الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الصلاة الوسطه أي الصلوات هي
؟
ش: أي هذا الباب في بيان الصلاة الوسطى آية صلاة هي من بين الصلوات الخمس؟ والوسطى بضم الواو: تأنيث الأوسط بمعنى الفضلى، وأفعل التفضيل لا يُبْهنَى إلا مما يقبل الزيادة والنقص، وكذا فعل التعجب، فلا يجوز زيد أموت للناس، ولا ما أموت زيد؛ لأنه لا يقبل ذلك، وكون الشيء وسطًا بين شيئين لا يقبل الزيادة والنقصان فلا يجوز أن يبنى أنه أفعل التفضيل، فتعين أن يكون الوسطول بمعنى: الفضلى، والمناسبة بين البابين من حيث اشتمال كل منهما على أحكام الصلاة.
ص: حدثنا ربيع بن سليمان المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزبرقان:"أن رهطًا من قريش اجتمعوا، فمر بهم زيد بن ثابت رضي الله عنه فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطي، فقال: هي العصر، فقام رجلان إليه منهم فسألاه، فقال: هي الظهر، ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسالاه، فقال: هي الظهر؛ إن رسول الله عليه السلام كان يصلي بالهجير ولا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم، فأنزل الله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (1). فقال النبي عليه السلام: "لينتهين رجال؛ أو لأحرقن بيوتهم".
حدثنا فهد، قال: نا عمرو بن مرزوق، قال: نا شعبة، عن عمرو بن أبي حكيم، عن الزبرقان، عن عروة، عن زيد بن ثابت قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجير -أو قال: بالهاجرة- وكانت أثقل الصلوات على أصحابه، فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (1)؛ لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين".
(1) سورة البقرة، آية:[238].
حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حجاج بن محمد، نا شعبة، عن عمرو بن سليمان، عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان، عن أبيه، عن زيد بن ثابت قال:"هي الظهر".
حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت مثله.
حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن وهب، عن داود بن الحصين، عن ابن اليربوع المخزومي:"أنه سمع زيد بن ثابت يقول ذلك".
حدثنا ابن معبد، قال: ثنا المقرئ، عن حيوة وابن لهيعة، قالا: أنا أبو صخر، أنه سمع يزيد بن عبد الله بن قسيط يقول: سمعت خارجة بن زيد بن ثابت، يقول:"سمعت أبي يقول ذلك".
ش: هذه ستة طرق صحاح عن زيد بن ثابت، غير أن الطريق الأول منقطع؛ لأن الزبرقان بن عمرو بن أمية لم يسمع من زيد بن ثابت ولا من أسامة بن زيد، وقد وثقه ابن حبان وغيره، وخالد بن عبد الرحمن الخراساني وثقه يحيى بن معين، وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب روى له الجماعة.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): عن ابن أبي ذئب، عن الزبرقان: "أن رهطًا من قريش مَرَّ بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون، فأرسلوا إليه غلامين [لهم](2) يسألانه عن الصلاة الوسطي
…
" إلى آخره نحوه سواء.
والرهط من الرجال ما دون العشرة، وقيل: إلى الأربعين ولا يكون فيهم امرأة، لا واحد له من لفظه، ويجمع على أرهط وأرهاط، وأراهط جمع الجمع، والهجير والهاجرة: اشتداد الحر نصف النهار، والقائلة: الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم، يقال: قَالَ يَقِيل قيلولة فهو قائل، وقال الجوهري: القائلة هي الظهيرة
(1)"مسند أحمد"(5/ 206 رقم 21840).
(2)
في "الأصل، ك": "له"، والمثبت من "مسند أحمد".
يقال: أتانا عند القائلة، وقد تكون بمعنى القيلولة أيضًا، وهي النوم في الظهيرة، يقال: قال يقيل قيلولة وقيلًا ومقيلًا وهو شاذ.
قوله: "لينتهين رجال" أي لينتهين عن تضييع هذه الصلاة التي أمرهم الله عز وجل بالمحافظة عليها؛ أو لأحرقن بيوتهم.
والأصل في مثل هذا الموضع أن يقدر قبل "أو" مصدر وبعدها "أن" ناصبة للفعل، وهما في تأويل مصدر معطوف بـ "أو" على المقدر قبلها.
فتقدير هذا الكلام: ليكونن انتهاء منهم عن تضييع هذه الصلاة؛ أو إحراقٌ مني بيوتهم.
الطريق الثاني: عن فهد بن سليمان
…
إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا محمد بن المثنى، نا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن عمرو بن أبي حكيم، قال: سمعت الزبرقان يحدث، عن عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه البخاري أيضًا في "تاريخه الكبير"(2).
قوله: "وكانت أثقل الصلوات" لكونه عليه السلام كان يصليها في قوة الحر، ثم أبرد بعد ذلك، وأمر بالإبراد.
قوله: "لأن قبلها صلاتين" وهما الصبح والعشاء، وهما من وجه الليل، "وبعدها صلاتين" وهما العصر والمغرب، وهما من وجه النهار.
الثالث: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن حجاج بن محمد الأعور المصيصي، عن شعبة
…
إلى آخره.
الرابع: عن ابن مرزوق
…
إلى آخره.
(1)"سنن أبي داود"(1/ 112 رقم 411).
(2)
"التاريخ الكبير"(3/ 433).
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد ابن المسيب، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت قال:"الصلاة الوسطي صلاة الظهر".
الخامس: عن يونس بن عبد الأعلى البصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن داود بن الحصين، عن عبد الرحمن بن سعيد بن اليربوع المخزومي، عن زيد بن ثابت.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن مالك، عن داود بن الحصين، عن ابن اليربوع، قال: سمعت زيد بن ثابت قال: "هي الظهر".
السادس: عن علي بن معبد بن نوح، وفي بعض النسخ عن إبراهيم بن منقذ العصفري عن عبد الله بن يزيد المقري، عن حيوة بن شريح بن صفوان أبي زرعة المصري، وعبد الله بن لهيعة، كلاهما عن أبي صخر بن زياد الخراط المدني، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط بن أسامة بن عمير الليثي المدني الأعرج عن خارجة بن زيد بن ثابت أحد الفقهاء السبعة، عن أبيه زيد بن ثابت.
قوله: "يقول ذلك" أي يقول: إن الصلاة الوسطى هي الظهر. وهذا هو المشهور عن زيد بن ثابت، وقال أبو عمر: وهو أثبت ما روي عنه.
ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: ثنا موسى بن ربيعة، عن الوليد بن أي الوليد، عن عبد الرحمن بن أفلح:"أن نفرًا من أصحابه أرسلوه إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يسأله عن الصلاة الوسطي، فقال: اقرأ عليهم السلام وأخبرهم: أنا كنا نتحدث أنها التي في إثر الضحى، قال: فردوني إليه الثانية، فقلت: يقرءون عليك السلام ويقولون لك: بين لنا أي صلاة هي؟ فقال: اقرأ عليهم السلام وأخبرهم: أنا كنا نتحدث أنها الصلاة التي وُجِّه فيها رسول الله عليه السلام الكعبة. قال: وقد عرفناها، هي الظهر".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 245 رقم 8617).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 577 رقم 2199).
ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات.
وأخرجه الطبري (1): ثنا ابن البرقي [قال: ثنا ابن أبي مريم، قال:](2) أنا نافع بن يزيد، حدثني الوليد بن أبي الوليد، أن سلمة مرة حدثه:"أن نفرًا من قريش أرسلوا إلى عبد الله بن عمر يسألونه عن الصلاة الوسطي، فقال له: هي التي على إثر الضحى، فما زادنا إلا عيًّا، بها فمر بهم عبد الرحمن بن أفلح [مولى عبد الله بن عمر] (2) فارسلوه إليه، فقال: هي التي توجه فيها رسول الله عليه السلام إلى القبله".
وأخرجه الطبراني في "الأوسط"(3): من حديث موسى بن ربيعة الجمحي، عن الوليد، عن ابن أفلح: "أن نفرًا من الصحابة أرسلوا إلى ابن عمر
…
" فذكره، وقال: لا يروى عن ابن أفلح، عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به موسى.
قوله: "أن نفرًا" أي جماعة، وهم رهط الإنسان وعشيرته، وهو اسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة، ولا واحد له من لفظه، ويجمع على أنفار.
قوله: "أنها" أي كنا نتحدث: أن الصلاة الوسطى هي التي تكون في إثر الضحى، أي عقيب صلاة الضحى.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى ما ذكرنا، فقالوا: هي الظهر، واحتجوا في ذلك بما احتج به زيد بن ثابت، على ما ذكرناه في حديث الربيع، وبما رويناه في ذلك عن ابن عمر.
شْ: أراد بالقوم هؤلاء: عبد الله بن شداد وعروة بن الزبير وأبا حنيفة في رواية؛ فإنهم قالوا: الصلاة الوسطي هي صلاة الظهر، وهو قول أسامة بن زيد وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعائشة رضي الله عنهم.
(1)"تفسير الطبري"(2/ 562).
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "تفسير الطبري".
(3)
"المعجم الأوسط"(1/ 83 رقم 240).
وقال الطبري: وهو قول ابن عمر وأبي سعيد الخدري على اختلاف عنهما.
قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه من أن الصلاة الوسطى هي الظهرة بما احتج به زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه وما احتج به زيد بن ثابت هو الذي رواه عنه بالطرق الستَّة، وقد ذكرناها.
قوله: "وبما رويناه" أي واحتجوا أيضًا بما رويناه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: أما حديث زيد بن ثابت فليس فيه عن النبي عليه السلام إلا قوله: "لينتهين أقوام، أو لأحرقن عليهم بيوتهم" وأن النبي عليه السلام كان يصلي الظهر بالهجير، ولا يجتمع معه إلا الصف والصفان، فأنزل الله هذه الآية، فاستدل هو بذلك على أنها الظهر؛ فهذا قولٌ من زيد بن ثابت ولم يروه عن النبي، وليس في هذه الآية عندنا دليل على ذلك؛ لأنه قد يجوز أن تكون هذه الآية أنزلت للمحافظة على الصلوات كلها، الوسطى وغيرها، ومن المحافظة عليها حضورها حيث تصلى، فقال لهم النبي عليه السلام في الصلاة التي يفرطون في حضورها:"لينتهين أقوام أو لأحرقن عليهم بيوتهم" يريد لينهين أقوام عن تضييع هذه الصلاة التي قد أمرهم الله بالمحافظة عليها، أو لأحرقن عليهم بيوت هم، وليس في شيء من ذلك دليل على الصلاة الوسطي أي صلاة هي منهن.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون فيما ذهبوا إليه، وهم جماعة كثيرة منقولة في مخالفيهم، أولئك القوم مختلفون أيضًا فيما بينهم، على ما يجيء مفصلًا إن شاء الله تعالى.
قوله: "فقالوا: أما حديث زيد بن ثابت
…
" إلى آخره جواب عما احتج به أولئك القوم، ورد لاستدلالهم؛ فإنه لا يصلح لما ذهبوا إليه، ووجه ذلك ظاهر غني عن البيان، وكذلك أثر ابن عمر رضي الله عنهما ليس فيه دليل عن أن النبي عليه السلام على أن الصلاة الوسطي هي الظهر، وإنما هو قول ابن عمر رضي الله عنه وإخباره عما كانوا يتحدثون أنها الصلاة التي توجه فيها رسول الله عليه السلام إلى الكعبة شرفها الله، ثم العلماء ذكروا في هذا الباب عشرين قولًا:
الأول: أن الصلاة الوسطى هي العصر، وهو قول أبي هريرة وعلي بن أبي طالب وابن عباس وأبي بن كعب وأبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وسمرة بن جندب وأم سلمة رضي الله عنهم.
وقال ابن حزم: ولا يصح عن عليّ ولا عن عائشة غير هذا أصلًا، وهو قول الحسن البصري والزهري وإبراهيم النخعي وابن سيرين وسعيد بن جبير وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر ويونس وقتادة والشافعي وأحمد والضحاك بن مزاحم وعبيد بن تميم وزر بن حبيش ومحمد بن السائب ومقاتل وآخرين، وقال أبو الحسن الماوردي، وهو مذهب جمهور التابعين.
وقال أبو عمر: هو قول أكثر أهل الأثر.
وقال ابن عطية: عليه جمهور الناس.
وقال أبو جعفر الطبري: الصواب من ذلك ما تظاهرت به الأخبار من أنها العصر.
وقال أبو عمر: وإليه ذهب عبد الملك بن حبيب.
وقال الترمذي: هو قول أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم.
قال الماوردي: هذا مذهب الشافعي؛ لصحة الأحاديث فيه.
قلت: هو أيضًا قول داود وابن المنذر.
الثاني: أنها المغرب؛ وهو قول قبيصة بن ذؤيب، قال أبو عمر: هذا لا أعلمه قاله غير قبيصة.
الثالث: أنها العشاء الآخرة؛ وهو قول الماوردي، وزعم البغوي في "شرح السُّنَّة" أن السلف لم ينقل عن أحد منهم هذا القول، قال: وقد ذكره بعض المتأخرين.
الرابع: أنها الصبح، وهو قول جابر بن عبد الله ومعاذ بن جبل وابن عباس -في قول- وابن عمر -في قول- وعطاء بن أبي رباح وعكرمة ومجاهد والربيع بن أنس ومالك بن أنس والشافعي -في قول- وقال أبو عمر: وممن قال: الصلاة الوسطى
صلاة الصبح: عبد الله بن عباس وهو أصح ما روي عنه في ذلك، وهو قول طاوس ومالك وأصحابه.
وفي بعض شروح البخاري: وهو قول عمر بن الخطاب وابنه وأبي موسى ومعاذ -فيما ذكره البغوي- وعلي بن أبي طالب، قال أبو عمر: ولم يصح عنه ذلك، وصح عن ابن عباس.
الخامس: أنها إحدى الصلوات الخمس ولا تعرف بعينها، روي ذلك عن ابن عمر من طريق صحيح؛ قال نافع: سأل ابن عمر رجلٌ عن الصلاة الوسطي، فقال: هي منهن فحافظوا عليهن كلهن" وبنحوه قال الربيع بن خثيم وزيد بن ثابت -في رواية- وشريح القاضي ونافع.
السادس: أنها الخمس؛ إذ هي الوسطي من الدين كما قال عليه السلام: "بُني الإِسلام على خمس"(1) قالت جماعة هي الوسطى من الخمس، روي ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الرحمن بن غنيم فيما ذكره النقاش، وفي كتاب الحافظ أبي الحسن علي بن الفضل، قيل: ذلك لأنها وسط الإِسلام، أي حياده، وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
السابع: أنها هي المحافظة على وقتها مع الصلوات، وفي كتاب "التفسير" لابن أبي حاتم: ثنا أبو سعيد الأشج، ثنا المحاربي وابن فضيل، عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق أنه قال هي المحافظة على وقتها.
الثامن: أنها مواقيتها وشروطها وأركانها، وقال مقاتل بن حيان: الوسطى: مواقيتها ووضوءها وتلاوة القرآن فيها والتكبير والركوع والسجود والتشهد والصلاة على النبي عليه السلام، فمن فعل ذلك فقد أتمها وحافظ عليها.
وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا به محمد بن الفضل، ثنا محمد بن علي بن شقيق، أنا محمد بن مزاحم، عن بكر بن معروف، عنه.
(1) متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، البخاري (1/ 12 رقم 8)، ومسلم (1/ 45 رقم 16).
وذكر أبو الليث السمرقندي في "تفسيره" عن ابن عباس نحوه.
التاسع: أنها الجمعة خاصة حكاه أبو الحسن الماوردي وغيره؛ لما اختصت به دون غيرها، وقال ابن سيده في "المحكم": لأنها أفضل الصلوات، ومن قال خلاف هذا فقد أخطأ، إلا أن يقوله برواية يسندها إلى رسول الله عليه السلام.
العاشر: أنها الجمعة يوم الجمعة، وفي سائر الأيام الظهر، حكاه أبو جعفر محمد ابن مقسم في تفسيره.
الحادي عشر: أنها صلاتان: الصبح والعشاء، وعزاه ابن مقسم في تفسيره لأبي الدرداء؛ لقوله عليه السلام: "لو تعلمون ما في العتمة والصبح
…
" الحديث (1).
الثاني عشر: أنها العصر والصبح، وهو قول أبي بكر المالكي الأبهري.
الثالث عشر: أنها الجماعة في جميع الصلاة، حكاه الماوردي.
الرابع عشر: أنها الوتر.
الخامس عشر: أنها صلاة الضحى.
السادس عشر: أنها صلات العيدين.
السابع عشر: أنها صلاة عيد الفطر.
الثامن عشر: أنها صلاة الخوف.
التاسع عشر: أنها صلاة عيد الأضحى.
العشرون: أنها المتوسطة بين الطول والقصر.
وأصحها العصر؛ للأحاديث الصحيحة، والباقي بعضها ضعيف وبعضها غلط، وفي المراد بالصلاة الوسطى ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها أوسط الصلوات مقدارًا.
(1) متفق عليه من حديث أبي هريرة، البخاري (1/ 222 رقم 590)، ومسلم (1/ 325 رقم 437).
والثاني: أنها أوسطها محلًا.
والثالث: أنها أفضلها، وأوسط كل شيء أفضله فمن قال الوسطي: الفضلى جاز لكل ذي مذهب أن يدعيه، ومن قال: مقدارًا فهي المغرب؛ لأن أقلها ركعتين وأكثرها أربع. ومن قال: محلاًّ ذكر كل أحد مناسبة يوجه لها.
ص: وقد قال قوم: إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لم يكن لصلاة الظهر، وإنما كان لصلاة الجمعة.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن النبي عليه السلام أنه قال لقوم يتخلفون عن الجمعة:"لقد هممت أن آمر رجلًا يصلي بالناس، ثم أُحَرِّق على قوم يتخلفون عن الجمعة في بيوتهم".
فهذا ابن مسعود يخبر أن قول النبي عليه السلام ذلك إنما كان للمتخلفين عن الجمعة، ولم يستدل هو بذلك على أن الجمعة هي الصلاة الوسطي، بل قال بغير ذلك، وأنها العصر، وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
ش: أراد بالقوم: الحسن البصري، وعوف بن مالك، والنخعي.
"أن قول رسول الله عليه السلام هذا" أي قوله: "لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم" لم يكن لأجل صلاة الظهر حتى يَسْتَدَلّ به على أنها هي الوسطي، وإنما كان لأجل صلاة الجمعة، وقد بَيَّن ذلك عبد الله بن مسعود في حديثه؛ إذ لو كان لصلاة الظهر لكان استدل به على أن الوسطي هي الظهر، وإنما كان ذلك لأجل المتخلفين عن الجمعة، فحينئذ استدلال أهل المقالة الأولى بهذا الحديث على أن الوسطي هي الظهر غير صحيح، ولا استدلال من يستدل به على أنها هي صلاة الجمعة؛ لأن ابن مسعود لم يستدل بذلك على أنها هي الجمعة، بل قال بخلاف ذلك، حيث قال: إنها العصر، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وإسناد حديث ابن مسعود صحيح على شرط مسلم، وأبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله السبيعي، وأبو الأحوص هو عوف بن مالك بن نضلة الجشمي الكوفي.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا الفضل بن دكين، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، سمعته منه عن عبد الله: "أن النبي عليه السلام قال لقوم يتخلفون
…
" إلى آخره نحوه غير أن في لفظه: "ثم أحرق على رجال".
وأخرجه البيهقي أيضًا في "سننه"(2): من حديث زهير، عن أبي إسحاق نحوه.
ص: وقد وافق ابن مسعود على ما قال من ذلك غيره من التابعين، كما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: زعم حميد وغيره عن الحسن قال: "كانت الصلاة التي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُحرق على أهلها: صلاة الجمعة".
ش: أي قد وافق عبد الله بن مسعود على قوله: إن قول النبي عليه السلام: "لينتهين رجال أو لأحرقن عليهم بيوتهم" للمتخلفين عن الجمعة؛ غيره من التابعين، وهو الحسن البصري، فإنه قال:"الصلاة التي أراد رسول الله عليه السلام أن يحرق على أهلها: صلاة الجمعة". روى ذلك عنه: حميد بن أبي حميد الطويل.
أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن حميد.
ص: وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه خلاف ذلك أيضًا:
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبي عليه السلام قال:"والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر رجلًا بحطب فَيَحْطِب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا أو مرماتين حسنتين؛ لشهد العشاء".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 48 رقم 5539).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 56 رقم 4714).
حدثنا ربيع المؤذن، قالا: أنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، ومالك عن أبي الزناد
…
فذكر مثله بإسناده.
حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث النخعي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: حدثني أبو صالح، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر وصلاة العشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم آخذ شعلًا من نار، وأحرق على من لم يخرج إلى الصلاة بيته".
حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا عفان، قال: ثنا حماد، قال: أنا عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام:"أنه أخر عشاء الآخرة حتى كان ثلث الليل -أو قربه- ثم جاء وفي الناس رُقَّد وهم عِزُون، فغضب غضبًا شديدًا، ثم قال: لو أن رجلًا ندب الناس إلى عِرق أو مِرْمَاتين لأجابوا له، وهم يتخلفون عن هذه الصلاة، لهممت أن أمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أتخلف على أهل هذه الدورة الذين يتخلفون عن هذه الصلاة فأضرمها عليهم بالنيران".
حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا أبو بكر، عن عاصم
…
فذكر مثله بإسناده.
قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يخبر أن الصلاة التي قال فيها النبي عليه السلام هذا القول هي العشاء، ولم يدل ذلك على أنها الصلاة الوسطي، بل قد روى هو عن النبي عليه السلام ذلك مما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
ش: أي وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه خلاف ما روي عن ابن مسعود؛ لأن ابن مسعود أخبر أن قول النبي عليه السلام: "لينتهين رجال، أو لأحرقن بيوتهم" إنما هو لأجل الجمعة؛ قال: وأبو هريرة ذكر أن ذلك إنما هو لأجل صلاة العشاء، ولم يدل ذلك على أنها هي الصلاة الوسطى؛ فحينئذ استدلال أهل المقالة الأولى بهذا الحديث على أن الصلاة الوسطى هي الظهر غير تام، على أن أبا هريرة رضي الله عنه روى عن النبي عليه السلام خلاف هذا أيضًا، على ما يجيء إن شاء الله تعالى.
ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة عن خمس طرق صحاح:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة.
وأخرجه البخاري (1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك
…
إلى آخره نحوه.
ومسلم (2): عن عمرو الناقد، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة:"أن رسول الله عليه السلام فقد ناسًا في بعض الصلوات، فقال: لقد هممت أن آمر رجلًا يصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها، فآمر بهم فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم، ولو علم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا لشهدها، يعني صلاة العشاء".
وأبو داود (3): عن عثمان بن أبي شيبة، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن آمر بالصلاة، فتقام ثم آمر رجلًا يصلي بالناس، ثم انطلق يعني برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار".
وابن ماجه (4): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، نحو رواية أبي داود.
قوله: "لقد هممت" أي قصدت.
وقوله: "أن آمر" مفعول "لهممت" و"أن" مصدرية.
وقوله: "ثم أمر" منصوب عطفًا على "أن آمر" الأول، وكذلك ثم آمر الثالث.
(1)"صحيح البخاري"(1/ 231 رقم 618).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 451 رقم 651).
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 150 رقم 548).
(4)
"سنن ابن ماجه"(1/ 259 رقم 791).
قوله: "ثم أُخالف" أي آتيهم من خلفهم، أو أخالف ما أظهرت من إقامة الصلاة وأرجع إليهم وآخذهم على غفلة، أو يكون بمعنى: أتخلف عن الصلاة بمعاقبتهم، أو أخالف ظنهم بي في الصلاة بقصدي إليهم.
قوله: "فأحرق" من التحريق أو من الإحراق، وفي الأول من المبالغة ما ليس من الثاني.
قوله: "عظمًا سمينًا" يريد بضعة اللحم السمين على عظمه، ضربه رسول الله عليه السلام مثلًا في التفاهة، كما قال عز وجل:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (1) يريد الشيء الكثير ولم يرد القنطار بعينه {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (1) يريد الشيء الحقير ولم يرد الدينار بعينه.
قوله: "أو مِرْمَاتين" يروى بكسر الميم وفتحها، وميمها زائدة، وهي تثنية مرماة، وهي ظلف الشاة. وقيل: ما بين ظلفيها، وقيل: المرماة بالكسر: السهم الصغير الذي يتُعلم به الرمي، وهو أحقر السهام وأرذلها، أي لو دعي إلى أن يعطى سهمين من هذه السهام لأسرع الإجابة.
وقال الزمخشري: هذا ليس بوجيه، ويدفعه قوله في الرواية الأخرى:"لو دعى إلى مرماتين أو عرق". وقال أبو عبيد: هذا حرف لا أدري ما وجهه، إلا أنه هكذا يفسر بما بين ظلفي الشاة، يريد به حقارته. ويقال: المرماتان: حديدتان من حدايد كانوا بها وهي ملس كالأسنة، كانوا يثبتونها في الأكوام والأغراض.
قوله: "حسنتين" صفة للمرماتين من الحسن والجودة، وإنما وصفهما بالحسن لأنه عطفهما على العظم السمين، ويروى:"جَشِبَتَيْن" بفتح الجيم وكسر الشين المعجمة وفتح الموحدة، والجَشِب: الغليظ، وفي الحديث:"أنه عليه السلام كان يأكل الجَشِب". أي الغليظ الخشن من الطعام، وقيل غير المأدوم، وكل بَشع الطَّعم جشب ويروى خشبتين بفتح الخاء المعجمة وكسر الشين المعجمة، والخَشِبْ اليابس من الخَشَب، بفتحتين.
(1) سورة آل عمران، آية:[75].
ويستنبط منه أحكام:
الأول: استدل به عطاء والأوزاعي وأحمد وأبو ثور وابن المنذر وابن خزيمة وداود: أن الجماعة فرض، وفي "شرح المهذب": قيل: إنه قول الشافعي. وعن أحمد: واجبة وليست بشرط، وقالت الجمهور: ليست بفرض عين، واختلفوا هل هي سُنَّة أم فرض كفاية؟ والمختار عند الشافعي أنها فرض كفاية، وعند عامة مشايخنا واجبة، وقد قال بعض أصحابنا: سنة مؤكدة، وهو قول القدوري أيضًا، وفي "المفيد": الجماعة واجبة، وتسميتها سنة لوجوبها بالسنة، وفي "شرح خواهر زاده" هي سُنَّة مؤكدة غاية التأكيد. وقيل: فرض كفاية، وهو اختيار الطحاوي والكرخي وغيرهما، وهو قول الشافعي المختار.
وقيل: سُنَّه، وفي "الجواهر": عن مالك: سنة مؤكدة، وقيل: فرض كفاية.
والجواب عن الحديث من وجوه:
- الأول: أن هذا في المنافقين ويشهد له قوله: "لو يعلم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا
…
" إلى آخره، وهذه ليست صفة المؤمن لا سيما أكابر المؤمنين وهم الصحابة رضي الله عنهم وإذا كان في المنافقين كان التحريق للنفاق لا لترك الجماعة؛ فلا يتم الدليل.
- الثاني: أنه عليه السلام همّ ولم يفعل.
- والثالث: أنه عليه السلام لم يخبرهم أن من تخلف عن الجماعة فصلاته غير مجزئة؛ وهو موضع البيان.
الثاني: فيه دليل على أن العقوبة كانت في أول الأمر بالمال؛ لأن تحريق البيوت عقوبة مالية، وأجمع العلماء على منع العقوبة بالتحريق في غير المتخلف عن الصلاة والغالّ من الغنيمة، واختلف السلف فيهما، والجمهور على منع تحريق متاعهما.
الثالث: فيه دليل على قتل تارك الصلاة متهاونًا، قاله عياض.
قلت: يرد هذا قوله عليه السلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث
…
". الحديث، والحديث محمول على التهديد والتشديد.
الرابع: فيه الإعذار قبل العقوبة بالتهديد بالقول والوعيد.
الخامس: فيه جواز أخذ أهل الجنايات والجرائم على غرة والمخالفة إلى منازلهم وبيوتهم.
السادس: فيه معرفة يمين رسول الله عليه السلام، وأنه كان يخلف على ما يريد بالله، في ذلك رد على قول من يقول: لا يحلف بالله صادقًا ولا كاذبًا، وفي قوله عليه السلام:"من كان حالفا فليحلف بالله" كفاية.
السابع: أن الصلوات يؤذن لها.
الثامن: فيه إجازة إمامة المفضول بحضور الفاضل.
التاسع: فيه إباحة عقوبة من تأخر عن شهود الجماعة بغير عذر.
العاشر: أن هذه الصلاة التي همّ بتحريقهم للتخلف عنها هي صلاة العشاء؛ ولذلك ذكره الطحاوي ها هنا، وفي رواية: أنها الجمعة، وقد مَرَّ ذكرها، وفي رواية: أنها الصلاة الفرض مطلقًا، والكل له وجه، ولا منافاة بينها والله أعلم.
الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد وعن مالك كلاهما، عن أبي الزناد، عن عبد الله بن ذكوان، عن الأعرج، عن أبي هريرة.
وأخرجه مالك في "موطإه"(1): عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال:"والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا أو مِرْمَاتين حسنتين؛ لشهد العشاء".
الثالث: عن فهد بن سليمان الكوفي، عن عمرو بن حفص الكوفي
(1)"موطأ مالك"(1/ 451 رقم 651).
شيخ البخاري ومسلم، عن أبيه حفص بن غياث بن طلق النخعي الكوفي قاضيها، أحد أصحاب أبي حنيفة، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة، والكل رجال الصحيح ما خلا فهدًا.
وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب -واللفظ لهما- قالا: أنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق -يعني برجال معهم حزم من حطب- إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار".
