الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: التأذين للفجر أي وقت هو بعد طلوع الفجر أو قبل ذلك
ش: أي: هذا باب في بيان حكم التأذين للفجر هل يكون بعد طلوع الفجر أو قبله؟
ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالًا يُنادِي بليل، فكلوا واشربوا حتى يُنادي ابن أم مكتوم".
قال ابن شهاب: وكان رجلًا أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحْتَ أصبحتَ.
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدّثه، عن الزهري، عن سالم، عن النبي عليه السلام مثله. ولم يذكر ابن عمر رضي الله عنهما.
حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا يزيد قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن الزهري فذكر بإسناده مثله.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ، قال: قال سالم بن عبد الله: سمعت عبد الله يقول: إن النبي عليه السلام قال: "أن بلالًا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى يُنادي ابن أم مكتوم".
حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور البالِسيُّ، قال: ثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن سالم، عن ابيه، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا إبرهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام بإسناده مثله.
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الله بن دينار
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا علي بن شَيْبة، قال: ثنا روح بن عُبادة، قال: ثنا مالكُ وشعبة، عن عبد الله بن دينار، فذكر بإسناد مثله، غير أنه قال:"حتي ينادي بلال أو ابنُ أم مكتوم" شك شعبة.
ش: هذه تسع طرق صحاح مَرفوعة غير الطريق الثاني فإنه موقوفٌ على ما نذكره الآن.
الأول: عن يزيد بن سنان القزاز البصري، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي -شيخ البخاري ومسلم وأبي داود- عن مالك بن أنس، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، عن النبي عليه السلام.
وهذا على شرط الشيخين.
وأخرجه البخاري (1) عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك
…
إلى آخره نحوه، غير أن لفظه:"إن بلالًا يؤذن بليل".
قوله: "ينادي" أي يؤذن، و"الباء" في "بليل" للظرف، واسم ابن أم مكتوم: عبد الله ويقال: عَمرو -وهو الأكثر- ابن قيس بن زائدة القرشي العامريّ، واسم أم مكتوم عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة بن عامر بن مخزوم، وهو ابن خال خديجة بنت خويل رضي الله عنها، وابن أم مكتوم هاجر إلى المدينة قبل مقدم النبي عليه السلام، واستخلفه النبي عليه السلام على المدينة ثلاث عشرة مرة، وشهد فتح القادسية وقتل شهيدًا بها وكان معه اللواء يومئذٍ.
وفي صحيح مسلم (2): "وكان لرسول الله عليه السلام مؤذنان بلال وابن أم مكتوم" يعني في وقت واحد وإلا فقد كان له عليه السلام غيرهما، أذن له أبو محذورة بمكة ورتّبه لأذانها وسعد القرظ أذّن للنبي عليه السلام بقباء ثلاث مرات.
(1)"صحيح البخاري"(1/ 223 رقم 592).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 287 رقم 380).
قوله: "أَصبَحْتَ" أي قاربت الصباح؛ لأن قرب الشيء قد يُعبَّر به عنه.
ويستفاد منه أحكام:
الأول: استدل به قوم على جواز الأذان في الفجر قبل طلوعه على ما يجيء.
الثاني: فيه جواز أذان الأعمى بلا كراهة، وقالت الشافعية: يكره أن يكون الأعمى مؤذنًا وحده، وعند مالك لا يكره، وقال أبو عمر: وفيه جواز أذان الأعمى وذلك عند أهل العلم إذا كان معه مؤذن آخر يهديه إلى الأوقات.
وفي "البدائع": البصير أولى من الضرير لأنه لا علم له بدخول الوقت، ومع هذا لو أذّن يجوز؛ لحصول الإعلام بصوته، وإمكان الوقوف على المواقيت من غيره في الجملة.
الثالث: فيه جواز اتخاذ المُؤَذِّنَين وإذا جاز اتخاذ اثنين منهم جاز أكثر من ذلك.
وقال عياض: يؤذنان مجتمعين أو مفترقين إلا في ضيق الوقت فلا بأس بأذانهم مجتمعين.
الرابع: فيه دليل على أن السحور لا يكون إلا قبل الفجر، لقوله عليه السلام:"إن بلالًا ينادي بليل فكلوا" ثم منعهم ذلك عند أذان ابن أم مكتوم، وهذا إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش وحده فشذَّ ولم يُعَّرج على قوله، والنهار الذي يجب صيامه: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، لا خلاف في ذلك، وعليه إجماع علماء المسلمين.
الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن النبي عليه السلام.
وأخرجه مالك في "موطإه"(1) عن ابن شهاب، عن سالم، أن رسُول الله عليه السلام قال:"إن بلالًا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" وكان ابن أم مكتوم رجلًا أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحتَ أصبحتَ. قال أبو عمر (2) هكذا رواه
(1)"موطأ مالك"(1/ 74 رقم 162).
(2)
"التمهيد" لابن عبد البر (10/ 55) مع تقديم وتأخير.
يحيى مرسلًا عن سالم لم يقل فيه: عن أبيه، وتابعه على ذلك أكثر رواة الموطأ، وممن تابعه على ذلك ابن القاسم والشافعي وابن بكير وأبو المصعب وعبد الله بن يوسف التِنِّيْسي ومُصعب الزُبَيْري ومحمد بن الحسن ومحمد بن المبارك الصوري وسَعيد بن عُفير ومَعْن بن عيسى، ووصله جماعة عن مالك فقالوا فيه: عن سالم، عن أبيه، عن النبي عليه السلام. وممن رواه هكذا مسندًا: القعنبي وعبد الرزاق وأبو قرة موسى بن طارق ورَوح بن عبادة وعبد الله بن نافع ومطرف وابن أبي أُويس وعبد الرحمن بن مهدي وإسحاق بن إبراهيم الحُنَيْني ومحمد بن عمر الواقدي وأبو قتادة الحرّاني ومحمد بن حَرْب الأبرش وزهير بن عبَّاد وكامل بن طلحة وابنُ وهب في رواية أحمد بن صالح عنه. وأما أصحاب ابن شهاب فرووه متصلًا مسندًا عن ابن شهاب.
الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن عبد الله بن صالح -كاتب الليث- عن الليث بن سعد، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله ابن عمر، عن النبي عليه السلام.
وأخرجه النسائي (1): ثنا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أن النبي عليه السلام قال:"إن بلالًا يُؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا تأذين ابن أم مكتوم".
الرابع: عن يزيد بن سنان أيضًا عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون المدني، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سالم، عن أبيه عن النبي عليه السلام.
وأخرجه الطيالسي في "مسنده"(2): ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن النبي عليه السلام قال:"إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم قال: وكان ضريرًا فكان يقال له: أذّنْ فقد أَصْبَحْت".
(1)"المجتبى"(2/ 10 رقم 638).
(2)
"مسند الطيالسي"(1/ 250 رقم 1819).
الخامس: عن إبراهيم ابن أبي داود البرُلُّسي، عن أبي اليمان الحكم بن نافع البهراني الحمصي شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة دينار الحمصي، عن محمَّد ابن مسلم الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي عليه السلام.
وأخرجه العدني في "مسنده" عن سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي عليه السلام قال:"إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم".
السادس: عن الحسن بن عبد الله بن منصور بن حبيب بن إبراهيم الأنطاكي المعروف بالبالِسي، عن محمَّد بن كثير الثقفي الصنعاني، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سالم، عن أبيه عن النبي عليه السلام.
السابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة
…
إلى آخره.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عفان، نا شعبة، قال: عبد الله بن دينار أخبرني، قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالًا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم".
الثامن: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن عبد الله بن دينار
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (2) وقال: أنا قتيبةُ، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم".
