المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: ما يستحب للرجل أن يقوله إذا سمع الأذان - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٣

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: ما يستحب للرجل أن يقوله إذا سمع الأذان

‌ص: باب: ما يستحب للرجل أن يقوله إذا سمع الأذان

.

ش: أي هذا باب في بيان ما يستحب للرجل أن يقول عند سماعه الأذان من الألفاظ المأثورة.

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك ويونس، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن -وفي حديث مالك النداء- فقولوا ما يقول- في حديث مالك ما يقول المؤذن

".

ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح، ويونس الأول هو: ابن عبد الأعلى المصري، والثانى هو: ابن يزيد الأيلي، وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم الزهريّ، وأبو سعيد الخدري اسمه سَعد بن مالك، والحديث أخرجه الجماعة.

فالبخاري (1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عطاء ابن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري أن رسُول الله قال:"إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن".

ومسلم (2): عن يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب إلى آخره نحوه.

وأبو داود (3): عن عبد الله بن مَسلمة القَعْنبي، عن مالك.

والترمذي (4): عن قتيبة، عن مالك، عن الزهري إلى آخره نحوه.

والنسائي (5): عن قتيبة، عن مالك.

(1)"صحيح البخاري"(1/ 221 رقم 586).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 288 رقم 383).

(3)

"سنن أبي داود"(1/ 199 رقم 522).

(4)

"جامع الترمذي"(1/ 407 رقم 208).

(5)

"المجتبى"(2/ 23 رقم 673).

ص: 100

وابن ماجه (1): عن أبي كُريْب وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن زيد بن الحبُاب، عن مالك، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم النداء فقولوا كما يقول المؤذن".

قولوا: "النداء" أي الأذان، والفرق بينهما أن لفظ الأذان أو التأذين أخصّ من لفظ النداء لغة وشرعًا، والفرق بين الأذان والتأذين: أن التأذين يتناول جميع ما يَصدُر من المؤذن من قول وفعل وهيئة ونية، وأما الأذان فهو حقيقة تعقل بدون ذلك.

قوله: "مثل ما يقول" أي مثل قوله، وكلمة ما مَصْدرية، والمثل هو: النظير، يقال: مِثل ومَثل ومَتيل كشِبْه وشَبه وشبيه، فإن قيل ما معنى المماثلة بين الشيئين؟ قلت: أفيدك ها هنا فائدة تنتفع بها في سائر المواضع، واعلم أن معنى مماثلة بين الشيئين ومجانسة ومشابهة ومساواة ومناسبة ومشاكلة ومطابقة وموازاةٍ، أما المماثلة فهي اتحاد الاثنين في النوع كريد وعمرو في الإنسانية، والمجانسة اتحادهما في الجنس كاتحاد الإنسان مع الفرس في الحيوانية، والمشابهة في الكيف كاتحاد الزنجي والهندي في السواد، والمساواة في الكم كاتحاد مقدار مع آخر في القدر، والمناسبة في الإضافة كاتحاد شخص مع آخر في أنهما ابنا شخص أو عبداه، والمشاكلة كاتحاد زيد وعَمرو في أنهما كاتب، والمطابقة في الأطراف كاتحاد جسم مع آخر في النهايات، والموازاة في وضع الأجزاء كاتحاد خطين أو جسّمين في وضع الأجزاء.

فإن قيل: ما حكم هذا الأمر؟

قلت: اختلفوا فيه هل هو على الوجوب أو على النَدْب؟ فقال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله: يستحب إجابة المؤذن بالقول مثل قوله لكل من سمعه من متطهر ومحدث وجنب وحائض وغيرهم ممن لا مانع له من الإجابة، فمن أسباب المنع أن يكون في الخلاء، أو جماع أهله، أو نحوهما، ومنها أن يكون في صلاة، فمن كان في

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 238 رقم 720).

ص: 101

صلاة فريضة أو نافلة وسمع المؤذن لم يوافقه في الصلاة فإذا سلم أتى بمثله، فلو فعله في الصلاة فهل يكره؟ فيه قولان للشافعي، أظهرهما يكره لكن لا تبطل صلاته، فلو قال: حي على الصلاة، أو الصلاة خير من النوم بطلت صلاته إن كان عالمًا بتحريمه لأنه كلام آدمي، ولو سمع الأذان وهو في قراءة وتسبيح ونحوهما قطع ما هو فيه وأتى بمتابعة المؤذن ويتابعه في الإقامة كالأذان إلا أنه يقول في لفظ الإقامة أقامها الله وأدامها، وإذا ثوّب المؤذن في صلاة الصبح فقال: الصلاة خير من النوم، قال سامعه: صدقت وبَرَرْتَ. انتهى.

