إذا كان فيء الرجل مثله جاءه العصر فقال: قم يا محمد فصلِّ العصر، ثم مكث حتى إذا غابت الشمس جاءه فقال: قم يا محمد فصلِّ المغرب، فقام فصلاها حين غابت الشمس سواء، ثم مكث حتى إذا ذهب الشفق جاءه فقال: قم فصلِّ العشاء، فقام فصلاها، ثم جاءه حين سطع الفجر في الصبح فقال: قم يا محمد فصلِّ، فقام فصلى الصبح، ثم جاءه من الغد حين كان فيء الرجل مثله فقال: قم يا محمد فصلِّ، فقام فصلى الظهر، ثم جاءه جبريل عليه السلام

(1)"المجتبى"(1/ 263 رقم 526).

ص: 152

حين كان فيء الرجل مثليه فقال: قم يا محمد فصلِّ العصر، ثم جاءه للمغرب حين غابت الشمس وقتًا واحدًا لم يزل عنه، فقال: قم فصلِّ، فصلى المغرب، ثم جاءه للعشاء حين ذهب ثلث الليل الأول فقال: قم فصلِّ، فصلى العشاء، ثم جاءه حين أسفر جدًّا فقال: قم فصلِّ، فصلى الصبح، فقال: ما بين هذين وقتٌ كله".

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا يوسف بن ناصح، نا قدامة بن شهاب، نا برد، عن عطاء، عن جابر. ونا إسحاق بن إبراهيم الصوَّاف، نا عمرو بن بشر، نا بردٌ، عن عطاء، عن جابر.

ونا محمد بن إسماعيل البخاري، نا أيوب بن سليمان، قال: نا أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن صالح بن كيسان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن جابر -واللفظ لفظ برد- عن عطاء، عن جابر: "أن جبريل عليه السلام أتى النبي عليه السلام حين زالت الشمس فصلى الظهر، ثم أتاه حين صار الظل قامة شخص الرجل، فتقدم جبريل عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله عليه السلام فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس فتقدم جبريل ورسول الله عليهما السلام خلفه والناس خلف رسول الله عليه السلام فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق، فتقدم جبريل ورسول الله عليه السلام خلفه والناس خلف رسول اللهَ عليه السلام، وصلى العشاء الآخرة، وأتاه حين سطع الفجر فتقدم جبريل ورسول الله عليهما السلام خلفه والناس خلف رسول الله عليه السلام فصلى الغداة.

وأتاه من اليوم الثاني حين صار الظل مثل قامة شخص الرجل، فتقدم جبريل ورسول الله عليهما السلام خلفه والناس خلف رسول الله عليه السلام فصلى الظهر، ثم أتاه حين صار الظل مثلي شخص الرجل فتقدم جبريل عليه السلام ورسول الله عليه السلام خلفه والناس خلف رسول الله عليه السلام وصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس -لوقت واحد- فتقدم جبريل عليه السلام ورسول الله عليه السلام خلفه والناس خلف رسول الله عليه السلام فصلى المغرب، ثم نمنا وقمنا إلى نحو ثلث الليل فتقدم جبريل عليه السلام ورسول الله

ص: 153

- عليه السلام خلفه والناس خلف رسول الله عليه السلام فصلى العشاء الآخرة، ثم أتاه حين أضاء الفجر -أو الصبح- فتقدم جبريل عليه السلام ورسول الله عليه السلام خلفه والناس خلف رسول الله عليه السلام فصلى الصبح ثم قال: ما بين الصلاتين وقت. فسأل رجل رسول الله عليه السلام عن الصلاة كما سألتني، فصلى بهم كما صلى بهم جبريل عليه السلام ثم قال: أين السائل عن الصلاة؟ ما بين الصلاتين وقت".

وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن جابر بهذا اللفظ إلا من هذه الوجوه التي ذكرناها، وقد روي عن جابر في ذكر المواقيت وبعض المواقيت بغير هذا اللفظ.

ورواه الحكم أيضًا في "مستدركه"(1) وابن حبان في "صحيحه"(2).

قوله: "حين زاغت الشمس" أي: حين مالت عن كبد السماء شيئًا يسيرًا.

قوله: "حين كان فيء الإنسان" أي ظله.

قوله: "حين وجبت الشمس" أي حين سقطت للغروب، من الوجوب وهو السقوط والوقوع.

قوله: "قبل غيبوبة الشفق" أي قبل غيابه، وهي كالديمومة، وسيجيء الكلام في قوله:"قبل غيبوبة الشفق" فإنه معارض لرواية غيره؛ لأن غيره روى: "بعد غيبوبة الشفق".

قوله: "شطر الليل" أي نصفه، واستدل الشافعي بأحاديث جابر على أن وقت المغرب وقت واحد، وهو عقيب غروب الشمس بقدر ما يتطهر ويستر عورته ويؤذن ويقيم، فإن أخَّر الدخول في الصلاة عن هذا الوقت أثم وصارت قضاءً. والمحققون من أصحابه رجَّحوا قول الحنفية. وقال النووي: وهو الصحيح.

والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:

(1)"مستدرك الحاكم"(1/ 310 رقم 704).

(2)

"صحيح ابن حبان"(4/ 335 رقم 1472).

ص: 154

الأول: أنه اقتصر على بيان وقت الاختيار ولم يستوعب وقت الجواز، وهذا جار في كل الصلوات سوى الظهر.

والثاني: أن هذا متقدم في أول الأمر بمكة والأحاديث التي رويت بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في أواخر الأمر بالمدينة فوجب اعتمادها.

والثالث: أن الأحاديث التي وردت بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشمس أصح إسنادًا من هذه الأحاديث فوجب تقديمها، وتلك الأحاديث هي قوله عليه السلام:"فإذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق"، وفي رواية:"وقت المغرب ما يسقط نور الشفق"، وفي رواية:"ما لم يغب الشفق"، وفي رواية:"ما لم يسقط الشفق".

وكل هذه في "صحيح مسلم"(1).

ومما يستفاد منه: أن آخر الأمرين من صلاته عليه السلام في الصبح هو الإسفار، فيكون مستحبًّا كما ذهبت إليه أئمتنا.

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا همام، قال: سمعت عطاء بن أبي رباح، قال: أخبرني رجل منهم: "أن رجلًا أتى النبي عليه السلام فسأله عن مواقيت الصلاة فأمره أن يشهد الصلاة معه، فصلى الصبح فعجَّل، ثم صلى الظهر فعجَّل، ثم صلى المغرب فعجَّل، ثم صلى العشاء فعجَّل، ثم صلى الصلوات كلها من الغد فأخَّر، ثم قال للرجل: ما بين صلاتين في هذين اليومين وقتٌ كله".

ش: رجاله رجال الصحيح ما خلا ابن خزيمة.

والظاهر من قوله: "أخبرني رجل منهم" -أي من الصحابة- جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

(1)"صحيح مسلم"(1/ 426 رقم 612).

ص: 155

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: "مواقيت الصلاة؟ قال: جاء رجل إلى النبي عليه السلام فقال: مواقيت الصلاة يا رسول الله؟ قال: احضر في الصلاة اليوم وغدًا، فصلى الظهر حين زاغت الشمس، قال: ثم صلى العصر فعجّلها، ثم صلى المغرب حين دخل الليل حين أفطر الصائم، وأما العتمة فلا أدري متى صلاها. قال غير عطاء: حين غاب الشفق. قال عطاء: ثم صلى الصبح حين طلع الفجر، قال: ثم صلى الظهر من الغد فلم يصلها حتى أبرد. قلت: الإبراد الأول؟ قال: بعد، وبعد ممسيًا، قال: ثم صلى العصر بعد ذلك يؤخرها. قلت: فأي تأخير؟ قال: ممسيًا قبل أن تدخل الشمس صفرة. قال: ثم صلى المغرب حين غاب الشفق. قال: ولا أدري أي وقت صلى العتمة. قال غيره: صلى لثلث الليل. قال عطاء: ثم صلى الصبح حين أسفر، فأسفر بها جدًّا. قلت: أيّ حين؟ قال: قبل حين تفريطها قبل أن يحين طلوع الشمس، ثم قال النبي عليه السلام: أين الذي سألني عن وقت الصلاة -يعني- فأتي به فقال عليه السلام: أحضرت معي الصلاة اليوم وأمس؟ قال: نعم. قال: فصلها ما بين ذلك. قال: ثم أقبل عليَّ فقال: إني لأظنه كان يصليها فيما بين ذلك -يعني النبي عليه السلام".

قوله: "أن يشهد الصلاة" أي أن يحضرها؛ لأن معنى الشهود الحضور.

قوله: "فصلى الصبح فعجَّل

" إلى آخره، أراد أنه عليه السلام صلى في اليوم الأول الصلوات كلها في أول أوقاتها من غير تأخير، وصلى في اليوم الثاني في آخر وقتها من غير تفريط، وبيَّن فعله عليه السلام أول الأوقات وآخرها وبقوله: "ما بين ذلك" حيث قال: "ما بين صلاتيَّ في هذين اليومين وقت كله"، فقوله: "ما بين" مبتدأ وخبره قوله: "وقتٌ كله".

ص: حدثنا فهد، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: ثنا بدر بن عثمان، قال: حدثني أبو بكر بن أبي موسى، عن أبيه، عن النبي عليه السلام قال: "أتاه سائل فسأله عن مواقيت

(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 533 رقم 231).

ص: 156

الصلاة، فلم يرد عليه شيئًا، فأمر بلالًا فأقام الفجر حين انبثق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا، ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس والقائل يقول: انتصف النهار أو لم، وكان أعلم منهم، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة، ثم أمره فأقام المغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول: طلعت الشمس أو كادت، ثم أخّر الظهر حتى كان قريبًا من العصر، ثم أخّر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول: احمرت الشمس، ثم أخّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم أخّر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول، ثم أصبح فدعا السائل فقال: الوقت فيما بين هذين".

ش: إسناده صحيح على شرط مسلم.

وأبو نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري وغيره، وأبو بكر بن أبي موسى الأشعري اسمه عمرو ويقال: عامر، واسم أبي موسى عبد اللهَ بن قيس الأشعري.

وأخرجه مسلم (1): ثنا محمد بن عبد اللهَ بن نمير، قال: ثنا أبي، قال: ثنا بدر ابن عثمان، قال: ثنا أبو بكر بن أبي موسى، عن أبيه، عن رسول الله عليه السلام: "أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئًا، قال: فأقام الفجر

" إلى آخره نحوه سواء.

وأخرجه النسائي أيضًا (2): ثنا عبدة بن عبد الله وأحمد بن سليمان، قالا: ثنا أبو داود، عن بدر بن عثمان، قال: أملى عليّ أبو بكر بن أبي موسى، عن أبيه قال: "أتى النبي عليه السلام سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئًا، فأمر بلالًا فأقام بالفجر حين انشق، ثم أمره بالظهر

" إلى آخره نحوه.

قوله: "فأقام بالفجر" أي بصلاة الفجر.

(1)"صحيح مسلم"(1/ 429 رقم 1614).

(2)

"المجتبى"(1/ 260 رقم 523).

ص: 157

"حين انشق الفجر" أي حين طلع الفجر الثاني وهو الفجر الصادق.

قوله: "والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا" جملة اسمية وقعت حالًا.

قوله: "فأقام الظهر" أي صلاة الظهر.

قوله: "والقائل يقول" أيضًا جملة حالية.

قوله: "أو لم" أي: أو لم ينتصف، وقد ذكر النحاة أن لم لا يحذف الفعل منها إلا للضرورة كما قال ابن عمر -وهو ابن هرمة-:

احفظ وديعتك التي استودعتها

يوم الأعارب إن وصلت وإن لم

أي: وإن لم توصل، ولكن الحديث يرده؛ لأنه جاء الحذف فيه من غير ضرورة.

قوله: "والشمس مرتفعة" جملة حالية أيضًا.

قوله: "حين وقعت الشمس" أي: حين سقطت للغروب.

قوله: "أو كادت" أي: وكادت تطلع الشمس.

قوله: "والقائل يقول" جملة حالية أيضًا.

قوله: "حتى كان عند سقوط الشفق" أراد به قريبًا من غروب الشفق؛ لأن عند سقوط الشفق حقيقة يخرج وقت المغرب.

قوله: "حتى كان ثلث الليل الأول" برفع الأول؛ لأنه صفة للثلث لا لليل، فافهم.

قوله: "فيما بين هذين" أي هذين الوقتين اللذين صلى فيهما في اليومين.

ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إسماعيل بن سالم، قال: ثنا إسحاق بن يوسف، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن النبي عليه السلام: "أن رجلًا سأله عن وقت الصلاة، فقال: صلِّ معنا. قال: فلما زالت الشمس أمر بلالًا فأذن ثم أمره فأقام الظهر ثم أمره فأقام العصر والشمس بيضاء نقية مرتفعة، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء

ص: 158

حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما كان في اليوم الثاني أمره فأذن للظهر فابرد بها فأنعم أن نبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخّرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها، ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله، فقال: وقت صلاتكم فيما بين ما رأيتم".

ش: إسناده صحيح على شرط مسلم.

وإسماعيل بن سالم الصائغ شيخ مسلم وغيره، وبريدة بن الحُصَيب -بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين بن عبد اللهَ الأسلمي الصحابي.

وأخرجه مسلم (1): حدثني زهير بن حرب وعبد الله بن سعيد، كلاهما عن الأزرق -قال زهير: ثنا إسحاق بن يوسف الأزرق- قال: ثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن النبي عليه السلام: "أن رجلًا سأله عن وقت الصلاة، فقال له: صلِّ معنا هذين -يعني اليومين- فلما زالت الشمس أمر بلالًا

" إلى آخره نحوه رواية الطحاوي سواء.

وأخرجه الترمذي (2): ثنا أحمد بن منيع والحسن بن الصباح البزار وأحمد بن محمد ابن موسى -المعنى واحد- قالوا: أنا إسحاق بن يوسف الأزرق، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: "أتى النبي عليه السلام رجل فسأله عن مواقيت الصلاة فقال: أقم معنا إن شاء الله، فأمر بلالًا فأقام حين طلع الفجر، ثم أمره فأقام حين زالت الشمس فصلى الظهر، ثم أمره فأقام فصلى العصر والشمس بيضاء مرتفعة، ثم أمره بالمغرب حين وقع حاجب الشمس، ثم أمره بالعشاء فأقام حين غاب الشفق، ثم أمره من الغد فنوَّر بالفجر، ثم أمره بالظهر فأبرد وأنهم أن يبرد، ثم أمره بالعصر فأقام والشمس آخر وقتها فوق ما كانت، ثم أمره فأخّر المغرب إلى قبيل أن يغيب الشفق، ثم أمره بالعشاء فأقام حين ذهب ثلث

(1)"صحيح مسلم"(1/ 428 رقم 613).

(2)

"جامع الترمذي"(1/ 286 رقم 152).

ص: 159

الليل، ثم قال: أين السائل عن مواقيت الصلاة؟ فقال الرجل: أنا، فقال: مواقيت الصلاة كما بين هذين".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. قال: وقد رواه شعبة، عن علقمة ابن مرثد أيضًا.

وأخرجه النسائي: أنا عمرو بن هشام، قال: ثنا مخلد بن يزيد، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال:"جاء رجل إلى النبي عليه السلام فسأله عن وقت الصلاة فقال: قم معنا هذين اليومين فأمر بلالًا فأقام عند الفجر فصلى الفجر، ثم أمره حين زالت الشمس فصلى الظهر، ثم أمره حين رأى الشمس بيضاء فأقام العصر، ثم أمره حين وقع حاجب الشمس فأقام المغرب، ثم أمره حين غاب الشمس فأقام العشاء، ثم أمره من الغد فنوّر بالفجر، ثم أبرد بالظهر وأنعم أن يبرد، ثم صلى العصر والشمس بيضاء وأخَّر عن ذلك، ثم صلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، ثم أمره فأقام العشاء حين ذهب ثلث الليل فصلاها ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ وقت صلاتكم ما بين ما رأيتم".

قوله: "والشمس بيضاء" جملة حالية، وأراد ببياضها ونقاوتها: قوة نورها، وذلك إنما يكون قبل الاصفرار.

قوله: "فأنعم أن يبرد بها" أراد به أنه أطال الإبراد بها وأخّر الصلاة، من قولهم: أنعم النظر في الشيء إذا أطال التفكر فيه.

قوله: "والشمس مرتفعة" جملة حالية أيضًا، أراد به قبل الاصفرار أيضًا، ولكن أخّرها فوق الذي كان في اليوم الأول.

قوله: "وقت صلاتكم" كلام إضافي مبتدأ وخبره قوله: "فيما بين ما رأيتم"، وإنما قال هذا القول لأنه عليه السلام بيَّن بفعله أول الأوقات وآخرها، وبيَّن بقوله:"ما بينهما" ليكون بيانًا للجميع بالفعل والقول.

ص: 160

ويستفاد منه أحكام:

الأول: علم منه جميع الأوقات أولها وآخرها.

الثاني: ذكر بعضهم أن فيه دليلًا على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة؛ لأنه عليه السلام أحال ذلك على أن يصلي معه، وقال الباجي: ليس هذا من تأخير البيان الذي يتكلم شيوخنا في جواز تأخيره عن وقت الخطاب بالعبادة إلى وقت الحاجة وهو مذهب الباقلاني والجمهور، ومنعه الأبهري وغيره؛ لأن الخطاب هنا بالصلاة وبيان أحكامها قد تقدم قبل هذا السائل، فلم يسأل إلا عما ثبت بيانه وعرف حكمه، ولا خلاف أن للنبي عليه السلام أن يؤخر جواب السائل له عن وقت سؤاله وأن لا يجبه أصلًا، وقد فعل ذلك في مسائل كثيرة، ولا خلاف أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولم يتكلم الشيوخ في وجه تأخيره عليه السلام مع جواز موته قبل التعليم، فقيل: يحتمل أنه أوحي إليه بأن ذلك لا يكون قبل الإعلام؛ لأن العادة غالبًا في مثل هذا، وظاهر الأمر حياته هذين اليومن، واستصحاب حال السلامة وفيه حجة على الشافعي في جعله وقت المغرب وقتًا واحدًا ضيقًا مقدار ما يسع فيه أداء ثلاث ركعات؛ لأنه عليه السلام صلى المغرب في اليوم الأول حين غابت الشمس، ثم صلاها في اليوم الثاني قبل أن تغيب فالوقت من غروب الشمس إلى غروب الشفق وقت مديد يسع فيه صلوات كثيرة.

ثم اعلم أن الطحاوي أخرج أحاديث هذا الباب عن ستة من الصحابة وهم: ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وجابر بن عبد اللهَ وأبو موسى الأشعري وبريدة ابن الحُصَيْب رضي الله عنهم.

ولما أخرج الترمذي حديث ابن عباس قال: وفي الباب عن أبي هريرة وبريدة وأبي موسى وأبي مسعود الأنصاري وأبي سعيد وجابر وعمرو بن حزم والبراء وأنس.

قلت: وفي الباب عن عبد الله بن عمر أيضًا.

ص: 161

فحديث أبي مسعود رضي الله عنه عند الطبراني في "الكبير"(1) بإسناد لا بأس به: "أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي عليه السلام حين دلكت الشمس فقال: يا محمَّد صلِّ العصر، فقام وصلى، ثم أتاه جبريل حين غربت الشمس فقال: يا محمد صلِّ المغرب، فصل، ثم أتاه جبريل حين غاب الشفق وقال: يا محمد قم فصلِّ العشاء، فقام فصلى، ثم أتاه حين انشق الفجر فقال: يا محمد قم فصلِّ الصبح فقام فصلى ثم أتاه الغد وظل كل شيء مثله فقال: يا محمد قم فصلِّ الظهر، فقام فصلى الظهر، ثم أتاه حين كان ظل كل شيء مثليه فقال: يا محمد صلِّ العصر، فقام فصلى، ثم أتاه حين غربت الشمس وقتًا واحدًا فقال: يا محمد صلِّ المغرب، فقام وصلى، ثم أتاه حين ذهب ساعة من الليل فقال: يا محمد قم فصلِّ، ثم أتاه حين أسفر فقال: يا محمد صلِّ الصبح فقام فصلى ثم قال: ما بين هذين وقت".