التاسع: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن رَوْح بن عُبادة القَيْسي، عن مالك ابن أنس وشعبة بن الحجاج إلى آخره.
(1)"مسند أحمد"(2/ 73 رقم 5424).
(2)
"المجتبى"(2/ 10 رقم 637).
وأخرج أحمد في "مسنده"(1): عن عفان، عن شعبة، عن عبد الله بن دينار قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلال ينادي بليل -أو ابن أم مكتوم ينادي بليل- فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم".
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدّد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي عليه السلام مثله، ولم يشك قالت:"ولم يكن بينهما إلا مقدار ما ينزلُ هذا ويَصْعد هذا".
ش: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مُسَدّد -شيخ البخاري- عن يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم ابن عمر بن الخطاب، عن القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن عائشة الصديقة رضي الله عنها، عن النبي عليه السلام مثله.
وأخرجه النسائي (2): أنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا حفصٌ، عن عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال. قالت: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويَصْعد هذا".
وقد وقع في بعض نسخ النسائي (3)"إذا أذن بلال فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم".
وكذا وقع في مسند "الدارمي"(4) وقال: أنا إسحاق، أنا عبدة، أنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، وعن القاسم، عن عائشة قالت: "كان للنبي عليه السلام مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم، فقال رسول الله عليه السلام: إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا
(1)"مسند أحمد"(2/ 73 رقم 5424) وقد تقدم.
(2)
"المجتبى"(2/ 10 رقم 639).
(3)
كذا هو في نسختي كما في العزو السابق، وكذا هو في "السنن الكبرى" للنسائي (1/ 501 رقم 1603).
(4)
"سنن الدارمي"(1/ 288 رقم 1191).
حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، قال القاسم: وما كان بينهما إلا أن ينزل هذا ويَرْقى هذا".
وكذا في "الصحيحين"(1) من حديث عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة.
وعن نافع، عن ابن عمر قالا:"كان للنبي عليه السلام مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم فقال رسُول الله عليه السلام: إن بلالًا يَؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. قال القاسم: لم يكن بين أذانهما إلا أن ينزل هذا ويَرْقي هذا" وقد وفق بعض المحدثين بين الروايتين فقال: لعلَّ بين بلال وبين ابن أم مكتوم مناوبة بالتقديم والتأخير، يعني بأن يتقدم ابن أم مكتوم على بلال وتارة يتقدم بلال على ابن أم مكتوم وما ذكر في الصحيحين هو الأصح.
وقال الذهبي في مختصر سنن البيهقي: مجموع ما ورد في تقديم الأذان قبل الفجر إنما ذلك بزمن يسير لعله لا يبلغ مقدار قراءة الواقعة بل أقل، فبهذا المقدار تحصل فضيلة التقديم لا بأكثر، أما ما يُفْعل في زماننا من أنه يؤذن للفجر أولًا من الثلث الأخير؛ فخلاف السنة لو سُلِّم جوازه.
ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت خُبَيْب بن عبد الرحمن، يحدث عن عمته أَنَيْسة، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن بلالًا -أو ابن أم مكتوم- ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال -أو ابن أم مكتوم- وكان إذا نزل هذا وأراد هذا أن يصعد تعلقوا به وقالوا: كما أنت حتى نتسحَّر".
ش: إسناده صحيح وخُبَيْب -بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره باء موحدة- ابن عبد الرحمن بن خُبَيْب ابن يَسَاف -بفتح الياء آخر الحروف وتخفيف السين المهملة- الأنصاري الخزرجي، أبو الحارث المدني روى له الجماعة.
(1)"صحيح البخاري"(1/ 224 رقم 597)، و "صحيح مسلم"(2/ 768 رقم 1092).
وأَنيْسة -بضم الهمزة وفتح النون وسكون الياء آخر الحروف- بنت خُبَيْب بن يَسَاف الأنصارية الصحابية.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا عبد الله بن أحمد، ثنا أبي، ثنا محمَّد بن جعفر، ثنا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن عمته أُنيْسَةَ -وكانت مُصَلِّيةً- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن ابن أم مكتوم -أو بلالًا- يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال -أو ابن أم مكتوم- وما كان إلا أن يؤذن أحدهما حتى يَصْعد الآخر [فنأخذ] (2) بيديه فنقول: كما أنت حتى نتسحر".
وأخرجه البيهقي في "سننه"(3) من حديث الطيالسي وجماعة، عن شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، حدثتني عمتي أُنَيْسة قالت: كان بلال وابن أم مكتوم يؤذنان للنبي عليه السلام، فقال: إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. فكنا نحتبس ابن أم مكتوم عن الأذان فنقول: كما أنت حتى نتسحر، ولم يكن بين أذانهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا".
وأخرجه (4) عن أبي الوليد والحوضيّ أيضًا: قالا: ثنا شعبة، عن خُبَيْب، سمعت عمتي أُنَيْسة، أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن ابن أم مكتوم ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال". ثم قال البيهقي: كذا رواه محمَّد بن أيوب، وقد رواه الكديمي، عن أبي الوليد كالأول. ورواه سليمان بن حرب وجماعة عن شعبة بالشك، فقال سليمان: نا شعبة، حدثني خُبَيْب، سمعت عمتي -وكانت قد حجَّت مع رسُول الله عليه السلام- قالت: قال رسُول الله عليه السلام: "إن بلالًا يؤذن بليل -أو قال: إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل-
…
" الحديث، وفيه: "فكنا نتعلق به، نقول: كما أنت حتى نتسحر".
(1)"المعجم الكبير"(24/ 191 رقم 481).
(2)
في "الأصل": "فيأخذ"، والمثبت من "المعجم الكبير".
(3)
"السنن الكبرى"(1/ 382 رقم 1666).
(4)
"السنن الكبرى"(1/ 382 رقم 1667).
قال أبو بكر الضُبَعي: فإن صح رواية أبي عمر الحوضيّ وغيره فيجوز أن يكون بين ابن أم مكتوم وبين بلال نُوَبٌ، وإن لم يصح فقد صح من وجوه أن الذي كان يؤذن أولًا بلال رضي الله عنه.
قوله: "ينادي" أي يؤذن؛ لأن النداء بالصلاة هو الأذان.
قوله: "تعلقوا به" أي تعلقت الناسُ به.
قوله: "كما أنت""الكاف" فيه يجوز أن تكون للتعليل ويكون خبر "أنت" محذوفًا والتقدير: تعلقنا بك لأنك لا تصبر حتى نتسحر، كما في قوله تعالى:{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (1) أي: لهدايتكم.
ويجوز أن تكون على حالها للتشبيه كما هو الأصل في معناها.
والمعنى: اصبر لا تؤذن كحالك الآن حتى نتسحر.
فإن قيل: كيف يجوز لهم التسحر بإمساك بلال أو ابن أم مكتوم عن الأذان إذا كان الفجر طالعًا؟!
قلت: ما كان تعلقهم بأحدهما ليؤخر الأذان حتى يتسحروا وإن كان الفجر طالعًا، بل المراد أن لا يستعجل أحدهما في الصعود عقيب أذان الآخر لأن أحدهما كان يؤذن بليل والآخر يصعد، ولهذا قال في رواية الطحاوي: "كان إذا نزل هذا وأراد هذا أن يصعد تعلقوا به
…
".
وفي رواية الطبراني: "وما كان إلى [أن] (2) إلى يؤذن أحدهما حتى يصعد الآخر".
فحينئذ كان تعلقهم به؛ لأجل استعجاله في الصعود لا لأجل أن يؤخر الأذان عن وقته المستحق حتى يتسحروا.
(1) سورة البقرة، آية:[198].
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المعجم الكبير"، وقد تقدم.
ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة
…
فذكر مثله بإسناده، وزاد:"وكانت قد حَجَّتْ مع النبي عليه السلام"، "ولم يكن بينهما إلا مقدار ما يَصعْد هذا وينزل هذا".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون الواسطي، قال: ثنا هُشَيم، عن منصور بن زاذان، عن خُبَيْب بن عبد الرحمن، عن عمته أُنَيْسة قالت: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا نداء بلال".
ش: هذان طريقان آخران صحيحان:
أحدهما: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة إلى آخره.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا حفص بن عمرو الحوضيّ (ح).
وثنا أبو مسلم الكَشِّي، ثنا سليمان بن حرب، قالا: ثنا شعبة، عن خُبيب بن عبد الرحمن، قال: سمعت عمتي -وكانت قد حجّت مع النبي عليه السلام- قالت: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. وكان يصعد هذا وينزل هذا، فكنا نتعلق به نقول: كما أنت حتى نتسحّر".
والآخر: عن إبراهيم بن أبي داود البُرلُّسي، عن عمرو بن عون
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (2): أنا يعقوب بن إبراهيم، عن هُشَيم، قال: أبنا منصور، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن عمته أنيسة قالت: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أذان ابن أم مكتوم فكلوا واشربوا، وإذا أذَّن بلال فلا تأكلوا ولا تشربوا" وفي بعض النسخ له: "إذا أذن بلال
…
إلى آخره".
(1)"المعجم الكبير"(24/ 191 رقم 480).
(2)
"المجتبى"(2/ 10 رقم 639).
ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا روح بن عُبَادة، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت سوادة القشَيْري -وكان إمامهم- قال: سمعت سمرة بن جُنْدب أن رسُول الله عليه السلام قال: "لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا اليياض حتى يَبدوُا الفجر أو ينفجر الفجر".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: نا شعبة، عن سوادة القشيري، عن سمرة، عن النبي عليه السلام مثله.
ش: [هذان](1) إسنادان صحيحان حَسَنَان ورجالهما ثقات، وسوادة هو ابن حنظلة القُشَيْري البصري إمامُ مسجد بني قشُيْر، والد عبد الله بن سوادة قال أبو حاتم: شيخ. وذكره ابن حبان في الثقات، وروى له مسلم.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2) ثنا محمَّد بن جعفر ورَوْح، قالا: ثنا شعبة، عن شيخ من بني قشير- قال روح: سمعت سمرة بن جندب يقول: قال رسول الله عليه السلام: "لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر [الفجر] (3) أو يطلع الفجر".
وأخرجه مسلم (4): من حديث حماد بن زيد، ثنا عبد الله بن سوادة القشيري، عن أبيه، عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل حتى يستطير هكذا- وحكاه حماد بيده يعني معترضًا".
وأخرجه الطبراني (5): ثنا يوسف القاضي، نا عمرو بن مرزوق، نا شعبة، عن سوادة بن حنظلة القشيري، قال سمعت سمرة بن جندب أن رسُول الله عليه السلام قال:"لا يغرنكم نداء بلال؛ فإن في بصره سوءًا ، ولا بياض يُرى بأعلى الشجر" وفي
(1) في "الأصل": "هذا".
(2)
"مسند أحمد"(5/ 7 رقم 20091).
(3)
ليست في "الأصل"، والمثبت من "مسند أحمد".
(4)
"صحيح مسلم"(2/ 770 رقم 1094).
(5)
"المعجم الكبير"(7/ 236 رقم 6981).
رواية أخرى له (1): ثنا يزيد بن هارون، أنا شعبة، سمعت سوادة القشيري، يحدث عن سمرة بن جندب، عن النبي عليه السلام قال:"لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير وأومأ بيده (هكذا) (2) وأشار يزيد بيده اليمنى".
قوله: "ولا يغرنكم نداء بلال" أي أذانه.
قوله: "ولا هذا البياض" أي ولا يغرنكم أيضًا هذا البياض، وأراد به: الفجر الكاذب؛ لأنه يبدوا أولًا كذنب السرحان ثم تعقبه الظلمة وهذا لا يخرج به الليل، ولا تحل به الصلاة، فيجوز للصائم حينئذ الأكل والشرب والجماع، وإذا صلى العشاء تكون أداءً.
قوله: "حتى يبدوا الفجر" أي: يظهر الفجر وأراد به الفجر الصادق وهو الذي يَبدوا في الأفق وينتشر ضياؤه في العالم، فهذا يدخل به وقت الصبح، ويخرج به حكم الليل.
قوله: "أو ينفجر" شكٌ من الراوي أي أو ينشق.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الفجر يؤذن لها قبل دخول وقتها، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار وممن ذهب إلى ذلك أبو يوسف:
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي والشافعي ومالكًا وأحمد وإسحاق وداود وابن جرير الطبريَّ وعبد الله بن المبارك؛ فإنهم قالوا: يجوز أن يُؤَذن للفجر قبل دخول وقتها، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار المذكورة، وممن ذهب إلى قولهم هذا: أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا ينبغي أن يُؤذن للفجر أيضًا إلا بعد دخول وقتها كما لا يُؤَذنُ لسائر الصلوات إلا بعد دخول وقتها.
(1) لم أجده في كتب الطبراني، ولكنها بالإسناد عند أحمد في "مسنده"(5/ 18 رقم 20216).
(2)
تكررت في "الأصل".
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سفيان الثوري وأبا حنيفة ومحمدًا وزفر بن الهزيل؛ فإنهم قالوا: لا يجوز أن يؤذن للفجر أيضًا إلا بعد دخول وقتها كما لا يجوز ذلك في غيرها من الصلوات إلا بعد دخول وقتها، وذهب بعض أصحاب الحديث إلى أن ذلك جائزًا إذا كان للمسجد مؤذنان كما كان لرسول الله عليه السلام، فأما إذا لم يكن فيه إلا واحد فإنه لا يجوز أن يفعله إلا بعد دخول الوقت، فيحتمل على هذا أنه لم يكن لمسجد رسُول الله عليه السلام في الوقت الذي نهى بلالًا حين أذن قبل طلوع الفجر، وأمره أن يعود فينادي:"أَلَا إِن العبد نام"؛ إلا مؤذن واحد وهو بلال، ثم أجازه حين أقام ابن أم مكتوم مؤذنا؛ لأن الحديث في تأذين بلال قبل طلوع الفجر ثابت كما ذكرناه.
ص: واحتجوا في ذلك فقالوا: إنما كان أذان بلال الذي كان يؤذن بليل لغير الصلاة، وذكروا ما.
حدثنا علي بن معبد وأبو بشر الرَّقيَّ، جميعًا قالا: ثنا شجاع بن الوليد -واللفظ لابن مَعْبدَ- (ح).
حدثنا محمَّد بن عمرو بن موسى، قال: حدثني أسباط بن محمَّد (ح).
وبما حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا نعيم، قال: ثنا ابن المبارك (ح).
وبما حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير بن معاوية، ثم اجتمعوا جميعًا فقالوا: عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النَهْدي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَمنعنَّ أَحدَكم أذان بلال من سَحوُره؛ فإنه ينادي -أو يؤذن- ليرجع غائبكم، ولينبه نائمكم، وقال: ليس الفجر -أو الصبح- هكذا وهكذا وجمع إصبعيه وفرقهما" وفي حديث زهير خاصةً: "ورفع زهير يده وخفضها حتى يقول هكذا ومدَّ زهيرٌ يدَيْه عرضًا".
فقد أخبر النبي عليه السلام أن ذلك النداء كان من بلال لينتبه النائم وليرجع الغائب لا للصلاة.
ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه، وقالوا: الأصل في الأذان أن يكون بعد دخول الوقت لأنه للإعلام به، وقبل دخوله تجهيل وليس بإعلام، فلا يجوز كما في غير الفجر من الصلوات، وأما أذان بلال الذي كان يؤذن بالليل قبل دخول الوقت فلم يكن ذلك لأجل الصلاة، بل إنما كان ذلك لينتبه النائم وليتسحر الصائم وليرجع الغائب، والدليل حديث ابن مسعود، فلم يصح استدلالًا لهم به.
وأخرجه عن أربع طرق صحاح:
الأول: عن علي بن معبد بن نوح وأبي بشر عبد الملك بن مروان الرَّقي، كلاهما عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، عن سليمان بن بلال القرشي التَيمي، عن أبي عثمان النَهْدي واسمه عبد الرحمن بن ملّ -بفتح الميم وكسرها- الكوفي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا إسماعيل، عن سليمان، عن أبي عثمان، عن ابن مسعود قال: قال رسُول الله: "لا يمنعن أحدَكم أذانُ بلال -أو قال: نداء بلال- من سحوره فإنه يؤذن -أو قال: ينادي- ليرجع غائبكم ولينتبه نائمكم ثم ليس أن يقول هكذا أو قال هكذا حتى يقول هكذا".
الثاني: عن محمد بن عمرو بن يونس بن عمران المعروف بالسوسيّ، عن أسباط بن محمَّد بن عبد الرحمن الكوفي، عن سليمان التَيْمي، عن أبي عثمان، عن عبد الله بن مسعود.
وأخرجه النسائي (2): أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أبنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي عثمان، عن ابن مسعود، عن النبي عليه السلام قال:"إن بلالًا يؤذن بليل، ليوقظ نائمكم وليرجع قائمكم، وليس أن يقول هكذا -يعني في الصبح".
(1)"مسند أحمد"(1/ 435 رقم 4147).
(2)
"المجتبى"(2/ 11 رقم 641).
الثالث: عن نصر بن مرزوق العُتَيقي، عن نُعَيْم بن حماد المروزي، عن عبد الله ابن المبارك، عن سليمان التَيْمي، عن أبي عثمان، عن ابن مسعود.
وأخرجه الطبراني (1): ثنا سليمان بن المعافى بن سليمان، ثنا أبي، ثنا القاسم بن مَعْن، عن سليمان التَيْمي، عن أبي عثمان النهدي، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَمْنعنّ أحدَكم من السَحُور أذان بلال فإنه إنما يؤذن لينتبه نائمكم، ويرجع قائمكم، ويَقوُل الفجر هكذا".
الرابع: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النَهْدي، عن زهير بن معاوية، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن عبد الله بن مسعود.
وأخرجه البخاري (2): ثنا أحمد بن يونس، ثنا زهيرٌ، قال: ثنا سُليمان التَيْمي، عن أبي عثمان النَهْدي، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي عليه السلام قال:"لا يمنعن أحدَكم -أو أحدًا منكم- أذانُ بلال من سَحُورِه؛ فإنه يؤذن -أو ينادي- بليل؛ ليرجع قائَمكم، ولينبّه نائمكم، وليس أن يقول: الفجر -أو الصبح- وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق، وطأطأ إلى أسفل حتى يقول هكذا".
وقال زهير "بِسَبَّابَتَيْه إحداهما فوق الأخرى، ثم مدها عن يمينه وشماله".
وأخرجه البخاري (2) في كتاب الصلاة في باب الأذان.
وأخرجه مسلم (3) في كتاب الصيام في باب صفة الفجر الذي يُحرِّم الأكل على الصائم، وقال: ثنا زهير بن حرب، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن ابن مسعود، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعن أحدًا منكم أذان بلال -أو قال: نداء بلال- من سَحُوره؛ فإنه يؤذن -أو قال: يُنادي-
(1)"المعجم الكبير"(10/ 230 رقم 10558).
(2)
"صحيح البخاري"(1/ 24 رقم 596).
(3)
"صحيح مسلم"(2/ 768 رقم 1093).
[بليل](1)، ليرجعَ قائمكم، ويوقظ نائمكم، وقال: ليس بأن يقول هكذا وهكذا، و [ضرب](2) يده ورفعها حتى يقول هكذا وفرج بين إصبَعَيْه".
قوله: "أذان بلال" برفع أذانُ لأنه فاعل "لا يمنعن" و"أحَدَكم" منصوب لأنه مفعول.
قوله: "من سَحُوره" بفتح السين: اسم ما يُتَسَحّر به من الطعام والشراب، وبالضم المصدر، والفعل نفسه، وأكثر ما يروي بالفتح وقيل: إن الصواب بالضم لأنه بالفتح الطعام، وعدم منع أذان بلال عن الفعل لا عن الطعام، وكذلك الكلام في قوله:"تسحروا فإن في السحور بركة"(3) والبركة والأجر والثواب في الفعل لا في الطعام.
قوله: "ليرجع غائبكم" كذا في رواية الطحاوي، وهو من الغَيْبة وفي رواية غيره وهي المشهورة:"ليرجع قائمَكم" بنصب الميم من قائمَكم لأنه مفعول "يرجع"، لأن رجع الذي هو ثلاثي متعدي بنفسه ولا يتعدّى، يقال: رجع بنفسه رجوعًا ورجعه غيره، وهذَيل تقول: أرجعه غيرُه، ومعناه: يرده إلى راحته وجمام نفسِه بإعلامه بأذانه السَّحر وقرب الصَباح، وينام غفوة السحر، ونَوْمهْ الفجر المستلذّة المستعان بها على النشاط، وذهاب كسل السهر، وتغيّر اللون، كما كان يفعل النبي عليه السلام من نومه بعد صلاته من الليل إذا أذن المؤذن، وقد يكون معنى ذلك ليُكمل ويَسْتعجلَ بقيّة ورْدِه، ويأتي بوتره قبل الفجر.
قوله: "ولينتبه نائمكم" أي النائم آخر الليل أو لصلاة الوتر لمن غلبه النوم على ذلك أو معقد الصوم للسحور.
قوله: "وجمع إصبعَيْه" يرجع إلى قوله: "هكذا" الأول.
(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".
(2)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "صحيح مسلم":"صوب".
(3)
متفق عليه من حديث أنس، البخاري (2/ 678 رقم 1823)، ومسلم (2/ 770 رقم 1095).
وقوله: "وفرقهما"إلى هكذا الثاني.
ويستفاد منه أحكام:
الأول: أن فيه أن أذان بلال بالليل إنما كان لتنبيه النائم وإرجاع القائم، لا لأجل الصلاة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر هكذا وعَلله بقوله:"فإنه ينادي". وقال القاضي عياض في شرح مسلم: وقد تعلْق أصحاب أبي حنيفة بقوله: "ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم" وقالوا: إنما كان يؤذن للسحور لا للصلاة.
وهذا بعيد؛ إذْ لم يختص هذا بشهر رمضان، وإنما أخبر عن عادته في أذانه ولأنه العمل المنقول في سائر الحول بالمدينة، وإليه رجع أبو يوسف حين تحققه، ولأنه لو كان للسَحُور لم يختص بصورة أذان الصلاة. انتهى.
قلت: الذي قاله القاضي بعيد؛ لأنهم لم يقولوا بأنه يختص بشهر رمضان، والصوم غير مخصوص برمضان، وكما أن الصائم في رمضان يحتاج إلى الإيقاظ لأجل السحور، فكذلك الصائم في غير رمضان، بل هذا أشد؛ لأن من يُحيي ليالي رمضان أكثر ممن يُحيي ليالي غيره، فعل ما قال إذا كان أذان بلال للصلاة ينبغي أن يجوز أداء صلاة الفجر بذلك الأذان، بل الخصم أيضًا يقول بعدم جوازه، فَعُلِم أن أذان بلال إنما كان لأجل إيقاظ النائم ولإرجاع القائم، فلا يجوز الأذان للصلاة قبل دخول وقتها سواء كان في الفجر أو غيره، فافهم.