وقال أصحابنا: الإجابة واجبة على السامعين؛ لأن الأمر يدلّ على الوجوب؛ والإجابة أن يقول مثل ما قاله المؤذن إلا قوله: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فإنه يقول مكان قوله "حي على الصلاة": لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ومكان قوله "حي على الفلاح": ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن؛ لأن إعادة ذلك تشبه المحاكاة والاستهزاء، وكذا إذا قال المؤذن:"الصلاة خير من النوم". لا يقول السامع مثله ولكن يقول: صدقت وبَرَرْت. وينبغي أن لا يتكلم السامع في حال الأذان والإقامة، ولا يقرأ القرآن ولا يُسلّم، ولا يردّ السلامَ، ولا يشتغل بشيء من الأعمال سوى الإجابة، ولو كان في قراءة القرآن ينبغي أن يقطع القراءة، ويسمع الأذان، ويجيب. وفي "فوائد الرُسْتغفني": لو سمع وهو في المسجد يمضي في قرائته، وإن كان في بيته فكذلك إن لم يكن أذان مسجده. وعن الحلواني: لو أجاب باللسان ولم يمش إلى المسجد لا يكون مجيبًا، ولو كان في المسجد ولم يُجب لا يكون آثمًا ولا تجب الإجابة على مَنْ لا تجب عليه الصلاة، ولا يجيب أيضًا وهو في الصلاة سواء كانت فرضًا أو نفلًا. وقال القاضي عياض: اختلف أصحابنا: هل يحكي المصلي لفظ المؤذن في حالة الفريضة أو النافلة أم لا يحكيه فيهما؟ أم يحكيه في النافلة دون الفريضة؟ على ثلاثة أقوال. انتهى.

ثم اختلف أصحابنا هل يقوله عند سماع كل مؤذن أم لأول مؤذن فقط؟ وسئل ظهير الدين عن هذه المسألة فقال: تجب عليه إجابة أذان مسجده بالفعل.

ص: 102

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، عن يونس، فذكر مثل حديث يونس هذا.

ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس أبي عبد الله البصري، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد. فذكر ابن مرزوق مثل حديث يونس بن عبد الأعلى.

وأخرجه الدارميّ في "سننه"(1) ثنا عثمان بن عمر، أنا يونس، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد الخدريّ أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول".

ص: حدثنا ربيع الجيزيَّ، قال: ثنا أبو زرعة، قال: أخبرني حَيْوة بن شريح، قال. أخبرنا كعب بن علقمة، أنه سمع عبد الرحمن بن جُبَير مولى نافع بن عمرو القرشي، يقول: أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص، يقول: أنه سمع رسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يَقُول، ثم صلوا عليّ، فإن مَنْ صلّى عليّ صلاة، صلى الله عليه بها عَشْرًا، ثم سلوا الله ليَ الوسيلة، فإنها منزل في الجنة لا تنبغي لأحد إلا لعَبْدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله ليَ الوسيلة؛ حَلّت له الشفاعة".

ش: إسناده صحيح، وأبو زرعة اسمه وَهْبُ الله بن راشد الحَجري المصري المؤذن، وحَيوةُ بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه الزاهد العابد.

وأخرجه مسلم (2): ثنا محمَّد بن [سلمة](3) المرادي ثنا عبد الله بن وهب، عن حيوة وسعيد بن أبي أيوب وغيرهما، عن كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن

(1)"سنن الدارمي"(1/ 293 رقم 1201).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 288 رقم 384).

(3)

في "الأصل، ك": "مسلمة"، وهو تحريف، والمثبت من "صحيح مسلم"، و"سنن أبي داود".

ص: 103

ابن جُبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسُول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره نحوه سواء.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا محمَّد بن [سلمة](2)، أنا ابن وهب، عن ابن لهيعة وحَيْوة وسعيد بن أبي أيوب، عن كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع إلى آخره نحوه.

وأخرجه النسائي (3): أنا سُوَيْد بن نصر، قال: أنا عبد الله، عن حيوة بن شريح، أن كعب بن علقمة سمع عبد الرحمن بن جبير مولى نافع بن عمرو القرشي يُحدث أنه سمع عبد الله بن عمرو يَقولُ: سمعْتُ رسُول الله عليه السلام إلى آخره نحوه.

قوله: "فقولوا مِثْلَ ما يقول" يَقْتَضِي أن نقول مثل ما يقول المؤذن إلي آخره، ولكنه مخصوص بحديث ابن عمرُ رضي الله عنهما على ما يأتي إن شاء الله.

و"مثل" منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره: فقولوا قولًا مثل قول المؤذن، وما مصدريه.

قوله: "ثم صلوا علي" أي بعد الفراغ من الإجابة صلَوا عليّ.

قوله: "فإنه" أي فإن الشأن، و"الفاء" فيه للتعليل.

قوله: "صلاة" أي صلاةً واحدة، ونصبها على الإطلاق.