قوله: "على المنافقين" وهم الذين كانوا يُظْهِرون الإِسلام ويُبْطِنون الكفر، ويظهرون المحبة لرسول الله عليه السلام وفي قلوبهم بغض وعداوة، وقد قيل: إن هذا في حق المؤمنين، ولكن ذكر بهذه العبارة تغليظًا وتشديدًا في التهديد وهذا لا يصح؛ لأنه من المعلوم من حال الصحابة عدم التخلف عنه عليه السلام ويشهد على ذلك أنه ورد في بعض الأحاديث "ثم أحرق بيوتًا على من فيها".
قوله: "ولو حبوا" نصب بفعل محذوف تقديره: ولو كانوا يحبون حبوًا، والحبو: أن يمشي على يديه وركبتيه أو إسته وحبا البعير: إذا برك أو أبرك ثم زحف من الإعياء، وحبا الصبيّ إذا زحف على إسته.
قوله: "شعلا" جمع شعلة النار.
قوله: "بيته" مفعول لقوله أحرق.
الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة هو ابن أبي النجود الأسدي الكوفي أبو بكر المقرئ أحد مشايخ أبي حنيفة، عن أبي صالح ذكوان، عن أبي هريرة.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 451 رقم 651).
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: "أن رسول الله عليه السلام أخر عشاء الآخرة
…
". آخره نحو رواية الطحاوي سواء.
قوله: "أو قربه" بالرفع، عطف على قوله:"ثلث الليل" أي أو قرب ثلث الليل.
قوله: "رُقَّدٌ" بضم الراء وفتح القاف المشددة: جمع راقد، كالركَّع جمع راكع، والسُّجَّد جمع ساجد.
قوله: "وهم عزون" أي متفرقون، وهو جمع عزة وهي الحلقة المجتمعة من الناس وأصلها عزوة في الواو، وجمعت جمع السلامة على غير قياس في جمع.
قوله: "ندب الناس" أي دعاهم.
قوله: "إلى عَرْق" بفتح العين وسكون الراء المهملتين، وهو العظم الذي أخذ عنه معظم اللحم، وجمعه عَراق، وهو جمع نادر، يقال: عرقت العظم واعترقته وتعرقته إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك.
قوله: "ثم أتخلف" أي آتيهم من خلفهم آخذهم على غفلة وغزة.
قوله: "يتخلفون عن هذه الصلاة" أي يتركون الحضور إليها، على معنى أنهم يجعلونها [خلفهم](2).
قوله: "فأضرمها" من أضرمت النار إذا أوقتدها وهو بنصب الميم عطفًا على ثم أتخلف فافهم.
الخامس: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي شيخ البخاري، عن أبي بكر بن أبي عياش الأسدي الكوفي المقرئ، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.
(1)"مسند أحمد"(2/ 416 رقم 9372).
(2)
في "الأصل": "خلفها".
وأخرجه أحمد في "مسند"(1): ثنا أسود بن عامر، نا أبو بكر، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:"جاء رسول الله عليه السلام إلى المسجد، فرآهم عزين متفرقين، قال: فغضب غضبًا شديدا ما رأيناه غضب غضبًا أشد منه، قال: والله لقد هممت أن آمر رجلًا يؤم الناس، ثم أتتبع هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة في دورهم فأحرقها عليهم".
ص: وقد وافق أبا هريرة من التابعين على ما قال من ذلك سعيد بن المسيب رضي الله عنه.
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد، قال: أنا عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال:"كانت الصلاة التي أراد النبي عليه السلام أن يحرق على من تخلف عنها: صلاة العشاء الآخرة".
ش: وافق أبا هريرة سعيد بن المسيب في إخباره أن الصلاة التي قال فيها النبي عليه السلام: "ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم" الحديث.
هي الصلاة العشاء، ورواة هذا الأثر ثقات.
فإبراهيم بن مرزوق وثقه الدارقطني، وعفان بن مسلم الصفار شيخ أحمد روى الجماعة، وحماد بن سلمة روى له مسلم والأربعة، وعطاء الخراساني روى له الجماعة إلا البخاري، وسعيد بن المسيب من سادات التابعين وأكابرهم.
ص: وقد روي عن جابر بن عبد الله خلاف ذلك كله وأن ذلك القول لم يكن من النبي عليه السلام لحال الصلاة، وإنما كان لحال أخرى.
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا عبد الله بن لهيعة، قال: ثنا أبو الزبير قال: "سألت جابرًا رضي الله عنه أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا شيء لأمرت رجلًا يصلي بالناس ثم لحرقت بيوتًا على ما فيها؟ قال جابر رضي الله عنه: إنما قال ذلك من أجل رجل بلغه عنه شيء، فقال: لئن لم ينته لأحرقن عليه بيته على ما فيه".
(1)"مسند أحمد"(1/ 377 رقم 8890).
فهذا جابر رضي الله عنه يخبر أن ذلك القول من النبي عليه السلام إنما كان للمتخلف عما لا ينبغي التخلف [عنه](1) فليس في هذا ولا شيء مما تقدمه الدليل على الصلاة الوسطى ما هي.
قال أبو جعفر رحمه الله: فلما انتفى بما (ذكره)(2) أن يكون فيما روينا عن زيد بن ثابت رضي الله عنه في شيء من ذلك دليل؛ رجعنا إلى ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما فإذا ليس فيه حكايته عن النبي عليه السلام، وإنما هو من قوله؛ لأنه قال:"هي الصلاة التي وُجِّه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة".
ش: أي خلاف ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه من أن حديث التحريق لأجل الجمعة، وخلاف ما روي عن أبي هريرة من أنه لأجل صلاة العشاء الآخرة، بيان ذلك: أن جابرًا رضي الله عنه سئل عن حديث التحريق، فقال: لم يكن ذلك من النبي عليه السلام لأجل حال الصلاة، وإنما كان ذلك لأجل رجل بلغ النبي عليه السلام عنه شيء أوجب ذلك، فحينئذ لم يكن فيما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي مضى ذكره في أول الباب دليل على كون الصلاة الوسطى ما هي؟ فإذا كان كذلك يُرجع إلى ما روي عن عبد الله بن عمر وهو قوله:"إنا كنا نتحدث أنها الصلاة التي وُجِّه فيها رسول الله عليه السلام إلى الكعبة"، وهو أيضًا لا يدل على شيء من ذلك؛ لأنه ليس فيه حكايته عن النبي عليه السلام، وإنما هو إخبار عن قوله؛ لأنه قال من قوله:"إنها الصلاة التي وُجِّه فيها رسول الله عليه السلام إلى الكعبة" فحينئذ لم يتم الدليل على مُدَّعي من يَدَّعِي أن الصلاة الوسطي هي الظهر. مُحْتَجًّا بما روي عن زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
ورجال حديث جابر ثقات، غير أن في عبد الله بن لهيعة مقالًا، على أن أحمد قد وثقه ومال إليه الطحاوي أيضًا، وأبو الزبير اسمه محمد بن مسلم المكي.
وهذا قد أخرجه أسد السنة في "مسنده".
(1) في "الأصل، ك": "عليه"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
(2)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار":"ذكرناه".
قوله: "أقال" الهمزة فيه للاستفهام، و"اللام" في "لأمرت" للتأكيد فلذلك مفتوحة، وكذا في قوله:"لحرقت" وهو بتشديد الراء، من التحريق، وقوله:"لأحرقن" بضم الهمزة من الإحراق وبنون التأكيد الثقيلة.
ص: وقد روي عنه من غير هذا الوجه خلاف ذلك.
حدثنا محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان، جميعًا قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني ليث بن سعد. ح
وحدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا ليث بن سعد، قال: حدثني ابن الهاد، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال:"الصلاة الوسطى صلاة العصر".
قال أبو جعفر رحمه الله فلما تضاد ما روي في ذلك عن ابن عمر؛ دلّ هذا أنه لم يكن عنده فيه شيء عن النبي عليه السلام، فرجعنا إلى ما روي عن غيره، فإذا أبو بكرة بكار بن قتيبة قد حدثنا، قال: ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، عن عوف، عن أبي رجاء قال:"صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما الغداة، فقنت قبل الركوع، وقال: هذه الصلاة الوسطى".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا قرة، قال: ثنا أبو رجاء، عن ابن عباس قال:"هي صلاة الصبح".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان بن مسلم، عن همام، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا، سعيد بن كثير بن عفير، قال: ثنا داود بن عبد الرحمن، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا عبد [الله بن](1) المبارك، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: "صليت خلف أبي موسى الأشعري رضي الله عنه
(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
صلاة الصبح، فقال رجل إلى جنبي من أصحاب النبي عليه السلام: هذه الصلاة الوسطى".
قال أبو جعفر: فكأن ما ذهب إليه ابن عباس من هذا: قول الله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) فكان ذلك القنوت عنده هو [قنوت](2) الصبح، فجعل بذلك الصلاة الوسطي هي الصلاة التي فيها القنوت عنده.
ش: أي قد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما من غير الوجه المذكور، خلاف ما روي عنه من أن الصلاة الوسطي هي الظهر.
حاصل الكلام: أنه روي عنه فيما مفأن الصلاة الوسطي هي الظهر؛ لقوله: "كنا نتحدث أنها الصلاة التي وُجِّه فيها رسول الله عليه السلام إلى الكعبة".
وروي عنه أيضًا أنه قال: "صلاة الوسطي صلاة العصر" وأخرج ذلك من طريقين صحيحين:
أحدهما: عن محمد بن خزيمة بن راشد وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن ليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
وأخرجه الطبري في "تفسيره"(3): ثنا محمد بن عبد الحكم، ثنا أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن يزيد بن الهاد، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه:"أنه كان يرى لصلاة العصر فضيلة؛ للذي قاله رسول الله عليه السلام فيها، ويرى أنها الصلاة الوسطي".
(1) سورة البقرة، آية:[238].
(2)
في "الأصل، ك": "وقت"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
(3)
"تفسير الطبري"(2/ 555).
والآخر: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن يوسف التنيسي أحد مشايخ البخاري، عن ليث بن سعد
…
إلى آخره.
وهذا كما قد رأيت قد تضادت روايتا ابن عمر رضي الله عنهما في الصلاة الوسطي، فدل ذلك على أنه لم يكن عنده شيء في أمر الصلاة الوسطي عن النبي عليه السلام، فحينئذ يتعين الرجوع إلى ما روي عن غيره، فنظرنا في ذلك، فوجدنا روي عن ابن عباس وعن رجال من الصحابة رضي الله عنهم أن الصلاة الوسطي هي صلاة الصبح.
وأخرج ذلك عن ابن عباس عن أربع طرق صحاح:
الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري وغيره، عن عوف بن أبي جميلة المعروف بالأعرابي، عن أبي رجاء عمران بن ملحان العطاردي، وقد أدرك أبو رجاء زمن النبي عليه السلام ولم يره، وأسلم بعد الفتح وأتى عليه مائة وعشرون سنة أو أكثر، وروى له الجماعة.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1) من حديث عوف وأبي الأشهب، عن أبي رجاء العطاردي قال:"صلى بنا ابن عباس الصبح وهو أمير على البصرة، فقنت قبل الركوع، ورفع يديه حتى لو أن رجلًا بين يديه لرأى بياض إبطيه، فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه، فقال: هذه الصلاة التي ذكرها الله في كتابه {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) ".
وأخرجه الطبري (3) أيضًا نحوه.
الثاني: عن أبي بكرة أيضًا، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن قرة بن خالد السدوسي، عن أبي رجاء عمران بن ملحان، عن ابن عباس
…
إلى آخره.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 461 رقم 2005).
(2)
سورة البقرة، آية:[238].
(3)
"تفسير الطبري"(2/ 565).
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن قرة، قال: ثنا أبو رجاء، قال:"صليت مع ابن عباس الصبح في مسجد البصرة، فقال: هذه الصلاة الوسطي".
الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار، عن همام بن يحيى، عن قتادة بن دعامة، عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم الضبعي، عن جابر ابن زيد الأزدي اليحمدي أبي الشعثاء، عن ابن عباس.
وأخرجه الطبري (2): من حديث صالح أبي الخليل، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس أنه قال:"صلاة الوسطي صلاة الفجر".
الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم الأنصاري، عن داود بن عبد الرحمن العطار أبي سليمان، عن عمرو بن دينار المكي، عن مجاهد بن جبير المكي، عن ابن عباس
…
إلى آخره.
وقال القاضي إسماعيل بن إسحاق: الرواية عن ابن عباس في أن الصلاة الوسطى هي صلاة الفجر صحيحة وإن كان روي عنه أيضًا أنها صلاة العصر.
وأخرج عن رجل من الصحابة من طريق صحيح عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبد الله بن المبارك، عن الربيع بن أنس البكري البصري ثم الخراساني، عن أبي العالية رفيع بن مهران الرياحي قال:"صليت خلف أبي موسى الأشعري" واسمه عبد الله بن قيس.
وأخرجه الطبري (3): من حديث أبي العالية بطريق صحيح قال: "صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاة الغداة، فقلت لرجل من الصحابة إلى جنبي: ما الصلاة الوسطى؟ قال: هذه الصلاة".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 246 رقم 8672).
(2)
"تفسير الطبري"(2/ 564).
(3)
"تفسير الطبري"(2/ 565).
وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال:"صلينا مع بعض أصحاب النبي عليه السلام صلاة الغداة، فلما فرغنا قلت: أي صلاة صلاة الوسطى؟ قال: التي صليت الآن".
قوله: "فجعل بذلك" أي جعل ابن عباس بكون القنوت في قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) هو قنوت الصبح، والصلاة الوسطول هي الصلاة التي فيها القنوت عنده.
ص: وقد خولف ابن عباس في هذه الآية فيم نزلت؟
فحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشيباني، عن زيد بن أرقم قال: "كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (3) فأمرنا بالسكوت.
حدثنا حسين بن نصر، قال سمعت يزيد بن هارون
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن سفيان في هذه الآية:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (3) فذكر عن منصور، عن مجاهد قال: كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية، فالقنوت: السكوت، والقنوت: الطاعة".
حدثنا أبو بشر، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن الليث بن أبي سليم، عن مجاهد "في هذه الآية:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) قال: من القنوت الركوع والسجود، وخفض الجناح، وغض البصر من رهبة الله عز وجل".
حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا محمد بن طلحة، عن ابن عون، عن عامر الشعبي قال:"لو كان القنوت كما تقولون لم يكن للنبي عليه السلام منه شيء، إنما القنوت الطاعة، يعني {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (3) ".
(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 579 رقم 2208).
(2)
سورة البقرة، آية:[238].
(3)
سورة الأحزاب، آية:[21].
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا أبو الأشهب، قال: سألت جابر بن زيد عن القنوت، فقال: الصلوات كلها قنوت، أما الذي تصنعون، فما أدري ما هو؟ ".
قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا زيد بن أرقم ومن ذكرنا معه يخبرون أن ذلك القنوت الذي أمروا به في هذه الآية هو السكوت عن الكلام الذي كانوا يتكلمون به فيالصلاة، فخرج بذلك أن يكون في هذه الآية دليل على أن القنوت المذكور فيها هو القنوت المفعول في صلاة الصبح، وقد أنكر قوم أن يكون ابن عباس رضي الله عنهما كان يقنت في صلاة الصبح، وقد روينا ذلك بأسانيده في باب: القنوت في صلاة الصبح، فلو كان هذا القنوت المذكور في هذه الآية هو القنوت في صلاة الصبح إذًا لما تركه؛ إذْ كان قد أمر به الكتاب.