الثانى: أن فيه حجةً على الاقتداء بثقات المؤذنين وتقليدهم في الوقت والعمل بخبر الواحد في العبادات.
الثالث: أن في قوله: "فإن بلالًا يُنادي" وفي رواية غيره "ينادي بليل" دليل على أن ما بعد الفجر ليس من الليل.
قال القاضي: وقد يتعلّق بهذه الألفاظ مَن يَرى رأي بعض متقدمي الصحابة في أن تَبَيّين الخيط بعد الفجر ويحتج به مَنْ يَرى إباحة الأكل حتى يتيقن طلوع الفجر،
وإن كان شاكًّا في طلوعه، وهو قول الكوفيين والأوزاعي وابن حنبل وأبي ثور والشافعي.
وقال مالك: لا يأكل، وإن أكل فعليه القضاء.
وجملة أصحابنا على الاستحباب، واختلفوا في ذلك إلى طلوع الشمس، وإن كان أجمع أئمة الفتوى بعدهم على أنه لا يجوز الأكل بعد طلوع الفجر، واختلفوا بعد ذلك فيمن طلع عليه الفجر وهو على يقين أنه من الليل وهو يأكل أو يَطأْ فكفّ عنها، هل يُجزئه؟ فقال ابن القاسم: يجزئه في الأكل والجماع.
وقال عبد الملك: يجزئه في الأكل ولا يجزئه في الجماع ويقضي فيه، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة.
الرابع: أن بعضهم استدل بقوله: "ولينبّه نائمكم" على منع الوتر بعد الفجر ولا حجة له فيه، قاله عياض.
ص: وقد روي عن عبد الله بن عمر في ذلك أيضًا ما قد حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا موسى بن إسماعيل المِنْقَري قال: ثنا حماد بن سلمة (ح).
وما قد حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر:"أن بلالًا أذّن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي عليه السلام أن يَرْجعَ فينادي: ألا إن العبد نام، فرجع فنادى: ألا إن العبد نام".
فهذا ابن عمر رضي الله عنهما يروي عن النبي عليه السلام ما ذكرناه وهو قد روى عن النبي عليه السلام أنه قال: "إن بلالًا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم".
فثبت بذلك أن ما كان من ندائه قبيل طلوع الفجر -مما كان له مباحًا- هو لغير الصلاة، وأن ما أنكره عليه إذْ فعله قبل الفجر للصلاة.
ش: أي قد روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كما ذكرنا: أن أذان بلال لم يكن لأجل الصلاة.
وأراد الطحاوي بهذا تأييد ما ذكره من ذلك؛ لأن أمره عليه السلام لبلال بالرجوع والمناداة: "ألا إن العبد نامَ"، أراد به أنه غفل عن الوقت، دليل على [أن](1) أذانه لم يكن واقعًا في محله؛ لكونه قد قصد [به](2) الأذان للصلاة، وأما فيما مضى فلم يكن أذانه للصلاة، وإنما كان لإيقاظ النائم، وإرجاع القائم، فلهذا لم يأمره بالعَوْد والمناداة:"ألا إن العبدَ نام".
قوله: "وهو قد روى" أي: والحال أن ابن عمر رضي الله عنهما قد روى عن النبي
…
إلى آخره.
قوله: "فثبت بذلك" أي: بما ذكرنا.
قوله: "أن ما كان من ندائه" أي من نداء بلال -أي أذانه- قبل طلوع الفجر.
قوله: "مما كان أَبيح له" أي يؤذن؛ إنما كان لغير الصلاة، وأن الذي أنكره النبي عليه السلام عليه" أي: على بلال "إذْ فعله" أيْ: حين فعله "قبل طلوع الفجر إنما كان لأجل الصلاة"؛ لأن الأذان للصلاة قبل دخول الوقت لا يجوز.
ثم رجال حديث ابن عمر ثقات.
وأخرجه أبو داود (3): ثنا موسى بن إسماعيل، وداود بن سبيب -المعني- قالا: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر:"أن بلالًا أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي عليه السلام أن يَرجع فيُنادي: أَلَا إنَّ العبد نام -زادَ موسى- فرجع فنادىَ: أَلَا إنَّ العبدَ نام".
قال أبو داود: هذا الحديث لم يَرْوه عن أيّوب، عن نافع إلا حماد بن سلمة.
وقال الترمذي (4): وروى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر:
(1) ليست في "الأصل"، والسياق يقتضيها.
(2)
تكررت في "الأصل".
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 146 رقم 532).
(4)
"جامع الترمذي"(1/ 394).
"أن بلالًا أذن بليل فأمره النبي عليه السلام أن يُناديَ: ألا إن العبدَ نام". هذا حديث غير محفوظ، والصحيح ما روى عبيد الله بن عُمر وغيره، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي عليه السلام قال:"إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابنُ أم مكتوم"، وروى عبد العزيز بن أبي روَّاد، عن نافع "أن مؤذنًا لعمر رضي الله عنه أذّن بليل، فأمر عمر أن يُعيد الأذان" وهذا لا يصح أيضًا؛ لأنه عن نافع عن عمر منقطع، ولعل حمادَ بن سلمة أراد هذا الحديث، والصحيح روايةُ عبيد الله بن عمر وغير واحدٍ، عن نافع، عن ابن عمر، والزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر، أن النبي عليه السلام قال:"إن بلالًا يؤذن بليل" قال أبو عيسى: ولو كان حديث حمّاد صحيحًا لم يكن لهذا الحديث معنًى، إذْ قال رسُول الله عليه السلام:"إن بلالًا يؤذن بليل" فإنما أمرهم فيما يُستقبل فقال: "إن بلالًا يؤذن بليل" ولو أنه أمره بإعادة الأذان حين أذن قبل طلوع الفجر لم يَقُل: "إن بلالًا يؤذن بليل".
قال علي بن المدينيّ: حديث حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام هو خَبرٌ محفوظ وأخطأ فيه حماد بن سلمة. انتهى.
وقال البيهقي: وقد تابعه سَعيدُ بن زَرْبي، عن أيوب، ثم أخرجه كذلك، ثم قال: وسعيد بن زَرْبي ضعيف.
وقال ابن الجوزي في "التحقيق": وقد تابع حماد بن سلمة عليه سعيد بن زربي، عن أيوب -وكان ضعيفًا-، وقال يحيى: ليس بشيء، وقال البخاري: عنده عجائب. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات. وقال الحاكم: أخبرنا أبو بكر بن إسحاق الثقة، سمعت أبا بكر المطرز يقول: سمعت محمَّد بن يحيى يقول: حديث حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر:"أن بلالًا أذن قبل طلوع الفجر" شاذٌ غير واقع على القلب وهو خلاف ما رواه الناس عن ابن عمر رضي الله عنه.
قلت: العجب من الترمذي وغيره ممن تبعه في هذا الكلام كيف يقول: ولو كان حديث حماد صحيحًا لم يكن لهذا الحديث معنى؟ فهذا الكلام يشُعر
أن ضعف حديث حماد بن سلمة لمخالفة معنى حديث الزهري، عن سالم، عن ابن عمر لا لكون وجود ضعيف أو مُتّهم في رَواته، وهذا الذي ذكره ليس بقادح لصحة الحديث، ومثل هذا واقع جدًّا بين الأحاديث، فيؤدي هذا الكلام إلى تضعيف أكثر الأحاديث "الصحيحة" بل الصواب أن حديث حماد صحيح وليس هو بمخالف لحديث سالم؛ لأن حديث سالم قد قلنا: لأجل إيقاظ النائم، وإرجاع القائم، ولم يكن لأجل الصلاة، فلذلك لم يأمره عليه السلام بأن يرجع ويُنادي:"ألا إن العبدَ نام".