وأخرجه إسحاق بن راهويه أيضًا في "مسنده".

وحديث عمرو بن حزم عند عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن معمر، عن عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه: "أن جبريل عليه السلام نزل فصلى بالنبي عليه السلام صلاة الظهر- وصلى النبي عليه السلام بالناس -حين زاغت الشمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى المغرب حين غربت الشمس، ثم صلى العشاء بعد ذلك كأنه يريد ذهاب الشفق، ثم صلى الفجر بغلس حين فجر الفجر.

قال: ثم نزل جبريل عليه السلام الغد فصلى بالنبي عليه السلام وصلى النبي عليه السلام بالناس الظهر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس لوقتٍ واحد، ثم صلى العشاء بعد ما ذهب

(1)"المعجم الكبير"(17/ 260 رقم 718).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(1/ 534).

ص: 162

هوي من الليل، ثم صلى الفجر بعد ما أسفر بها جدًّا، ثم قال: فيما بين هذين [الوقتين وقت](1) ".

وحديث البراء عند أبي يعلى الموصلي في "مسنده"(2) بإسناده عن البراء بن عازب قال: "جاء رجل إلى النبي عليه السلام يسأله عن مواقيت الصلاة فأمر بلالًا فقدَّم وأخَّر، وقال: الوقت ما بينهما".

وحديث أنس رضي الله عنه عند الدارقطني في "سننه"(3): ثنا أبو طالب أحمد بن نصر ابن طالب، ثنا أبو حمزة إدريس بن يونس بن يناق الفراء، ثنا محمد بن سعيد بن جدار، ثنا جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه:"أن جبريل عليه السلام أتى النبي عليه السلام بمكة حين زالت الشمس فأمره أن يؤذن للناس بالصلاة حين فرضت عليهم، فقام جبريل أمام النبي عليه السلام وقام الناس خلف رسول الله عليه السلام قال: فصلى أربع ركعات لا يجهر فيها بقراءة، يأتم الناس برسول الله عليه السلام ويأتم رسول الله عليه السلام بجبريل، ثم أمهل حتى إذا دخل وقت العصر صلى بهم أربع ركعات لا يجهر فيهما بالقراءة، يأتم المسلمون برسول الله عليه السلام ويأتم رسول الله عليه السلام بجبريل عليه السلام، ثم أمهل حتى إذا وجبت الشمس صلى بهم ثلاث ركعات يجهر في ركعتين بالقراءة ولا يجهر في الثالثة، ثم أمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل صلى بهم أربع ركعات يجهر في الأوليين بالقراءة ولا يجهر في الآخرين بالقراءة، ثم أمهل حتى إذا طلع الفجر صلى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة".

وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عند الدارقطني أيضًا (4): ثنا ابن الصواف، نا الحسين بن فهو بن حماد البزاز، ثنا الحسن بن حماد سجادة، ثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، عن عتبة بن مسلم، عن نافع، عن ابن عمر قال: "لما فرضت

(1) ليست في "الأصل، ك، ح"، والمثبت من "مصنف عبد الرزاق".

(2)

"مسند أبي يعلى"(3/ 241 رقم 1679).

(3)

"سنن الدارقطني"(1/ 260 رقم 14).

(4)

"سنن الدارقطني"(1/ 261 رقم 21).

ص: 163

الصلاة نزل جبريل عليه السلام على النبي عليه السلام فصلى به الظهر -وذكر المواقيت وقال-: فصلى به المغرب حين غابت الشمس، وقال في اليوم الثاني: فصلى به المغرب حين غابت الشمس".

ص: فأما ما روي عن رسول الله عليه السلام في هذه الآثار في صلاة الفجر فلم يحتلفوا عنه فيه أنه صلاها في اليوم الأول حين طلع الفجر وهو أول وقتها، وصلاها في اليوم الثاني حين كادت الشمس أن تطلع، وهذا اتفاق المسلمين أن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر وآخر وقتها حين تطلع الشمس.

ش: لما فرغ عن سوق أحاديث هذا الباب شرع يتكلم فيها مما وقع عليه الاتفاق والاختلاف وفي بيان معاني الأحاديث المذكورة وكيفية استنباط الأحكام منها فقدم الكلام أولًا في الفجر؛ لأنه حكم اتفاقي ليس فيه خلاف ولهذا قال: وهذا اتفاق المسلمين: أن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر أي أول وقت صلاة الفجر حين يطلع الفجر الثاني وهو الفجر الصادق، وقد تكلمنا في هذا الموضع بما فيه الكفاية في معنى حديث ابن عباس رضي الله عنهما في أول الباب.

ص: وأما ما ذكر عنه في صلاة الظهر فإنه ذكر عنه أنه صلاها حين زالت الشمس، وعلى ذلك اتفاق المسلمين أن ذلك هو أول وقتها، وأما آخر وقتها فإن ابن عباس وأبا سعيد وجابرًا وأبا هريرة رضي الله عنهم رووا أنه صلاها في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله، فاحتمل ذلك على قرب أن يصير ظل كل شيء مثله، وهذا جائز في اللغة، قال الله عز وجل:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (1) فلم يكن ذلك الإمساك والتسريح مقصودًا به أن يفعل بعد بلوغ الأجل؛ لأنها بعد بلوغ الأجل قد بانت وحرم عليه أن يمسكها، وقد بيَّن الله عز وجل في موضع آخر فقال:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (2)، فأخبر الله عز وجل أن لهن بعد بلوغ أجلهن أن ينكحن، فثبت بذلك أن

(1) سورة البقرة، آية:[231].

(2)

سورة البقرة، آية:[232].

ص: 164

ما جعل للأزواج عليهن في الآية الأخرى إنما هو في قرب بلوغ الأجل لا بعد بلوغ الأجل، فكذلك ما روي عمن ذكرنا عن رسول الله عليه السلام أنه صلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله يحتمل أن يكون على قرب أن يصير ظل كل شيء مثله، فيكون الظل إذا صار مثله قد خرج وقت الظهر، والدليل على ما ذكرنا من ذلك: أن الذين ذكروا هذا عن النبي عليه السلام قد ذكروا عنه في هذه الآثار أيضًا أنه صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله، ثم قال:"ما بين هذين وقت" فاستحال أن يكون بينهما وقت وقد جمعهما في وقت واحد، ولكن معنى ذلك عندنا -واللهَ أعلم- على ما ذكرنا، وقد دلّ على هذا أيضًا ما في حديث أبي موسى، وذلك أنه قال فيما أخبر عن صلاته عليه السلام في اليوم الثاني: "ثم أخَّر الظهر حتى كان قريبًا من العصر، فأخبر أنه إنما صلاها في ذلك اليوم في قرب دخول وقت العصر لا في وقت العصر.

فثبت بذلك إذْ أجمعوا في هذه الروايات أن بعد ما يصير ظل كل شيء مثله وقتٌ للعصر؛ أنه محال أن يكون وقتًا للظهر؛ لإخباره أن الوقت الذي لكل صلاة فيما بين صلاتيه في اليومين.

وقد دلّ على ذلك أيضًا ما قد حدثنا الربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا محمَّد بن الفضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للصلاة أولًا وآخرًا، وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وإن آخر وقتها حين يدخل وقت العصر".

فثبت بذلك أن دخول وقت العصر بعد خروج وقت الظهر.

ش: حاصل هذا الكلام: أنه بيَّن أنه اختار أن وقت الظهر يمتد إلى صيرورة ظل كل شي مثله كما قال به الجمهور خلافًا لأبي حنيفة فيما روى محمد بن الحسن عنه: أنه يمتد إلى صيرورة ظل كل شيء مثليه.

بيان ذلك: أن قول ابن عباس وأبي سعيد وجابر وأبي هريرة أنه عليه السلام صلاها في اليوم الثاني حين كان ظل كل شي مثله يحتمل أمرين:

ص: 165

الأول: أن يكون قد صلاها بعد إنتهاء ظل كل شيء مثله؛ فيكون وقت صيرورة ظل كل شيء مثله وقتًا للظهر بعد.

والثاني: يحتمل أن يكون المراد أنه صلاها على قرب صيرورة ظل كل شيء مثله، فحينئذٍ يخرج وقت الظهر إذا صار ظل كل شيء مثله، وهذا ظاهر.

ثم أيَّد صحة هذا الاحتمال بقوله: "وهذا جائز في اللغة" يعني ذكر الشيء، والمراد منه: ما يقرب منه لا حقيقة ذلك الشيء، وذلك نحو قوله تعالى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (1) فإن المراد منه: إذا قربن بلوغ أجلهن وشارفن منتهى عدتهن، وليس المراد حقيقة بلوغ الأجل الذي هو العدة؛ لأن بعد إنتهاء العدة تَبِينُ المرأة عنه ويحرم عليه بعد ذلك إمساكها؛ لأنها غير زوجة له حينئذٍ، وفي غير عدة منه، فلا يبقى له سبيل عليها، فَعُلِمَ أن المراد: إذا شارفن وقربن بلوغ العدة أمسكوهن بمعروف بأن يُرَاجَعْن من غير طلب ضرار بالمراجعة، أو سرحوهن حتى تنقضي عدتهن، وبيَّن من غير ضرار.

ثم أكثر ما ذكره من التأويل والتوجيه بثلاثة أشياء:

الأول: أن الصحابة رضي الله عنهم الذين ذكروا عن النبي عليه السلام أنه صلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله ثم قال عليه السلام: "ما بين هذين وقت"، فمن المحال والمستبعد أن يكون ما بينهما وقت والحال أنه جمعهما في وقت واحد، فَعُلم أن المراد: أنه صلى الظهر في اليوم الثاني على شرف صيرورة ظل كل شيء مثله، وعلى قرب منها.

الثاني: أن حديث أبي موسى لا يصح دليلًا على ذلك؛ لأنه أخبر عن صلاته عليه السلام في اليوم الثاني بقوله: "ثم أخّر الظهر حتى كان قريبًا من العصر" أنه إنما صلاها في ذلك اليوم في قرب دخول وقت العصر لا في وقت العصر، فثبت بذلك أن ما بعد ذلك صيرورة ظل كل شيء مثله وقت للعصرة فمحال ومستبعد أن يكون ذلك وقتًا للظهر.

(1) سورة البقرة، آية:[231].

ص: 166

الثالث: أن حديث أبي هريرة يدل على أن وقت العصر بعد خروج وقت الظهر، وقد ثبت في الآثار المذكورة أنه صلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، فيكون انتهاء هذا ابتداء وقت العصر، وهذا واضح لمن له فطانة، واللهَ أعلم.

ثم إسناد حديث أبي هريرة صحيح.

والأعمش هو سليمان، وأبو صالح اسمه ذكوان الزيات.

وأخرجه الترمذي (1): ثنا هناد، قال: ثنا محمد بن الفضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله عليه السلام: "إن للصلاة أولًا وآخرًا، وان أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وإن أول وقت العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق، وان أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس".

وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه"(2): عن ابن فضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام

إلى، آخره نحوه.

قوله: "إن للصلاة أولًا وآخرًا" معناه أن الصلاة المفروضة تكون في وقت محدد له ابتداء وانتهاء، ولقد بيَّن في هذا الحديث أوائل الصلوات الخمس وأواخرها، غير أنه قال:"وآخر وقتها" أي وقت صلاة الظهر "حين يدخل وقت العصر، وأن أول وقت العصر حين يدخل وقتها"، ولم يبيِّن في ذلك انتهاء وقت الظهر ما هو حتى نعلم ابتداء وقت العصر؛ وذلك لما سبق بيانه.

وتقريره عندهم: أنه عليه السلام بيَّن ذلك قولًا وفعلًا كما في الآثار المذكورة.

قوله: "حين تصفرّ الشمس" أراد به وقت الجواز والضرورة، وإلا فالوقت المستحب في العصر إلى ما قبل اصفرار الشمس.

(1)"جامع الترمذي"(1/ 283 رقم 151).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 281 رقم 3222).

ص: 167

قوله: "حين يغيب الأفق" أي الشفق، وقد جاء في رواية "حين يغيب الشفق".

قوله: "وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل" أراد وقت القضاء والاستحباب وإلا فقد ثبت بالآثار المذكورة أن آخر وقت العشاء إلى أن يطلع الفجر.

قوله: "حين يطلع الفجر" أراد به الفجر الثاني وهو الفجر الصادق، والله أعلم.

ص: وأما ما ذُكر عنه في صلاة العصر فلم يختلف عنه أنه صلاها في أول يوم في الوقت الذي ذكرنا عنه، فثبت أن ذلك هو أول وقتها، وذكر عنه أنه صلاها في اليوم الثاثي حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم قال:"إن الوقت فيما بين هذين" فاحتمل أن يكون ذلك هو آخر وقتها الذي إذا خرج فأتت. واحتمل أن يكون هو الوقت الذي لا ينبغي أن تؤخر الصلاة حتى يخرج، وأن من صلاها بعده -وإن كان قد صلاها في وقتها- مفرط؛ لأنه قد فاته في وقتها ما فيه الفضل، وإن كانت لم تفت بعد، وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال:"إن الرجل ليصلي الصلاة ولم تفته، وَلَمَا فاته من وقتها خيرٌ له من أهله وماله".

فثبت بذلك أن الصلاة في خاص من الوقت أفضل من الصلاة في بقية ذلك الوقت، فيحتمل أن يكون الوقت الذي لا ينبغي أن يؤخر العصر حتى يخرج هذا الوقت الذي صلاها رسول الله عليه السلام في اليوم الثاني، وقد دل على ما ذكرنا ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا محمد بن الفضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للصلاة أولًا وآخرًا، وإن أول وقت العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس".

ش: أي لم يختلف عن النبي عليه السلام أنه صلى صلاة العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله كما مرّ في الآثار المذكورة، فثبت بذلك أن ذلك هو أول وقت العصر، وبقي الكلام في أنه عليه السلام صلى العصر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه، فهذا يحتمل أمرين:

ص: 168

الأول: أن يكون ذلك هو آخر وقتها الذي إذا خرج هذا فأتت العصر.

والثاني: يحتمل أن يكون هو الوقت الذي لا ينبغي أن تؤخر الصلاة إلى حين خروج ذلك الوقت، وأن الذي يصليها بعد ذلك الوقت وإن كان قد صلاها في وقتها مفرط مقصر لما فاته من فضيلة ذلك الوقت وإن كانت لم تفت بعد، ألا ترى إلى ما روي عنه عليه السلام أنه قال: "إن الرجل ليصلي الصلاة ولم تفته

" الحديث، يدل على أن الصلاة في خاص من الوقت أي في جزء معين منه أفضل من الصلاة في بقية ذلك الوقت؟! فيحتمل أن يكون الوقت الذي لا ينبغي أن يؤخر العصر حتى يخرج هذا الوقت هو الذي صلاها رسول الله عليه السلام فيه في اليوم الثاني، وإلى هذا ذهبت طائفة فقالوا: لا ينبغي أن يؤخر العصر إلى ما بعد صيرورة ظل كل شي مثليه، وحكى ابن عبد الحكم وابن القاسم عن مالك: أن آخر وقت العصر أن يكون ظل كل شي مثليه، فكأنه لاحظ ما ذكرنا من الاحتمال الأول.

وقال أبو عمر: هذا عندنا وقت الاختيار، وقد ذكر ابن وهب عن مالك أنه قال: آخر وقتها غروب الشمس. وقد قال أيضًا ابن وهب عن مالك: وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس. وهذا عندنا أيضًا على أصحاب الضرورات.

وقال الشافعي: أول وقتها في الصيف إذا جاوز ظل كل شي مثله بشيء ما كان، ومن أخَّر العصر حتى يجاوز ظل كل شي مثليه في الصيف أو قدر ذلك في الشتاء فقد فاته الاختيار، ولا يجوز أن يقال: قد فاته العصر مطلقًا كما جاز على الذي أخّر الظهر إلى أن جاوز ظل كل شي مثله. قال: وإنما قلت ذلك لحديث أبي هريرة عن النبي عليه السلام: "من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدركها"(1).

قوله: "هذا الوقت الذي صلاها رسول الله عليه السلام" خبر لقوله: "فيحتمل أن يكون الوقت الذي لا ينبغي أن يؤخر".

قوله: "وقد دلّ على ما ذكرنا" أراد به ما ذكره من قوله: "فثبت أن ذلك أول وقتها"، وما ذكره من قوله:"وأن من صلاها بعده وإن كان قد صلاها في وقتها".

(1) تقدم.

ص: 169

والحديث الذي ذكره معلقًا أخرجه مالك في "الموطإ"(1) موقوفًا: عن يحيى بن سعيد أنه كان يقول: "إن المصلي ليصلي الصلاة وما فاته وقتها، ولما فاته من وقتها أعظم أو أفضل من أهله وماله".

قال أبو عمر: هذا موقوف في "الموطأ"، ويستحيل أن يكون مثله رأيًا فكيف وقد روي مرفوعًا بإسناد حسن! رواه ابن أبي ذئب عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام، كذا قال في "التمهيد"(2)، وقد نقل بعضهم عن أبي عمر أنه قال: قد روي هذا الحديث من وجوه ضعيفة عن النبي عليه السلام منها عن يحيى بن سعيد، عن يعلى بن مسلم، عن طلق بن حبيب، عن النبي عليه السلام مرسل. وطلق ثقة إلا أنه مرجئ، ومالك لا يرضى مذهبه، قال: وقد روي مسندًا إلا انه يدور على يعقوب بن الوليد وهو متروك الحديث، فتأمل ما بين الكلامين من التفاوت.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3) مرسلًا، وقال عبد الرزاق: عن ابن أبي سبرة، عن يحيى بن سعيد، عن يعلى بن مسلم، عن طلق بن حبيب، قال: قال رسول الله عليه السلام: "إن أحدكم -أو إن الرجل منكم- ليصلي الصلاة وما فاتته ولما فاته من وقتها خير له من مثل أهله وماله".

قوله: "لم تفته" يعني لم تكن صلاته فائتة؛ لأنه أداها في وقتها، ولكن ما أداها في وقتها الذي فيه الفضيلة والاستحباب، وهو معنى قوله:"ولما فاته من وقتها" أي: وللذي فاته من فضيلة وقتها هو خير له من أهله وماله.

(1)"موطأ مالك"(1/ 12 رقم 23). والحديث أخرجه علي بن الجعد في "مسنده" مرفوعًا من حديث أبي هريرة (1/ 415 رقم 2835)، وكذا أخرجه أبو الشيخ في "تعظيم قدر الصلاة"(2/ 961 رقم 1043) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ومن حديث طلق بن حبيب (1/ 960 رقم 1041).

(2)

"التمهيد"(24/ 75).

(3)

"مصنف عبد الرزاق"(1/ 584 رقم 2225).

ص: 170

قال أبو عمر: هذا يدل على أن أول الوقت أفضل. وقال أيضًا: كان مالك فيما حكى عنه ابن القاسم لا يعجبه قول يحيى بن سعيد هذا، وأظن ذلك -والله أعلم- من أجل قوله عليه السلام:"ما بين هذين وقت" فجعل أول الوقت وآخره وقتًا، ولم يقل: أوله أفضل، وكان مالك لا يرول بين أول الوقت ووسطه وآخره من الفضل ما يشبه مصيبة من فاته ذلك بمصيبة من ذهب أهله وماله؛ لأن ذلك إنما ورد في ذهاب الوقت كله، هذا معنى قول مالك، والله أعلم؛ لأن في هذا الحديث أن فوات بعض الوقت كفوات الوقت كله، وهذا لا يقوله أحد من العلماء لا من فضَّل أول الوقت على آخره ولا مَنْ سوَّى بينهما؛ لأن فوات بعض الوقت مباح وفوات كل الوقت لا يجوز ففاعله عاصٍ لله تعالى إذا تعمد ذلك، وليس كذلك من صلى في وسط الوقت وآخره، وإن كان من صلى في أول الوقت أفضل، وتدبر هذا تجده كذلك إن شاء الله تعالى.