قوله: "بها" أي بمقابلة صلاته الواحدة والباء تجيىء للمقابلة كقولك: أخذت هذا بهذا.

قوله: "عشرًا" أي عشر صلوات، لقوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (4) وصلاة الله على عبده رحمته عليه؛ لأن الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن المؤمنين الدعاء.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 199 رقم 523).

(2)

في "الأصل، ك": "مسلمة"، وهو تحريف، والمثبت من "صحيح مسلم"، و"سنن أبي داود".

(3)

"المجتبى"(2/ 25 رقم 678).

(4)

سورة الأنعام، آية:[160].

ص: 104

قوله: "ثم سَلُوا لي الوسيلة" أي: بعد الفراغ من الإجابة والصلاة على النبي عليه السلام سلوا الله لأجلي الوسيلة، وهي فعيلة، وتجمع على وسائل ووُسُل وهي في اللغة ما يتقرب به إلى الغير، يقال: وسل فلان إلى ربه وسيلة، وتوسل إليه توسيلة إذا تقرب إليه بعمل، وفسّرها في الحديث بأنها منزل في الجنة، والفاء في قوله:"فإنها منزل" فاء تفسيرية، والمنزل والمنزلة واحد، وهي المنهل والدار.

وقوله: "لا ينبغي" من بغَيْته فانبغى أي طلبته، ويقال: انبغى لك أن تفعل كذا أي: طاوعك وانقاد لك فعل كذا.

وقوله تعالى: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ} (1) أي لا يحصل ولا يتأتى، ولا يُستعمل فيه غير هذين اللفظين، ويقال معنى لا ينبغي: لا يَسهُل ولا يكون.

قال ابن أحمر:

في رأس خَلقاءَ عنقاء مشرفة

لا يُبْتَغى دُونها سَهْلٌ ولا جَبَلُ

قوله: "أن كون أنا هو" أن مَصدرية ومحله النصب على المفعولية والتقدير: أرجو كوني إياه، أي ذلك العبد. وأنا إما اسم أكون، وليس في أكون شيء، وإما تأكيد لأنا المستكن فيه. وقوله:"هو" ضمير مرفوع وقع موقع الضمير المنصوب، وتقديره أن أكون إياه.

قوله: "حلت له الشفاعة" أي: شفاعتي، الألف واللام بدل من المضاف إليه و"حلّت" من حلّ يَحِل بالكسر إذا وجب، ويُحلّ -بالضم- أي ينزل، وقرئ بهما في قوله تعالى:{فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} (2) واللام في "له" بمعنى على كما وقع في رواية غيره "حلت عليه" لأن الأصل أن يقال: حلّ عليه. ويَستفادُ منه أحكامٌ:

وجوب إجابة المؤذن، ووجوب الصلاة على النبي عليه السلام بعد الإجابة، ولاسيما قد ذكر النبي عليه السلام في الأذان؛ قال الطحاوي أوجب الصلاة عليه عليه السلام كلما سمع

(1) سورة ص، آية:[35].

(2)

سورة طه، آية:[81].

ص: 105

ذكره وهو المختار عندي أيضًا، والسؤال من الله الوسيلة لأجله عليه السلام وإثباتُ الشفاعة ردًّا على المعتزلة، واختصاصه صلى الله عليه وسلم بالوسيلة يوم القيامة، وجواز الاستعانة بدعاء الصالحين ولاسيّما في مظانّ الإجابة.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: نا وهبُ بن جرير، قال: ثنا شعبة (ح).

وحدثنا ابن أبي داود وأحمد بن داود قالا: ثنا أبو الوليد قال: ثنا شعبة، عن ابن بشر، عن أبي المليح، عن عبد الله بن عُتْبةَ، عن أم حبيية رضي الله عنها "أن رسُول الله عليه السلام كان إذا سمع المؤذن يقول مثل ما يقولُ حتى يُسكُت".

ش: هذان إسنادان صحيحان:

أحدُهما: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي بشْر بيان بن بشر الأحمسي البجلي الكوفي، عن أبي المليح بن أسامة الهُذَلي، قيل: اسمُه عامر وقيل: زيد بن أسامة، عن عبد الله بن عتبة بن أبي سفيان الأموي، عن أمّ حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين، واسمها رملة.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا محمَّد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي بشير، عن أبي المليح، عن أم حبيبة، عن النبي عليه السلام[كان](2) إذا سمع المؤذن يؤذن قال كما يقول حتى يَسكت.

والآخر: عن إبراهيم بن أبي داود البرلُسي وأحمد بن داود المكي -أحد مشايخ الطبراني أيضًا- كلاهما عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن شعبة إلى آخره.

وأخرجه ابن ماجه (3): ثنا شجاع بن مخلد أبو الفضل، نا [هشيم](4)، أنا أبو بشر، عن أبي المليح بن أسامة، عن عبد الله بن عتبة بن أبي سفيان، حدثتني

(1)"مسند أحمد"(6/ 326 رقم 26810).