ش: المخالفون لابن عباس في سبب نزول هذه الآية: زيد بن أرقم من الصحابة، ومجاهد بن جبر والشعبي وجابر بن زيد من التابعين، فإنهم أخبروا أن القنوت المذكور في قوله:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) بصورة الأمر هو السكوت عن الكلام في الصلاة؛ لأنهم كانوا يتكلمون فيها، فدل ذلك أن القنوت المذكور في الآية ليس هو القنوت الذي كان يُفعل في صلاة الصبح فلا يُسمى حينئذٍ بسبب ذلك صلاة الصبح الصلاة الوسطى"، على أن ما روي عن ابن عباس من "أنه قنت في صلاة الصبح، وقال: هذه الصلاة الوسطى، أشار إليه بقوله:"وقد أنكر قوم أن يكون ابن عباس كان يقنت في صلاة الصبح" وأراد بالقوم هؤلاء: عمرو بن ميمون والأسود وسعيد بن جبير وعمران بن الحارث ومجاهد بن جبر، فإنهم قالوا: لم يقنت ابن عباس في الفجر.
قال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع قال: ثنا سفيان، عن واقد مولى زيد بن خليدة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم:"أنهما كانا لا يقنتان في الفجر".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 102 رقم 6970).
حدثنا (1) هشيم قال: أنا حصين، عن عمران بن الحارث، قال:"صليت مع ابن عباس في داره صلاة الصبح، فلم يقنت قبل الركوع ولا بعده".
حدثنا (2) حسين بن علي، عن زائدة، عن منصور، قال: حدثني مجاهد وسعيد ابن جبير: "أن ابن عباس كان لا يقنت في صلاة الفجر وهو إمام".
وقال ابن حزم في "المحلى"(3): وروينا عن ابن عباس أنه لم يقنت.
قوله: "وقد روينا ذلك" أي إنكار قوم أن يكون ابن عباس كان يقنت في الصبح، وسيأتي بيانه في باب: الوتر، إن شاء الله تعالى.
قوله: "إذًا لما تركه" جواب قوله: "فلو كان هذا القنوت".
قوله: "إذْ كان" تعليل لما قبله، يعني لأن الكتاب قد أمر بالقنوت، وهو قوله تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (4) ولو كان هذا القنوت هو القنوت المفعول في الصبح، لما جاز لابن عباس أن يتركه؛ لأنه أمر الكتاب على هذا التقدير.
أما أثر زيد بن أرقم: فقد أخرجه من طريقين صحيحين:
الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن إسماعيل بن أبي خالد -واسم أبي خالد هرمز، وقيل: سعد، وقيل: كثير- عن الحارث بن شبيل بن عوف الأحمسي البجلي الكوفي، عن أبي عمرو إسحاق بن مرار النحوي اللغوي الشيباني الكوفي.
وهؤلاء كلهم من رجال الصحيحين ما خلا علي بن شيبة.
وأخرجه البخاري (5): ثنا إبراهيم بن موسى، أبنا عيسى، عن إسماعيل، عن الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشيباني، قال: "قال لي زيد بن أرقم: إن كنا
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 102 رقم 6976).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 103 رقم 6994).
(3)
"المحلى"(4/ 142).
(4)
سورة البقرة، آية:[238].
(5)
"صحيح البخاري"(1/ 402 رقم 1142).
لنتكلم في الصلاة على عهد النبي عليه السلام، فيكلم أحدنا صاحبه لحاجته حتى نزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) فأمرنا بالسكوت".
ومسلم (2): ثنا بحر بن يحيى، قال: أنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشيباني، عن زيد بن أرقم قال:"كُنَّا نتكلم في الصلاة؛ يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة؛ حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام".
وأبو داود (3): محمد بن عيسى، نا هشيم
…
إلى آخره نحوه.
والترمذي (4): ثنا أحمد بن منيع، ثنا هشيم
…
إلى آخره، ولفظه:"كنا نتكلم خلف رسول الله عليه السلام في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه لحاجته حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) فأمرنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام".
والنسائي (5): أنا إسماعيل بن مسعود، ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، قال: حدثني الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشيباني، عن زيد بن أرقم قال:"كان الرجل يكلم صاحبه في الصلاة بالحاجة على عهد رسول الله عليه السلام؛ حتى نزلت هذه الآية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (6) فأمرنا بالسكوت".
الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الحارث، عن أبي عمرو، عن زيد بن أرقم.
(1) سورة البقرة، آية:[238].
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 383 رقم 539).
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 249 رقم 949).
(4)
"جامع الترمذي"(2/ 256 رقم 405).
(5)
"المجتبى"(3/ 18 رقم 1219).
(6)
سورة البقرة، آية:[238].
وأخرجه عبد بن حميد في "مسنده"(1): أنا يزيد بن هارون، أبنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشيباني، عن زيد بن أرقم قال:"كان يكلم أحدنا صاحبه في الصلاة في الحاجة؛ حتى نزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) فأمرنا بالسكوت".
قوله: "حتى نزلت" مشعر بالتصريح على النسخ، وأن المراد بالقنوت: السكوت؛ لأن حتى للغاية والفاء التي في قوله: "فأمرنا" مشعر بتعليل ما سبق.
قوله: "حافظوا" أي واظبوا وداوموا.
قوله: "قانتين" نصب على الحال من الضمير الذي في "وَقُومُوا" من القنوت، وهو السكوت ها هنا، ويرد القنوت لمعاني كثيرة: للطاعة، والخشوع، والصلاة، والدعاء، والعبادة، والقيام، وطول القيام.
ويستفاد منه:
أن المصلي يحرم عليه الكلام في الصلاة، وأما ما لا يسمى كلامًا فمن أراد إلحاقه به كان ذلك بطريق القياس، وأجمع العلماء على أن الكلام في الصلاة عامدًا عالمًا بتحريمه لغير مصلحتها ولغير إنقاذ هالك وشبهه؛ مبطلٌ للصلاة.
وأما الكلام لمصلحتها فقال أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد: يبطل الصلاة، وجوزه الأوزاعي وبعض أصحاب مالك وطائفة قليلة، واعتبر الشافعية ظهور حرفين وإن لم يكونا مُفْهِمَيْن، ثم السلام كالكلام عند أبي حنيفة، حتى إذا سُلِّم عليه وهو في الصلاة لا يرد بلفظ ولا بإشارة، وبه قال عطاء والنخعي والثوري، ولكن قالوا: يرده بعد السلام فإن ردّه بلسانه بطلت صلاته عند أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وأبي ثور، وهو مروي عن أبي ذرٍّ وعطاء والنخعي والثوري، وعن أبي حنيفة يرده في نفسه، وعند محمد بعد السلام، وقال أبو يوسف: لا في الحال ولا بعد الفراغ.
(1)"مسند عبد بن حميد"(1/ 113 رقم 260).
(2)
سورة البقرة، آية:[238].
وقال عياض: قال جماعة من العلماء: يردّ السلام في الصلاة نطقًا، منهم: أبو هريرة وجابر وسعيد بن المسيب والحسن وقتادة وإسحاق، وقال عمر بن عبد العزيز ومالك وجماعة: يرد إشارةً لا نطقًا.
وعند الشافعي أنه لا يُسلَّم على المصلي، فإن سُلِّم عليه لم يستحق جوابًا.
وعن مالك روايتان: كراهة السلام، والثانية جوازه.
فإن قيل: متى كان هذا النسخ؟
قلت: قال ابن حبان: توهم من لم يُحْكم صناعة العلم بأن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة؛ لحديث زيد بن أرقم، وليس كذلك؛ لأن الكلام في الصلاة كان مباحًا إلى أن رجع ابن مسعود من عند النجاشي فوجدوا الإباحة قد نسخت، وكان بالمدينة مصعب بن عمير يُقرئ المسلمين، وكان الكلام بالمدينة مباحًا كما كان بمكة شرفها الله تعالى، فلما نسخ ذلك بمكة تركه الناس بالمدينة، فحكى زيد ذلك الفعل؛ لا أن نسخ الكلام كان بالمدينة".
وهو لَعَمْرِي كلام جيد لولا ما في كتاب الترمذي (1): عن زيد كنا نتكلم خلف النبي عليه السلام يكلم الرجل منَّا صاحبه وهو إلى جنبه حتى نزلت
…
" وأهل العلم كلهم يقولون: إن سورة البقرة مدنية خصوصًا هذه الآية.
وقال الخطابي: نسخ الكلام كان بعد الهجرة بمدة يسيرة وحَمَلَ بعضهم على هذا حديث ابن مسعود على مجيئه في المرة الثانية من الحبشة لا الأولى، وحمل بعضهم حديث زيد على أنه إخبار عن الصحابة المتقدمين كما يقول القائل: قتلناكم وهزمناكم يعنون الآباء والأجداد وردَّ كلام الخطابي بتعذر التاريخ وليس جيدًا؛ لأن في حديث جابر المخرج عند مسلم (2): بعثني رسول الله عليه السلام في حاجة، ثم أدركته
(1)"جامع الترمذي"(2/ 256 رقم 405).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 383 رقم 539).
وهو يصلي فسلمت عليه، فأشار إليَّ، فلما فرغ قال: لِمَ سلمت آنفًا وأنا أصلي؟ فهذا الذي منعني أن أكلمك".
وأخرجه أيضًا الأربعة (1) وفي لفظ (2): "كان ذلك وهو منطلق إلى بني المصطلق".
فهذا فيه بيان ما أشكل على من ردَّ كلام الخطابي، وردّ أيضًا لما قاله ابن حبان. فافهم، وسيجيء مزيد الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وأما أثر مجاهد: فقد أخرجه من طريقين صحيحين:
الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3): عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد قال:"كانوا يتكلمون في الصلاة، ويكلم الرجل أخاه، حتى نزلت هذه الآية: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (4) فقطعوا الكلام، قال: القنوت السكوت، والقنوت: الطاعة".انتهى.
وقال ابن الأنباري: القنوت على أربعة أقسام: الصلاة، وطول القيام، وإقامة الطاعة، والسكوت".
وقال الجوهري: القنوت الطاعة.
وهذا هو الأصل ومنه قوله تعالى: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} (5) ثم سُمي القيام في الصلاة قنوتًا، وفي الحديث "أفضل الصلاة طول القنوت"(6) ومنه قنوت الوتر.
(1) أبو داود في "سننه"(1/ 313 رقم 949)، والترمذي في "جامعه"(5/ 218 رقم 2986)، والنسائي في "المجتبى"(3/ 18 رقم 1219).
(2)
رواه مسلم في "صحيحه"(1/ 383 رقم 540).
(3)
"مصنف عبد الرزاق"(2/ 331 رقم 3574).
(4)
سورة البقرة، آية:[238].
(5)
سورة الأحزاب، آية:[35].
(6)
أخرجه مسلم (1/ 520 رقم 756) من حديث جابر رضي الله عنه.
الثاني: عن أبي بشر الرقي أيضًا، عن شجاع بن الوليد أبي، عن الليث بن أبي سليم أحد مشايخ أبي حنيفة، عن مجاهد.
وأخرجه أبو موسى بن أبي بكر الحافظ: عن إسماعيل بن الفضل، عن منصور بن الحسن، عن محمد بن إبراهيم بن المقرئ
…
بإسناده إلى مجاهد نحوه، وهو إسناد جيد.
قوله: "خفض الجناح" الخفض ضد الرفع، وأراد به ها هنا السكون والقرار وعدم الالتفات.
قوله: "من رهبة الله" أي من خوفه.
وأما أثر الشعبي: فأخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن يونس بن عبد الله شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن محمد بن طلحة بن مصرف اليامي، عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري، عن عامر بن شراحيل الشعبي رضي الله عنه.
وأما أثر جابر بن زيد الأزدي أبي الشعثاء: فأخرجه بإسناد صحيح أيضًا، عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن المنهال، عن أبي الأشهب جعفر بن حيان العطاردي قال: "سألت جابر بن زيد
…
" إلى آخره.
ص: وقد روي عن ابن عباس أن الذي ذُهب إليه في ذلك معنى آخر: حدثنا أحمد بن أبي عمران، قال: ثنا خالد بن خداش المهلبي، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ثور بن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"الصلاة الوسطي هي الصبح، تصلى بين سواد الليل وبياض النهار".
قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا ابن عباس قد أخبر في هذا الحديث أن الذي جعل صلاة الغداة به هي الصلاة الوسطي هذه العلة.
ش: أراد أنه روي في الذي ذهب إليه ابن عباس في علة تسمية صلاة الصبح بالصلاة الوسطى، يعني غير المعنى الذي ذكره فيما مضى وهو كون القنوت عنده هو
قنوت الصبح، وأنه هو العلة في تسمية صلاة الصبح الصلاة الوسطي، وهو الذي رواه عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي شيخ الأصحاب في وقته، عن خالد بن خِداش -بكسر الخاء المعجمة، وبالدال المهملة- ابن عجلان الأزدي المهلبي البصري أحد مشايخ مسلم، عن الدراوردي، عن ثور بن يزيد الكلاعي الشامي الحمصي، عن عكرمة.
وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه القاضي إسماعيل بن إسحاق: عن إبراهيم بن حمزة، عن عبد العزيز ابن محمَّد، عن ثور، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقول:"الصلاة الوسطى صلاة الصبح، تصلى في سواد الليل وبياض من النهار، وهي أكثر الصلوات تفوت من الناس" انتهى.
فقد أخبر ابن عباس في هذا أن سبب تسمية صلاة الصبح بالصلاة الوسطى هو كونها تصلى بين سواد الليل وبياض النهار، على معنى أن المغرب والعشاء تصليان في سواد الليل، والظهر والعصر يصليان في بياض النهار، ويصلى الصبح بين ذلك السواد وذلك البياض، فتكون وسطى بهذا الاعتبار، وقد جعل بعضهم العلة في كونها وسطى بكونها منفردة بوقتها لا يشاركها غيرها في الوقت، قاله إسماعيل، وزاد غيره أنها لا يجمع معها غيرها في سفر ولا حضر، وأن رسول الله عليه السلام لم يضمها إلى غيرها في وقت واحدٍ.
ص: وقد يحتمل أيضًا أن يكون قول الله عز وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أراد به: في صلاة الصبح، ويكون ذلك القنوت هو طول القيام، كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل:"أي الصلاة أفضل؟ " قال: "طول القنوت" وقد ذكرنا ذلك بأسانيده في موضعه من كتابنا هذا.
وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أيضًا أنها قالت: "إنما أُقِرَّت الصبح ركعتين؛ لطول القراءة فيهما"، وقد ذكرنا ذلك أبي بإسناده في غير هذا الموضع.
وقد يحتمل أن يكون قوله عز وجل {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أراد به في كل الصلوات، صلاة الوسطي وغيرها.
ش: أشار بهذا إلى أن قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} يحتمل معنيين آخرين غير المعنى الذي ذكره ابن عباس فيما مضى.