قوله: "وقد دلّ على ما ذكرنا" أي على ما ذكرنا من قولنا: فثبت بذلك أن الصلاة خاص من الوقت أفضل من الصلاة في بقية ذلك الوقت، بيان ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو قوله عليه السلام:"وإن أخّر وقتها حين تصفر الشمس" فإنه يدل على أن الصلاة قبل اصفرار الشمس أفضل من الصلاة في حالة الاصفرار؛ وإن كان كل ذلك وقت العصر، ويدل على أن الذي يصلي في حالة الاصفرار مقصِّرٌ لما فاته من فضيلة الوقت المستحب حين تصفر الشمس.

ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة هذا عن قريب بهذا الإسناد بعينه، ولكنه قطَّعه لأجل تطبيق الاستدلال على المدعى، وقد ذكرنا أن الترمذي أخرجه بأتم منه فليراجع هناك.

ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخَصِيب بن ناصح، قال: ثنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن أي أيوب، عن عبد الله بن عمرو، أن النبي عليه السلام قال:"وقت العصر ما لم تصفر الشمس".

ص: 171

ش: إسناده صحيح.

والخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة- وأبو أيوب اسمه يحيى بن مالك، ويقال: حبيب بن مالك العتكي.

وأخرجه مسلم بأتم منه (1): حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، قال: ثنا عبد الصمد، قال: أنا همام، قال: ثنا قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني شيطان".

واعلم أن ألفاظ هذا الحديث مختلفة، ففي رواية عبد الله بن عَمرو بن العاص هذا "ما لم تصفر الشمس"، وفي رواية أبي هريرة:"حين تصفر الشمس"، وفي "الأم":"إلى أن تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول"، وفي حديث بريدة في الوقتين "أنه صلاها في اليوم الثاني والشمس مرتفعة"، وفي الرواية الأخرى "بيضاء نقية لم تخالطها صفرة"، وفي حديث أبي موسى:"وانصرف منها والقائل يقول: قد احمرت الشمس"، ومثله في حديث جبريل عليه السلام، وفي الأحاديث الأُخر:"مَن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها".

وبحسب هذا الاختلاف اختلف العلماء فيه كما قد ذكرناه، والتحقيق فيه: أن الكل يدل على وقت الاختيار غير قوله: "من أدرك ركعة من العصر

" الحديث، فإنه محمول على وقت الضرورة.

ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا شعبة،

(1)"صحيح مسلم"(1/ 426 رقم 612).

ص: 172

عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو، قال شعبة: حدثنيه ثلاث مرار، رفعه مرة ولم يرفعه مرتين، فذكر مثله.

ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا صحيح: عن ابن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك ابن عمرو البصري العقدي -بفتح العين المهملة وفتح القاف- نسبة إلى عقد بطن من بجيلة، وقد تكرر ذكره.

وأخرجه مسلم أيضًا (1): ثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، قال: حدثني أبي، قال: نا شعبة، عن قتادة، عن أبي أيوب واسمه يحمل بن مالك الأزدي ويقال: المراغي، والمراغ حي من الأزد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي عليه السلام قال:"وقت الظهر ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل، ووقت صلاة الفجر ما لم يطلع الفجر".

ثنا زهير بن حرب، قال: نا أبو عامر العقدي.

وثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا يحيى بن أبي بكير، كلاهما عن شعبة بهذا الإسناد، وفي حديثهما قال شعبة: رفعه مرةً ولم يرفعه مرتين.

ص: ففي هذا الأثر أن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وذلك بعد ما يصير الظل قامتين، فدل ذلك أن الوقت الذي قصده النبي عليه السلام في الآثار الأُوَل من وقتها هو وقت الفضل لا الوقت الذي إذا خرج فأتت الصلاة بخروجه؛ حتى تصح هذه الآثار ولا تتضاد.

ش: أي ففي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص هذا: أن آخر وقت العصر حين تصفر الشمس، وذلك لا يكون إلا بعد ما يصير ظل كل شي مثليه، فدلّ ذلك أن الوقت الذي قصده النبي عليه السلام في الأحاديث الأوُل التي تدل ظاهرًا على انتهاء وقت العصر عند إنتهاء صيرورة ظل كل شي مثليه؛ هو وقت الفضيلة والاستحباب لا

(1) تقدم تخريجه.

ص: 173

الوقت الذي إذا خرج تقع الصلاة بخروجه فائتة، وإنما قلنا ذلك حتى تتفق تلك الأحاديث مع حديث عبد الله بن عمرو ولا تتضادّ؛ لأن بينهما تضادًّ ظاهرًا لا يخفى، فدفعه بما قلنا يفيد العمل بالأحاديث كلها؛ لأنا حملنا الأحاديث الأول على وقت الفضل والاستحباب لا الوقت الذي إذا خرج فأتت الصلاة بخروجه، وحملنا حديث عبد الله بن عمرو وأمثاله على وقت التفريط الذي إذا صلى فيه يكون أداءً، ولكنه يكون مفرطًا حيث فوّت ما فيه من الفضل والاستحباب.

ص: غير أن قومًا ذهبوا إلى أن آخر وقتها غروب الشمس، واحتجوا في ذلك بما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي عليه السلام قال:"من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل طلوع الشمس فقد أدرك الصلاة، ومن أدرك ركعتين من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك".

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال:[ثنا](1) سعيد، أخبرنا [عن](1) معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر الزهراني، قال: ثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار وبسر بن سعيد وعبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر".

وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، عن النبي عليه السلام مثله.

(1) كذا في "الأصل، ك"، وليست في "شرح معاني الآثار".

ص: 174

قالوا: فلما كان من أدرك من العصر ما ذكر في هذه الآثار صار مدركًا لها؛ ثبت أن أخر وقتها هو غروب الشمس، وممن قال ذلك: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد رحمهم الله.

ش: أشار بهذا الإسناد إلى أن مذهب طائفة من الفقهاء أن آخر وقت العصر هو غروب الشمس، وأن الذي يؤخر صلاة العصر عن صيرورة ظل كل شي مثليه غير مفرط.

وأراد بالقوم هؤلاء: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر بن الهذيل ومالكًا في رواية ابن وهب؛ فإنهم قالوا: آخر وقت العصر هو غروب الشمس، واحتجوا في ذلك بحديث أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما؛ لأنه عليه السلام قال:"من أدرك ركعة من العصر أو ركعتين قبل أن تغرب الشمس، صار مدركًا لها".

فثبت بذلك أن آخر وقتها هو غروب الشمس؛ لأن معنى قوله عليه السلام: "فقد أدرك" أي وجوبها، حتى إذا أدرك الصبي أو أسلم الكافر أو أفاق المجنون أو طهرت الحائض، تجب عليه صلاة العصر ولو كان الوقت الذي أدركه جزءًا يسيرًا لا يتسع فيه الأداء، وكذلك الحكم قبل طلوع الشمس.

فإن قلت: قيد في الحديث ركعة فينبغي أن لا يعتبر أقل منها.

قلتُ: قيد الركعة في الحديث خرج مخرج الغالب؛ فإن غالب ما يمكن معرفة الإدراك به ركعة ونحوها، حتى قال بعضهم من الشافعية: إنما أراد رسول الله عليه السلام بذكر الركعة البعض من الصلاة؛ لأنه قد روي عنه: "من أدرك ركعة من العصر"، و"من أدرك ركعتين من العصر"، و"ومن أدرك سجدة من العصر"، فأشار إلى بعض الصلاة مرة بركعة، ومرة بركعتين، ومرة بسجدة، والتكبيرة في حكم الركعة؛ لأنها بعض الصلاة، فمن أدركها فكأنه أدرك ركعة.

فإن قيل: المراد من السجدة: الركعة.

ص: 175

على ما روى مسلم (1): حدثني أبو الطاهر وحرملة، كلاهما عن ابن وهب -والسياق لحرملة- قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدثه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال: رسول الله [عليه السلام](2): "من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس أو من الصبح قبل أن تطلع فقد أدركها". والسجدة إنما هي الركعة.

قلت: قد فسر السجدة بالركعة حرملة، وكذا فسر في "الأم" لأنه يعبر بكل واحد منهما عن الآخر، وأيًّا ما كان فالمراد بعض الصلاة وإدراك شيء منها، وهو يطلق على الركعة والسجدة وما دونها مثل تكييرة الإحرام.

وحديث: "من أدرك سجدة" رواه أحمد في "مسنده"(3): ثنا معاوية، ثنا زائدة، نا عبد الله بن ذكوان أبو الزناد، عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"من أدرك قبل طلوع الشمس سجدة فقد أدرك الصلاة ومن أدرك قبل غروب الشمس سجدة فقد أدرك الصلاة".

ثم إن الطحاوي رحمه الله: أخرج حديث أبي هريرة من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح ذكوان السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأخرجه الطيالسي في "مسنده"(4): ثنا وهب، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك من العصر ركعتين أو ركعة قبل أن تغيب الشمس فقد أدرك، ومن أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك".

(1)"صحيح مسلم"(1/ 424 رقم 609).

(2)

في "الأصل": "صلى الله عليه السلام"، وهو سبق قلم من المصنف رحمه الله.

(3)

"مسند أحمد"(2/ 399 رقم 9172).

(4)

"مسند الطيالسي"(1/ 318 رقم 2431).

ص: 176

وأخرجه أحمد (1): عن محمد بن جعفر، [عن شعبة](2)، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام أنه قال:"من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك، ومن أدرك ركعة أو ركعتين من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك".

الثاني: عن علي بن معبد بن نوح، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن سعيد بن أبي عروبة، عن معمر بن راشد، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام.

وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال:"من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها، ومن أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها".

وأخرجه مسلم (3): عن عبدبن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة نحوه.

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر -بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة- بن عمر بن الحكم الزهراني، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم القرشي أحد مشايخ أبي حنيفة، عن عطاء بن يسار الهلالي مولى ميمونة زوج النبي عليه السلام.

وعن بُسْر -بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة- بن سعيد المدني العابد، وعن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(1)"مسند أحمد"(2/ 348 رقم 8569).

(2)

سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد".

(3)

"صحيح مسلم"(1/ 424 رقم 608).

ص: 177

وأخرجه البخاري (1): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك

إلى آخره نحوه.

ومسلم (1): عن يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك

إلى آخره نحوه.

والترمذي (2): عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن، عن مالك

إلى آخره.

وابن ماجه (3): عن محمد بن الصباح، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار وعن بسر بن سعيد وعن الأعرج يحدثونه، عن أبي هريرة

إلى آخره نحوه.

وأخرجه أبو داود (4) من حديث ابن عباس عن أبي هريرة: ثنا الحسن بن الربيع، حدثني ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، ومن أدرك من الفجر ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك".

وأما حديث عائشة ل فقد أخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم: عن يونس ابن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة، عن النبي عليه السلام.

وأخرجه النسائي (5): أنا محمد بن رافع، قال: ثنا زكريا بن عدي، قال: ثنا ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي عليه السلام قال:"من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها".

(1)"صحيح البخاري"(1/ 211 رقم 554).

(2)

"جامع الترمذي"(1/ 353 رقم 186).

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 229 رقم 699).

(4)

"سنن أبي داود"(1/ 112 رقم 412).

(5)

"المجتبى"(1/ 273 رقم 551).

ص: 178

وأخرجه ابن ماجه (1): ثنا أحمد بن عمرو بن السرح وحرملة بن يحيى، قالا: نا عبد الله بن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أن رسول الله عليه السلام قال:"من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها، ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغيب الشمس فقد أدركها".

ويستنبط منه أحكام:

الأول: استدل به أبو حنيفة ومن تبعه ممن ذكرناهم أن آخر وقت العصر هو غروب الشمس؛ لأن من أدرك منه ركعة أو ركعتين مدرك له، فإذا كان مدركًا يكون ذلك الوقت من وقت العصر؛ لأن معنى قوله:"فقد أدرك" أدرك وجوبها، حتى إذا أدرك الصبي قبل غروب الشمس، أو أسلم الكافر، أو أفاق المجنون، أو طهرت الحائض؛ تجب عليه صلاة العصر، ولو كان الوقت الذي أدركه جزءا يسيرًا لا يسع فيه الأداء، وكذلك الحكم قبل طلوع الشمس.

وقال زفر: لا تجب ما لم يجد وقتًا يسع فيه الأداء حقيقة.

وعن الشافعي قولان فيما إذا أدرك دون ركعة كتكبيرة مثلًا:

أحدهما: لا بد منه.

والآخر: يلزمه، وهو أصحهما.

وقال أبو عمر: قال مالك: إذا طهرت المرأة قبل الغروب فإن كان بقي عليها من النهار قدر ما تصلي فيه خمس ركعات صلت العصر، وإذا طهرت قبل الفجر وكان ما بقي عليها من الليل قدر ما تصلي أربع ركعات -ثلاثًا للمغرب وركعة من العشاء- صلت المغرب والعشاء، وإن لم يبق عليها إلا ما تصلي فيه ثلاث ركعات صلت العشاء، ذكره أشهب وابن عبد الحكم وابن القاسم وابن وهب عن مالك، وقال ابن وهب: سالت مالكًا عن المرأة تنسى -أو تغفل عن- صلاة الظهر فلا تصليها

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 229 رقم 700).

ص: 179

حتى تغشاها الحيضة قبل غروب الشمس. فقال مالك: لا أرى عليها قضاء للظهر والعصر إلا أن تحيض بعد غروب الشمس.

وقال الشافعي وابن عُلية: لو أن امرأة حاضت في أول وقت الظهر بمقدار ما يمكنها فيه صلاة الظهر ولم تكن صلّت؛ لزمها قضاء صلاة الظهر؛ لأن الصلاة تجب بأول الوقت.

وقال الشافعي: وإن حاضت وقد مضى من الوقت قدر ما لا يمكنها فيه الصلاة بتمامها لم يجب عليها قضاؤها، كما لو حاضت وهي في الصلاة في أول وقتها لم يكن عليها إعادتها.

وقال مالك: من أغمي عليه في وقت صلاة حتى ذهب وقتها، ظهرًا كانت أو عصرًا -فقال: الظهر والعصر وقتها في هذا إلى مغيب الشمس- فلا إعادة عليه، وكذلك المغرب والعشاء وقتهما الليل كله.

وقول الليث في المغمى عليه والحائض كقول مالك سواء.

وقال مالك: إذا طهرت قبل غروب الشمس فاشتغلت [بالغسل](1) فلم تزل مجتهدة حتى غربت الشمس، لا أرى أن تصلي شيئًا من صلاة النهار.

وقالت طائفة من أهل العلم منهم ابن عُلية وهو أحد أقوال الشافعي وهو المشهور عنه [في البويطي](2) وغيره: إذا طهرت الحائض في وقت صلاة [وأخذت](2) في غسلها فلم تفرغ حتى [خرج](2) وقت تلك الصلاة وجب عليها قضاء تلك الصلاة؛ لأنها في وقتها غير حائض، وليس فوت، الوقت على الرجل يسقط عنه الصلاة إن اشتغل بوضوء أو غسل حتى فاته الوقت، وكذلك الحائض إذا طهرت.

(1) سقطت من "الأصل، ك" والمثبت من "التمهيد"(3/ 284).

(2)

طمس في "الأصل، ك" والمثبت من "التمهيد"(3/ 291).

ص: 180

قال الشافعي: وكذلك المغمى عليه يفيق، والنصراني يسلم، قبل غروب الشمس أو قبل طلوع الفجر أو قبل طلوع الشمس.

وسئل الأوزاعي عن الحائض تصلي ركعتين ثم تحيض، وكيف إن كانت أخرت الصلاة؟ قال: إن أدركها المحيض في صلاة انصرفت عنها ولا شيء عليها، وإن كانت أخرت الصلاة حتى جاز الوقت فعليها قضاؤها، وإن كانت أخرت الصلاة ولم يذهب الوقت فلا شيء عليها.

قال: وإذا طهرت المرأة بعد العصر فأخذت في غسلها فلم تفرغ منه حتى غابت الشمس فلا شيء عليها.

ذكره الوليد بن يزيد عن الأوزاعي، وقد ذكرنا عن الشافعي أنه إذا طهرت المرأة قبل مغيب الشمس بركعة أعادت الظهر والعصر، وكذلك إن طهرت قبل الفجر بركعة أعادت المغرب والعشاء، واحتج بقوله عليه السلام: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح

" الحديث.

وقال الشافعي في هذه المسألة قولان آخران: أحدهما: مثل قول مالك سواء.

والقول الآخر قاله في "الكتاب المصري" فقال في المغمى عليه إذا أفاق وقد بقي عليه من النهار قدر ما يكبر فيه تكبيرة الإحرام، أعاد الظهر والعصر ولم يعد ما قبلها لا صبحًا ولا مغربًا ولا عشاءً، قال: فإذا أفاق وقد بقي عليه من الليل قبل أن يطلع الفجر قدر تكبيرة واحدة؛ قضى المغرب والعشاء، فإذا أفاق قبل طلوع الشمس بقدر تكبيرة قضى الصبح، وإذا طلعت الشمس قبل أن يفيق لم يقضها، قال: وكذلك الحائض تطهر، والرجل يسلم، وقال فيمن جُنَّ بأمر لا يكون به عاصيًا فذهب عقله: لا قضاء عليه ومن كان زوال عقله بما يكون به عاصيًا قضى صلاة فاتته في حال زوال عقله، وذلك مثل السكران وشارب السُّمِّ والشيركران عامدَّا لإذهاب عقله.

ص: 181

وقال أبو حنيفة وأصحابه -وهو قول ابن علية-: من طهر من الحُيَّضِ أو بلغ من الصبيان أو أسلم من الكفار؛ لم يكن عليه أن يصلي شيئًا مما فات وقته، وإنما يقضي ما أدرك وقته بمقدار ركعة فما زاد، وهم لا يقولون باشتراك الأوقات لا في صلاتي الليل ولا في صلاتي النهار، ولا يرون لأحد الجمع بين الصلاتين لا لمسافر ولا لمريض في وقت إحداهما، ولا يجوز ذلك عندهم بغير عرفة والمزدلفة، وهو قول حماد بن أبي سليمان في هذه المسألة كقول أبي حنيفة، ذكر غندر، عن شعبة قال: سالت حمادًا عن المرأة تطهر في وقت العصر؟ قال تصلي العصر فقط.

وقال أبو حنيفة وأصحابه فيمن أغمي عليه خمس صلوات فأقل منها ثم أفاق: إنه يقضيها، ومن أُغمي عليه كثر من ذلك ثم أفاق لم يقضه.

وهو قول الثوري إلا أنه قال: أحب إليَّ أن يقضي، وقال زفر في المغمى عليه يفيق، والحائض تطهير، والنصراني يسلم، والصبي يحتلم: إنه لا يجب على واحد منهم قضاء صلاة إلا بأن يدركوا من وقتها مقدار الصلاة كلها بكمالها، كما لا يجب عليهم من الصيام إلا ما أدركوا وقته بكماله.

قال أبو عمر (1): قوله عليه السلام: "من أدرك ركعة

" الحديث يرد قول زفر.