(2)

في "الأصل، ك": "قال"، والمثبت من "المسند".

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 238 رقم 719).

(4)

في "الأصل": "هشام"، والمثبت من "سنن ابن ماجه"، و"تحفة الأشراف"(11/ 108).

ص: 106

عمتي أم حبيبة "أنها سمعت رسُول الله عليه السلام في يومها وليلتها فسمع المؤذن يؤذن قال كما يقول المؤذن".

ص: حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاريّ، قال: ثنا محمَّد بن عَمرو الليثي، عن أبيه، عن جده قال: نا عند معاوية فأذّن المؤذن فقال: معاويةُ رضي الله عنه: سمعت صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن يؤذن فقولوا مثل مقالته" أو كما قال.

ش: محمَّد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاريّ البصري القاضي شيخ البخاري.

ومحمد بن عَمرو بن علقمة بن وقاص الليثي أبو عيد الله المدني وثقه النسائي وابن حبان واحتج به الأربعة.

وأبوه عمرو بن علقمة وثقه ابن حبان.

وجده علقمة بن وقاص الليثي المدني روى له الجماعة.

وحديث معاوية هذا روي بألفاظ مختلفة، ولهذا قال أبو عمر: حديث معاوية في هذا الباب مضطرب الألفاظ، بيان ذلك أنه روى مثل ما تقول طائفة، وهو أن يقول مثل ما يقول المؤذن من أول الأذان إلى آخره، وهو رواية الطحاويّ، وروي عنه مثل ما تقول طائفة أخرى وهو أن يقول مثل المؤذن في كل شيء إلى قوله: حيّ على الصلاة، حي على الفلاح، فإنه يقول فيها: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم يُتم الأذان.

وهو رواية الطبراني في "الكبير"(1): ثنا معاذ بن المثنى، ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن محمَّد بن عمرو، عن أبيه، عن جده قال: "أذن المؤذن عند معاوية فقال: الله أكبر الله أكبر، قال معاوية: الله أكبر الله أكبر، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: أشهد أن محمدًا رسول الله فقال:

(1)"المعجم الكبير"(19/ 322 رقم 731).

ص: 107

حيّ على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، قال حيّ على الفلاح، قال: لا حَوْل ولا قوة إلا بالله، قال: الله أكبر الله أكبر، فقال معاوية: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: هكذا سمعت رسول الله عليه السلام يقول".

وروي عنه مثل ما تَقُول طائفة أخرى، وهو أن يقول مثل ما يقول المؤذن في التشهد والتكبير دون سائر الألفاظ.

وهو رواية عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن ابن عُيَيْنة، عن مجمع الأنصاري، أنه سمع أبا أمامة بن سهل بن حنيف حين سمع المؤذن كبّر وتشّهد بما تشهّد به، ثم قال: هكذا حدثنا معاوية " أنه سمع رسُول الله عليه السلام يَقولُ كما يقول المؤذنُ، فإذا قال: أشهد أن محمدًا رسُول الله قال: وأنا أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم سكت".

وروي عنه مثل ما تقول طائفة أخرى؛ وهو أن يقول مثل ما يقول المؤذن حتى يبلغ: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ بدل كل كلمة منها حاصرتين على حسب ما يقول المؤذن، ثم لا يزيد على ذلك، وليس عليه أن يختم الأذان.

وهي رواية البخاري (2): ثنا معاذ بن فضالة، قال: ثنا هشام، عن يحيى، عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث، قال: حدثني عيسى بن طلحة أنه سمع معاوية يومًا فقال مثله.

إلى قوله: "وأشهد أن محمدًا رسول الله".

حدثنا (3) إسحاق بن راهويه، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا هشام، عن يحيى نحوه. قال يحيى: وحدثني بعض إخواننا أنه قال: "حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وقال: هكذا أسمعنا نبيكم صلى الله عليه وسلم".

(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 479 رقم 1845).

(2)

"صحيح البخاري"(1/ 222 رقم 587).

(3)

"صحيح البخاري"(1/ 222 رقم 588).

ص: 108

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذه الآثار، فقالوا: ينبغي لمن سمع الأذان أن يَقُولَ كما يقولُ المؤذن حتى يفرغ من أذانه.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: النخعي والشافعي وأحمد في رواية ومالكًا في أخرى؛ فإنهم قالوا ينبغي لمن سمع الأذان أن يقول كما يقول المؤذن حتى يفرغ من أذانه واستدلوا على ذلك بالأحاديث المذكور؛، وإليه ذهب أهل الظاهر أيضًا.