أحدهما: أن يكون أراد به في صلاة الصبح، ولكن يكون المراد من القنوت: طول القيام فيها، كما جاء في حديثٍ حين سئل عليه السلام:"أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت".
وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب، قالا: ثنا أبو معاوية، قال: ثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال:"سئل رسول الله عليه السلام أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت".
ومعناه: طول القيام، وبه احتج أبو حنيفة والشافعي أن طول القيام في النوافل أفضل من كثرة الركوع والسجود، وقال صاحب "المحيط": طول القيام أفضل من طول الركوع والسجود. واستدل بهذا الحديث.
وقال أبو داود (2): ثنا أحمد بن حنبل، نا حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عثمان بن أبي سليمان، عن علي الأزدي، عن عبيد بن عمير، عن عبد الله بن حبشي الخثعمي:"أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: طول القيام".
والاحتمال الآخر: هو أن يراد به القنوت في كل الصلوات، صلاة الوسطى وغيرها.
وها هنا احتمالات أُخر:
الأول: أن يكون المراد من القنوت في الصلوات كلها ذكر الله عز وجل، وقال الزمخشري: القنوت أن تذكر الله قائمًا.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 520 رقم 756).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 422 رقم 1325).
والثاني: أن يكون المراد منه السكوت، كما ذكرنا.
الثالث: أن يكون المراد قراءة القنوت في جميع الصلوات، كما ذهب إليه قوم كما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
والرابع: أن يكون المراد الركوع والسجود كما قاله مجاهد رضي الله عنه.
قوله: "وقد ذكرنا ذلك" أي قوله عليه السلام لما سئل: أي الصلاة أفضل؟ وقد ذكره في هذا الكتاب.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد ذكره في غير هذا الموضع مسندًا، وذكره ها هنا معلقًا.
وأخرجه البيهقي (1): من حديث الشعبي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"إن أول ما فرضت الصلاة ركعتين، فلما قدم النبي عليه السلام المدينة واطمأن زاد ركعتين غير المغرب؛ لأنها وتر، وصلاة الغداة؛ لطول قراءتها، وكان إذا سافر صلى صلاته الأولى". وفي إسناده بكار بن عبد الله السيريني، وهو واهٍ، قاله الذهبي في "مختصر سنن البيهقي".
ص: وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في الصلاة الوسطي أنها العصر: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن رزين بن عبيد العبدي قال: سمعت ابن عباس يقول: "الصلاة الوسطي صلاة العصر {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ".
قال أبو جعفر رحمه الله: ولما اختلف عن ابن عباس في ذلك أردنا أن ننظر فيما روي عن غيره.
ش: قد مرَّ أنه روي عن ابن عباس أن الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح، وروي عنه أبي أنها صلاة العصر، ولما اختلفت الرواية عنه في ذلك تعين
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 363 رقم 1579).
الرجوع إلى ما روي عن غيره، ورواة هذا الأثر ثقات، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق الهمداني، وأبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله السبيعي، وزر بن عبيد العبدي وثقه ابن حبان ونسبته إلى عبد القيس في ربيعة.
ص: وذهب أيضًا من ذهب إلى أنها غير العصر، أنه قد روي عن النبي عليه السلام ما يدل على ذلك، فذكروا ما قد حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم ابن سعد، قال: حدثني أبي، عن أبي إسحاق، قال: ثنا أبو جعفر محمد بن علي ونافع مولى عبد الله بن عمر، أن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حدثهما:"أنه كان يكتب المصاحف على عهد أزواج النبي عليه السلام، قال: فاستكتبتني حفصة ابنة عمر رضي الله عنهما -زوج النبي عليه السلام- مصحفًا، وقالت لي: إذا بلغت هذه الآية من سورة البقرة فلا تكتبها حتى تأتيني فأملها عليك كما حفظتها من النبي عليه السلام، قال: فلما بلغتها أتيتها بالورقة التي أكتبها، فقالت: اكتب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطي وصلاة العصر".
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن زيد بن أسلم، عن عمرو بن رافع
…
مثله عن حفصة، غير أنها لم تذكر عن النبي عليه السلام.
ش: "من ذهب" فاعل قوله: "وذهب".
قوله: "إلى أنها" أي إلى أن الصلاة الوسطى غير العصر، وهذا يشمل من يقول: إنها الصبح، ومن يقول: إنها الظهر، وغيرها ممن يقول غير العصر.
قوله: "أنه" في موضع التعليل، أي لأنه قد روي عن النبي عليه السلام ما يدل على ذلك، أي على كون الصلاة الوسطي غير العصر، وهو أن إملاء حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما على عمرو بن رافع:"اكتب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطي وصلاة العصر" يدل على أن العصر ليست بالصلاة الوسطي، وأنها غير العصر؛ لأنها عطفت على الصلاة الوسطى، فتكون غيرها؛ لاقتضاء العطف المغايرة.
ثم إنه أخرج حديث حفصة من طريقين صحيحين: أولهما: مرفوع، والآخر موقوف.
فالأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد القرشي الزهري المدني، عن أبيه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم المدني نزيل بغداد، عن محمد بن إسحاق المدني، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم المعروف بالباقر، وعن نافع مولى عبد الله بن عمر، كلاهما عن عمرو بن رافع المدني
…
إلى آخره.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): بهذا الإسناد بعينه، وفيه مخالفة للرواية السالفة من حديث أحمد بن خالد، ثنا ابن إسحاق، عن أبي جعفر محمد بن علي ونافع، كلاهما عن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب قال:"كنت أكتب المصاحف فاستكتبتني حفصة بنت عمر مصحفًا لها، فقالت: أيْ بُنَيّ، إذا انتهيت إلى هذه الآية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فلا تكتبها حتى تأتيني فأملها عليك كما حفظتها من رسول الله عليه السلام، فلما انتهيت إليها حملت الورقة والدواة حتى جئتها، فقالت: اكتب "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى هي صلاة العصر وقومو الله قانتين".
وهذا كما ترى مخالف للأول، ونَبَّه الذهبي على أن الرواية الأولى -أعني التي أخرجها الطحاوي- هي الأصح".
والثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عمرو بن رافع
…
إلى آخره.
وأخرجه مالك في "الموطإ"(2): عن زيد بن أسلم، عن عمرو بن رافع، أنه قال: "كنت أكتب مصحفًا لحفصة أم المؤمنين، فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 463 رقم 2010).
(2)
"موطأ مالك"(1/ 139 رقم 314).
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) فلما بلغتها آذنتها، فأملت عليَّ "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين".
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع: "أن حفصة زوج النبي عليه السلام دفعت مصحفًا إلى مولى لها يكتبه، وقالت. إذا بلغت هذه الآية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فآذني فلما بلغها جاءها، فكتبت بيدها {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} .
وأخرج أيضًا عن داود بن قيس: أنه سمع عبد الله بن رافع يقول: "أمرتني أمّ سلمة أن أكتب لها مصحفًا، وقالت: إذا بلغت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (1) فأخبرني، فأخبرتها، فقالت: اكتب "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين" وكلاهما موقوف.
وقال أبو عمر: حديث حفصة هذا قد اخُتلف في رفعه، ومتنه أيضًا، وممن رفعه عن زيد: هشام بن سعد، ورواه سُنيد عن هشيم، وقال فيه:"والصلاة الوسطى صلاة العصر" بغير واو، وهذا خلاف ما روي عنها:"والصلاة الوسطى وصلاة العصر" بالواو.
وقال البيهقي: الوقف أثبت من الرفع.
قوله: "على عهد أزواج النبي عليه السلام" أي على زمنهن وأيامهن.
قوله: "استكتبني" من الاستكتاب، وهو طلب الكتابة.
قوله: "آذني" بالمد أي أعلمني، من آذن يُؤذن إيذانًا، إذا أعلم.
قوله: "فأملت عليّ" أي لقّنت عليّ ما أكتبه.
(1) سورة البقرة، آية:[238].
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 568 رقم 2202).
ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولى عائشة، أنه قال: "أمرتني عائشة رضي الله عنها
…
" ثم ذكر نحو حديث حفصة من حديث علي بن معبد.
ش: أشار بهذا إلى أن حديث حفصة المذكور قد روي أبي عن عائشة مثله، ولهذا قال: نحو حديث حفصة، وإنما قال: من حديث علي بن معبد؛ تنبيهًا على أنه روي مرفوعًا عن عائشة، كما أن حديث حفصة روي مرفوعًا من حديث علي بن معبد.
وأخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم، وأبو يونس مولى عائشة وثقه ابن حبان واحتج به مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
وأخرجه مسلم (1): ثنا يحيى بن يحيى التميمي، قال: قرأت على مالك، عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولى عائشة أنه قال: "أمرتني عائشة أكتب لها مصحفًا، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني
…
" إلى آخره نحو رواية الطحاوي في حديث حفصة، غير أن في لفظ مسلم في آخره: "قالت عائشة: سمعتها من رسول الله عليه السلام
…
".
وأخرجه أبو داود (2): عن القعنبي، عن مالك
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه الترمذي في كتاب التفسير في "الجامع"(3): ثنا قتيبة، عن مالك، وعن الأنصاري، عن معن، عن مالك، عن زيد بن أسلم
…
إلى آخره نحوه.
ثم قال: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه النسائي (4): عن قتيبة، عن مالك
…
إلى آخره نحوه.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 437 رقم 629).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 112 رقم 410).
(3)
"جامع الترمذي"(5/ 217 رقم 2982).
(4)
"المجتبى"(1/ 236 رقم 472).
وهذا أيضًا قد دل على أن العصر ليست بصلاة الوسطى؛ لأنها عطفت عليها بالواو، والمعطوف غير المعطوف عليه كما ذكرنا، وقال أبو عمر: لم يختلف في حديث عائشة في ثبوت الواو بخلاف حديث حفصة.
قلت: فيه نظر؛ لأن ابن حزم ذكره في كتابه (1) وقال: وروينا من طريق بن مهدي، عن أبي سهل محمد بن عمرو الأنصاري، عن القاسم، عنها فذكرته بغير واو.
وروى أبو بكر بن أبي داود (2): صاحب "السنن". وقال: ثنا أحمد بن الحباب، ثنا مكي، ثنا عبد الله -يعني قاضي مصر- عن ابن هبيرة، عن قبيصة بن ذكوان قال:"في مصحف عائشة رضي الله عنهما: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر".
قلت: وعلى تقدير صحة وجود "الواو" يجاب عنه -أعني عن حديث حفصة الذي فيه الواو بأشياء:
منها أن من أثبت "الواو" امرأة، ومسقطها جماعة كثيرة.
ومنها موافقة مذهب عائشة لسقوط "الواو".
ومنها مخالفة "الواو" للتلاق.
ومنها: معارضة رواية حفصة برواية البراء بن عازب؛ على ما يجيء عن قريب.
ومنها: أن تكون "الواو" زائدة كما زيدت عند بعضهم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (3).
(1)"المحلى"(4/ 256).
(2)
"كتاب المصاحف"(1/ 289).
(3)
سورة الأنعام، آية:[75].
وقوله: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} (1).
وقوله: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (2).
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (3). وقال الأخفش في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (4) إن الجواب فتحت.
ومنها أن يكون العطف فيه كالعطف في قول الشاعر:
إلى الملك القُرْمِ وابنِ الهُمَام
…
وليثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَم
فقد وجد العطف ها هنا مع اتحاد الشخص، وعطف الصفات بعضها على بعض موجود في كلام العرب كثير، ويقال: إن العطف ها هنا من باب التخصيص والتفضيل كما في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} (5).
وكقوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (6).
وكقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} (7).
فإن قيل: قد حصل التخصيص في العطف، وهو قوله:{وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فوجب أن يكون العطف الثاني وهو قوله وصلاة العصر مغايرًا له.
قلت: إن العطف الأول كما قلتم، والثاني للتأكيد والبيان لمَّا اختلف اللفظان، كما تقول: جاءني زيد الكريم والعاقل، فتعطف إحدى الصفتين على الأخرى.
(1) سورة الأنعام، آية:[105].
(2)
سورة الأحزاب، آية:[40].
(3)
سورة النساء، آية:[167].
(4)
سورة الزمر، آية:[73].
(5)
سورة البقرة، آية:[98].
(6)
سورة الرحمن، آية:[68].
(7)
سورة الأحزاب، آية:[7].
ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد الملك بن عبد الرحمن، عن أمه أم حميد بنت عبد الرحمن:"أنها سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فقالت كنا نقرأها على الحرف الأول على عهد النبي عليه السلام: "حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ".
ش: هذا طريق أخر عن عائشة رضي الله عنها وهو أيضًا صحيح، عن علي بن معبد بن نوح، عن الحجاج بن محمد الأعور المصيصي، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عبد الملك بن عبد الرحمن، عن أُمِّه أم حميد بنت عبد الرحمن
…
إلى آخره.
وأخرجه عبد الرزاق (1): عن ابن جريج، أخبرني عبد الملك بن عبد الرحمن، عن أمه أم حميد بنت عبد الرحمن قالت: "سألت عائشة أم المؤمنين عن الصلاة الوسطى، فقالت: كنا نقرأها على الحرف الأول على عهد رسول الله عليه السلام: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} .
وأخرجه ابن حزم في "المحلى"(2): وقال: ثنا همام، [نا ابن مفرج](3) نا ابن الأعرابي، نا الديري، نا عبد الرزاق
…
إلى آخره.
قوله: "على الحرف الأول" أي: على اللغة الأولى، وأرادت بالحرف اللغة، والحرف في الأصل الطرف والجانب، وبه سُمِّي الحرف من حروف الهجاء.
قوله: "على عهد النبي عليه السلام" أي: على زمنه وأيامه.
ص: قالوا: فلما قال الله تعالى فيما ذكر من هذه الآثار، عن النبي عليه السلام:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" ثبت بذلك أن الوسطى غير العصر.
(1) عبد الرزاق في "مصنفه"(1/ 578 رقم 2203).
(2)
"المحلى"(4/ 257).
(3)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المحلى"(4/ 257).
ش: أي: قال مَنْ ذهب إلى أنها غير العصر، أراد أنهم احتجوا بهذه القراءة المذكورة في الأحاديث السالفة على أن الصلاة الوسطى غير صلاة العصر، وهذا ظاهر.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: وليس في ذلك عندنا دليل على ما ذكروا؛ لأنه قد يجوز أن تكون العصر مُسمّاة بالعصر ومُسمّاة بالوسطى، فذكرها ها هنا باسمَيْها جميعًا، هذا يجوز لو ثبت ما في تلك الآثار من التلاوة الزائدة على التلاوة التي قامت بها الحجة، مع أن التلاوة التي قامت بها الحجة رافعةٌ لكل ما خالفها.