وقال أحمد بن حنبل: إذا طهرت الحائض أو أسلم الكافر أو بلغ الصبي قبل أن تغرب الشمس؛ صلوا الظهر والعصر، وإن كان ذلك قبل أن يطلع الفجر؛ صلوا المغرب والعشاء.

وقال أحمد في المغمى عليه: يقضي الصلوات كلها التي كانت عليه في إغمائه، وهو قول عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، ولا فرق عندهم بين النائم والمغمى عليه في أن كل واحد منهما يقضي ما فاته وإن كثر، وهو قول عطاء بن أبي رباح، ورُوي ذلك عن عمار بن ياسر وعمران بن حصين، وروى ابن رستم عن محمد بن الحسن: أن النائم إذا نام كثر من يوم وليلة فلا قضاء عليه.

(1)"التمهيد"(3/ 288).

ص: 182

قال أبو عمر: لا أعلم أحدًا [قال](1) هذا القول في النائم غير محمد بن الحسن، فإن صح عنه هذا فهو خلاف السنة، لأنه قد ثبت عن النبي عليه السلام أنه قال:"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها".

وأجمعوا أن من نام عن خمس صلوات قضاها، فكذلك في القياس ما زاد عليها.

قال أبو عمر: وأصح ما في هذا الباب في المغمى عليه يفيق: أنه لا قضاء عليه لما فاته من وقته، وبه قال ابن شهاب والحسن وابن سيرين وربيعة [و] (2) مالك والشافعي [وأبو ثور] (2) وهو مذهب عبد الله بن عمر: من أغمي عليه لم يقض شيئًا مما فات وقته، وهذا القياس عندي، والله أعلم.

الثاني: فيه دليل صريح في أن من صلى ركعة من العصر ثم دخل الوقت قبل سلامه لا يُبطل صلاته بل يتمها، وهذا بالإجماع، وأما في الصبح فكذلك عند الشافعي ومالك وأحمد، إلا عند أبي حنيفة فإنه قال: يبطل صلاة الصبح بطلوع الشمس فيها، وقالت الشافعية: الحديث حجة على أبي حنيفة.

ثم نقول: من وقف على ما استند عليه أبو حنيفة عرف أن الحديث ليس بحجة عليه، وعرف أن غير هذا الحديث من الأحاديث حجة عليهم؛ فنقول: لا شك أن الوقت سبب للصلاة وطرف لها، ولكن لا يمكن أن يكون كل الوقت سببًا؛ لأنه لو كان كذلك يلزم تأخير الأداء عن الوقت، فتعين أن دخول بعض الوقت سببًا وهو الجزء الأول لسلامته عن المزاحم، فإن اتصل به الأداء تقررت السببية، وإلا ينتقل إلى الجزء الثاني والثالث والرابع وما بعده إلى أن يتمكن فيه من عقد التجزئة إلى آخر جزء من أجزاء الوقت، ثم هذا الجزء إن كان صحيحًا بحيث لم ينسب إلى النقصان ولم يوصف بالكراهة كما في الفجر وجب عليه كاملًا حتى لو اعترض الفساد في الوقت بطلوع الشمس في صلاة الفجر؛ لأن ما وجب كاملًا لا يتأدى بالناقض؛ كالصوم المنذور المطلق أو صوم القضاء، لا يتأدى في أيام النحر والتشريق، وإن

(1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "التمهيد"(3/ 289).

(2)

في "الأصل": "بن"، وهو خطأ، والمثبت من "التمهيد"(3/ 290).

ص: 183

كان هذا الجزء ناقصًا بأن صار منسوبًا إلى النقصان كالعصر وقت الإحمرار وجب ناقصًا؛ لأن نقصان السبب مؤثر في نقصان المسبب فيتأدى بصفة النقصان؛ لأنه أُدي كما لزم، كما إذا نذر صوم يوم النحر وأداه فيه، فإذا غربت الشمس في أثناء الصلاة لم تفسد العصر؛ لأن ما بعد الغروب كامل فيتأدى فيه؛ لأن ما وجب ناقصًا يتأدى كاملًا بالطريق الأولى.

فإن قيل: يلزم أن يفسد العصر إذا شرع فيه في الجزء الصحيح ومدها إلى أن غربت.

قلت: لما كان الوقت متسعًا جاز له شغل كل الوقت، فبعض الفساد الذي يتصل فيه بالعشاء؛ لأن الاحتراز عنه مع الإقبال على الصلاة متعذر، والجواب عن الحديث ما ذكره الطحاوي: أن وروده كان قبل نهيه عليه السلام عن الصلاة في الأوقات المكروهة.

الثالث: أن المراد من الإدراك: إدراك الوقت، لا أن ركعة من الصلاة من أدركها ذلك الوقت أجزأته من تمام صلاته.

قال أبو عمر: هذا إجماع من المسلمين، لا يختلفون في أن هذا المصلي فرضٌ عليه واجب أن يأتي بتمام صلاة الصبح وتمام صلاة العصر.

وقال القاضي عياض: لا خلاف أن اللفظ ليس على ظاهره، وأن هذه الركعة تجزئه من الصلاة دون غيرها، وإنما ذلك راجع إلى حكم الصلاة، فقيل: معناه: فضل الجماعة، وهو ظاهر حديث أبي هريرة هذا في رواية ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، وزيادته قوله:"مع الإِمام" وليس هذه الزيادة في حديث مالك عنه، ولا في حديث الأوزاعي وعبد الله بن عمر ومعمر، واختلف فيه عن يونس عنه، ويدل عليه إفراد مالك في التبويب في "الموطإ"، وقد رواه بعضهم عن مالك مفسرًا "فقد أدرك الفضل"، ورواه بعضهم أيضًا عن ابن شهاب، وهذا الفضل لمن تمت له الركعة كما قال، وفي مضمونه أنه لا يحصل بكماله لمن لم

ص: 184

تتحصل له الركعة، وذهب داود وأصحابه في أخرى: أن الحديث في إدراك الوقت؛ فجعلوه بمعنى الحديث الآخر: "من أدرك ركعة من الوقت قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح". وهما حديثان في شيئين لهما حكمان، وفيهما دليل على أن من لم يدرك ركعة فليس بمدرك لفضل تلك الصلاة ولا حكمها مما لزم إمامه من سجود سهو أو انتقال فرضه من اثنتين إلى أربع في الجمعة، أو انتقاله إلى حكم نفسه إن اختلف حالهما من السفر والإقامة، وهذا قول مالك والشافعي -في أحد قوليه- وعامة فقهاء الفتيا وأئمة الحديث.

وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف وأصحابهما والشافعي أيضًا: أنه بالإحرام يكون مدركًا حكم الصلاة، واتفق هؤلاء على إدراكهم العصر بتكبيرة قبل غروب الشمس، واختلفوا في الظهر، فعند الشافعي -في أحد قوليه-: هو مدرك بالتكبيرة لهما لاشتراكهما في الوقت، وعنه: أنه بتمام القائمة للظهر يكون قاضيًا لها، وهذا الإدراك يكون لمعنيين:

أحدهما: أن يكون لمن أخر الصلاة وهو مدرك للأداء بإدراك ركعة، وليس يكون قاضيًا بصلاته بعضها بعد وقتها كمدرك ركعة في صلاة الإِمام، فله في جميعها حكم الإتمام، وقد يحمل الحديث على من كان بصفة المكلفين في هذا الحين فأدرك وجوب الصلاة أو حكمًا من أحكامها في هذا الوقت، فهو مدرك له، وهذا قول مالك وأصحابه في معنى الحديث، وهو الذي عبروا عنهم بأصحاب الأعذار، وذلك: الكافر يسلم، والصغير يبلغ، والحائض تطهير، والمغمى عليه يفيق، والمسافر يقدم ويرحل.

وهذه الركعة التي يكون بها مدركًا للأداء والوجوب في الوقت هو قدر ما يكبر فيه للإحرام وقراءة أم القرآن بقراءة معتدلة، ويركع ويرفع، ويسجد سجدتين، ويفصل بينهما، ويطمئن في كل ذلك على من أوجب الطمأنينة، فهذا أقل ما يكون به مدركًا.

ص: 185

وعلى من لا يوجب أم القرآن في كل ركعة: يكفيه تكبيرة الإحرام والوقوف لها، وأشهب لا يراعي إدراك السجود بعد الركعة؛ أخذًا بظاهر الحديث.

وأما الركعة التي تدرك بها فضيلة الجماعة: فأن يُكبر لإحرام قائمًا، ثم يركع ويمكن يديه من ركبتيه قبل رفع الإمام رأسه، هذا مذهب مالك وأصحابه وجمهور الفقهاء من أهل الحديث والرأي وجماعة من الصحابة والسلف، ورُوي عن أبي هريرة أنه لا يعتد بالركعة ما لم يدرك الإِمام قائمًا قبل أن يركعها معه، ورُوي معناه عن أشهب من أصحابنا، ورُوي عن جماعة من السلف: أنه متى أحرم والإمام راكع أجزأه، وإن لم يدرك الركوع وركع بعد الإمام -كالناعس- اعتد بالركعة، وقيل: تجزئه وإن رفع الإمام ما لم يرفع الناس، وقيل: تجزئه إن أحرم قبل سجود الإِمام.

ص: وكان من حجة من ذهب إلى أن آخر وقتها بلى أن تتغير الشمس: ما قد رُوي عن النبي عليه السلام من نهيه عن الصلاة عند غروب الشمس، فمن ذلك:

ما قد حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر قال: قال لي عبد الله رضي الله عنه: "كنا ننهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ونصف النهار".

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا حبَّان بن هلال، قال ثنا همام، عن قتادة، عن محمد -قال أبو جعفر رحمه الله: محمد هو ابن سعد بن أي وقاص- عن زيد بن ثابت: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إذا طلع قرن الشمس، أو غاب قرن الشمس".

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا موسى بن عُلي بن رباح اللخمي، عن أبيه، عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: "ثلاث ساعات كان النبي عليه السلام ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا: حين تطلع

ص: 186

الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب".

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أبو مصعب، قال: ثنا الدراوردي، عن هشام ابن عروة، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي عليه السلام قال:"لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، وإذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب".

حدثنا محمد بن عمر بن يونس، قال: ثنا عبد الله بن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن عمر- رضي الله عنهم، عن رسول الله عليه السلام

مثله.

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله عليه السلام قال:"لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا معلى بن أسد، قال: ثنا وهيب، عن عبد الله ابن طاوس، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"وهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إنما نهى رسول الله عليه السلام أن يتحرى طلوع الشمس أو غروبها".

حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني معاوية بن صالح، قال: حدثني أبو يحيى وضمرة بن حبيب وأبو طلحة، عن أبي أمامة الباهلي، قال: حدثني عمرو بن عبسة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا طلعت الشمس فإنها تطلع بين قرني الشيطان، وهم ساعة صلاة الكفار، فدع الصلاة حتى ترتفع ويذهب شعاعها، ثم الصلاة محضورة مشهودة إلى أن ينتصف النهار، فإنها ساعة تفتح أبواب جهنم وتسجر، فدع الصلاة حتى يفيء الفيء، ثم الصلاة محضورة مشهودة إلى غروب الشمس فصحها تغرب بين قرني الشيطان، وهم ساعة صلاة الكفار".

حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن سماك بن

ص: 187

حرب، قال: سمعت المهلب بن أبي صفرة يحدث، عن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا عند طلوع الشمس ولا عند غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان -أو على قرني شيطان- وتغرب بين قرني شيطان- أو على قرني شيطان".

قالوا: فلما نهى النبي عليه السلام عن الصلاة عند غروب الشمس؛ ثبت أنه ليس بوقت صلاة، وأن وقت العصر يخرج بدخولها.

ش: أراد بقوله: "من ذهب

". إلى آخره: الشافعي -في قول- وأحمد -في الصحيح عنه- ومالكًا -في المشهور عنه- وجمهور أصحابه، والحسن بن زياد -من أصحاب أبي حنيفة- وإسحاق وداود؛ فإنهم ذهبوا إلى أن آخر وقت العصر إلى تغير الشمس، واختاره الطحاوي أيضًا على ما يفهم من كلامه، واحتجوا في ذلك بما رُوي عن عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمر وعائشة أم المؤمنين وعمرو بن عبسة وسمرة بن جندب رضي الله عنهم فإنهم رووا عن النبي عليه السلام أنه نهى عن الصلاة عند غروب الشمس، فدل ذلك أن وقت التغير ليس بوقت للعصر، وأن آخر وقته إلى أن تتغير الشمس.

أما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه بإسناد جيد حسن: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن علي بن معبد بن شداد العبدي، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي الحناط -بالنون- عن عاصم بن بهدلة أبي بكر المقرئ، عن زر بن حبيش الأسدي الكوفي، عن عبد الله بن مسعود.

وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال:"إن الشمس تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، قال: فكنا نُنْهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها".

قوله: "كنا نُنْهى" على صيغة المجهول، وهو محمول عند أكثر أهل العلم على أنه

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 134 رقم 7358).

ص: 188

نهي الرسول عليه السلام فكذا قول الصحابي: "أمرنا بكذا" محمول على أنه أمر لله ورسوله، وقال قوم: يجب فيه الوقف؛ لأنه لا يؤمن أن يعني بذلك أمر الأئمة والعلماء، والأول أقرب إلى الصواب، وفيه دليل على أن وقت الغروب ووقت الطلوع ليسا بأوقات للصلاة؛ إذ لو كانت أوقاتًا لما نهى النبي عليه السلام عن الصلاة فيها.

وأما حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن يزيد بن سنان القزاز البصري، عن حبان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- بن هلال الباهلي البصري، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص الزهري المدني، وقد بَيَّن الطحاوي أن المراد من محمد الذي يروي عنه قتادة هو ابن سعد بن أبي وقاص، وقد وقع في بعض النسخ: عن قتادة، عن محمد، عن زيد بن ثابت، فإن صح هذا يكون المراد منه محمد بن سيرين.

كما هو كذلك في "مسند أحمد بن حنبل"(1): حيث قال: حدثنا عفان، نا همام، نا قتادة، عن ابن سيرين، عن زيد بن ثابت:"أن النبي عليه السلام نهى أن يصل إذا طلع قرن الشمس أو غاب قرنها وقال: إنها تطلع بين قرني شيطان أو من بين قرني الشيطان".

قوله: "إذا طلع قرن الشمس" أي جانبها وطرفها، وقرن الشيء: ناحيته.

وأما حديث عقبة بن عامر فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن ابن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن موسى بن عُلي -بضم العين وفتح اللام- بن رباح اللخمي، عن أبيه عُلي بن رباح بن قصير اللخمي، عن عقبة بن عامر الجهني.

وأخرجه مسلم (2): ثنا يحيى بن يحيى، ثنا عبد الله بن وهب، عن موسى بن علي، عن أبيه، قال: سمعت عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه يقول: "ثلاث ساعات

(1)"مسند أحمد"(5/ 190 رقم 21704).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 568 رقم 831).

ص: 189

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن تقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحن يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف للغروب حتى تغرب".

وأخرجه الأربعة (1) أيضًا.

قوله: "أن نصلي فيها" عامٌّ يتناول جميع الصلوات، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

قوله: (وأن نقبر فيها موتانا" أي وأن ندفن فيها موتانا، هذا ظاهر المعنى ولكنه ليس بمراد؛ إذْ المراد: وأن نصلي عليها للإقبار، على ما يجيء، وهو من قَبَرَ يَقْبُر من باب نَصَرَ يَنْصُر، تقول: قبرته إذا دفنته وأقبرته إذا جعلت له قبرًا.

قوله: "بازغة" نصب على الحال عن الشمس، من بزغت الشمس وبزغ القمر وغيرهما إذا طلع، من باب نَصَرَ ينصر.

قوله: "قائم الظهيرة" ظهيرة الشمس شدة حرها نصف النهار، ولا يقال في الشتاء ظهيرة وتجمع على الظهائر ومراده: حين يقف الظل، وهو القائم بالظهيرة ولا يظهر له زيادة ولا نقص؛ لأنه قد انتهى نقصه.

و"حين تضيف" أي تميل وتجنح للغروب، يقال: ضاف الشيء يضيف بمعنى مال، ومنه اشتق اسم الضيف، ويقال: ضفت الرجل إذا ملت نحوه وكنت له ضيفًا، وأضفته إذا أملته إلى رحلك وقربته.

قوله: "تضيف" أصله تتضيف بتائين، فحذفت إحداهما للتخفيف كما في قوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} (2) أصله تتلظى.

(1) أبو داود (3/ 208 رقم 3192)، والترمذي (3/ 348 رقم 1030)، والنسائي (1/ 275 رقم 560) وابن ماجه (1/ 486 رقم 1519).

(2)

سورة الليل، آية:[14].

ص: 190

ويستفاد منه أحكام:

الأول: استدل به أصحابنا أن جميع الصلوات فرضها قضاء وأداء نفلها يكره في هذه الأوقات الثلاثة؛ لعموم قوله عليه السلام "أن نصلي فيها" وهو بإطلاقه حجة على الشافعي في تخصيص الفرائض وبمكة وحجة على أبي يوسف في إباحة النفل يوم الجمعة وقت الزوال.

وفي "الروضة" للنووي: يجوز في هذه الأوقات قضاء الفرائض والسنن والنوافل التي اتخذها الإنسان وردًا له، وتجوز صلاة الجنازة، وسجود التلاوة، وسجود الشكر، وركعتا الطواف، وصلاة الكسوف، ولا يكره فيها صلاة الاستسقاء على الأصح، وعلى الثاني تكره كصلاة الاستخارة وتكره ركعتا الإحرام على الصحيح، فأما تحية المسجد فإن اتفق دخوله لغرض كدرس علم أو اعتكاف أو انتظار صلاة ونحو ذلك لم تكره، وإن دخل لا لحاجة بل ليصلي التحية فوجهان أقيسهما الكراهة انتهى.

وبقوله قال أحمد وبقولهما قال مالك، وقال القاضي عياض: وأما الفرائض فلا خلاف في قضاء فرض يومه ومنسيته في هذين الوقتين مالم تطلع الشمس [أو](1) تغرب، فإذا طلعت أو غربت فلا خلاف في قضاء فرض يومه مع طلوعها وغروبها إلا شيء روي عن أبي حنيفة؛ أنه لا يقضي صلاة صبح يومه مع طلوعها وأنها إن طلعت وقد عقد ركعة فسدت عليه، ولا نقوله في الغروب؛ لجواز الصلاة بعد الغروب، وأما منسي غير يومه فجمهور العلماء على صلاتها حينئذ، إلا أن أبا حنيفة لا يجيز قضاءها في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وحمل اللفظ على العموم انتهى.

ثم إنه إذا صلى النوافل في هذه الأوقات تجوز؛ لأنه أدى كما وجبت؛ لأن النفل يجب بالشروع، وشروعه حصل في الوقت المكروه.

(1) في "الأصل": "و".

ص: 191

وقال الكرخي: يجوز وأحب إلينا أن يعيده. وقال: الأفضل له أن يقطع ويقضيها في الوقت المباح.

فإن قيل: ما الفرق أن الفرائض لا تجوز فيها أصلًا والنوافل تجوز بالكراهة؟

قلت: لأن الصلاة مشروعة بأصلها؛ لوجود أركانها وشرائطا، ولا قبح في أصلها لأنها تعظيم محض لله تعالى والأوقات أيضًا صحيحة بأصلها كسائر الأوقات، ولكن من حيث إنها أوقات فاسدة بوصفها؛ لانتسابها إلى الشيطان صارت الصلاة فلم يسقط فيها ومنها الكامل وهو الفرض بخلاف النفل؛ لأنه أداه كما شُرع لكن مع الكراهة لورود النهي.

الثاني: يستفاد منه كراهة الصلاة على الجنازة في هذه الأوقات؛ لأن المراد من قوله "وأن نقبر فيها موتانا" أن يصلي عليهم لأجل الإقبار في هذه الأوقات لأن الدفن فيها غير مكروهة.