وقال ابن حزم في "المحلّى": ومن سمع المؤذن فليقل كما يقول المؤذن سواء بسواء من أول الأذان إلى آخره، وسواء كان في غير صلاة أو في صلاة فرض أو نافلة حاش قول المؤذن: حي على الصلاة حي على الفلاح لا يقولها في الصلاة ويقولها في غير الصلاة، فإذا أتم الصلاة فليقل ذلك، ثم قال: فإذا قال سامع الأذان لا حول ولا قوة إلا بالله مكان حي على الصلاة حي على الفلاح فحسن.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: ليس لقوله حي على الصلاة وحي على الفلاح معنى؛ لأن ذلك إنما يقوله المؤذن ليَدْعو به الناس إلي الصلاة وإلى الفلاح والسامع لا يقول من ذلك على جهة دعاء الناس إلى ذلك، إنما يقوله على جهة الذكر، وليس هذا أمن الذكر فينبغي له أن يجعل فكان ذلك ما قد روي في الآثار الأُخَر وهو: لا حول ولا قوة إلا بالله.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، وأحمد في الأصح، ومالكًا في رواية، فإنهم قالوا: يقول سامع الأذان مثل ما يقول المؤذن إلا في الحَيْعلتين فإنه يقول فيهما: لا حول ولا قوة إلا بالله. وفي "الجواهر" للمالكية ويؤمر سامع الأذان وينتهي إلى آخر التشهدين في ظاهر المذهب. وقيل: يتمادى إلى آخره ويعوْض عن الحيعلتين بالحوقلة ويحكي التشهد مرةً واحدة في رواية ابن القاسم. وقال الداودي: يعاود التشهد إذا عاوده المؤذن أو قبله بأن كان السامع في صلاة، فروى ابن القاسم أنه يحي في النافلة دون الفريضة.

ص: 109

وروى أبو مصعب أنه يحكي فيهما، وقال ابن وهب: لا بأس فيهما واستحسنه ابن حبيب، وقال سحنون: لا يحكي في واحدة منهما ثم حيث قلنا يحكي فلا يجاوز التشهدين، ولو قال في الصلاة حي على الصلاة فقال أبو محمَّد الأصلي: لا تبطل صلاته لأنه متأول وحكى عبد عن بعض القرويين أن صلاته تبطل وأنه كالمتكلم وحكي ذلك عن القاضي أبي الحسن، ولو أبطأ المؤذن فقال مثل ما يقول أو عجل قبل المؤذن أجزأه ذلك وهو واسع، وفي "حاوي" الحنابلة: ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول مثله إلا في الحيعلة فإنه يقول لا حول ولا قوة إلا بالله وفي كلمة الإقامة أقامها الله وأدامها ما دامت السموات والأرض ويقوله التالي ويقضيه المُصلي ويقول المؤذن كسامعه خفية، وقال القاضي عياض في شرح مسلم: واختلف في الحد الذي يحي فيه المؤذن هل إلى التشهدين الأولين أم الآخرين أم إلي آخر الأذان؟ ونقل القولان عن مالك ولكنه في القول الآخر إذا حيعل المؤذن فيقول السامع لا حول ولا قوة إلا بالله. وقال الشافعي بحكايته في الجميع. وقال بعض أصحابنا بل الترجيع التشهدين وقيل بل لا تلزمه الحكاية إلا في التشهدين أولًا فقط. قلت ما قاله أصحابنا أول، وأقرب إلى العقل لأن قول السامع عند الحيعلتين مثل قول المؤذن يشبه المحاكاة والاستهزاء لأنه ليس معهما على قصد الذكر والثناء وأما قول المؤذن فإنه يدعو بهما الناس إلى الصلاة وإلى الفلاح فحينئذ يقول السامع لا حول ولا قوة إلا بالله كما ورد به في الأحاديث الآخر على ما يجيئ الآن إن شاء الله تعالى.

ص: فكان من الحجة لهم في ذلك: أنه قد يجوز أن يكون قوله "فقولوا مثل ما يقول حتى يَسكن" أي فقولوا مثل ما ابتدأ به الأذان من التكبير وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسُول الله حتى يَسكُت فيكون التكبير والشهادة هما المقصود إليها بقوله: "فقولوا مثل ما يقول" وقد قَصِد إلى ذلك في حديث أبي هريرة.

حدثنا أحمد بن داود قال: ثنا إبراهيم بن محمَّد الشافعي قال: ثنا عبد الله بن رجاء عن عباد بن إسحاق عن ابن شهاب (ح).

ص: 110

وحدثنا أحمد قال: ثنا مُسّدد قال: ثنا بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"إذا تشهد المؤذن فقولوا مثل ما يقول".

ش: أشار أولًا إلى الجواب عما تمسكت به أهل المقالة الأولى في وجوب قول السامع مثل قول المؤذن حتى يَسكت، ثم ذكر الأحاديث التي يتمسك بها أهل المقالة الثانية.