ش: هذا منعٌ لاستدلالهم بما ذكروا؛ بيانه: أن ما ذكروا لا يدل على دعواهم دلالة تامة؛ لأنه يحتمل أن يكون هذا من عطف بعض الصفات على بعض كما ذكرنا الآن في قول الشاعر، وكما في قولك: جاءني زيد الكريم والعاقل. فإن الكريم والعاقل كلاهما من صفات زيد، فإن العطف ها هنا لا يدل على المغايرة، فكذلك قوله:"والصلاة الوسطى وصلاة العصر" من هذا القبيل، على أن هذا التأويل على تقدير ثبوت ما في تلك الآثار المروية عن حفصة وعائشة رضي الله عنهما من التلاوة الزائدة وهي:"وصلاة العصر" يعني: لو سلمنا ثبوت هذه التلاوة، فجوابه ما ذكرنا على أنا لا نسلم ذلك؛ لأن التلاوة التي قامت بها الحجة وهي التلاوة المشهورة التي ليس فيها:"وصلاة العصر" قد رفعت كل قراءة خالفتها، فحينئذٍ تكون قراءة "وصلاة العصر" منسوخة، وناسخها حديث البراء بن عازب على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى.
ص: وقد روي أن الذي كان في مصحف حفصة رضي الله عنها من ذلك غير ما روينا في الآثار الأول،
كما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عمرو بن رافع قال:"كان مكتوبًا في مصحف حفصة بنة عمر رضي الله عنها: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} "
قال أبو جعفر رحمه الله: فقد تبين بهذا ما صرفنا إليه تهويل الآثار الأُوَل من قوله: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" أنه سمى صلاة العصر بالعصر وبالوسطى؛ فثبتت بهذا قول من ذهب إلى أنها صلاة العصر.
ش: أشار بهذا إلى بيان صحة ما ذكره من التأويل لما في حديث حفصة الذي ذكره آنفًا، بيانه: أنه قد روي أن المكتوب في مصحف حفصة كان على هذه الصورة (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وهي صلاة العصر) فقوله: "وهي صلاة العصر" تفسير لقوله: "الصلاة الوسطى" وهذا بعينه عين التأويل المذكور، فثبت بذلك أن صلاة العصر لها اسمان: صلاة العصر، والصلاة الوسطى، فعطف أحدهما على الآخر، ومثل هذا العطف يغني عن البيان والتفسير، ولا يدل على المغايرة، وثبت بذلك أبي قول من ذهب إلى أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وسقط بذلك دليل من يذهب إلى أن الصلاة الوسطى غير العصر.
وإسناد الحديث المذكور صحيح ورجاله كلهم ثقات، وأبو سلمة اسمه عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف.
فقد ذكرنا عن قريب أن البيهقي أخرج في "سننه"(1): من حديث أحمد بن خالد، عن محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر محمد بن علي ونافع، كلاهما عن عمرو بن رافع، وفيه: اكتب: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى هي صلاة العصر وقوموا لله قانتين".
ص: وقد روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه في ذلك ما يدل على نسخ ما روي في ذلك عن عائشة وحفصة رضي الله عنها كما حدثنا أبو شريح محمد بن زكريا، قال: ثنا محمد بن يوسف الفريابي، قال: ثنا فضيل بن مرزوق، قال: ثنا شقيق بن عقبة، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:"نزلت "حافظوا على الصلوات وصلاة العصر"
(1) تقدم.
فقرأناها على عهد رسول الله عليه السلام ما شاء الله، ثم نسخها الله عز وجل فأنزل:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (1).
قال أبو جعفر رحمه الله: فأخبر البراء في هذا الحديث أن التلاوة الأولى هي كما روت عائشة وحفصة، وأنه نسخ ذلك التلاوةُ التي قامت بها الحجة، فإن كان قوله الثاني:"والصلاة الوسطى" نسخًا للعصر أن تكون هي الوسطى فذلك نسخ لها، وإن كان نسخًا لتلاوة أحد اسميها وتثبيتًا لاسمها الآخر؛ فإنه قد ثبت أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، فلما احتمل هذا ما ذكرنا، عُدنا إلى ما روي عن النبي عليه السلام في ذلك، فحدثنا علي بن معبد، قال: ثنا شجاع بن الوليد، قال: أنا زائدة بن قدامة، قال: سمعت عاصمًا يحدث، عن زر، عن علي رضي الله عنه قال:"قاتلنا الأحزاب فشغلونا عن العصر حتى كربت الشمس أن تغيب، فقال النبي عليه السلام: اللهم املأ قلوب الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى نارًا، واملأ بيوتهم نارًا، واملأ قلوبهم نارًا، قال عليّ رضي الله عنه: كنا نرى أنها صلاة الفجر".
قال أبو جعفر: فهذا عليّ رضي الله عنه قد أخبر أنهم كانوا يرونها قبل قول النبي عليه السلام هذا؛ الصبح، حتى سمعوا النبي عليه السلام يومئذ يقول هذا، فعلموا بذلك أنها العصر.
ش: وجه النسخ ظاهر؛ لأن البراء صرّح به في روايته، ولكن قوله يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون قوله: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (1) نسخًا للعصر عن أن تكون هي الوسطى.
والآخر: أن يكون هذا نسخًا لتلاوة أحد اسمي العصر كما قلنا: إن لها اسمين: العصر، والوسطى، فإذا نسخ أحدهما يكون تثبيتًا للآخر، فإذا كان كذلك يثبت أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، ولكن لما احتمل كلامه هذين الوجهين، رجعنا إلى ما روي عن غيره في الصلاة الوسطى، فوجدنا حديث علي رضي الله عنه يدل على أن
(1) سورة البقرة، آية:[238].
الصلاة الوسطى هي العصر؛ لأنه صرح فيه بذلك؛ فترجح الاحتمال الثاني وسقط الأول، فتكون الوسطى هي العصر وهو المطلوب، فيكون هذا من قبيل نسخ التلاوة وحكمها باق، فافهم.
وإسناد حديث البراء صحيح على شرط مسلم، وأبو شريح محمد بن زكريا بن يحيى القضاعي ذكره ابن يونس فيمن ورد إلى مصر وقال: كان رجلًا صالحًا يفهم الحديث ويحفظ.
وأخرجه مسلم (1): ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: أنا يحيى بن آدم، قال: ثنا الفضيل بن مرزوق، عن شقيق بن عقبة، عن البراء بن عازب قال: "نزلت
…
" إلى آخره نحوه، وفي آخره: "فقال رجل كان جالسًا عند شقيق له: هي إذن صلاة العصر؟ فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف سماها الله".
وكذا إسناد حديث عليّ رضي الله عنه صحيح، وعاصم هو بن بهدلة وهو ابن أبي النجود، روى له الجماعة؛ البخاري ومسلم مقرونًا.
وزِرّ -بكسر الزاي المعجمة بعدها الراء المشددة- بن حبيش الأسدي أبو مطرف الكوفي روى له الجماعة.
وأخرجه البخاري (2): في باب غزوة الخندق: ثنا إسحاق، ثنا روح، ثنا هشام، عن محمَّد بن عبيدة، عن عليّ رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال يوم الخندق:"ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس".
وأخرجه مسلم (3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن محمد، عن عبيدة، عن عليّ قال:"لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا كما حبسونا وشغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس".
(1)"صحيح مسلم"(1/ 438 رقم 630).
(2)
"صحيح البخاري"(3/ 1071 - رقم 2773).
(3)
"صحيح مسلم"(1/ 436 رقم 627).
وأخرجه أبو داود (1): نا عثمان بن أبي شيبة، نا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ويزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن محمد، عن عبيدة، عن عليّ:"أن رسول الله عليه السلام قال يوم الخندق: حبسونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر؛ ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا".
وأخرجه الترمذي (2) في التفسير: ثنا هناد، ثنا عبدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن عبيدة السلماني، أن عليًّا رضي الله عنه بعض حدثه:"أن النبي عليه السلام قال يوم الأحزاب: اللهم املأ قبورهم وبيوتهم نارًا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن عليّ، وأبو حسان الأعرج اسمه مسلم.
وأخرجه النسائي (3): أنا محمد بن عبد الأعلى، قال ثنا، خالد، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني قتادة، عن أبي حسان، عن عبيدة، عن عليّ رضي الله عنه، عن النبي عليه السلام قال:"شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس".
قلت: هؤلاء كلهم أخرجوه من حديث عبيدة عن عليّ رضي الله عنه.
وكذا أخرجه الدارمي في "سننه"(4): وأحمد في "مسنده"(5).
وأخرجه أحمد (6) أيضًا: من حديث زر، عن عليّ كرواية الطحاوي، وقال: نا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن جابر، أن عاصم بن بهدلة، قال: سمعت زرًّا
(1)"سنن أبي داود"(1/ 165 رقم 409).
(2)
"جامع الترمذي"(5/ 217 رقم 2984).
(3)
"المجتبى"(1/ 236 رقم 473).
(4)
"سنن الدارمي"(1/ 306 رقم 1232).
(5)
"مسند أحمد"(1/ 122 رقم 994).
(6)
"مسند أحمد"(1/ 150 رقم 1287).
يحدث، عن عليّ رضي الله عنه عن النبي عليه السلام:"أنه قال يوم أُحد: شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى آبت الشمس؛ ملأ الله قبورهم وبيوتهم وبطونهم نارًا".
وهذا كما ترى وقع في روايته: "يوم أُحد".
وأخرجه البزار أيضًا في "مسنده"(1): نحو رواية الطحاوي، وقال: ثنا أحمد ابن عبدة الضبي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ، عن عليّ رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام قال يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس؛ ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا" وقال: هذا الحديث روي عن عليّ رضي الله عنه من غير وجه.
قوله: "قاتلنا الأحزاب" جمع حِزب -بالكسر- وهي الطوائف من الناس، وأراد بها الطوائف الذين جاءوا يوم الخندق، ويوم الخندق هو يوم الأحزاب ويوم بني قريظة، وكانت في السنة الخامسة من الهجرة، وقيل: في الرابعة، والخندق فارسي معرب، وأصله كندة أي محفور.
قوله: "حتى كربت الشمس" بمعنى دنت وقاربت، وهي من أفعال المقاربة كعسى وكاد وأوشك وأخواتها، وكَرَب -بفتح الراء- ومعناه يعني كاد، نص عليه الجوهري وغيره وحُكم خبرها حكم خبر كاد وفي الأكثر تجريده من أنْ ولم يذكر سيبويه فيه غير التجريد، وقد ذكرت ها هنا بـ "أن" نحو "كربت الشمس أن تغيبب" ومعناه قرب غروبها، كما تقول: كادت الشمس تغيب، أي قرب غروبها.
قوله: "كنا نُرَى" أي نظن "أن صلاة الوسطى صلاة الفجر" فعلموا في ذلك الوقت أنها هي العصر.
فإن قيل: ما الحكمة في جمعه عليه السلام في الدعاء عليهم البيوت والقبور.
(1)"مسند البزار"(2/ 180 رقم 557).
قلت: ليعم عليهم العذاب في الدنيا والآخرة، وخص صلى الله عليه وسلم النار؛ لأنه أكبر أنواع العذاب.
ويستفاد منه: جواز الدعاء على أعداء الدين بما شاء من الأدعية، وبيان فضيلة صلاة العصر على غيرها، ألا ترى كيف جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله عليه السلام قال:"الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله".
أخرجه البخاري (1) ومسلم (2) وأبو داود (3).
وجاء في حديث أبي المليح: "من ترك صلاة العصر حبط عمله".
أخرجه البخاري (4).
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، عن شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن عليّ رضي الله عنه عن النبي عليه السلام: "أنه قعد يوم الخندق، على فُرْضة من فُرَض الخندق
…
" ثم ذكر نحوه، إلا أنه لم يذكر قول عليّ رضي الله عنه: "كنا نُرَى أنها الصبح".
حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا الفريايى، عن سفيان، عن عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش، قال: "قلت لعَبِيدَة: سَلْ لنا عليًّا عن الصلاة الوسطى، فسأله
…
" فذكر نحوه وزاد: "كنا نُرَى أنها الفجر حتى سمعت النبي عليه السلام يقول هذا".
ش: هذان طريقان آخران وهما أيضًا صحيحان:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، نسبة إلى العَقَد -بفتحتين- قوم من قيس وهم من أزد، وقد تكرر ذكره.
(1)"صحيح البخاري"(1/ 203 رقم 527).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 435 رقم 626).
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 166 رقم 414)
(4)
"صحيح البخاري"(1/ 203 رقم 528).
عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، عن يحيى بن الجزار، بالجيم، وتشديد الزاي المعجمة، وفي آخره راء مهملة.
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم (1): ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن يحيى، سمع علئا يقول: قال رسول الله عليه السلام يوم الأحزاب وهو قاعد على فرضة من فرض الخندق: "شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس؛ ملأ الله قبورهم وبيوتهم -أو قال: قبورهم وبطونهم نارًا-".
الثاني: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرِّقي نسبة إلى رَقَّة مدينة بالجزيرة مشهورة، عن محمد بن يوسف الفريابي نسبة إلى فارياب بلدة بنواحي بلخ وقد تكرر ذكره.
عن سفيان الثوري، عن عاصم بن أبي النَّجود -بفتح النون وضم الجيم- واسمه بهدلة.
عن زر بن حبيش، عن عبيدة -بفتح العين وكسر الباء الموحدة- ابن عمرو -ويقال: ابن قيس بن عمرو- السَّلْماني -بفتح السين المهملة وسكون اللام- المرادي وسَلْمان بن ناجية بن مراد، وهو مخضرم.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن الثوري، عن عاصم، عن زرّ بن حبيش، قال:"قلت لعبيدة: سل عليًّا عن الصلاة الوسطى، فسأله فقال: كنا نُرَى أنهما صلاة الفجر حتى سمعت رسول الله عليه السلام يقول يوم الخندق: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر؛ ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارًا".
قوله: "على فرضة" الفُرْضَة: بضم الفاء وسكون الراء وفي آخره ضاد معجمة، وهو ما انحدر من وسط الجبل وجانبه، وفرضة النهر مَشْرَعَته التي يستقى منها،
(1)"صحيح مسلم"(1/ 437 رقم 627).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 576 رقم 2192).
وفرضة الخندق ثلمته التي يدخل ويخرج منها، ويجمع على فُرَض بضم الفاء وفتح الراء.
قوله: "ملأ الله" جملة دُعَائية، إنشاءً في صورة الإخبار، والمعنى: اللهم املأ قبورهم وبيوتهم نارًا، وهذه الجملة من الجمل التي لا محل لها من الإعراب.
ص: حدثنا علي بن معبد قال: ثنا إسحاق بن منصور، قال: ثنا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله، عن النبي عليه السلام مثله، غير أنه لم يذكر قول عليّ رضي الله عنه:"كنا نُرَى أنها الفجر".
ش: أشار بهذا إلى أن حديث عليّ رضي الله عنه روي أبي عن عبد الله بن مسعود.
وأخرجه من طريقين صحيحين:
أحدها: عن عليّ بن معبد بن نوح، عن إسحاق بن منصور السلولي الكوفي، عن محمد بن طلحة بن مصرف اليامي، عن زُبَيْد -بضم الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف- ابن الحارث اليامي، عن مرة بن شراحيل الهمداني الكوفي، عن عبد الله بن مسعود.
وأخرجه مسلم (1): ثنا عون بن سلّام الكوفي، قال: أنا محمد بن طلحة اليامي، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله قال:"حبس المشركون رسول الله عليه السلام عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس -أو اصفرت- فقال رسول الله عليه السلام: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر؛ ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارًا. أو حشى الله أجوافهم وقبورهم نارًا".