واختلف العلماء فيه وفي الصلاة على الجنازة، فذهب أكثر أهل العلم إلى كراهة الصلاة على الجنازة في الأوقات المكروهة، وروي ذلك عن ابن عمر، وهو قول عطاء والنخعي والأوزاعي والثوري، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وإسحاق ومالك، وفي "الجواهر" للمالكية: ولا يجوز فعلها أي فعل الصلاة على الجنازة في وقتي الإسفار والاصفرار، هذا ما لم يُخشى تغيير الميت، فإذا خشي يصلي عليه في جميع الأوقات انتهى.

وعند الشافعي لا تكره الصلاة على الجنازة أي ساعة شاء من ليل أو نهار، وكذلك الدفن أي وقت كان من ليل أو نهار، وقول الجماعة أولى؛ لموافقة الحديث.

وقال عياض في قوله "فيها موتانا": يحتمل أن المراد بذلك الصلاة عليها حينئذ، ويحتمل أن يكون على ظاهره من الدفن انتهى.

فإن قيل: إذا كان المراد من قوله: "وأن نقبر فيها موتانا": أن نصلي عليها في هذه الأوقات، فمن أي قبيل يكون هذا الكلام؟

ص: 192

قلت: هو كناية؛ لأنه ذكر الرديف وأريد المردوف، وقال ابن حزم: ولا يحل دفن الموتى في هذه الساعات، وأما الصلاة عليهم فجائزة فيها للأثر بذلك عمومًا.

الثالث: أن قوله عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" يعارض هذا الحديث، بيانه: أن هذا نقيض أن تكون هذه الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها وقتًا للقضاء حين ذكر الغاية بقوله: "فإن ذلك وقتها" ويعارضه أيضًا قوله عليه السلام: "من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر"

بيانه: أن هذا يقتضي أنه لو شرع في صلاة الفجر وطلعت الشمس في خلالها أن لا تفسد صلاته كما ذهب إليه الشافعي.

الجواب عن الأول: أنه مخصوص بحديث عقبة، والدليل عليه ما روى أبو هريرة: "أن رسول الله عليه السلام حين قفل من غزوة حنين فسار ليلة

" الحديث وفيه: "فناموا فما أيقظهم إلا حر الشمس". وفي رواية: "انتبهوا وقد بدا حاجب الشمس فاقتادوا رواحلهم شيئًا ثم نزلوا للصلاة". وإنما فعل ذلك لترتفع الشمس، فلو جاز قضاء المكتوبة في حال طلوع الشمس لما أخرها رسول الله عليه السلام بعد الانتباه.

والجواب عن الثاني: أنه لبيان الوجوب بإدراك جزء من الوقت -قل أو كثر- كما ذكرنا فيما مضى.

الرابع: أن حد الارتفاع الذي تباح فيه الصلاة قدر رمح أو رمحين، وقال أبو بكر محمد بن الفضل: مادام الإنسان يقدر على النظر إلى قرص الشمس فالشمس في الطلوع لا تباح فيه الصلاة، فإذا عجز عن النظر يباح.

وقال الفقيه أبو حفص: يؤتى بطست ويوضع في أرض مستوية فما دامت الشمس تقع في حيطانه فهي في الطلوع فلا تحل الصلاة، وإذا وقعت في وسطه فقد طلعت وحلت صلاته.

وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

ص: 193

الأول: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن أبي مصعب أحمد بن أبي بكر واسمه القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني قاضي مدينة رسول الله عليه السلام شيخ الجماعة سوى النسائي.

عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي منسوب إلى دراورد -بفتح الدال- قرية بخراسان.

عن هشام بن عروة بن الزبير بن العوام.

عن سالم بن عبد الله.

عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.

وأخرجه البخاري (1): ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، عن أبيه قال: أخبرني ابن عمر- رضي الله عنهما قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها".

وقال: حدثني ابن عمر قال: قال: رسول الله عليه السلام: "إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب". تابعَهَ عَبْدة.

الثاني: عن محمد بن عمرو بن يونس التغلبي السوسي، عن عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله عليه السلام.

وأخرجه مسلم (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، وثنا ابن نمير، قال: ثنا أبي، وثنا ابن بشر قالوا جميعًا: ثنا هشام، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب".

(1)"صحيح البخاري"(1/ 212 رقم 558).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 568 رقم 829).

ص: 194

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): عن يحيى بن سعيد، عن هشام، نحوه.

وأخرج (2): عن وكيع، نا هشام، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله: "لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني شيطان".

الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن مالك ابن أنس، عن نافع

إلى آخره.

وأخرجه البخاري (3): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك نحوه.

ومسلم (4): عن يحيى بن يحيى، عن مالك نحوه.

وأحمد في "مسنده"(5): عن عبد الرزاق، عن مالك، عن نافع، نحوه.

قوله: "لا تحروا" أي لا توخوا أو لا تعمدوا ولا تطلبوا، من التحري في الأشياء وهو القصد والاجتهاد في الطلب والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول. وقال الجوهري: التحري في الأشياء: طلب ما هو أحرى بالاستعمال في غالب الظن، وفلان يتحرى الأمر أي يتوخاه ويقصده، وتحرى فلانًا بالمكان: أي تَمَكَّث وقوله: {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} (6) أي توخوا وعمدوا.

قوله: "طلوع الشمس" مفعول "لا تحروا" والمعنى لا تتحروا وقت طلوع الشمس بسبب صلاتكم، أي لأجلها، و"الباء" فيها كالباء في قوله:{إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا} (7) وقوله: وليست هي صلة "لا تحروا" لأنها تحتاج إلى فافهم.

(1)"مسند أحمد"(2/ 19 رقم 4695).

(2)

"مسند أحمد"(2/ 24 رقم 4772).

(3)

"صحيح البخاري"(1/ 212 رقم 560).

(4)

"صحيح مسلم"(1/ 567 رقم 828).

(5)

"مسند أحمد"(2/ 33 رقم 4885).

(6)

سورة الجن، آية:[14].

(7)

سورة البقرة، آية:[554].

ص: 195

قوله: "وإذا بدا" أي ظهر "حاجب الشمس" أي ناحيتها.

قوله: "حتى تبرز" أي تظهر، من البروز وهو الظهور، ومعناه حتى ترتفع كما قد وقع هكذا في رواية البخاري.

وأما حديث عائشة رضي الله عنها فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن محمد بن خزيمة ابن راشد، عن معلى بن أسد العمي أحد مشايخ البخاري، عن وهيب بن خالد العجلاني البصري، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه طاوس بن كيسان اليماني، عن عائشة.

وأخرجه مسلم (1): ثنا محمد بن حاتم، قال: ثنا بهز بن راشد، قال: ثنا وهيب، قال: ثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت:"وهم عمر رضي الله عنه إنما نهى رسول الله عليه السلام أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها".

وأخرجه النسائي (2): أنا محمد بن عبد الله بن المبارك، قال: ثنا الفضل بن عنبسة، قال: ثنا وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: قالت عائشة: "أوهم عمر رضي الله عنه إنما نهى رسول الله عليه السلام (قال: لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإنها تطلع بين قرني شيطان) (3) ".

قولها: "وهم عمر" من الوهم وهو الغلط، من وَهِمْتُ في الحساب -بالكسر- أَوْهَمُ وَهَمًا إذا غلطت فيه وسهوت ووَهَمْت في الشيء -بالفتح- أَهِمُ وَهْمًا إذا يقال أوهم من وأهم في وتوهمت: أي ظننت، وأوهمت الشيء: إذا تركته كله.

يقال أوهم من الحساب مائة أي أسقط، وأوهم من صلاته ركعة ثم قول عائشة من الوَهَم الذي يعني الغلط وَهِم بالكسر يُوهَمُ كما ذكرنا.

(1)"صحيح مسلم"(1/ 571 رقم 833).

(2)

"المجتبى"(1/ 279 رقم 570).

(3)

كذا في "الأصل"، والذي في "سنن النسائي":"أن يتحرى طلوع الشمس أو غروبها".

ص: 196

وفي رواية النسائي: "أوهم عمر" كما ذكرناها إما من أوهمت الشيء أو من وَهِمتُ، وإنما قالت عائشة ذلك لما روته من صلاة النبي عليه السلام الركعتين بعد العصر، وقد أخبرت بعلة ذلك وردت الأمر فيها أيضًا إلى أم سلمة وهي التي سألت عن القصة والعلة في صلاتها على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى".

فإن قيل ما قال عمر رضي الله عنه حتى قالت عائشة رضي الله عنها: وهم عمر؟

قلت: قال: "إن رسول الله عليه السلام قال: "لا صلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس -أو تطلع- وبعد العصر حتى تغرب الشمس، فلما سمعت عائشة بذلك قالت: وهم عمر رضي الله عنه إنما نهى رسول الله عليه السلام أن يتحرى طلوع الشمس أو غروبها" إنما قالت ذلك لما روته هي من صلاة النبي عليه السلام الركعتين بعد العصر كما ذكرنا، وبهذا تمسكت الشافعية أن الصلاة التي لها سبب لا تكره بعد العصر، وكذا يقتضي السنة التي بعد الظهر إذا فأتت تُقضى بعد العصر.

والجواب عن ذلك أن صلاته عليه السلام الركعتين بعد العصر كان خاصًّا بالنبي عليه السلام على ما يجيء الكلام فيه مستقصى إن شاء الله تعالى.

وأما حديث عمرو بن عبسة فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح ورواة ثقات: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني، عن عبد الله بن وهب المصري، عن معاوية بن صالح بن حدير الحضرمي الحمصي قاضي الأندلس، عن أبي يحيى سليم بن عامر الكلاعي الحمصي، وعن ضمرة بن حبيب بن صهيب الزبيدي الشامي الحمصي، وعن أبي طلحة نعيم بن زياد الشامي، ثلاثتهم عن أبي أمامة الباهلي الصحابي واسمه صُدَي بن عجلان، عن عمرو بن عبسة بن عامر بن خالد السلمي الصحابي، وعَبَسة بفتح العين والباء الموحدة والسين المهملة.

وأخرجه أبو داود (1) بأتم منه: ثنا الربيع بن نافع، نا محمد بن مهاجر، عن العباس بن سالم، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة السلمي؟ أنه

(1)"سنن أبي داود"(2/ 25 رقم 1277).

ص: 197

قال: "قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، فصل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلي الصبح، ثم أقصر حتى تطلع الشمس فترتفع قيْس رمح أو رمحين؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان وتصلي لها الكفار، ثم صل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى يعدل الرمح ظله، ثم أقصر؛ فإن جهنم تسجر وتفتح أبوابها، فإذا زاغت الشمس فصل ما شئت حتى تصلي العصر ثم أقصر حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان، وتصلي لها الكفار". وقص حديثًا طويلًا قال العباس: "هكذا حدثني أبو سلام عن أبي أمامة إلا أن أخطئ شيئًا لا أريده فاستغفر الله وأتوب إليه".

وأخرجه النسائي (1): أخبرني الحسن بن إسماعيل بن سليمان وأيوب بن محمد، قالا: ثنا حجاج بن محمد -قال أيوب: حدثنا، وقال حسين-: أخبرني شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن يزيد بن طلق، عن عبد الرحمن البيلماني، عن عمرو بن عبسة قال:"أتيت النبي عليه السلام فقلت: يا رسول الله، من أسلم معك؟ قال: حُرٌّ وعبد، قلت: هل من ساعة أقرب إلى الله عز وجل من أخرى؟ قال: نعم، جوف الليل الآخر، فصلِّ ما بدا لك حتى تصلي الصبح، ثم انته حتى تطلع الشمس وما دامت -وقال أيوب: فما دامت- كأنها جحفة حتى تنتشر، ثم صلِّ ما بدا لك حتى [يقوم العمود على ظله، ثم انته حتى تنعقد الشمس؛ فإن جهنم تسجر نصف النهار صلِّ ما بدا لك حتى] (2) تصلي العصر، ثم انته حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان، وتطلع بين قرني شيطان".

قوله: "فإنها تطلع بين قرني شيطان" اختلفوا فيه على وجوه، فقيل: معناه مقارنة الشيطان الشمس عند دنوها للطلوع والغروب، على معنىل ما روي أن الشيطان يقارنها إذا طلعت فإذا ارتفعت فارقها، وإذا استوت قارنها فإذا زالت فارقها، فإذا

(1)"المجتبى"(1/ 283 رقم 584).

(2)

سقط من "الأصل، ك" والمثبت من "المجتبى".

ص: 198

دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها فحرمت الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة لذلك.

وقيل: قرنه: قوته، من قولك: أنا مقرن لهذا الأمر أي مطيق له قوى عليه، وذلك لأن الشيطان إنما يقوى أمره في هذه الأوقات؛ لأنه يسول لعبدة الشمس أن يسجدوا لها في هذه الأوقات.

وقيل: قرنه: حزبه وأصحابه الذين يعبدون الشمس، يقال: هؤلاء قرن: أي نشؤٌ جاءوا بعد قرن مضى، وقيل: إن هذا تمثيل وتشبيه، وذلك أن تأخير الصلاة إنما هو من تسويل الشيطان لهم وتشويقه وتزيينه ذلك في قلوبهم وذوات القرون إنما تعالج الأشياء وتدفعها بقرونها، فكأنهم لما دافعوها وأخروها عن أوقاتها بتسويل الشيطان لهم حتى اصفرت الشمس؛ صار ذلك منه بمنزلة ما تعالجه ذوات القرون بقرونها ويدفعه (بأرواقها)(1).

وفيه وجه آخر: وهو أن الشيطان يقابل الشمس حين طلوعها وينتصب دونها حتى يكون طلوعها بين قرنيه وهما جانبًا رأسه، فينقلب سجود الكفار للشمس عبادة له، وقرنًا الرأس فَوْدَاه وجانباه، ومنه سُمي ذو القرنين؛ وذلك لأنه ضرب على جانبي رأسه فلقب به والله أعلم.

قلت: يمكن حمل الكلام على حقيقته ويكون المراد: أنه يحاذيها بقرنيه عند غروبها وكذا عند طلوعها؛ لأن الكفار يسجدون لها حينئذ فيقارنها ليكون الساجدون لها في صورة الساجدين له، ويخيل لنفسه وأعوانه إنما يسجدون له فيكون له ولشيعته تسلط.

قوله: "وهي ساعة صلاة الكفار" أي ساعة طلوع الشمس هي الساعة التي يصلي الكفار فيها نحو الشمس.

(1) الأرواق جمع روق، والروق: القرن من كل ذي قرن. انظر: "لسان العرب"(مادة: روق).

ص: 199

قوله: "فدع" أي أترك الصلاة حتى ترتفع الشمس قدر رمح أو رمحن كما حدُّوا الارتفاع به في رواية أبي داود.

قوله: "ويذهب شعاعها" شعاع الشمس: ما يُرى من ضوئها عند ذرورها كالقضبان.

قوله: "ثم الصلاة محضورة" يعني تحضرها الملائكة وتشهدها.

قوله: "وتسجر" أي توقد، واختلف في جهنم، إنه اسم عربي أم أعجمي؟

فقيل: عربي مشتق من الجهومة وهي كراهة المنظر، وقيل: من قولهم بئر جهنام أي عميقة، فعلى هذا لم تصرف؛ للعلمية والتأنيث وقال الأكثرون: هي عجمية معربة، وامتنع صرفها للعلمية والعجمة.

قوله: "حتى يفيء الفيء" أي حتى يرجع الظل، أراد حتى يقع الظل الذي يكون بعد الزوال، وسُمي الظل فيئًا لأنه يرجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق، وفي حالة استواء الشمس في كبد السماء لا يتحقق ظل الأشياء، فإذا زالت يظهر.

ويستفاد منه أحكام:

الأول: فيه حجة على الشافعي في أنه لا يكره النفل الذي له سبب؛ لما في رواية أبي داود: "حتى تصلي الصبح ثم أقصر حتى تطلع الشمس" وذلك لأنه يتناول ماله سبب وما لا سبب له.

الثاني: فيه حجة على أبي يوسف والشافعي أيضًا في أنهما لا يكرهان النفل يوم الجمعة حالة الزوال؛ لأن قوله: "فدع الصلاة حتى يفيء الفيء". يتناول كل الصلوات.

الثالث: فيه أن الملائكة يحضرون صلاة المؤمنين إذا كانت في غير الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها.

ص: 200

الرابع: فيه دليل على أن جهنم مخلوقة؛ خلافًا لمن يقول من المعتزلة إنها لم تخلق بعد.

الخامس: فيه دليل على أن وقت الغروب ليس بوقت للعصر؛ إذ لو كان وقتًا لها لما ورد النهي عن الصلاة.

وأما حديث سمرة بن جندب فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكّار القاضي، وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن وهب بن جرير، عن شعبة بن الحجاج، عن سماك بن حرب الكوفي، عن المهلب بن أبي صفرة الأزدي البصري واسم أبي صفرة: ظالم بن سارق، ويقال غير ذلك.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا الحجاج، ثنا شعبة، عن سماك، سمعت المهلب بن أبي صفرة قال: قال سمرة بن جندب: عن النبي عليه السلام: "لا تصلوا حتى تطلع الشمس؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان، ولا حين تغيب؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان".

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(2): ثنا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو داود الطيالسي، نا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت المهلب بن أبي صفرة يحدث، عن سمرة بن جندب قال:"نهى رسول الله عليه السلام أن يصلى بعد الصبح حتى تطلع الشمس؛ فإنها تطلع على قرني الشيطان".

وقال (3): ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، نا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت المهلب بن أبي صفرة يخطب يقول: قال سمرة بن جندب، عن النبي عليه السلام قال:"لا تصلوا حين تطلع الشمس ولا حين تسقط؛ فإنها تسقط بين قرني شيطان، وتغيب بين قرني شيطان".

(1)"مسند أحمد"(5/ 20 رقم 20239).

(2)

"المعجم الكبير"(7/ 234 رقم 6974).

(3)

"المعجم الكبير"(7/ 234 رقم 6976).

ص: 201

ص: فكان من حجة الآخرين عليهم أنه قد روي في هذا الحديث النهي عن الصلاة عند غروب الشمس وروى في غيره: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". فكان في ذلك إباحة الدخول في العصر في ذلك الوقت، فجعل النهي في الحديث الأول على غير الذي أبيح في الحديث الآخر حتى لا يتضاد الحديثان، فهذا أولى ما حملت عليه هذه الآثار حتى لا تتضاد.

ش: هذا جواب من قبل أبي حنيفة ومن معه عما قال أولئك القوم من الاستدلال بالآثار المذكورة على أن وقت الغروب ليس بوقت للعصر، أي فكان من الدليل والبرهان للجماعة الآخر -وهم أبو حنيفة ومن تبعه- عليهم أي على القوم الذين ذهبوا إلى أن آخر وقت العصر إلى تغير الشمس، بيان ذلك: أن هذه الآثار تقتضي النهي عن الصلاة عند غروب الشمس الذي يلزم منه أن لا يكون هذا الوقت صالحًا للعصر كما ذكرتم، ولكن روي في غيرها ما يدل على أن وقت الغروب وقت للعصر وهو قوله عليه السلام:"من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" فإنه يقتضي أن يكون وقت الغروب وقتًا لصلاة العصر.

فهذا كما ترى بينهما تضاد، فإذا حملنا النهي في الآثار الأول على غير الذي أبيح في هذا الحديث، أعني قوله عليه السلام:"من أدرك ركعة من العصر" يندفع التضاد.

حاصله: أن تلك الأحاديث تكون مخصوصة بهذا الحديث، فيكون وقت الغروب وقتًا للعصر فقط دون غيره من الصلوات.