تحرير الجواب: أنه قد يجوز أن يكون معنى قوله: "فقولوا مثل ما يقول حتى يسكت" فقولوا مثل ما ابتد به من التكبير والشهادتين حتى يسكت فيكون المقصود في قوله: "فقولوا مثل ما يقول" هو التكبير والشهادتين، والدليل على صحة هذا التأويل حديث أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"إذا تشهد المؤذن فقولوا مثل ما يقول" فإنه اقتصر ها هنا على القول بمثل ما يقول المؤذن في الشهادتين.

وجواب آخر عن أحاديثهم: أنها مخصوصة بأحاديث عمر بن الخطاب وأبي رافع ومعاوية رضي الله عنهم على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من طريقين صحيحين:

الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن إبراهيم بن محمَّد بن العباس الشافعي المكي ابن عم الإِمام الشافعي وثقه الدارقطني وغيره، عن عبد الله بن رجاء المكي، عن عبّاد بن إسحاق وهو عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله المدني ويسمّى باسمين: عَبَّاد بن إسحاق، وعبد الرحمن بن إسحاق، وكلاهما واحد، روى له البخاري مستشهدًا.

وهو يروي عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.

وأخرجه أبو حمد العدنى في "مسنده": ثنا عبد الله بن رجاء، عن عباد بن إسحاق، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال النبي عليه السلام: "إذا

ص: 111

قال المؤذن: الله أكبر. فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. ثم قال: أشهد أن محمدًا رسُول الله. فقال: أشهد أن محمدًا رسُول الله. ثم قال: حي على الصلاة. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: حي على الفلاح. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: الله أكبر، الله أكبر. فقال: الله أكبر، الله أكبر. ثم قال: لا إله إلا الله. فقال: لا إله إلا الله من قلبهِ؛ دخل الجنة".

هذا بيان ما احتجت به أهل المقالة الثانية فيما ذَهبُوا إليه، وقد احتجوا في ذلك بأحاديث منها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرُلُّسِي، عن إسحاق بن محمَّد بن إسماعيل الفَرْوي المدني، فيه مقال كثير، والفَرْوي -فتح الفاء وسكون الراء- نسبة إلى الجدّ وهو فَروْة جَدّ جدّ إسحاق المذكور، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير المدني روى له الجماعة، عن عمارة بن غزية بن الحارث المازني المدني روى له الجماعة، عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، روى له الجماعة، عن أبيه عاصم بن عمر روى له الجماعة، عن جدّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وأخرجه مسلم (1): حدثني إسحاق بن منصور، قال: أنا أبو جعفر محمَّد بن جهضم الثقفي، قال: نا إسماعيل بن جعفر، عن عمارة بن غزية، عن خُبَيْب بن عبد الرحمن بن إساف، عن جعفر بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن أبيه، عن جدّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر

" إلى آخره نحو رواية الطحاوي.

وأخرجه أبو داود (2): ثنا محمَّد بن المثنى، نا محمَّد بن جهضم، نا إسماعيل بن جعفر، عن عمارة بن غزية، عن حفص بن عاصم بن عمر، عن أبيه، عن جدّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحوه.

(1)"صحيح مسلم"(1/ 289 رقم 385).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 200 رقم 527).

ص: 112

وأخرجه النسائي (1) أيضًا نحوه.

قوله: "إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم: الله أكبر الله

" إلى آخره.

كل نوع من هذا مثنى كما هو المشروع فاختصر عليه السلام من كل نوع على شطره تنبيهًا على باقية قوله: "لا حول ولا قوة إلا بالله" يجوز فيه خمسة أوجه:

الأول: فتحهما بلا تنوين.

والثانى: فتح الأول ونصب الثاني منونًا.

والثالث: رفعهما منونين.

والرابع: فتح الأول وترفع الثاني منونًا.

والخامس عكسه.

"الحول" الحركة، أي لا حركة ولا استطاعة إلا بمشيئة الله تعالى قاله ثعلب وغيره، وقال بعضهم: لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته ولا قوة على طاعته إلا بمعونته وحكي هذا عن ابن مسعود، وحكى الجوهري: لغةً غربية ضعيفة أن يقال: لا حيل ولا قوة إلا بالله -بالياء- قال: والحول والحيل بمعنى.

ويقال في التعبير عن قولهم لا حول ولا قوة إلا بالله: الحوقلة، قاله الأزهري.

وقال الجوهري: الحولقة. فعلى الأول -وهو المشهور- الحاء والواو من الحول والقاف من القوة واللام من اسم الله.

وعلى الثاني الحاء واللام من الحول، والقاف من القوة، ومثلها الحَيْعلة والبسملة والحمدلة والهَيْللة والسَبحلة في حي على الصلاة، وحي على الفلاح، وبسم الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وسبحان الله. وقال في كتاب "اليواقيت" وفي غيره: إن الأفعال التي أخذت من أسمائها سبعة وهي: بَسْمَل الرجل إذا قال: بسم الله، وسَبحَل إذا قال: سبحان الله، وحَوْقَل إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وحَيْعَل

(1)"سنن النسائي الكبرى"(6/ 15 رقم 9868).