وأما حديث نافع، عن ابن عمر الذي رواه حماد بن سلمة، عن أيوب، عنه، كان لأجل الصلاة، ولم يقع محله، فلذلك أمره بأن يَعوُد ويُنادي:"ألا إن العبد نام".
ومما يُقوي صحة حديث حماد بن سلمة: ما رواه سعيد بن أبي عَرَوبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه:"أن بلالًا أذن قبل الفجر، فأمره النبي عليه السلام أن يَصْعد فينادي: إن العبدَ نام".
رواه الدارقطني (1) وقال: تفرّد به أبو يوسف، عن سَعيد، وغيرُه يُرْسله، ثم أخرج من طريق عبد الوهاب -يعني الخفاف- عن سعيد، عن قتادة: "أن بلالًا أذن
…
" ولم يذكر أنَسًا، ثم قال الدارقطني: والمَرسل أصح.
قلت: أبو يوسف وثقه ابن حبان وغيره، وكذلك وثقه البيهقي في باب المستحاضة يغسل عنها أثر الدم، وقد زاد الرفع، فوجب قبول زيادته (2)، ومما يقوّي حديث حماد أيضًا حديث حفصة بنت عمر رضي الله عنهما على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
ص: وروي عن ابن عمر أيضًا، عن حفصة بنت عمر رضي الله عنهم ما قد حدثنا يونس، قال: ثنا على بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عَمرو، عن عبد الكريم
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 245 رقم 53).
(2)
في اعتبار العلة في الأحاديث المختلف في رفعها ووقفها، أو إرسالها ووصلها خلاف كبير معروف بين المحدثين والفقهاء. وفي اعتبار زيادة الوصل زيادة ثقة وهي مقبولة نظر ليس هذا محله.
الجزريّ، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة بنت عَمر:"أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أذن المؤذن بالفجر قام فصلى ركعتي الفجر، ثم خرج إلى المسجد وحرّم الطعام، وكان لا يؤذن حتى يصبح".
فهذا ابن عمر يُخبر عن حفصة، أنهم كانوا لا يؤذِّنون للصلاة إلا بعد طلوع الفجر، وأَمْرُ النبي عليه السلام "أيضًا بلالًا أن يَرْجع فينادي:"ألا إن العبد نام" يدل على أن عادتهم أنهم كانوا لا يَعْرفون أذانًا قبل الفجر، ولو كانوا يعرفون ذلك إذا لما احتاجوا إلى هذا النداء، وأراد به عندنا -والله أعلم بذلك- النداء، إنما هو ليعلمهم أنه في ليل بَعدُ، حتى يُصلّي من آثر منهم أن يُصلّي ولا يُمْسِك عما يُمْسِكُ الصائم عنه.
ش: أشار بهذا إلى تأييد ما قاله من أن إنكاره عليه السلام على بلال في الحديث الماضي، لكونه قد فعله قبل طلوع الفجر لأجل الصلاة، ألا ترى أن ابن عمر يُخبر عن حفصة كانوا لا يؤذنون لأجل الصلاة إلا بعد طلوع الفجر؟ وأنهم كانوا لا يعرفون أذانًا قبل الفجر لأجل الصلاة؛ إذ لو عرفوا لما احتاجوا إلى النداء في حديث بلال، ويكون أمْرُ النبي عليه السلام بلالًا أن يَرجعَ فيُنادي، لأجل أن يُعلمهم أنه في الليل بَعْدُ، وأن الفجر لم يطلع، حتى إن مَن أراد أن يُصلي يصلي، ومن أراد أن يفعل شيئًا مما هو محرّم على الصائم، يَفْعَل ولا يعْدِل عنه.
وإسنادُ حديث حفصة صحيح.
وأخرجه البيهقي (1): من حديث عبد الكريم الجزري، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة بنت عمر رضي الله عنهما "أن رسُول الله عليه السلام
…
" إلى آخره نحوه سواء.
ثم قال البيهقي: هذا محمول- إن صح- على الأذان الثاني.
وقال الأثرم: رواه الناس عن نافع فلم يذكروا فيه ما ذكره عبد الكريم.
(1)"السنن الكبرى"(2/ 471 رقم 4258).
قلت: هو ثقة ثَبْت، كذا قال أحمد وابن مَعين، وأخرج له الجماعة، ومن كان بهذه المثابة لا يُنكر عليه إذا ذكر ما لم يذكره غيره، وإشكال ينتهي بتأويله، يَدلّ ظاهرًا على جَوْدة سنده.
وروى الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سكت المؤذن بالأول من صلاة الفجر قام وركع ركعتين".
قال الأثرم: ورواه الناس، عن الزهري فلم يذكروا فيه ما ما ذكره الأوزاعي. وأجبت عن ذلك: بأن الأوزاعي من أئمة المسلمين فلا يُعلّل ما ذكره بعدم ذكر غيره.
ص: وقد يحتمل أن يكون بلال كان يؤذن في وقت يرى أن الفجر طلع فيه، ولا يتحقق ذلك لضعف نظره، والدليل على ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن إشكاب (ح).
وثنا فهد، قال: ثنا شهاب بن عباد العبدي، قالا: ثنا محمد بن بشْر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغرنكم أذان بلال؛ فإن في بصره شيئًا" فدلّ ذلك على أن بلال كان يريد الفجر فيُخطئه لضَعْف بصره، فأمرهم رسُول الله عليه السلام أن لا يعملوا على أذانه؛ إذْ كان من عادته الخطأ، لضَعَف بصره.
ش: هذا وجه آخر في أذان بلال بالليل قبل طلوع الفجر، وهو الذي احتجت به أهل المقالة الأولى في جواز أذان الفجر قبل طلوع الفجر، وهذا ظاهر.
وأخرجه من طريقين:
الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرُلّسي، عن أحمد بن إشكاب -بكسر الهمزة وسكون الشين المعجمة وفي آخره باء موحدة شيخ البخاري- عن محمَّد بن بشر الأسلمي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): نا محمَّد بن بشر، سعيدٌ، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعنكم أذان بلال من السَّحُور؛ فإن في بصره شيئًا".
الثانى: عن فهد بن سليمان البصري، عن شهاب بن عبّاد -بتشديد الباء الموحدة- العبدي شيخ البخاري ومسلم، عن محمَّد بن بشر الأسلمي
…
إلي آخره.
ص: وقد حدثنا الربيع بن سليمان الجيزيّ، قال: ثنا أبو الأسود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن سالم، عن سليمان بن أبي عثمان، أنه حدّثه عن حاتِم بن عَدِيُّ، عن أبي ذرّ، قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: "إنك تؤذن إذا كان الفجر ساطعًا، وليس ذلك الصبح؛ إنما الصبح هكذا مُعْترضًا".
قال أبو جعفر: فأخبر في هذا الأثر أنه كان يؤذن بطلوع ما يرى أنه الفجر وليس هو في الحقيقة بفجر.
ش: ذكر هذا تأييدًا للاحتمال المذكور آنفًا، وهو أنه كان يؤذن على ظنّ أنه الصبح الصادق، وليس بصبح صادق، لكونه يخطئ فيه لضعف بصره، وذلك لأنه أَخْبرَ في هذا الحديث أنه كان يؤذن بطلوع ما يرى -أي يظنّ- أنه الفجر، والحال أنه ليس هو في الحقيقة بفجر.
وأبو الأسْوَد اسمه النَضر بن عبد الجبار المصري وثقه ابن حبان وغيره.
وابن لهيعة هو عبد الله، فيه مقال، وسالم هو ابن غيلان التجيبي المصري، قال النسائي: لا بأس به، ووثقه ابن حبان.
وسليمان بن أبي عثمان التجيبي المصري، قال في الميزان: مجهول.