ص: وأما وجه النظر عندنا في ذلك -والله أعلم- فإنا رأينا وقت الظهر الصلوات كلها فيه مباحة، التطوع كله، وقضاء كل صلاة فائته وكذلك ما اتفق عليه أنه وقت العصر ووقت الصبح مباح قضاء الصلوات الفائتات فيه، وإنما نهي عن التطوع خاصة فيه، فكان كل وقت قد اتفق عليه أنه وقت الصلاة من هذه الصلوات كل قد أجمع أن الصلاة الفائتة تقضي فيه، فلما ثبت أن هذه صفة أوقات الصلوات المجمع عليها، وثبت أن غروب الشمس لا تقضى فيه صلاة

ص: 202

فائتة باتفاقهم؛ خرجت بللك صفته من صفة أوقات الصلوات المكتوبات وثبت أن لا يصلى فيه صلاة أصلًا كنصف النهار وطلوع الشمس، وأن نهي النبي عليه السلام عند غروب الشمس ناسخ لقوله عليه السلام "من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغيب الشمس فقد أدرك العصر"؛ للدلائل التي شرحناها وبيناها، فهذا هو النظر عندنا، وهو خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أشار بهذا الكلام إلى أن وجه النظر والقياس هو ما ذهب إليه الشافعي ومن تبعه من أن وقت العصر إلى أن تتغير الشمس، وأن وقت الغروب ليس بوقت للعصر، وأن هذا اختياره لنفسه، وقد خالف فيه أبا حنيفة أصحابه، ولذلك قال: فهذا هو النظر عندنا وهو خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، ووجه ما ذكره ظاهر، ولكن قوله: وأن نهي النبي عليه السلام عند غروب الشمس ناسخ لقوله عليه السلام: "من أدرك من العصر

" الحديث كيف هذا النسخ؛ بل الذي ذكر غيره أن قوله عليه السلام: "من أدرك من العصر

" الحديث هو الناسخ لأحاديث النهي؛ وذلك لأن هذا متأخر عن أخبار النهي؛ وذلك لأن أبا هريرة هو الذي روى: "من أدرك ركعة من العصر" وهو متأخر وأخبار النهي عن: عمر بن الخطاب، وعمرو بن عبسة، وغيرهما، وإسلامهما قديم، وقد أجيب عن هذا بأن حديث أبي هريرة روي أيضًا عن عائشة وهي متقدمة الإِسلام فحينئذ يندفع الإشكال.

قلت: هذا غير مقنع، فلا يتم به التقريب.

فإن قيل: على ما ذكره الطحاوي ينبغي أن لا يجوز في حالة الغروب عصر يومه كما لا يجوز عصر أمسه بلا خلاف.

قلت: المفهوم من ظاهر كلامه أنه لا يجوز؛ لأنه قال: وثبت أن لا تصلَّ فيه صلاة أصلًا أي في حالة الغروب، وقوله هذا بعمومه يتناول سائر الصلوات، ولكن المذهب جواز عصر يومه؛ لأنه شرع فيه ناقصًا فيجوز له أن يؤدى كاملًا بخلاف عصر أمسه، وأنه حين فات ثبت في ذمته كاملًا، فلا يجوز أن يؤديه ناقصًا.

ص: 203

ص: وأما وقت المغرب فإن في الآثار الأُوَل كلها أنه صلاها عند غروب الشمس، وقد ذهب قوم إلى خلاف ذلك، فقالوا: أول وقت المغرب حين يطلع النجم، واحتجوا في ذلك بما حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث بن سعد، عن خير بن نعيم، عن ابن هبيرة الشيباني، عن أبي تميم الجيشاني، عن أي بصرة الغفاري قال:"صلى رسول الله عليه السلام صلاة العصر بالمحمض فقال: إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها؛ فمن حافظ منكم أوتي أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد".

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال: ثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن أي حبيب، عن خير بن نعيم الحضرمي

ثم ذكر مثله بإسناده غير أنه لم يقل: بالمحمض وقال: "لا صلاة بعدها حتى يُرى الشاهد والشاهد: النجم". فقالوا: طلوع النجم هو أول وقتها.

ش: أراد بالآثار الأُول: الأحاديث التي سبق ذكرها في أول الباب، وأراد بالقوم هؤلاء: طاوس بن كيسان وعطاء بن أبي رباح ووهب بن منبه؛ فإنهم قالوا: أول وقت المغرب حين طلوع النجم، واحتجوا في ذلك بحديث أبي بصرة الغفاري -بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة- واسمه حميل -بضم الحاء المهملة وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف- وقيل: جميل -بالجيم- والأول هو الصحيح وحميل بن بصرة -بالباء أيضًا- بن وقاص بن حاجب بن غفار الغفاري الصحابي.

وأخرج الطحاوي حديث أبي بصرة من طريقين صحيحين:

الأول: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن خير بن نعيم بن مرة أبي نعيم المصري قاضي مصر وَبَرقة، عن عبد الله بن هبيرة بن أسعد السبائي المصري، نسبته إلى سباء -بفتح السين مقصور مهموز مصروف وغير مصروف- وهو أبو اليمن واسمه عامر ويقال عبد شمس

ص: 204

وكان أول من سَبَا في العرب سباءً والهمزة فيه على هذا ملحقة، وزيدت المدة في النسبة كما يقال في النسبة إلى طيء: طائي، وهو يروي عن أبي تميم واسمه عبد الله ابن مالك الرعيني المصري، ونسبته إلى جيشان -بفتح الجيم وسكون الياء آخر الحروف وبالشين المعجمة- بن عبدان بن حجر بن ذي وعن الحميري.

الثاني: عن علي بن معبد بن نوح، عن يعقوب بن إبراهيم المدني، عن أبيه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري، عن محمد ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب سويد الأزدي المصري، عن خير بن نعيم الحضرمي، عن ابن هبيرة، عن أبي تميم، عن أبي بصرة

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (1) أيضًا من طريقين:

الأول: عن قتيبة، قال: نا الليث، عن خير بن نعيم الحضرمي، عن ابن هبيرة، عن أبي تميم الجيشاني، عن أبي بصرة الغفاري قال:"صلى بنا رسول الله عليه السلام العصر بالمحمض فقال: إن هذه الصلاة عُرضت على من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد، والشاهد النجم".

وأخرجه النسائي (2): عن قتيبة أيضًا نحوه إسنادًا ومتنًا.

والثاني: عن زهير بن حرب (1)، عن يعقوب بن إبراهيم إلى آخره.

قوله: "بالمحمض" بفتح الميمن وسكون الحاء المهملة وفي آخره ضاد معجمة، وهو الموضع الذي ترعى فيه الإبل الحمض، والحمَض في النبات كالرمث والأثل والطرفاء ونحوها والخلة من النبت ما كان حلوًا: تقول العرب: الخلة: خبز الإبل، والحمَض فاكهتها، ويقال: لحمها، والجمع الحموض، والرمث -بكسر الراء وسكون الميم وفي آخره شاء مثلثة- مرعى من مراعي الإبل، وهو من الحمض.

(1)"صحيح مسلم"(1/ 568 رقم 829).

(2)

"المجتبى"(1/ 259 رقم 521).

ص: 205

قوله: "أوتي "أي أعطي.

قوله: "حتى يطلع الشاهد" قد فسر في الحديث أنه النجم؛ سمى به لأنه يشهد بالليل: أي يحضر ويظهر، ومنه قيل لصلاة المغرب: صلاة الشاهد.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: وكان قوله عندنا والله أعلم: "ولا صلاة بعدها حتى يرى الشاهد" قد يحتمل أن يكون هذا هو آخر قول النبي عليه السلام كما ذكره الليث، ويكون الشاهد هو الليل، ولكن الذي رواه غير الليث تأول أن الشاهد هو النجم، فقال ذلك برأيه لا عن النبي عليه السلام، وقد تواترت الآثار عن رسول الله عليه السلام أنه كان يصلي المغرب إذا توارت الشمسي بالحجاب.

ش: أشار بهذا الجواب عما قال هؤلاء: إن قوله: "ولا صلاة بعدها حتى يُرى الشاهد". لا يخلو إما أن يكون من كلام النبي عليه السلام في آخر قوله، أو لم يكن، فإن كان من كلامه كما هو في رواية الليث بن سعد يكون المراد من الشاهد هو الليل، فنحن أيضًا نقول: لا صلاة بعد العصر حتى يدخل الليل؛ لأن دخول الليل بغروب الشمس، وإن لم يكن من كلام النبي عليه السلام كما رواه غير الليث، وأول الشاهد بالنجم، فلا يعمل به؛ لأنه ليس من النبي عليه السلام، على أن الآثار قد تواترت وتكاثرت أن النبي عليه السلام كان يصلي المغرب إذا توارت الشمس بالحجاب أي إذا غابت.

فإن قيل: إذا كانت الزيادة عن ثقة؛ يعمل بها.

قلت: نعم يعمل بها حينئذ إذا لم تخالفها الآثار الصحيحة، وقد تكاثرت الآثار الصحيحة أنه عليه السلام كان يصلي المغرب عقيب غروب الشمس وحث أمته على العجيلة حيث قال:"لا تزال أمتي بخير -أو قال: على الفطرة- ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم".

ص: 206

أخرجه أبو داود (1)، والحاكم في "مستدركه" (2) وقال: صحيح على شرط مسلم.

ص: حدثنا فهد، قال ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، عن عمارة، عن أبي عطية قال:"دخلت أنا ومسروق على عائشة رضي الله عنها فقال مسروق: يا أم المؤمنين، رجلان من أصحاب محمد عليه السلام كلاهما لا يألو عن الخير، أما أحدهما فيعجل المغرب ويعجل الأفطار، والآخر يؤخر المغرب حتى تبدو النجوم ويؤخر الإفطار -يعني- فقالت. أيهما كان يعجل الصلاة والإفطار؟ قال: عبد الله، قالت عائشة رضي الله عنها: كذلك كان يفعل رسول الله عليه السلام".

ش: هذا وما بعده من الآثار بيان لقوله: "وقد تواترت الآثار عن رسول الله عليه السلام أنه كان يصلي المغرب إذا توارت الشمس بالحجاب".

وإسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا فهدًا.

والأعمش هو سليمان، وعمارة هو ابن عمير التيمي الكوفي، وأبو عطية الوداعي الهمداني الكوفي اسمه مالك بن أبي حُمْرة -وقيل: مالك بن عامر، وقيل: عمرو- ابن جندب وقيل: غير ذلك والله أعلم.

وأخرجه مسلم (3): ثنا يحيى بن يحيى وأبو كريب محمد بن العلاء، [قالا] (4): ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي عطية قال:"دخلت أنا ومسروق على عائشة رضي الله عنها فقلنا: يا أم المؤمنين، رجلان من أصحاب محمد عليه السلام أحدهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة، والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة، قالت: أيهما الذي يعجل الإفطار ويعجل الصلاة؟ قال: قلنا: عبد الله -يعني ابن مسعود- قالت: كذلك كان يصنع رسول الله عليه السلام". زاد أبو كريب: "والآخر أبو موسى".

(1)"سنن أبي داود"(1/ 113 رقم 418).

(2)

"مستدرك الحاكم"(1/ 303 رقم 685).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 771 رقم 1098).

(4)

في "الأصل، ك،: "قال"، والمثبت من "صحيح مسلم".

ص: 207

وأخرجه أبو داود (1): عن مسدد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عمارة

إلى آخره نحو رواية مسلم.

وأخرجه الترمذي (2): عن هناد، عن أبي معاوية، عن الأعمش

إلى آخره نحوه.

وأخرجه النسائي (3) من طرق متعددة.

قوله: "رجلان" مبتدأ تخ صلى الله عليه وسلم بالصفة؛ لأن التقدير: رجلان كانا من أصحاب محمد عليه السلام.

وقوله: "كلاهما" مبتدأ ثان، وخبره قوله:"لا يألو" والجملة خبر المبتدأ الأول، ومعنى لا يألو: لا يقصر من أَلى يألو: إذا قَصَّر وأبطأ.

قوله: "حتى تبدو النجوم" أي حتى تظهر.

قوله: "يعني: أبا موسى" بيان لقوله: "والآخر يؤخر المغرب" وهو أبو موسى الأشعري، واسمه عبد الله بن قيس.

قوله: "قال: عبد الله" أي قال مسروق: الذي يعجل الصلاة والإفطار هو عبد الله بن مسعود.

وفيه: دلالة على أن وقت المغرب عقب غروب الشمس، واستحباب تعجيل الإفطار.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أسامة بن زيد، عن ابن شهاب، عن عروة، قال: أخبرني بشير بن أي مسعود، عن أبي مسعود رضي الله عنه قال:"كان رسول الله عليه السلام يصلي المغرب إذا وجبت الشمس".

(1)"سنن أبي داود"(2/ 305 رقم 2354).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 83 رقم 702).

(3)

"المجتبى"(4/ 143 - 144 رقم 2158 - 2161).

ص: 208

ش: إسناده صحيح ورواته ثقات، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وبشير -بفتح الباء الموحدة وكسر السنن المعجمة- بن أبي مسعود الأنصاري المدني قيل: إنه له صحبة، وذكره في "الكمال" من التابعين، قال: وقيل: إن له صحبة، ولكن لم يثبت سماعه من النبي عليه السلام.

وأبوه أبو مسعود البدري اسمه عقبة بن عمرو الصحابي من أهل العقبة.

وأخرجه الطبراني (1) مطولًا: ثنا مطلب بن شعيب الأزدي، ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح (ح).

وثنا عبد الرحمن بن معاوية العتبي، نا يحيى بن بكير، حدثني الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسامة بن زيد، عن ابن شهاب:"أنهم كانوا على كراسي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ومعهم عروة بن الزبير، فدعاه المؤذن لصلاة العصر فأمسى قبل أن يصليها، فلما رجعوا قال عروة بن الزبير: هل شعرت أن جبريل عليه السلام نزل على رسول الله عليه السلام فصلى معه وأخبره بوقت الصلاة؟ فقال عمر: ما تقول يا أبا عبد الله؟ فقال عروة عند ذلك: أخبرني بشر بن أبي مسعود الأنصاري، عن أبي مسعود، أنه سمع رسول الله عليه السلام يقول: نزل عليَّ جبريل عليه السلام فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، فرأيت رسول الله عليه السلام يصلي الهاجرة حين تزيغ الشمس وربما أخرها في شدة الحر، والعصر والشمس بيضاء مرتفعة يسير الرجل حين ينصرف منها إلى ذي الحليفة ستة أميال قبل غروب الشمس، ويصلي المغرب إذا وجبت الشمس، ويصلي العشاء إذا اسود الأفق، ويصلي الصبح بغلس ثم صلاها يومًا فأسفر بها، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله".

قوله: "إذا وجبت الشمس" أي إذا سقطت للغروب، من الوجوب وهو السقوط.

ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن

(1)"المعجم الكبير"(17/ 259 رقم 716).

ص: 209

سعد بن إبراهيم، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن جابر بن عبد الله قال:"كان رسول الله عليه السلام يصلي المغرب إذا وجبت الشمس".

ش: إسناده صحيح ورواته رواة الصحيح ما خلا ابن مرزوق، ومحمد بن عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.

وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده"(1) بأتم منه: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت محمد بن عمرو بن الحسن يقول: "لما قدم الحجاج بن يوسف كان يؤخر الصلاة، فسألنا جابر بن عبد الله عن وقت الصلاة، فقال: كان رسول الله عليه السلام يصلي الظهر بالهجير أو حين تزول، ويصلي العصر والشمس مرتفعة، ويصلي المغرب حين تغرب الشمس، ويصلي العشاء يؤخر أحيانًا ويعجل أحيانًا، إذا اجتمع الناس عَجَّل، وإذا تأخروا أَخَّر، وكان يصلي الصبح بغلس أو قال: كانوا يصلونها بغلس" قال أبو داود: هكذا قال شعبة.

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال:"كنا نصلي المغرب مع رسول الله عليه السلام إذا توارت بالحجاب".

ش: إسناده صحيح.

وأخرجه البخاري (2): ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا يزيد بن أبي عُبيد، عن سلمة قال:"كنا نصلي مع النبي عليه السلام المغرب إذا توارت بالحجاب".

ومسلم (3): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: نا حاتم -وهو ابن أبي إسماعيل- عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع:"أن رسول الله عليه السلام كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب".

(1)"مسند الطيالسي"(1/ 238 رقم 1722).

(2)

"صحيح البخاري"(1/ 205 رقم 536).

(3)

"صحيح مسلم"(1/ 441 رقم 636).

ص: 210

وأبو داود (1): ثنا عمرو بن علي، ثنا صفوان بن عيسى، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال:"كان النبي عليه السلام يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس إذا غاب حاجبها".

والترمذي (2): عن قتيبة

نحو مسلم.

وابن ماجه (3): نا يعقوب بن حميد بن كاسب، ثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع:"أنه كان يصلي مع النبي عليه السلام المغرب إذا توارت بالحجاب".

قوله: "إذا توارت بالحجاب" أي استترت، من التواري وهو الاستتار، والحجاب: الأفق، أي إذا غابت الشمس في الأفق واستترت به، ولا يقال: إنه إضمار قبل الذكر، لقيام القرائن على أن المراد بما يوسف بالتواري بالحجاب هو الشمس كما في قوله:{فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (4) ".

إذْ قوله: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ} (5) قرينة على أن المراد من قوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (1) هو الشمس، مع وجود القرينة الحالية أيضًا.

ص: وقد روي ذلك أيضًا عمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قد حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة قال:"قال عمر رضي الله عنه: صلوا هذه الصلاة -يعني المغرب- والفجاج مسفرة".

(1)"سنن أبي داود"(1/ 113 رقم 417).

(2)

"جامع الترمذي"(1/ 304 رقم 164).

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 225 رقم 688).

(4)

سورة ص، آية:[32].

(5)

سورة ص، آية:[31].

ص: 211

وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عمران

بإسناده مثله.

وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن منهال، قال: ثنا أبو عوانة، عن عمران

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، قال: ثنا محمد بن سيرين، عن المهاجر:"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى أن صلِّ المغرب حين تغرب الشمس".

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن المسيب:"أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أهل الجابية أن صلوا المغرب قبل أن تبدو النجوم".

حدثنا فهد، قال: حدثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: ثنا إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال:"صلى عبد الله بأصحابه صلاة المغرب فقام أصحابه يتراءون الشمس، فقال: ما تنظرون؟ فقالوا: ننظر أغابت الشمس، فقال عبد الله: هذا والله الذي لا إله إلا هو وقت هذه الصلاة، ثم قرأ عبد الله {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (1) وأشار بيده إلى المغرب فقال: هذا غسق الليل، وأشار بيده إلى المطلع فقال: هذا دلوك الشمس" قيل: حدثكم عمارة أيضًا قال: نعم.

حدثنا روح بن الفرح، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: قال عبد الرحمن بن يزيد: "صلى ابن مسعود رضي الله عنه بأصحابه المغرب حين غربت الشمس، ثم قال: هذا -والله الذي لا إله إلا هو- وقت هذه الصلاة".

(1) سورة الإسراء، آية:[78].

ص: 212

حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثني عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله مثله.

حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا المسعودي، عن سلمة بن كهيل، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال حين غربت الشمس:"والذي لا إله إلا هو إن هذه الساعة لميقات هذه الصلاة، ثم قرأ عبد الله تصديق ذلك من كتاب الله عز وجل: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (1) قال: ودلوكها حين تغيب، وغسق الليل: حين تظلم، والصلاة بينهما".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا خطاب بن عثمان، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الرحمن بن لبيبة، قال: قال لى أبو هريرة رضي الله عنه: "متى غسق الليل؟ قلت: إذا غربت الشمس، قال: فأحدر المغرب في إثرها ثم أحدرها في إثرها".

حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، قال:"رأيت عمر وعثمان رضي الله عنهما يصليان المغرب في رمضان إذا أبصر إلى الليل الأسود، ثم يفطران بعد".

قال أبو جعفر رحمه الله: فهؤلاء أصحاب النبي عليه السلام لم يختلفوا أن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وهذا هو النظر أيضًا؛ لأنا قد رأينا دخول النهار وقت لصلاة الصبح، فكذلك دخول الليل وقت لصلاة المغرب، وهو قول أبي حنيفة وأيى يوسف ومحمد وعامة الفقهاء رحمه الله.

ش: أي قد روي ما ذكرنا من أن وقت المغرب عقب غروب الشمس أيضًا عن الصحابة، فأخرج ذلك عن أربعة منهم، وهم: عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وأبو هريرة وعثمان بن عفان رضي الله عنهم.

أما أثر عمرا فقد أخرجه من خمس طرق حسان جياد:

ص: 213

الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي نزيل مصر وثقه ابن يونس، عن زهير بن معاوية بن حديج الكوفي أحد أصحاب أبي حنيفة من رجال الجماعة، عن عمران بن مسلم المنقري البَّصري -بالنون- القصير من رجال الجماعة غير ابن ماجه، عن سويد بن غفلة بن عوسجة الكوفي أدرك الجاهلية وقدم المدينة حين فرغت الأيدي من دفن رسول الله عليه السلام.

وقد روي أنه صلى مع النبي عليه السلام والأول أثبت، وهو من رجال الجماعة.

وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو الأحوص، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة، قال: قال عمر رضي الله عنه: "صلوا هذه الصلاة والفجاج مسفرة، يعني المغرب".

قوله: "الفجاج مسفرة" جملة اسمية وقعت حالًا، والفجاج جمع فج، وهي الطريق الواسع منه:"كل فجاج مكة منحر"(2).

قوله: "مسفرة" أي مضيئة، من أسفر: إذا أضاء وانكشف، وأراد به تعجيل المغرب قبل وقوعه في الغلس.

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة، عن عمر رضي الله عنه.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3): عن الثوري، عن عمران بن مسلم الجعفي، عن سويد بن غفلة قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: "صلوا هذه الصلاة والفجاج مسفرة، للمغرب".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 289 رقم 3321).

(2)

أخرجه أبو داود في "سننه"(2/ 193 رقم 1937)، و (2/ 297 رقم 2324). وابن ماجه في "سننه"(2/ 1013 رقم 3048) وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

(3)

"مصنف عبد الرزاق"(1/ 553 رقم 2092).

ص: 214

الثالث: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن المنهال، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن عمران بن مسلم، عن سويد، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر الحوضي واسمه حفص بن عمر وقد تكرر ذكره، عن يزيد بن إبراهيم التستري البصري، عن محمَّد بن سيرين، عن المهاجر -غير منسوب- ذكره ابن أبي حاتم وقال: المهاجر بصري روى عن عمر بن الخطاب، روى عنه محمد بن سيرين سمعت أبي يقول ذلك، وسكت عنه.

قوله: "كتب إلى أبي موسى" وهو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمله على الكوفة والبصرة.

الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق بن دينار المصري، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن طارق بن عبد الرحمن البجلي الأحمسي الكوفي من رجال الجماعة، عن سعيد بن المسيب، أن عمر رضي الله عنه إلى آخره.

وقال ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل": رأى سعيد بن المسيب عمر رضي الله عنه وسمع منه، وهو من سادات التابعين.

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن أبي الأحوص، عن طارق، عن سعيد بن المسيب قال:"كان عمر رضي الله عنه يكتب إلى أمراء الأمصار: أن لا تنتظروا بصلاتكم إلى اشتباك النجوم".

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن الثوري، عن طارق بن عبد الرحمن، عن ابن المسيب قال:"كتب عمر بن الخطاب إلى أهل الأمصار: أن لا تكونوا من المسوفين بفطركم، ولا المنتظرين بصلاتكم إلى اشتباك النجوم".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 289 رقم 3322).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(1/ 552 رقم 2093).

ص: 215

قوله: "إلى أهل الجابيه" وهي مدينة بالشام، وإليها ينسب باب من أبواب دمشق فيقال: باب الجابية. قدم إليها عمر بن الخطاب، بعد أن فتحها الصحابة أيامه.

وأما أثر عبد الله بن مسعود فأخرجه من أربع طرق صحاح:

الأول: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص أحد مشايخ البخاري ومسلم، عن أبيه حفص بن غياث بن طلق، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1) بإسناده: عن الأعمش، عن إبراهيم وعمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد قال:"كان ابن مسعود يصلي المغرب ونحن نرى أن الشمس طالعة، قال: فنظرنا يومًا إلى ذلك، فقال: ما تنظرون؟ قالوا: إلى الشمس، فقال عبد الله: هذا والله الذي لا إله إلا هو ميقات هذه الصلاة، ثم قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (2) فهذا دلوك الشمس".

قوله: "هل حدثكم عمارة أيضًا؟ قال: نعم" أراد أنهم سألوا الأعمش أن أثر ابن مسعود هذا حدثكم به عمارة أيضًا؟ قال: نعم.

وأخرجه الطبراني (3) بهذا الإسناد: ثنا محمد بن علي الصائغ، ثنا سعيد بن منصور، ثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد قال:"صلى عبد الله ذات يوم، فجعل رجل ينظر، هل غابت الشمس؟ فقال: ما تنتظرون؟! هذا والذي لا إلى غيره ميقات هذه الصلاة، فيقول الله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (1) فهذا دلوك الشمس، وهذا غسق الليل".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 370 رقم 1608).

(2)

سورة الإسراء، آية:[78].

(3)

"المعجم الكبير"(9/ 231 رقم 9132).

ص: 216

قوله: "يتراءون الشمس" أراد أنهم نظروا إلى الشمس هل غابت أم لا؟ وفسر غيره الدلوك بزوال الشمس، وقال الزمخشري: دلكت الشمس: غربت، وقيل: زالت، وروي عن النبي عليه السلام: "أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر واشتقاقه من الدلك؛ لأن الإنسان يدلك عينيه عند النظر إليها، فإن كان الدلوك: الزوال فالآية جامعة للصلوات الخمس، وإن كان الغروب فقد خرجت منها الظهر والعصر.

والغسق: الظلمة، وهو وقت صلاة العشاء.

الثاني: عن روح بن الفرج القطان، عن يوسف بن عدي بن زريق الكوفي، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن مغيرة بن مقسم الضبي، عن إبراهيم النخعي

إلى آخره.

وأخرج الطبراني (1): ثنا محمد بن علي الصائغ، نا سعيد بن منصور، ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن قال:"كنا مع عبد الله بن مسعود، فلما غربت الشمس قال: هذا والذي لا إله غيره حيث دلكت وحل وقت الصلاة".

الثالث: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق [بن](2) الأجدع، عن عبد الله بن مسعود.

الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد بن موسى الوهبي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، عن سلمة بن كهيل، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود.

قوله: "لميقات هذه الصلاة" أي لوقت هذه الصلاة، وهي صلاة المغرب، و"اللام" فيه للتأكيد، وهي مفتوحة.

(1)"المعجم الكبير"(9/ 231 رقم 9133).

(2)

سقط من "الأصل، ك".

ص: 217

قوله: "تصديق ذلك" أي تصديق ما قاله ابن مسعود.

قوله: "والصلاة بينهما" أي وقت الصلاة، أي وقت صلاة المغرب بين الدلوك والغسق، أراد: وقت المغرب بين غروب الشمس إلى ظلمة الليل وهي غروب الشفق.

وأما أثر أبي هريرة: فأخرجه عن إبراهيم بن داود البرلسي، عن خطاب بن عثمان الطائي الفوزي أبي عمرو الحمصي أحد مشايخ البخاري، عن إسماعيل بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة والشين المعجمة- بن سليم الشامي الحمصي العنسي -بالنون- فيه خلاف، فضعفه النسائي وابن حبان، ووثقه الفسوي، ولينه أبو حاتم.

عن عبد الله بن عثمان بن خثيم القاريّ -بتشديد الياء- المكي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا.

عن عبد الرحمن بن نافع بن لبيبة الطائفي الحجازي، وثقه ابن حبان.

قوله: "متى غسق الليل" أراد متى يكون الليل في الغسوق؟ يعني في الظلمة من غَسَقَ يَغْسق غسوقًا فهو غاسق إذا أظلم، وأغسق مثله، وأجاب بأن الغسوق يكون بغروب الشمس.

قوله: "فأحدر المغرب" أي أسرعها، من حدر إذا أسرع يقال: حدر في قراءته وأذانه يحدر حدرًا، وهو من الحدور ضد الصعود، يتعدى ولا يتعدى.

قوله: "في إثرها" أي في عقب غروب الشمس، أراد لا تؤخر صلاة المغرب عن عقب غروب الشمس، وإنما أيد الضمير في "إثرها" وإن كان يرجع إلى الغروب الذي يدل عليه قوله:"إذا غربت الشمس" باعتباره ملاحظة الشمس، أو باعتبار معنى الرؤية فافهم.

وأما أثر عثمان رضي الله عنه الذي فيه عمر أيضًا، فأخرجه عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أسد بن موسى أسد السنة، وثقه ابن يونس.

ص: 218

عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب من رجال الجماعة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني روى له الجماعة.

وأخرجه ابن سعد في ترجمة حميد بن عبد الرحمن (1) وقال: روى عن مالك، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن:"أن عمر وعثمان رضي الله عنهما كانا يصليان المغرب في رمضان ثم يفطران".

ورواه يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن حميد قال:"رأيت عمر وعثمان يصليان" قال محمد بن عمر: وأثبتها عندنا حديث مالك وأن حميد لم يَرَ عمر رضي الله عنه ولم يسمع منه شيئًا، وسنُّه وموته يدل على ذلك، ولعله قد سمع من عثمان؛ لأنه كان خاله، وكان يدخل عليه كما يدخل ولده صغيرًا أو كبيرًا.

قوله: "وهذا هو النظر أيضًا" أي كون وقت المغرب عقب الغروب هو النظر والقياس، وهو ظاهر.

قوله: "وعامة الفقهاء" نحو الثوري والنخعي والأوزاعي والشافعي ومالك وأحمد وأصحابهم وجماهير الفقهاء من بعدهم رحمهم الله.

ص: واختلف الناس في خروج وقت المغرب، فقال قوم: إذا غاب الشفق -وهو العمرة- خرج وقتها، وممن قال ذلك: أبو يوسف ومحمد.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الثوري وابن أبي ليلى وطاوسًا ومكحولًا والحسن بن حيّ والأوزاعي والشافعي ومالكًا وأحمد وإسحاق وداود بن علي، فإنهم قالوا: الشفق هو الحمرة، ولا يخرج وقت المغرب إلا بخروج الحمرة، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وشداد بن أوس وعبادة بن الصامت، وإليه ذهب أبو يوسف ومحمد من أصحاب أبي حنيفة، وحكي عن أحمد: أنه البياض في البنيان، والحمرة في

(1)"الطبقات الكبرى"(5/ 154).

ص: 219

الصحاري. وعن بعضهم: الشفق اسم للحمرة والبياض معًا إلا أنه إنما يطلق في أحمر ليس بقاني، وأبيض ليس بناصع.

ص: وقال آخرون: إذا غاب الشفق -وهو البياض الذي بعد الحمرة- خرج وقتها، وممن قال ذلك: أبو حنيفة رضي الله عنه.

ش: أي قال جماعة آخرون، وأراد بهم: عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن المبارك والأوزاعي -في رواية- ومالكًا -في رواية- وزفر بن الهذيل وأبا ثور والمبرد والفراء؛ فإنهم قالوا: لا يخرج وقت المغرب حتى يغيب الشفق الأبيض، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعائشة وأبي هريرة ومعاذ بن جبل وأُبيّ بن كعب وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم وإليه ذهب أبو حنيفة.

ص: وكان النظر عندنا في ذلك: أنهم قد أجمعوا أن العمرة التي قبل البياض من وقتها وإنما اختلافهم في البياض الذي بعده، فقال بعضهم: حكمه خلاف حكم العمرة، فنظرنا في ذلك فرأينا الفجر تكون قبله حمرة، ثم يتلوها بياض الفجر، فكانت العمرة والبياض في ذلك وقتًا لصلاة واحدة وهو الفجر، فإذا خرجا خرج وقتها، فالنظر على ذلك: أن يكون البياض والحمرة في المغرب أيضًا وقتًا لصلاة واحدة وحكمهما حكم واحد إذا خرجا خرج وقتا الصلاة اللذان هما وقت لها.

ش: ملخص هذا: أن الشفق يطلق على العمرة والبياض كما قال بعض أهل اللغة، فلا يخرج وقت المغرب إلا بذهاب الحمرة والبياض جميعًا، ودل كلامه أيضًا أنه اختار أن يكون خروج المغرب بذهاب العمرة والبياض جميعًا، قياسًا على حمرة الفجر وبياضه، والله أعلم.

ص: وأما العشاء الآخرة فإن تلك الآثار كلها فيها أن رسول الله عليه السلام صلاها في أول يوم بعد ما غاب الشفق إلا جابر بن عبد الله رضي الله عنه فإنه ذكر أنه صلاها قبل أن يغيب الشفق فيحتمل ذلك عندنا -والله أعلم- أن يكون جابر عني الشفق الذي هو البياض، وعني الآخرون الشفق الذي هو الحمرة، فيكون قد صلاها بعد غيبوبة

ص: 220

الحمرة وقبل غيبوبة البياض حتى تصح هذه الآثار ولا تتضاد [و](1) في ثبوت ما ذكرنا ما يدل على ما قال من قال: إن بعد غيبوبة العمرة وقت للمغرب إلى أن يغيب البياض.

ش: هذا عطف على قوله: "وأما وقت المغرب" وأراد بتلك الآثار التي رواها عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري وبريدة بن الحصيب وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وغيرهم رضي الله عنهم فإنهم كلهم رووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العشاء الآخرة بعد ما غاب الشفق، إلا جابر بن عبد الله فإنه ذكر أنه صلاها قبل غيبوبة الشفق، فبين الروايتين تعارض وتضاد ظاهرًا، ودفع ذلك أن نقول: إنه يحتمل أن يكون جابر رضي الله عنه أراد من الشفق الذي هو البياض، ويكون معنى كلامه أنه صلاها قبل غيبوبة الشفق الأبيض بعد غيبوبة الشفق الأحمر، ويكون غيره أراد من الشفق هو الحمرة، ويكون معنى كلامهم أنه صلاها بعد غيبوبة الشفق الأحمر وقبل غيبوبة الشفق الأبيض، فحينئذ تتفق الروايتان ويرتفع التعارض.

قوله: "وفي ثبوت ما ذكرنا

" إلى آخره إشارة إلى تقوية قول أبي حنيفة أن الشفق هو البياض، وذلك لأنه قد ثبت أنه عليه السلام قد صلى العشاء الآخرة في اليوم الأول في كلتا الروايتين بعد غيبوبة الشفق الأحمر، فدل ذلك على أن ما بعد غيبوبة الأحمر وقت للمغرب إلى غيبوبة الأبيض.

قوله: "ما يدل" محله الرفع بالابتداء، وخبره قوله "وفي ثبوت ما ذكرنا".

قوله: "على ما قال" يتعلق بقوله: "يدل" وقوله: "من قال" في محل الرفع لأنه فاعل "قال" الذي في قوله: "ما قال" فافهم.

ص: وأما آخر وقت العشاء الآخرة ة فإن ابن عباس وأبا سعيد وأبا موسى رضي الله عنهم ذكروا أن النبي عليه السلام أخرها إلى ثلث الليل ثم صلاها، وقال جابر بن

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 221

عبد الله: صلاها في وقت قال بعضهم: هو ثلث الليل، وقال بعضهم: هو نصف الليل، فأحتمل أن يكون صلاها قبل مضي الليلة فيكون مضي الثلث هو آخر وقتها واحتمل أن يكون صلاها بعد الثلث فيكون قد بقيت بقية من وقتها بعد خروج الثلث، فلما احتمل ذلك نظرنا فيما روي في ذلك.

فإذا ربيع المؤذن قد حدثنا، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: أنا محمد بن الفضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إن للصلاة أولًا وآخرًا، وإن أول وقت العشاء حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس".

حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، قال: ثنا، الخصيب بن ناصح، قال: ثنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي عليه السلام قال:"وقت العشاء إلى نصف الليل".

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو -قال شعبة: حدثنيه ثلاث مرار رفعه مرة ولم يرفعه مرتين- ثم ذكر مثله.

فثبت بهذه الآثار أن ما بعد ثلث الليل أيضًا هو وقت من وقت العشاء الآخرة.

ش: تحرير هذا أن ابن عباس وأبا سعيد الخدري وأبا موسى الأشعري ذكروا في أحاديثهم أن النبي عليه السلام أخر العشاء الآخرة إلى ثلث الليل ثم صلاها، وأن جابر بن عبد الله قال: إنه صلاها في وقت فاختلفوا فيه، فقيل: هو ثلث الليل، وقيل: هو نصف الليل، فاحتمل أن يكون عليه السلام صلاها قبل مُضي الثلث فيكون مُضي ثلث الليل هو آخر وقت العشاء، واحتمل أن يكون صلاها بعد الثلث فيكون قد بقيت بقية من ذلك العشاء الآخرة بعد خروج الثلث، فلما احتمل؛ نظرنا، فوجدنا حديث

ص: 222

أبي هريرة: "وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل". يدل على أن ما بعد ثلث الليل أيضًا وقت من وقت العشاء الآخرة وكذلك حديث عبد الله بن عمرو: "وقت العشاء إلى نصف الليل" يدل على ذلك كذلك. هذا حاصل كلامه.

قلت: اختلفت الرواية في آخر وقت العشاء الآخرة، ففي حديث عمرو بن العاص: وقتها إلى نصف الليل الأوسط، وفي رواية بريدة:"أنه صلى في اليوم الثاني بعد ما ذهب ثلث الليل". وفي رواية: "عندما ذهب ثلث الليل". ومثله في حديث أبي موسى: "حين كان ثلث الليل". وفي حديث جبريل عليه السلام: "حين ذهب ساعة من الليل" وفي رواية ابن عباس: "إلى ثلث الليل". وفي حديث أبي برزة: "بعد هذا إلى نصف الليل أو ثلثه". وقال مرة: "إلى نصف الليل". ومرة: "إلى ثلث الليل". وفي حديث أنس: "بعد هذا شطره". وفي حديث ابن عمر: "حتى ذهب ثلثه". واختلف في الحديث عن جابر، فقيل: إلى شطره، وقيل: إلى ثلثه. وجاء في "الأم": بعد هذا عنه: "إذا اجتمعوا عَجَّلَ وإذا أبطأوا آخَّرَ". وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "حتى ذهب عامة الليل".

واختلف العلماء بحسب هذا فقال عياض: وبالثلث قال مالك والشافعي في قول، وبالنصف قال أصحاب الرأي وأصحاب الحديث والشافعي في قول، وابن حبيب من أصحابنا، وعن النخعي الربع، وهو نحو من قوله في الحديث:"بعد ساعة من الليل" وقيل: وقتها إلى طلوع الفجر، وهو قول داود، وهذا عند مالك وقت الضرورة لها، واختلف في وقت الوجوب وتعيين الخطاب على المصلي في أوقات هذه الصلوات، مذهب المالكية: أن الوجوب يتعلق بأول الوقت وأن الجميع وقت موسع للوجوب، وحكى ابن القصار هذا عن الشافعي، واختار بعض أصحابنا أن وقت الوجوب منه متعين، وإنما يعينه المكلف بفعله، وذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز التأخير عن أول الوقت لا يبدل وهو العزم، وأجاز غيره تركها بغير بدل -لتوسعه وقتها- إلى أن يبقى من الوقت مقدار ما تفعل فيه فيتعين، وذهب

ص: 223

الشافعي إلى أن وقت الوجوب أوله، وإنما ضرب آخره فصلًا بين الأداء والقضاء، ويُعَارَض هؤلاء بأن التأثيم يتعلق بترك الواجب، ولا يؤثم أحد تارك الصلاة لأول الوقت، وذهب الحنفية إلى أن الوجوب متعلق بآخره، ويُعارَض هؤلاء بالإجماع إلى جواز الصلاة لأول الوقت. وسقوطها عمن صلاها حينئذ ولو كانت لم تجب؛ لم تجزئ كما لا تجزئ قبل الوقت انتهى.