ص: 113

إذا قال: حي على الفلاح ويجيء على القياس الحَيْصلة إذا قال: حي على الصلاة ولم يذكر، وحَمْدل: إذا قال الحمد لله، وهَيلل إذا قال: لا إله إلا الله، وجَعْفَل إذا قال: جُعِلْتُ فداك، زاد الثعالبي الطَيْقلة إذا قال: أطال الله والدَمْعزة إذا قال: أدام الله عزك.

وقال عياض: قوله الحيصلة على قياس الحيعلة غير صحيح بل الحيعلة تُطلق على حيّ على الفلاح وحيّ على الصلاة كلها حَيْعلة، ولو كان على قياسه في الحيصلة لكان الذي يقال في حي على الفلاح الحَيْفلة -بالفاء- وهذا لم يُقل، وإنما الحيعلة من قولهم حيّ على كذا، فكيف وهو باب مسموع لا يقاس عليه، وانظر إلى قوله: جَعْفَل في جُعِلت فداك لو كان على قياس الحيعلة لقال جَعْلفَ إذ اللام مقدمة على الفاء وكذلك الطيْقلة تكون اللام على القياس قبل الفاء والقاف.

قوله: "من قلبه" يتعلق بقوله: "فقال أحدكم" أي قال ذلك خالصًا مخلصًا من قلبه لأن الأصل في القول والفعل الإخلاص.

قوله: "دخل الجنة" جواب قوله: "فقال أحدكم" في المعنى، وجزاء ذلك القائل.

ص: حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا سَعيدُ بن سليمان، عن شريك، عن عاصم بن عبيد الله، عن علي بن حُسين، عن أبي رافع قال:"كان رسُول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع المؤذن قال مثل ما قال، وإذا قال: حي على الصلاة حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله".

ش: ابن أبي داود هو إبراهيم البرُلُسي وسعيد بن سليمان الضَبيّ أبو عثمان الواسطي المعروف بسَعْدوَيْه أحد مشايخ البخاري وأبي داود، وشريك هو ابن عبد الله النخعي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا ومسلم في المتابعات.

وعاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المدني، ضعّفه يحيى والجوزجاني، وقال الدارقطني: متروك. وقال العجلي: لا بأس به. وروى له الأربعة.

ص: 114

وعلي بن حُسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم روى له الجماعة.

وأبو رافع مولى النبي عليه السلام القبطي قيل: اسمُه إبراهيم، وقيل: أسلم، وقيل: هرمز، وقيل: ثابت.

وأخرجه النسائي (1): عن أبي رافع نحوه.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمَّد بن إبراهيم القرشي، عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله قال:"كنا عند معاوية بن أبي سفيان فأذن المؤذن، فقال: الله أكبر، الله أكبر فقال معاوية: الله أكبر، الله أكبر. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال معاوية: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال: أشهد أن محمدًا رسُول الله. فقال معاوية: أشهد أن محمدًا رسُول الله. حتى بلغ حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله".

قال يحيى: وحدثني رجل: "أن معاوية لما قال ذلك قال: هكذا سمعنا نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول".

ش: إسناده صحيح، وأبو بكرة بكار القاضي، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي.

وأخرجه البخاري (2): عن معاذ بن فَضالة، عن هشام، عن يحيى إلى آخره.

وقد ذكرنا في الفصل الأول عند حديث معاوية وقد قلنا: إن حديث معاوية روي من وجوه كثيرة.

ص: حدثنا أبو بكرة قال: ثنا سعيد بن عامر قال: ثنا محمَّد بن عمرو، عن أبيه، عن جده. أن معاوية قال مثل ذلك ثم قال:"هكذا قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم".

(1)"سنن النسائي الكبرى"(6/ 15 رقم 9869).

(2)

"صحيح البخاري"(1/ 222 رقم 587).

ص: 115

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أيضًا -يعني داود بن عبد الرحمن- عن عمرو بن يحيى، عن عبد الله بن علقمة قال: "كنت جالسًا إلى جنب معاوية

" فذكر مثله، ثم قال معاوية: "هكذا سمعت رسُول الله عليه السلام يقول".

حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حجاج بن محمَّد، عن ابن جريج، قال: حدثني عمرو بن يحيى الأنصاريّ، أن عيسى بن محمَّد أخبره، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص

فذكره نحوه.

ش: هذه ثلاث طرق أخرى ورجالها ثقات:

الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن سعيد بن عامر الضُبَعي البصري، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، عن أبيه عمرو، عن جده علقمة بن وقاص: "أن معاوية

".