وحاتم بن عدي الحمْصي وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل: سليمان بن أبي عثمان التجيبي روى عن حاتم بن عدي وروى عنه سالم بن غيلان سمعت أبي يقول ذلك، وسمعته يقول: هؤلاء مجهولون.
(1)"مسندأحمد"(3/ 140 رقم 1251).
قلت: قال العجلي: حاتم بن عديّ تابعي حمصيّ شامي ثقة.
وأبو ذر الغفاريّ اسمه جندب بن جُنادة.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1) بأتم منه: نا موسى بن داود، نا ابنُ لهيعة، عن سالم ابن غيلان، عن سليمان بن أبي عثمان، عن حاتم بن عدي الحمصي، عن أبي ذر، أن النبي عليه السلام قال لبلال:"أنت يا بلال تؤذن إذا كان الصبح ساطعًا في السماء، فليس ذلك بالصبح؛ إنما الصبح هكذا معترضًا، ثم دعى بسحَوْره فتسحر، وكان يقول: لا تزال أمتي بخير ما أخّروا السحور وعَجّلوا الفطر".
قوله: "إذا كان الفجر ساطعًا" أي ظاهرًا كذنب السرحان، وأراد به الفجر الكاذب الذي لا يخرج به حكم الليل ولا تحلّ به صلاة الصبح.
قوله: "الصبح" منصوب لأنه خبر "ليس"، وفي رواية:"بالصبح" كما في رواية أحمد.
قوله: "معترضًا" حال من قوله: "إنما الصبح" والمعنى: إنما الصبح يحصل حال كونه معترضًا في الأفق، والأولى أن يكون خبر "كان" المحذوف، تقديره:"إنما الصبح يكون معترضًا في الأفق" وأرا به: الصبح الصادق، وهو المنتشر في الآفاق.
ص: وقد روينا عن عائشة رضي الله عنها أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن بلالًا يُنادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم. قالت: ولم يكن بينهما إلا مقدار ما يَصْعد هذا وينزلُ هذا" فلما كان بين أذانَيْهما من القرب ما ذكرنا؛ ثبتَ أنهما كانا يقصدان وقتًّا واحدًا، وهو طلوع الفجر، فيخطئه بلال لما ببصره، ويُصيبُه ابن أم مكتوم، لأنه لم يكن يفعله حتى تقول له الجماعة: أصبحتَ، أصبحت.
ش: ذكر هذا تأييدًا أيضًا لما قاله من أنَّ بلالًا إنما كان يريد الفجر من أذانه، ولكنه كان يخطئه؛ لما في بصره من الضعف، وذلك لأن قول عائشة رضي الله عنها: "ولم يكن
(1)"مسند أحمد"(5/ 172 رقم 21546).
بينهما إلا مقدار ما يَصْعد هذا وينزل هذا" يدلّ على أن المسافة كانت قريبةً جدًّا بين أذانيهما، وأن كلاًّ منهما كان يقصد طلوع الفجر الصادق، إلا أن بلال كان يخطئه لما ببصره من الضعف، وابن مكتوم كان يُصيبُه -وإن كان ضريرًا- لأنه لم يكن يؤذن حتى يقول له الناس: أصبحتَ، أصبحتَ.
واختلف في معنى قوله: "أصْبَحتٌ، أَصْبَحتَ". فقيل: معناهُ قاربت الصباح وتلبست به، فأذن، فإنه وقته، وكان يؤذن فيقع أذانه عند طلوع الفجر الصادق.
وقيل: هو على ظاهره من ظهور الصباح.
والدليل عليه ما جاء في صحيح البخاري (1): "لا يؤذن حتى يطلع الفجر".
ص: ثم قد روي عن عائشة رضي الله عنها من بعد النبي عليه السلام ما قد حَدثَنا ابنُ مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود قال:"قلت: يا أمَّ المؤمنين، متى تُوتِرينَ؟ قالَتْ: إذا أذن المؤذن. قال الأسود: وإنما كان يؤذن بعد الصبح".
قال أبو جعفر: وهذا تأذينهم في مسجدِ رسُول الله عليه السلام؛ لأن الأسود إنما كان سماعه من عائشة بالمدينة، وهي قد سمعت من النبي عليه السلام ما قد رويناه عنها، فلم تُنكر عليهم التأذين قبل الفجر، ولا أنكر ذلك غيرُها من أصحاب النبي عليه السلام، فدل ذلك على أن مراد بلال بأذانه ذلك الفجر، وأن قول النبي عليه السلام:"فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" إنما هو لإصابته طلوع الفجر، فلما رُويت هذه الآثار "أنهم كانوا لا يؤذنون حتى يطلع الفجر" فلما كان ذلك كذلك؛ بطل المعنى الذي ذهب إليه أبو سيف، وإن كان المعنى غير ذلك، وكانوا يؤذنون قبل الفجر على القصد منهم لذلك، فإن حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بيّن أن ذلك التأذين كان لغير الصلاة، وفي تأذِين ابن أم مكتوم بعد طلوع الفجر دليلٌ على
(1)"صحيح البخاري"(2/ 677 رقم 1891) من حديث عائشة رضي الله عنها.
أن ذلك موضع أذان لتلك الصلاة، ولو لم يكن ذلك موضع أذان لها لما أُبيحَ الأذانُ فيها، فلما أبيح ذلك؛ ثبت أن ذلك الوقت وقتُ الأذان لها، واحتمل تَقديمُهم أذانَ بلالٍ قبل ذلك ما ذكرنا.
ش: هذا الكلام أيضًا يَنْصَبُّ على قوله: "وقد يحتمل أن يكون بلال قد كان يؤذن في وقت يرى أن الفجر قد طلع فيه" تقريره: أن الأسود بن يزيد لما سأل عائشة رضي الله عنها عن وقت إيتارها قالت: إذا أذن المؤذن، وأخبر الأسود: أنهم كانوا يؤذنون بعد الصبح، وهكذا كان تأذينهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن سماع الأسود من عائشة رضي الله عنها كان بالمدينة، وعائشة قد سمعت (من) (1) النبي عليه السلام يقول:"إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم" ومع هذا لم تنكر عائشة عليهم التأذين قبل الفجر، ولا أنكر غيرها أيضًا من الصحابة رضي الله عنهم؛ فدلّ ذلك أن مراد بلال من أذانه ذلك الذي وقع قبل الفجر هو الفجر، فإذا كان مراده هو الفجر؛ لم يصح الاستدلال بحديثه على جواز الأذان قبل الفجر؛ لأن بلالًا ما قصد أن يؤذن قبل الفحر؛ وإنما كان قصده الفجر، ولكن وقع قبل الفجر لسوء ببصره كما ذكرنا.
وأما قول النبي عليه السلام "فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" فإنما هو لإصابته طلوع الفجر بإخبار الناس له بقولهم: "أصبحت، أصبحت". بخلاف بلال لخطئه فيه كما ذكرناه.
قوله: "فلما رويت هله الآثار" أي الأحاديث التي ذكرت في هذا الباب على ما ذكره، وكان في حديث حفصة بنت عمر رضي الله عنهما "أنهم كانوا لا يؤذنون حتى يطلع الفجر" بطل المعنى الذي ذكره أبو يوسف في تجويزه الأذان قبل طلوع الفجر؛ استدلالًا بحديث بلال الذي مضى ذكره بطرق مختلفة.
(1) كذا "بالأصل، ك"، ولعلها زائدة على السياق.
وجه بطلان استدلاله: أنه لا يخلوا إما أن يقول: المراد من أذان بلال أنه كان صلاة، فإذا كان للصلاة، يجوز الاستدلال به على جواز تقديم الأذان قبل الوقت في الفجر.