قلت: مذهب الحنفية ليس كما ذكره، وإنما عندهم أن الوجوب يتعلق بكل الوقت، ولكن لا يتعين منه إلا الجزء الذي يتصل به الأداء، فإن اتصل الأداء بالجزء الأول كان هو السبب، وإلا تنتقل السببية إلى الجزء الثاني، ثم إلى الثالث، ثم

وثم

إلى آخر جزء من أجزاء الوقت بحيث يتمكن من عقد التجزئة فتتعين السببية فيه ضرورة أنه لم يبق من الأجزاء ما يحتمل انتقال السببية إليه فيعتبر حال المكلف في الإسلام والبلوغ والعقل والجنون والسفر والإقامة والطهر والحيض عند ذلك الجزء في حدوث العوارض المذكورة، حتى لو أسلم الكافر أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون أو طهرت الحائض في آخر الجزء تكره الصلاة عندنا خلافًا لزفر فإن عنده تنتقل السببية من جزء إلى جزء إلى أن يتضيق الوقت بحيث يتمكن المكلف من الأداء، حتى لا يجب على هؤلاء شيء عنده ما لم يجدوا وقتًا تسع فيه حقيقة الأداء.

ثم حديث أبي هريرة قد ذكره الطحاوي في هذا الباب مرتين غير هذا بهذا الإسناد بعينه، ولكنه قَطَّع حديثه؛ تطبيقًا للدليل على المدعى واقتصارًا عليه، وكذلك ذكر حديث عبد الله بن عمرو في هذا الباب بعينه بهذا الإسناد، وقد بينا رجالهما ومن أخرجهما من أصحاب السنن هناك.

ص: وقد روى في ذلك أيضًا ما يدل على ذلك.

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا الحسن بن عمر بن شقيق، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "مكثنا ذات ليلة ننتظر النبي عليه السلام لصلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل -أو

ص: 224

بعده- فلا ندري أشيء شغله في أهله أو غير ذلك؟ فقال حين خرج: إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل على أمتي؛ لصليت بهم هذه الساعة، ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلاها".

ش: أي قد روي أيضًا في كون ما بعد الليل وقتًا من وقت العشاء الآخرة ما يدل عليه، وهو حديث ابن عمر.

قوله: "حدثنا" بيان لذلك، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، ومنصور هو ابن المعتمر الكوفي، والحكم هو ابن عتيبة.

وأخرجه مسلم (1): حدثني زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم -قال إسحاق: أخبرنا، وقال زهير-: حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: "مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله عليه السلام لصلاة العشاء الآخرة؛ فخرج حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري

" إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء.

وأخرجه أبو داود (2): عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير، عن منصور

" إلى آخره نحوه.

والنسائي (3): عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن منصور

إلى آخره نحوه.

وقال البخاري (4): ثنا محمود، قال: أنا عبد الرزاق، قال: أخبرني ابن جريج، قال: أخبرني نافع،: قال ثنا عبد الله بن عمر: "أن رسول الله عليه السلام شغل عنها ليلة فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا، ثم رقدنا ثم استيقظنا، ثم خرج علينا

(1)"صحيح مسلم"(1/ 442 رقم 639).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 51 رقم 199).

(3)

"المجتبى"(2/ 267 رقم 537).

(4)

"صحيح البخاري"(1/ 208 رقم 545).

ص: 225

النبي عليه السلام ثم قال: ليس أحد من أهل الأرض ينتظر الصلاة غيركم. وكان ابن عمر لا يبالي أقدمها أم أخرها إذا كان لا يخشى أن يغلبه النوم عن وقتها وكان يرقد قبلها".

قوله: "لصلاة العشاء" أي لأجل إقامة صلاة العشاء الآخرة.

قوله: "أو بعده" أي أو بعد الثلث وأراد به الثلث الأول منه.

قوله: "أشيء شغله" أي منعه عن الخروج في أول وقتها، والهمزة فيه للاستفهام.

قوله: "هذه الساعة" إشارة إلى الساعة التي تلي الثلث الأول من الليل.

ويستفاد منه: أن ما بعد ثلث الليل الأول وقت من وقت العشاء الآخرة، وأن فيه حجة على من فضل التقديم؛ وذلك لأنه نبه على فضل التأخير بقوله:"لولا أن يثقل" وصرح بأن ترك التأخير إنما هو للمشقة، وأنه عليه السلام خشى أن يواظب عليه فتفرض عليهم، أو يتوهموا إيجابه؛ فلهذا تركه، كما ترك صلاة التراويح وعلل تركها بخشية إفتراضها والعجز عنها.

ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا الحسين بن علي، عن زائدة عن سليمان، عن أبي سفيان، عن جابر رضي الله عنه قال:"جهز رسول الله عليه السلام جيشًا، حتى إذا انتصف الليل أو بلغ ذلك خرج إلينا، فقال: صلى الناس ورقدوا وأنتم تنتظرون هذه الصلاة، أما إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها".

ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا فهدًا، واسم أبي بكر بن أبي شيبة عبد الله، واسم أبي شيبة محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي الحافظ، شيخ الشيخين وأبي داود وابن ماجه.

وزائدة هو ابن قدامة، وسليمان هو الأعمش، وأبو سفيان اسمه طلحة بن نافع القرشي الواسطي.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن حسين بن علي

إلى آخره نحوه.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 353 رقم 4069).

ص: 226

وفيه دلالة صريحة على أن ما بعد ثلث الليل وقت من وقت العشاء الآخرة، وفيه حجة لمن يرى تأخير العشاء عن أول وقتها.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن عروة، أن عائشة رضي الله عنها قالت:"أعتم رسول الله عليه السلام ليلة بالعتمة حتى ناداه عمر رضي الله عنه فقال: نام النساء والصبيان، فخرج النبي عليه السلام فقال: ما ينتظرنا أحد من أهل الأرض غيركم، ولا يُصلَّى يومئذ إلا بالمدينة، ثم قال: وكانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب غسق الليل إلى ثلث الليل". صلى الله عليه وسلم

ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن أبي داود البرلسي، وأبو اليمان اسمه الحكم بن نافع شيخ البخاري، والزهري هو محمد بن مسلم.

وأخرجه البخاري (1): ثنا أيوب بن سليمان، قال: حدثني أبو بكر، عن سليمان، قال صالح بن كيسان: أخبرني ابن شهاب، عن عروة، أن عائشة رضي الله عنها قالت:"أعتم رسول الله عليه السلام بالعشاء حتى ناداه عمر رضي الله عنه: الصلاة، نام النساء والصبيان، فخرج فقال: ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم، قال: ولا يُصلَّى يومئذ إلا بالمدينة، قال: وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول".

وأخرجه مسلم (2): ثنا عمرو بن سواد العامري وحرملة بن يحيى، قالا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، أن ابن شهاب أخبره، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي عليه السلام قالت: "أعتم رسول الله عليه السلام ليلة من الليالي بصلاة العشاء وهي التي تدعى العتمة، فلم يخرج رسول الله عليه السلام حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله عليه السلام، فقال لأهل المسجد حين

(1)"صحيح البخاري"(1/ 208 رقم 544).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 441 رقم 638).

ص: 227

خرج عليهم: ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم، وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس".

زاد حرملة في روايته: قال ابن شهاب: وذُكر لي أن رسول لله عليه السلام قال: "وما كان لكم أن تُبْرِزوا رسول الله عليه السلام للصلاة، وذلك حين صاح عمر بن الخطاب رضي الله عنه".

وأخرجه النسائي (1): أخبرني عمرو بن عثمان، قال: ثنا ابن حِمْير، قال: ثنا ابن أبي عَبْدة، عن الزهري.

قال: وأخبرني عمرو بن عثمان، قال: حدثني أبي، عن شعيب، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت:"أعتم رسول الله عليه السلام ليلة بالعتمة، فناداه عمر: نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله عليه السلام فقال: ما ينتظرها غيركم، ولم يُصَلِّ يومئذ إلا بالمدينة- ثم قال: صلوها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل" واللفظ لابن حِمْير.

قوله: "أعتم" أي دخل الأول في العتمة، وهي وقت صلاة العشاء، قال الخليل: العتمة هو الثلث الأول من الليل بعد غيبوبة الشفق، وقد عَتَمَ الليل يَعتم، وعَتْمَتُه: ظلامه.

قوله: "غسق الليل" أراد به الشفق، ولهذا جاء في رواية البخاري:"وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول". وكذا في رواية النسائي.

وفيه: دلالة على أن ما بعد ثلث الليل وقت من وقت العشاء.

وفيه حجة لأبي حنيفة في استحباب التأخير.

فإن قيل: هذا لا يدل على أفضلية التأخير لأنه عليه السلام أخرها في بعض الأوقات كما في حديث ابن عمر: "مكثنا ذات ليلة" فهذا يدل على أنه لم يكن له عادة، أو يكون لأجل شغل شغله كما في الحديث الآخر: "فلا أدري أشيء شغله في أهله أو غير

(1)"المجتبى"(1/ 267 رقم 535).

ص: 228

ذلك". وكما جاء في حديث جابر: "أنه جهز جيشًا". وكما جاء في رواية أخرى: "فخرج ورأسه يقطر ماء". أو يكون إنما أخرها لنوم عليه، أو لشغل آخر من شغل المسلمين.

قلت: قوله: "وأنتم تنتظرون هذه الصلاة، أما إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها" دليل صريح على أن التأخير أفضل، ولا يبعد أن يكون النبي عليه السلام أخرها لأجل الفضيلة، وقد اتفق له ما اتفق مما ذكر، فافهم.

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الله بن بكر السهمي، قال: أخبرنا حميد الطويل، عن أنس قال:"أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم العتمة إلى قريب من شطر الليل، فلما صلى أقبل علينا بوجهه فقال: إن الناس قد صلوا وناموا ورقدوا، ولم تزالوا في صلاة ما انتظرتموها".

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد، قال: ثنا ثابت: "أنهم سألوا أنس بن مالك، كان لرسول الله عليه السلام خاتم فضة؟ فقال: نعم، ثم قال: أخر العشاء ذات ليلة حتى كاد يذهب شطر الليل، أو إلى شطر الليل

ثم ذكر مثله.

ش: هذان طريقان صحيحان:

الأول: أخرجه البخاري (1): ثنا عبد الرحيم المحاربي، قال: ثنا زائدة، عن حميد الطويل، عن أنس قال:"أخر النبي عليه السلام صلاة العشاء إلى نصف الليل، ثم صلى، ثم قال: قد صلى الناس وناموا، أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها".

الثاني: أخرجه مسلم (2): حدثني أبو بكر بن نافع العبدي، قال: ثنا بهز بن أسد العمي، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت: "أنهم سألوا أنسًا عن خاتم رسول الله عليه السلام، فقال: أخر رسول الله عليه السلام العشاء ذات ليلة إلى شطر الليل أو كاد يذهب

(1)"صحيح البخاري"(1/ 209 رقم 546).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 443 رقم 640).

ص: 229

شطر الليل، ثم جاء فقال: إن الناس قد صلوا وناموا، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، قال أنس: كأني انظر إلى وبيص خاتمة من فضة ورفع اصبعه اليسرى بالخنصر".

قوله: "إلى وبيص" بفتح الواو وكسر الياء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره صاد مهملة، أراد: لمعانه وبريقه.

ص: ففي هذه الآثار أنه صلى العشاء بعد ما مضى ثلث الليل؛ فثبت بذلك أن بمضي ثلث الليل لا يخرج به وقتها، ولكن معنى ذلك عندنا -والله أعلم-: أن أفضل وقت العشاء الآخرة التي تُصَلَّى فيه هو من حين يغيب الشفق إلى ثلث الليل، وهو الوقت الذي كان النبي عليه السلام يصليها فيه، على ما ذكرنا في حديث عائشة رضي الله عنها ثم ما بعد ذلك إلى أن ما يمضي نصف الليل في الفضل دون ذلك؛ حتى لا تتضاد هذه الآثار.

ش: أراد بهذه الآثار: التي رواها عن ابن عمر وجابر وعائشة وأنس رضي الله عنهم والباقي ظاهر.

ص: ثم أردنا أن ننظر، هل بعد خروج نصف الليل من وقتها شيء؟ فنظرنا في ذلك فإذا يونس قد حدثنا، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب وعبد الله بن عمر وأنس بن عياض، عن حميد الطويل، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "أخرّ النبي عليه السلام الصلاة ذات ليلة إلى شطر الليل، ثم انصرف فأقبل [علينا] (1) بوجهه بعد ما صلى بنا، فقال: قد صلى الناس ورقدوا، ولم تزالوا في صلاة ما انتظرتموها".

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس مثله.

(1) في "الأصل، ك": "إلينا"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 230

حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن حميد، عن أنس، عن النبي عليه السلام مثله.

ففي هذه الآثار أنه صلاها بعد مضي نصف الليل، فذلك دليل أنه قد كانت بقيت من وقتها بقية بعد مضي نصف الليل.

ش: لما بيَّن فيما مضى أن بمضي ثلث الليل لا يخرج وقت العشاء ثم ذكر أن ثلث الليل هو الوقت الأفضل، وأن ما بعد ذلك إلى أن يمضي نصف الليل أدنى منه في الفضل؛ شرع يبين ها هنا أن بعد ذهاب نصف الليل أيضًا وقت من وقت العشاء؛ إذ حديث أنس يدل على ذلك صريحًا، وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، وعن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وعن أنس بن عياض بن ضمرة المدني، ثلاثتهم عن حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه.

وقد مر أن البخاري (1): أخرجه من حديث حميد عن أنس، وفي روايته:"أخر النبي صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى".

الثاني: عن نصر بن مرزوق، عن علي بن معبد بن شداد، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، عن حميد الطويل، عن أنس.

وأخرجه النسائي (2): عن علي بن حجر، عن إسماعيل، عن حميد، عن أنس "أنه عليه السلام أخر ليلة صلاة العشاء إلى شطر الليل

". الحديث.

الثالث: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن يحيى بن أيوب الغافقي، عن حميد الطويل، عن أنس.

(1) تقدم تخريجه.

(2)

"المجتبى"(1/ 268 رقم 539).

ص: 231

وأخرجه أحمد (1): من حديث حميد، عن أنس: "أنه عليه السلام أخر ليلةً العشاء إلى شطر الليل

" الحديث.

ص: وقد روي عنه عليه السلام في ذلك أيضًا ما هو أولى من هذا.

حدثنا علي بن معبد وأبو بشر الرقي، قالا: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرني المغيرة بن حكيم، عن أم كلثوم بنت أبي بكر، أنهما أخبرته عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنهما قالت:"أعتم النبي عليه السلام ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، وقال: إنه لولا أن أشق على أمتي".

ففي هذا أنه صلاها بعد مضي أكثر الليل، وأخبر أن ذلك وقت لها، فثبت بتصحيح هذه الآثار أن أول وقت العشاء الآخرة من حين يغيب الشفق إلى أن يمضي الليل كله، ولكنه على أوقات ثلاثة: فأما من حين يدخل وقتها إلى أن يمضي ثلث الليل فأفضل وقت صليت فيه، وأما من بعد ذلك إلى أن يتم نصف الليل دون ذلك، وأما بعد نصف الليل دون كل ما قبله.

ش: أي قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في كون ما بعد نصف الليل وقتًا من وقت العشاء ما هو أولى وأقرب، من حديث أنس رضي الله عنه الذي فيه ذكر شطر الليل، وهو حديث عائشة رضي الله عنها فإنه يدل على أنس رضي الله عنه صلاها بعد ذهاب أكثر الليل؛ لأنها قالت:"حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى". فإن عامة الليل: معظمه وأكثره، ثم إن النبي عليه السلام أخبر أن ذلك وقت لها.

وأخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم، عن علي بن معبد بن نوح، وعن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، كلاهما عن حجاج بن محمد المصيصي الأعور، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن المغيرة بن حكيم الصنعاني، عن أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.

(1)"مسند أحمد"(3/ 183 رقم 12903).

ص: 232

وأخرجه مسلم (1): حدثني إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن حاتم، كلاهما عن محمد بن بكر.

وحدثني هارون بن عبد الله، قال: ثنا حجاج بن محمد.

وحدثني حجاج بن الشاعر ومحمد بن نافع، قالا: ثنا عبد الرزاق -وألفاظهم متقاربة- قالوا جميعًا: عن ابن جريج، قال: أخبرني المغيرة بن حكيم، عن أم كلثوم بنت أبي بكر أنها أخبرته، عن عائشة قالت: "أعتم رسول الله عليه السلام ذات ليلة

" إلى آخره نحوه سواء، وفي حديث عبد الرزاق: "لولا أن يشق على أمتي

".

قوله: "أعتم" أي دخل في العتمة، وقد ذكرنا معناه مستوفى عن قريب.

قوله: "ذات ليلة" هذا اللفظ وقولهم "ذات يوم" و"ذا يوم" و"ذا ليلة" كلها كناية عن يوم وليلة، والمعنى: أعتم رسول الله عليه السلام مدة التي هي ليلة.

قوله: "إنه لوقتها" أي إن هذا الوقت لوقت العشاء الآخرة، و"اللام" في "لوقتها" للتأكيد، وهي مفتوحة.

قوله: "لولا أن أشق" أي أثقل وأحرج، وجواب "لولا" محذوف يدل عليه:"إنه لوقتها" والتقدير: لولا أن أشق على أمتي لجعلت وقتها هذا الوقت كل وقت، ولكن تركه لوجود المشقة وإنما قلنا كذا لأن "لولا" لانتقاء الثاني لوجود الأول، نحو لولا زيد لهلك عمرو؛ فإن هلاك عمرو منتفٍ لوجود زيد، وكذلك ها هنا وجوب التأخير إلى هذا الوقت منتفٍ لوجود المشقة، وأما "لو" فإنه لانتفاء الثاني لانتفاء الأول، نحو لو جئتني لأكرمتك؛ فإن الإكرام منتفٍ لانتفاء المجيء.

فإن قيل: كان ينبغي أن تكون سنية التأخير كنية السواك حيث قال عليه السلام: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ولأخرت العشاء إلى ثلث الليل".

(1)"صحيح مسلم"(1/ 442 رقم 638).

ص: 233

رواه الترمذي (1)، والنسائي (2): وذلك لأن الأمر بالسواك وتأخير العشاء كلاهما منتفيان لوجود المشقة، ومع هذا السواك سنه وتأخير العشاء وكلاهما لوجود المشقة ومع هذا السواك سنة وتأخير العشاء مستحب.

قلت: لم تثبت سنية السواك بعد هذا إلا بمواظبته عليه السلام، ولولاها لقلنا باستحبابه أيضًا، ولم توجد المواظبة في تأخير العشاء، فلم تثبت السنية فبقي مستحبًا.

وجواب آخر: أنه قال في السواك: "لأمرتهم". وهو للوجوب، ولكن امتنع الوجوب لعارض المشقة فيكون سنة، وأما في التأخير فقد قال:"لأخرت" وفعله مطلقًا يدل على الاستحباب أو الوجوب.

(1)"جامع الترمذي"(1/ 35 رقم 23).

(2)

"المجتبى"(1/ 266).

ص: 234