والآخر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن محمد بن طلحة بن مصرف، عن زبيد بن الحارث، عن مرة بن شراحيل، عن ابن مسعود.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 437 رقم 628).
وأخرجه البزار في "مسنده"(1): ثنا محمد بن المثنى، نا يزيد بن هارون، نا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله قال: قال رسول الله عليه السلام: "شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس؛ ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا". وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عبد الله إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا معلى بن منصور، قال: ثنا أبو عوانة، عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي عليه السلام غزا غزوًا فلم يرجع منه حتى مَسَّى لصلاة العصر عن الوقت الذي كان يصلي فيه
…
" ثم ذكر نحوه.
حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا سعدويه، عن عباد، عن هلال
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا محمد بن علي بن داود، قال: أنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، قال: حدثني أبي، قال: حدثني ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم وسعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أنه قال يوم الخندق
…
" ثم ذكر مثله.
قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا ابن عباس يخبر عن النبي عليه السلام: أنها صلاة العصر، فكيف يجوز أن يقبل عنه من رأيه ويخالف ذلك.
ش: أشار بهذا إلى أنه روي عن ابن عباس أيضًا مثل حما روي عن عليّ وابن مسعود.
وأخرجه من ثلاث طرق: الأولان صحيحان والثالث فيه محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى فيه مقال.
الأول: عن علي بن معبد بن نوح، عن معلى بن منصور الرازي من أصحاب أبي حنيفة، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن هلال بن خباب -بالخاء المعجمة وبتشديد الباء الموحدة- العبدي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(1)"مسند البزار"(5/ 388 رقم 2022).
وأخرج الطبري في "تفسيره"(1): ثنا علي بن مسلم الطوسي، ثنا عباد بن العوام، عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس:"حبس المشركون النبي عليه السلام عن صلاة العصر في غزاة له حتى تَمَسَّى بها، فقال: اللهم املأ بيوتهم وأجوافهم نارًا كما حبسونا عن الصلاة الوسطى". وفي لفظ: "قال يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس".
قوله: "حتى مسى" يعني دخل في المساء، وكذلك أمسى.
قوله: "لصلاة العصر" أي لأجل وقت صلاة العصر، و"اللام" تأتي للوقت، وأراد بالوقت الذي تصلى فيه قبل اصفرار الشمس.
الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعدويه وهو سعد بن سليمان الواسطي، فالمحدثون يقولون سَعْدُويه -بضم الدال وسكون الواو- وعند النحاة هو مثل سيبويه ونفطويه -بفتح الدال والواو-، وكذا الخلاف في زنجويه.
وهو يروي عن عباد بن العوام الكلابي أبي سهل الواسطي من رجال الجماعة، عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس.
الثالث: عن محمد بن علي بن داود المعروف بابن أخت غزال، وثقه ابن يونس.
عن محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، وثقه ابن حبان.
عن أبيه عمران بن محمد الأنصاري، عن أبيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي فيه مقال، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم بن بجرة -بفتح الباء الموحدة والجيم والراء، ويقال: بضم الباء وسكون الجيم، ويقال: ابن نجدة بالنون والجيم - مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، ويقال: مولى ابن عباس بلزومه له، روى له الجماعة سوى مسلم.
(1)"تفسير الطبري"(2/ 569).
وعن سعيد بن جبير، كلاهما عن ابن عباس.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، ثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم وسعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن النبي عليه السلام قال يوم الخندق:"شغلونا عن الصلاة الوسطى؛ ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارًا".
ثم إن حديث ابن عباس هذا يرد ما روي عنه من رأيه من أن الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح، على ما مرّ فيما مضى، وكيف لا يرد هذا وقد روى هو عن النبي عليه السلام أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وهذا معنى قوله: "فهذا ابن عباس يخبر عن النبي عليه السلام
…
" إلى آخره.
فهذا الحديث كما ترى أخرجه الطحاوي عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وفي الباب عن أم حبيبة، وأم سلمة، وحذيفة، وجابر، وأنس رضي الله عنهم.
فحديث أم حبيبة عند الطبري (2): ثنا ابن المثنى، ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سفيان، عن أبي الضحى، عن شتير بن شكل، عن أم حبيبة رضي الله عنها عن النبي عليه السلام أنه قال يوم الخندق:"شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس".
وحديث أم سلمة عند الطبراني في "الكبير"(3): بإسناده عنها قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر؛ ملأ الله أجوافهم وقلوبهم نارًا". وفي إسناده مسلم الملائي الأعور وهو ضعيف.
(1)"المعجم الكبير"(12/ 26 رقم 12368).
(2)
"تفسير الطبري"(2/ 560).
(3)
"المعجم الكبير"(23/ 341 رقم 793).
وحديث حذيفة رضي الله عنه عند البزار (1): بإسناد صحيح عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى؛ ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا".
وحديث جابر رضي الله عنه عند البزار: أيضًا بإسناد صحيح (2) عنه، أن النبي عليه السلام قال يوم الخندق:"ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس".
وحديث أنس رضي الله عنه عند إسماعيل بن أبي زياد الشامي في "تفسيره" من حديث أبان، عن أنس، أن رسول الله عليه السلام قال:"شغلونا عن صلاة العصر التي غفل عنها سليمان بن داود عليه السلام حتى توارت بالحجاب".
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو مسهر، قال: ثنا صدقة بن خالد، قال: حدثني خالد بن دهقان، قال: أخبرني خالد سَبَلان، عن كهيل بن حرملة النمري، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أنه أقبل حتى نزل دمشق على آل أبي كلثم الدوسي، فأتى المسجد فجلس في غربيه، فتذاكروا الصلاة الوسطى فاختلفوا فيها، فقال اختلفنا فيها، كما اختلفتم ونحن بفناء بيت رسول الله عليه السلام وفينا الرجل الصالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس رضي الله عنه فقال: أنا أعلم لكم ذلك، فأتى رسول الله عليه السلام وكان جريئًا عليه، فاستأذن فدخل، ثم خرج إلينا، فأخبرنا أنها صلاة العصر".
ش: أبو مسهر هو عبد الأعلى بن مسهر بن عبد الأعلى الغساني الدمشقي روى له الجماعة، وصدقة بن خالد القرشي الأموي أبو العباس الدمشقي مولى أم البنين أخت معاوية بن أبي سفيان، روى له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
(1)"مسند البزار"(7/ 307 رقم 2906).
(2)
"مسند البزار"(2/ 178 رقم 555).
وخالد بن دهقان -بتثليث الدال- القرشي أبو المغيرة الشامي الدمشقي، وثقه دحيم وابن حبان، وروى له أبو داود.
وخالد سبلان هو خالد بن عبد الله بن فرج، يلقب بسبلان -بفتح السين والباء الموحدة- وثقه ابن حبان.
وكهيل بن حرملة النمري، وثقه ابن حبان.
وأبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي خال: معاوية بن أبي سفيان، له صحبة، وهو أخو أبي حذيفة بن عتبة لأبيه، وأخو مصعب بن عمير لأمه.
قيل: اسمه خالد، وقيل: شيبة، وقيل: هشام، وقيل: هشيم، وقيل: مهشم، أسلم يوم الفتح، وسكن الشام، وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه وكان من زهاد الصحابة رضي الله عنه.
والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا إبراهيم بن دحيم الدمشقي، ثنا أبي، ثنا محمد بن شعيب بن شابور، حدثني خالد بن دهقان (ح).
وثنا أحمد بن المعلّى الدمشقي وموسى بن سهل أبو عمران الجوني، قالا: ثنا هشام بن عمار، ثنا صدقة بن خالد، قال: ثنا خالد بن دهقان، أخبرني خالد سبلان، عن كهيل بن حرملة، عن أبي هريرة: "أنه أقبل حتى نزل على أبي كلثم الدوسي فتذاكروا الصلاة الوسطى فقال: اختلفنا
…
" إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء.
وأخرجه ابن حبان (2): في كتاب "الثقات" في ترجمة كهيل بن حرملة، ثنا محمد ابن الهمداني، ثنا ابن زنجويه، ثنا أبو مسهر، ثنا صدقة بن خالد، قال: ثنا خالد ابن دهقان، ثنا خالد سبلان، عن كهيل بن حرملة النمري قال: "قدم أبو هريرة
(1)"المعجم الكبير"(7/ 301 رقم 7197).
(2)
"الثقات"(5/ 341 رقم 5135).
دمشق فنزل على آل أبي كلثم الدوسي، فأتى المسجد فجلس في غربيِّه، فجلسنا إليه، فذكرنا الصلاة الوسطى، وقال أبو هريرة: اختلفنا فيها
…
". إلى آخره نحوه.
وأخرجه البزار أيضًا في "مسنده": وقال: لا نعلم روى أبو هاشم بن عتبة عن النبي عليه السلام إلا هذا الحديث وحديثًا آخر، وقال أبو موسى المديني في كتاب "الصحابة": أبو هاشم هذا له حديثان حسنان.
قلت: الأول: هو الحديث المذكور.
والثاني: هو ما أخرجه البغوي في "معجم الصحابة"(1): حدثني جدي، حدثنا عَبِيدة بن حميد، عن منصور بن المعتمر، عن أبي وائل، عن سمرة بن سهم، عن أبي هاشم بن عتبة وهو خال معاوية قال:"دخل عليه معاوية يعوده فبكى، فقال: ما يبكيك يا خال أمن وجع يشئزك، أم حرص على الدنيا فقد ذهب؟ فقال: على كل ولكن رسول الله عليه السلام عهد إلىَّ عهدًا فوددت أني كنت اتبعته، إن رسول الله عليه السلام قال لي: لعلك أن تدرك أموالًا تقسم، فإنما يكفيك من جمع المال خادم ومركبٌ في سبيل الله عز وجل، فوجدت فجمعت" انتهى.
قوله: "على آل أبي كلثم" ويقال فيه: أبو كلثوم أيضًا و"الدوسي" نسبة إلى دوس قبيلة من اليمن من الأزد، وأبو هريرة أيضًا دوسي.
قوله: "بفناء بيت رسول الله عليه السلام" فناء الدار بالكسر أمامها وهو الموضع المتسع الذي يرمى فيه ما يخرج من الدار.
قوله: "وكان جريئًا" من الجراءة والإقدام على الشيء من غير تجبين.
ص: حدثنا بن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن جناب، قال: ثنا يونس، عن
(1) وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده"(3/ 443 رقم 15702)، وهناد في "زهده"(1/ 315 رقم 565) كلاهما من طريق الأعمش عن أبي وائل.
محمد بن أبي حميد، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الوسطى: صلاة العصر".
ش: إسناده ضعيف ولكن الحديث من غير هذا الوجه صحيح على ما يأتي:
وأحمد بن جناب -بالجيم والنون المخففة- بن المغيرة المصيصي أحد مشايخ مسلم وأبي داود.
ويونس هو ابن أبي إسحاق السبيعي روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح.
ومحمد بن أبي حميد واسمه إبراهيم الزرقي الأنصاري المدني فيه مقال، ضعفه يحيى، ووهَّاه الجوزجاني، وأنكره البخاري، وروول له الترمذي وابن ماجه.
وموسى بن وردان القرشي العامري أبو عمر المصري القاضي، ضعفه يحيى، وقال الدارقطني: لا بأس به. وقال العجلي: مصري تابعي ثقة.
وأخرجه البيهقي (1): بغير هذا الإسناد: من حديث عبد الوهاب بن عطاء، نا سليمان التيمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"صلاة الوسطى: صلاة العصر". وقال: خالفه غيره، قال يحيى القطان والأنصاري: عن سليمان فوقفه.
وأخرجه ابن خزيمة أيضًا في "صحيحه"(2).
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا همام، عن قتادة ح
وحدثنا علي بن معبد، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي عليه السلام مثله.
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم، عن همام بن يحيى، عن
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 460 رقم 2003).
(2)
"صحيح ابن خزيمة"(2/ 290 رقم 1338).
قتادة بن دعامة، عن الحسن البصري، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الوسطى: صلاة العصر".
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا بهز وعفان، قالا: نا قتادة، عن الحسن، عن سمرة، أن النبي عليه السلام قال:"حافظوا على الصلوات -قال عفان- والصلاة الوسطى وسماها لنا أنها صلاة العصر".
الثاني: عن علي بن معبد، عن روح بن عبادة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي عليه السلام.
وأخرجه الترمذي (2): ثنا هناد، قال: ثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي عليه السلام أنه قال:"صلاة الوسطى: صلاة العصر". وقال: قال محمد بن إسماعيل: قال علي بن المديني: حديث الحسن عن سمرة صحيح وقد سمع منه.
قلت: قد مر الكلام فيه مستقصى في باب الاغتسال يوم الجمعة.
ص: فهذه آثار قد تواترت وجاءت مجيئًا صحيحًا عن النبي عليه السلام: أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
ش: أشار به إلى الآثار التي رواها، التي دلت على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
قوله: "قد تواترت" أي تكاثرت وتتابعت، وليس المراد منه التواتر المصطلح عليه عند أهل الأصول، ونبّه بهذا أبي على أن اختياره أبي هو أن الوسطى هي صلاة العصر.
ص: وقد قال بذلك أيضًا جلّة من أصحاب رسول الله عليه السلام.
حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا عفان، قال: ثنا وُهَيب، عن أيوب، عن أبي قلابة،
(1)"مسند أحمد"(5/ 8 رقم 20103).
(2)
"جامع الترمذي"(1/ 340 رقم 182).
عن أبي بن كعب قال: "صلاة الوسطى هي صلاة العصر".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، عن همام، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مثله.
حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا يعقوب بن عباد، قال: ثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليّ رضي الله عنه مثله.
حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا خطاب بن عثمان، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الرحمن بن لبيبة الطائفي:"أنه سأل أبا هريرة عن الصلاة الوسطى، فقال: سأقرأ عليك القرآن حتى تعرفها، أليس يقول الله عز وجل في كتابه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (1) الظهر {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (1) المغرب {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} (2) العتمة، ويقول: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (1).الصبح، وقال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (3) هي العصر هي العصر".
ش: أي قد قال بأن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر أكابر من الصحابة رضي الله عنهم.
والِجلّة -بكسر الجيم وتشديد اللام- جمع جليل، بمعنى عظيم، وجلَّ كل شيء معظمه.
وقد أخرج منهم عن أربعة أنفس وهم: أبي بن كعب، وأبو سعيد الخدري، وعلي بن أبي طالب، وأبو هريرة رضي الله عنهم.
فأما أثر أُبيّ فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار، عن وهيب بن خالد البصري، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن أُبيّ.
(1) سورة الإسراء، آية:[78].
(2)
سورة النور، آية:[58].
(3)
سورة البقرة، آية:[238].
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1): عن وهيب، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن أبي بن كعب قال:"صلاة الوسطى صلاة العصر".
وأما أثر أبي سعيد الخدري فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي سعيد الخدري.