فنقول: وإن سلمنا ذلك، ولكن لن نُسلم أنه كان مصيبًا في قصده، ألا ترى كيف ردّه عليه السلام بقوله:"لا يغرنكم أذان بلال؛ فإن في بصره شيئًا".
وإما أن يقول: إنه كان يؤذن قبل الفجر عمدًا. فنقول: وإن سلمنا أنه كان يؤذن عمدًا قبل الفجر، ولكن لا نسلم إنه كان لأجل الصلاة، بل كان لإيقاظ النائم وإرجاع القائم، بدليل حديث ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال:"فإنه ينادي ليُوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم".
قوله: "فلما كان ذلك" عطف على "لمَّا" الأولى، وهو قوله:"لما رويت هذه الآثار" وقوله: "فقد بطل المعنى" جواب "لمّا" في الموضعين، وفي بعض النسخ "فإن كان كذلك" موضع "فلما كان كذلك" فعلى هذه النسخة تكون الجملة خبر "فلمّا رويت" فافهم.
ورجال حديث الأسود ثقات، وأبو إسحاق اسمه عَمرو بن عبد الله السبَيِعي.
وأخرجه البيهقي (1): من حديث الثوري، عن أبي إسحاق، عن الأسود:"سألتُ عائشةَ متى توترين؟ قالت: بين الأذان والإقامة، وما يؤذنون حتى يُصْبحوا" ثم قال البيهقي: وقول الأسود وغيره: "وما يؤذنون حتى يُصْبحوا" فيه نظر؛ فقد روينا أن الأذان الأول كان بالحجاز قبل الصبح، وكأنَّ عائشة رضي الله عنها كانت تصليها قبل طلوع الفجر، أو أراد به الأذان الثاني. وعلى ذلك تدل رواية ابن أبي خالد، عن أبي إسحاق قال:"كانت عائشة رضي الله عنها توتر فيما بين التثويب والإقامة" فيرجع مذهبها في ذلك كقول عليّ وعبد الله.
قلت: مذهب علي وابن عباس رضي الله عنهم: أن وقت الوتر يمتدّ إلى بعد طلوع الفجر.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 480 رقم 4308).
وروى البيهقي (1) بإسناده عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضَمْرة:"أن قومًا أتوا عليًّا رضي الله عنه، فسألوه عن الوتر. فقال: سألتم عنه أحدًا؟ فقالوا: سألنا أبا موسى، فقال: لا وِتْر بعدَ الأذان. فقال: لقد أَغْرَقَ النزع فأَفْرَط في الفَتْوى، كل شيء ما بينك وبين صلاة الغداة وتر، متى أوترت فحسن".
وقال مالك في "موطإه"(2): بلغني أن عبد الله بن عباس، وعبادة بن الصامت، والقاسم بن محمَّد، وعبد الله بن عامر بن ربيعة قد أوتروا بعد الفجر.
ثم قال (3): وإنما يُوتِرُ بعد الفجر من نام عن الوتر، ولا ينبغي لأحد أن يتعمد ذلك حتى يضع وتره بعد الفجر.
وقال القاضي عياض: وَقت الوتر المتفق عليه عند كافة العلماء ما لم يطلع الفجر، واختلفوا؛ هل يصلي بعد طلوع الفجر إلى أن يُصلي الصبحُ؟ وهل ذاك وقت ضرورة لمن تركها، أو نام عنها، أو نِسيها؟ فذهب جمهورُهم -وهو مشهور قول مالك والشافعي- جواز ذلك مع كراهة تعمده، وأنه وقت ضرورة لها -وحُكيَ عن ابن مسعود وغيره أن وقتها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح- وذهب الكوفيون إلى منع صلاته بعد طلوع الفجر، وقاله جماعة من السلف، وأبو مُصْعب وبعض أصحابنا، وحكاه الخطابي عن مالك، وسيجئ الكلام فيه مستقصًى في باب الوتر إن شاء الله تعالى.
ص: ثم اعتبرنا ذلك من طريق النظر؟ لنَسْتَخرجَ من ذلك القولين قولًا صحيحًا، فرأينا سائر الصلوات غير الفجر لا يؤذن لها إلا بعد دخول أوقاتها، واختلفوا في الفجر، فقال قومٌ: التأذين لها قبل الفجر، لا يؤذن لها بعد دخول وقتها.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 479 رقم 4305).
(2)
"موطأ مالك"(1/ 126 رقم 278).
(3)
"موطأ مالك"(1/ 127 رقم 282).
وقال آخرون: بل هو بعد دخول وقتها. فالنظر على ما وصفنا أن يكون الأذان لها كالأذان لغيرها من الصلوات، فلما كان ذلك بعد دخول أوقاتها؛ كان أيضًا في الفجر كذلك، فهذا هو النظر، وهو قول أبي حنيفة ومحمد والثوري رحمهم الله.
ش: أي ثم اعتبرنا حكم الأذان قبل الفجر من طريق القياس، وهو ظاهر.
قوله: "فقال قوم" أراد بهم الشافعي، ومالكًا، وأحمد، وأبا يوسف، ومن تبعهم في ذلك كما ذكرنا.
قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم الثوري، وأبا حنيفة، ومحمدًا، وزفر.
قوله: "التأذين لها قبل الفجر" أي التأذين لصلاة الصبح قبل طلوع الفجر، لا يؤذن لها بعد دخول وقتها وهذا لا يخلو عن النظر؛ لأنهم لم يقولوا: بأن الأذان في الفجر لا بد أن يكون قبل الفجر؛ بل قالوا: إنه إذا أذن قبل الفجر جاز ذلك وأغنى عن الإعادة. ص: حدثني ابن أبي عمران، قال: ثنا علي بن الجَعْد، قال: ثنا سفيان بن سعيد -وقال له رجل: إني أؤذن قبل طلوع الفجر؛ لأكون أول مَنْ يقرع باب السماء بالنداء- فقال سفيان: "لا حتى ينفجر الفجر".
ش: أشار بهذا وبما بعده من تقوية وجه النظر من أنه لا يجوز الأذان في الفجر قبل طلوع الفجر الصادق، ألا ترى كيف منع سفيان الثوري هذا الرجل عن الأذان حتى يَنفجر الفجر -أي ينشق الفجر الصادق- وابن أبي عمران هو أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى الثقة البغدادي، وثقه ابن يونس وغيرُه. وعليّ بن الجَعْد بن عبيد الجوهري من أصحاب أبي يوسف وأحد مشايخ البخاري وأبي داود.
ص: وقد رُوي عن علقمة من هذا شيءٍ؛ حدثنا فهد قال: ثنا محمد بن الأصبهاني، قال: ثنا شريك، عن علي بن علي، عن إبراهيم قال: "شيّعنا علقمة إلى مكة، فخر بليل، فسمع مؤذنًا يؤذنُ بليل فقال: أما هذا فقد خالف سنة أصحاب
محمَّد عليه السلام، لو كان نائمًا لكان خيرًا له، فإذا طلع الفجر أذن" فأخبر علقمةُ أن التأذين قبل طلوع الفجر خلاف لسنة أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم".
ش: أي قد روي عن علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي أبي شبل الكوفي في هذا -أي في منع الأذان قبل طلوع الفجر- شيء، وبين ذلك بقوله: حدثنا فهدٌ
…
إلى آخره، ورجاله كلهم ثقات، وعلي بن علي بن نجاد اليشكريّ أبو إسماعيل البصري وثقه يحيى وأبو زرعة، وروى له الأربعة، وإبراهيم هو النخعي.
وأخرجه ابن أبي شيبة؛ في "مصنفه"(1): ثنا شريك، عن علي بن علي، عن إبراهيم إلى آخره نحوه سواء، غير أن لفظه:"فخرجنا بليل".
(1)"مصنف بن أبي شيبة"(1/ 194 رقم 2224).