وأما أثر علي فأخرجه: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن يعقوب بن أبي عباد العبدي البصري، وثقه ابن يونس، عن إبراهيم بن طهمان الخراساني الهروي روى له الجماعة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، روى له الجماعة، عن الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني الكوفي فيه مقال كثير، عن علي.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي:"صلاة الوسطى صلاة العصر".
وقال ابن حزم في "المحلى": لا يصح عن علي رضي الله عنه غير هذا.
وأما أثر أبي هريرة فأخرجه: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن خطاب بن عثمان الطائي الفوزي الحمصي، أحد مشايخ البخاري، عن إسماعيل بن عياش بن سليم الشامي الحمصي، فيه مقال؛ ضعفه النسائي، ووثقه الفسوي، وقال ابن خزيمة: لا يحتج به. وروى له الأربعة.
عن عبد الله بن عثمان بن خثيم القارئ أبي عثمان المكي، روى له الجماعة.
البخاري مستشهدًا عن عبد الرحمن بن لبيبة وهو عبد الرحمن بن نافع الطائفي، ولبيبة اسم أمه، ذكره ابن حبان في الثقات من التابعين.
وأخرجه الطبري (3) مختصرًا: حدثني المثنى، ثنا سويد، أنا ابن المبارك، عن
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 245 رقم 8623).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 244 رقم 8609).
(3)
"تفسير الطبري"(2/ 554).
معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن ابن لبيبة، عن أبي هريرة:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى؛ ألا وهي العصر، ألا وهي العصر".
وأخرجه ابن حزم في "المحلى"(1): مطولًا. قال: وروينا من طريق إسماعيل بن إسحاق، نا علي بن عبد الله -هو ابن المديني- نا بشر بن المفضل، نا عبد الله بن عثمان، عن عبد الرحمن بن نافع: "أن أبا هريرة سئل عن الصلاة الوسطى، فقال للذي سأله: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قال: فإني سأقرأها عليك بها القرآن حتى تفهمها، قال الله عز وجل
…
" إلى آخر ما ذكره الطحاوي.
قوله: "لدلوك الشمس: الظهر" أراد أن بدلوك الشمس يدخل وقت الظهر؛ لأن دلوكها زوالها عن كبد السماء، وذلك كما روي عن النبي عليه السلام أنه قال:"أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت الشمس، فصلى بي الظهر".
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "دلوك الشمس: غروبها".
رواه الطبراني (2): بإسناده عنه.
قوله: "إلى غسق الليل المغرب" أراد أن بغسوق الليل يدخل وقت المغرب، والغسق: الظلمة.
وروى الطبراني في "الكبير"(3): ثنا الحسين بن إسحاق، ثنا يحيى الحماني، ثنا شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال:"كنا مع عبد الله في طريق مكة، فلما غربت الشمس قال: هذا غسق الليل، ثم أذّن، ثم قال: هذا والله -الذي لا إله إلا هو- وقت هذه الصلاة".
قوله: "ثلاث عورات لكم" أراد بثلاث عورات: ثلاثة أحوال، أمر الله فيها بأن يَستأذن العبيد، وقيل: العبيد والإماء، والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار.
(1)"المحلى"(4/ 258).
(2)
"المعجم الكبير"(9/ 230 رقم 9128).
(3)
"المعجم الكبير"(9/ 232 رقم 9140).
الأولى: قبل صلاة الفجر؛ لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما يُنَام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة.
الثانية: بالظهيرة؛ لأنها وقت وضع الثياب للقائلة.
الثالثة: بعد صلاة العشاء؛ لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم، وسمى الله كل واحدة من هذه الأحوال عورة؛ لأن الناس يختلّ تسترهم وتحفظهم فيها.
والعورة: الخلل. أعور الفارس وأعور المكان، والأعور: المختل العين.
قوله: "العتمة" أراد بها وقت صلاة العشاء.
قوله: "إن قرأن الفجر" أراد صلاة الفجر، سميت قرآنًا وهو القراءة؛ لأنها ركن، كما سميت ركوعًا وسجودًا وقنوتًا.
قوله: "مشهودًا" يعني تشهده ملائكة الليل والنهار، أو يشهده الكثير من المصلين في العادة، أو من حقه أن يكون مشهودًا بالجماعة الكثيرة.
قوله: "هي العصر هي العصر" مكرر، كرره أبو هريرة للتأكيد.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فإن قال قائل: لم سُمِّيت صلاة الوسطى صلاة للعصر؟ قيل له: قد قال الناس في هذا قولين. فقال قوم سميت بذلك لأنها بين صلاتين من صلاة الليل، وبين صلاتين من صلاة النهار.
ش: السؤال ظاهر، والجواب عنه شيئان:
أحدهما: ما قاله قوم: إنها إنما سميت بذلك لأنها بين صلاتين من صلاة الليل وهما المغرب والعشاء، وبين صلاتين من صلاة النهار وهما صلاة الصبح وصلاة الظهر؛ فهذا الإطلاق باعتبار المحل؛ لأنه لو كان ذلك باعتبار المقدار لكانت المغرب هي الوسطى؛ لأن أقل الصلاة ركعتان وأكثرها أربع، ولو كان باعتبار أن الوسطى هي الفضلى، كان لكل ذي مذهب أن يدعي ذلك، وقد ذكرنا فيه أشياء أخرى فيما مضى.
ص: وقال آخرون في ذلك ما قد حدثني القاسم بن جعفر البصري، قال: سمعت يحيى بن الحكم الكيساني يقول: سمعت أبا عبد الرحمن عبيد الله بن محمد بن عائشة يقول: إن آدم عليه السلام لما تيب عليه عند الفجر، صلى ركعتين فصارت الصبح، وفُدِّي إسحاق عليه السلام عند الظهر فصلى إبراهيم عليه السلام أربعًا فصارت الظهر، وبعث عزير عليه السلام فقيل له: كم لبثت؟ فقال: يومًا. فرأى الشمس فقال: أو بعض يوم، فصلى أربع ركعات فصارت العصر، وقد قيل: غير عزير، وغفر لداود عليه السلام عند المغرب، فقام يصلى أربع ركعات، فجهد، فجلس في الثالثة، فصارت المغرب ثلاثًا، وأول من صلى العشاء الآخرة نَبِينُّا صلى الله عليه وسلم فلذلك قالوا: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا عندنا معنى صحيح؛ لأن أول الصلوات إن كانت الصبح وآخرها العشاء الآخرة فالوسطى فيما بين الأولى والآخرة وهي العصر؛ فلذلك قلنا: إن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وهذا قول أبي حنيفة وأتيت يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي قال قوم آخرون في وجه تسمية صلاة العصر الصلاة الوسطى ما قاله أبو عبد الرحمن عبيد الله بن محمد بن حفص بن عمر القرشي التيمي البصري المعروف بابن عائشة وبالعيشي وبالعائشي؛ لأنه من ولد عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، وهو أحد مشايخ أبي داود وأحمد بن حنبل وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيان، وثقه أبو حاتم، وقال أبو داود: صدوق. وروى له الترمذي والنسائي.
روى ذلك عنه يحيى بن الحكم الكيساني الواسطي، قال أبو حاتم الرازي: هو صدوق. وروى عنه أيضًا، وروى عنه القاسم بن جعفر البصري شيخ الطحاوي.
قوله: "لما تيب عليه" أي لما تاب الله عليه، يعني لما قبل توبته عند الفجر؛ صلى ركعتين، فصارت تلك الركعتان الصبح، أي صلاة الصبح.
قوله: "وفُدِّي إسحاق عليه السلام عند الظهر" يعني: جعل له فداء، وهو الكبش الذي
أرسله الله إليه ليذبح عوضًا عنه، وعند الجمهور الذي فُدِّي هو إسماعيل عليه السلام، فصلى إبراهيم عليه السلام عند ذلك أربعًا، أي أربع ركعات، فصارت الظهر، أي صلاة الظهر.
قوله: "وبُعِثَ عزير عليه السلام" أي من نومه الذي سلطه الله عليه مائة عام، والأصح أنه مات؛ لقوله تعالى {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ} (1) وذلك لما مرّ على بيت المقدس وقد خربها بخت نصر، فقال:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} ، قال ذلك ليعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة، كما طلبه إبراهيم عليه السلام فمات ضحى وبُعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس، فقال قبل النظر إلى الشمس: يومًا، ثم التفت فرأى بقية من الشمس، فقال: أو بعض يوم، فلما عاش وقام، صلى أربع ركعات فصارت العصر، أي صلاة العصر.
قوله: "وقد قيل: غير عزير" أي قد قيل: إن الذي صلى العصر غير عزير عليه السلام، وهو يونس عليه السلام، على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى.
قوله: "وغفر لداود عليه السلام"(2).
وذكر الفارقي في كتاب "البستان": الصلوات الخمس صلاها خمسة من الأنبياء عليهم السلام، فآدم صلى الفجر، وإبراهيم صلى الظهر، ويونس صلى العصر، وعيسى صلى المغرب، وموسى صلى العشاء.
وذكر الشيخ الإِمام الفقيه الزاهد أبو علي الحسن بن يحيى البخاري الزندويستي في كتابه "روضة العلماء" قال الفقيه رحمه الله تعالى: سألت أبا الفضل البرهدري، فقلت له: لم كانت الفجر ركعتين والظهر والعصر أربعًا، والمغرب ثلاثًا، والعتمة أربعًا؟ فقال: الشرع.
(1) سورة البقرة، آية:[259].
(2)
بيَّض له المؤلف رحمه الله.
فقلت: زدني، فقال: قالت الحكماء: لأن كل صلاة صلاها نبي من الأنبياء عليهم السلام في وقتها فادخرها الله تعالى لأمه محمد عليه السلام لينالوا فضل أولئك الأنبياء.
فأما الفجر فإنما كان ركعتين؛ لأن أول من صلاها أبونا آدم عليه السلام، ولما أخرج من الجنة أظلمت عليه الدنيا، وجنَّ الليل ولم يكن رآه قبل ذلك، فخاف من ذلك خوفًا شديدًا، فلما أصبح وانشق الفجر صلى ركعتين شكرًا لله تعالى، الأولى منها شكرًا لله لنجاته من ظلمة الليل، والثانية شكرًا لضوء النهار، وكان منه تطوعًا، فأمرنا الله تعالى بذلك ليذهب به عنا ظلمة المعاصي، كما أذهب عنه ظلمة الليل، وينور علينا نور الطاعة كما نور عليه نور النهار.
وأما صلاة الظهر أربع ركعات؛ لأن أول من صلاها إبراهيم الخليل عليه السلام لما أمر بذبح الولد، ثم نودي {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (1) وكان النداء عند الزوال، ونظر إبراهيم عليه السلام إلى الفداء وكان في أربعة أحوال:
حال الذبح، فرفعه الله عنه بالفداء.
وحال غم الولد؛ فكشف الله عنه ذلك.
وحال النداء الذي ناداه الله تعالى وفدا عنه: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (2).
وحال رضي الله عنه وصلى عند ذلك أربع ركعات كل ركعة شكرا لما صنع من صنائعه، فأمرنا الله تعالى بذلك، فقال: صلوا أربع ركعات الظهر لأوفقكم على ذبح إبليس اللعين، كما وفقت خليلي بذبح الولد، وأنجيكم من الغم كما نجيته، وأفدي لكم من النار كما فديت عنه، وأرضى عنكم كما رضيت عنه.
وأما صلاة العصر فأول من صلاها يونس عليه السلام حين أنجاه الله تعالى من بطن الحوت، فكان في أربع ظلمات: ظلمة الزلة، وظلمة الماء، وظلمة الليل، وظلمة
(1) سورة الصافات، آية:[105].
(2)
سورة الصافات، آية:[107].
بطن الحوت، فكانت نجاته عند العصر، فصلى أربعًا شكرًا لله تعالى تطوعًا منه، ففرض الله علينا، فقال: عبدى، الأصل العصر أربعًا لأنجيك من ظلمة الخطايا كما أنجيته من بطن الحوت، ومن ظلمة القيامة كما أنجيته من ظلمة الماء، ومن ظلمة جهنم كما أنجيته من ظلمة الليل، ومن ظلمة القبر كما أنجيته من ظلمة الزلة.
وأما المغرب فأول من صلاها عيسى بن مريم عليهما السلام حين أخبره الله تعالى: أن قومك يدعونني ثالث ثلاثة فصلى حينئذ ثلاث ركعات، وكان بعد غروب الشمس، فالركعة الأولى: لنفي الألوهية عن نفسه، والثانية: لنفيها عن والدته، والثالثة: لإثبات الألوهية لله تعالى، فإذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى:{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ} (1) قال: فعند ذلك يهون عليه الحساب وتنجيه من النار، وتؤمنه من الفزع الأكبر، فأمرنا الله بها ليهون علينا الحساب، وينجينا من النار كما أنجاه، ويؤمننا من الفزع الأكبر كما فعل به.
وأما العتمة فأول من صلاها موسى عليه السلام، حين ضل عن الطريق عند خروجه من المدين، وكان في غم المراة، وغم أخيه هارون، وغم عدوه فرعون، وغم أولاده؛ فنجاه الله تعالى من ذلك كله، وسمع مناديًا ينادي: إني أنا ربك يعني هاديك، أجمع بينك وبين أخيك، وأظفرك على عدوك، فلما سمعه وكان وقت العتمة صلى أربع ركعات لكل حالة ركعة، فأمرنا الله تعالى بذلك، فقال: عبدي، صلى العتمة أربعًا لأهديك كما هديته، وأكفيك كما كفيته، وأجمع بينك وبين الأنبياء عليهم السلام والصديقين كما جمعت بينه وبين هارون، فأعطيك الظفر على عدوك إبليس اللعين، كما أعطيته على عدوه فرعون، فلذلك كانت الصلاة في الأوقات مختلفة انتهى.
وفيه مسائل:
لم سميت الصلاة صلاة؟ أجيب: لأن فيها الدعاء، والصلاة: الدعاء في اللغة.
وقيل: لأن فيها الصلاة على الرسول عليه السلام، وقيل: لأن تاركها يصلى النار،
(1) سورة المائدة، آية:[116].
وقيل: لأنها صلة بين العبد وربه، ويقال: لاتصال أركانها بعضها ببعض.
ولم وضعت على أعضاء مختلفة؟ أجيب بأنه ورد في الحديث: "خلقتم من سبع ورزقتم من سبع فاسجدوا لله على سبع؛ ليكون شكرًا لها".
ولم وضعت على سبعة عشر ركعة؟ أجيب بأن المفاصل سبع عشرة، فأراد بأن يعتق بكل ركعة مفصلًا.
ولم وضعت مثنى وثلاث ورباع؟ أجيب بأن الله أراد أن توافق تلك الركعات أجنحة الملائكة ليكونوا مستغفرين للمصلين قاله جعفر الصادق رضي الله عنه.
وقيل: وضعت ركعتين لأن العبد نصفان: روح وجسد، وثلاثًا: لأن له نفسًا وقلبًا وروحًا، وأربعًا: لأن له أربع طبائع.
ولم وضعت في خمسة أوقات؟ أجيب بأن لله تعالى أفعالًا في هذه الأوقات الخمسة ما ليس في غيرها، وأراد من عنده خدمة خاصة في هذه الأوقات.
وقيل: لأن أبواب السماء تفتح في هذه الأوقات.