وأخرجه الدارمي في "سننه"(1): أنا سعيد بن عامر، نا محمَّد بن عمرو، عن أبيه، عن جده:"أن معاوية سمع المؤذن قال: الله أكبر الله أكبر. فقال معاوية: الله الله أكبر، الله أكبر. فقال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. فقال معاوية: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. فقال المؤذن: أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله. فقال معاوية: أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله. فقال المؤذن حيّ على الصلاة. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقال المؤذن: حيّ على الفلاح. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقال المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. فقال: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، ثم قال: هكذا فعل رسُول الله صلى الله عليه وسلم".

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن داود بن عبد الرحمن العطار المكي، عن عمرو بن يحيى بن سعيد المكي، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص الليثي

إلى آخره.

(1)"سنن الدارمي"(1/ 294 رقم 1203).

ص: 116

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا أبو حبيب يحيى بن نافع المصري، نا سعيد بن أبي مريم، أنا داود بن عبد الرحمن العطار، حدثني عمرو بن يحيى، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن أبيه قال:"كنت جالسًا مع معاوية، فلما أذن المؤذن فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. قال معاوية: أشهد أن لا إله إلا الله. ثم قال المؤذن: أشهد أن محمدًا رسول الله. فقال معاوية: أشهد أن محمدًا رسول الله. ثم قال المؤذن: حي على الصلاة. فقال معاوية: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: حي على الفلاح. فقال معاوية: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: الله أكبر الله أكبر. فقال معاوية: الله أكبر الله أكبر. ثم قال: لا إله إلا الله. فقال معاوية: لا إله إلا الله، ثم قال معاوية: هكذا سمعت رسُول الله عليه السلام".

الثالث: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن حجاج بن محمَّد المِصّيصي الأعور، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عمرو بن يحيى الأنصاري، أن عيسى بن محمَّد أخبره، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص

فذكر نحو المذكور، وقد وقع في النسخ كلها: عيسى بن محمد وهو غلط، والصواب: عيسى بن عمرو، وفي "التكميل" عيسى بن عمرو، ويقال: ابن عُمير حجازي روى عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن أبيه، عن معاوية في القول كما يقول المؤذن، وعن عمرو ابن يحيى بن عمارة روى له النسائي.

وكذا أخرجه البيهقي في "المعرفة"(2) وقال: أنا أبو زكريا، وأبو بكر وأبو سعيد، قالوا: ثنا أبو العباس، قال: أنا الربيع قال: أنا الشافعي، قال: أنا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج قال: أنا يحيى المازني أن عيسى بن عَمرو أخبره، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص قال: "إني لعِنْدَ معاوية؛ إذ أذن مؤذنٌ، فقال معاوية كما قال مؤذنه، حترل إذا قال: حيّ على الصلاة. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله.

(1)"المعجم الكبير"(19/ 321 رقم 730).

(2)

"معرفة السنن والآثار"(1/ 436 رقم 575).

ص: 117

ولما قال: حيّ على الفلاح. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال بعد ذلك مثل ما قال المؤذن، ثم قال: سمعت رسُول الله عليه السلام يقول ذلك".

وكذا أخرجه الطبراني في "الكبير"(1).

ص: وقد روي عن النبي عليه السلام أيضًا أنه كان يقول عند الأذان ويأمر به ما قد حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن الحكيم بن عبد الله بن قيس، عن عامر بن سعد بن أي وقاص، عن سَعْد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبد ورسوله، رضيت بالله ربًا، وبالإِسلام دينًا؛ غُفِر له ذنبه".

حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا الليث

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا سعيد بن كثير بن عُفَيْر، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن عبيد اللهَ بن المغيرة، عن الحُكَيْم بن عبد الله بن قيس

فذكر مثله بإسناده وزاد فيه أنه قال: "من قال حين يسمع المؤذن يتشهد".

ش: أشار بهذا الحديث وبالذي بعده أن الذي ينبغي أن يقال عند الأذان ينبغي أن يكون ثناءً وذكرا كما أمر به النبي عليه السلام في الأحاديث الآتية، وقول السامع: حي على الصلاة، حي على الفلاح ليس بثناء ولا ذكر ولا دعاء، فينبغي أن لا يقول ذلك، بل يقول عوضه: لا حول ولا قوة إلا بالله كما ذكرنا.

ثم إنه أخرج حديث سَعْد بن أبي وقاص -أحد العشرة المبشرة واسم أبي وقاص مالك بن أهيب- من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن شعيب بن الليث، عن الليث بن سَعْد،

(1)"المعجم الكبير"(19/ 321 رقم 730).

ص: 118

عن الحُكَيْم -بضم الحاء المهملة وفتح الكاف وسكون الياء آخر الحروف- ابن عبد الله المصري، عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص.

وأخرجه مسلم (1): ثنا قتُيبة، نا ليث، عن الحُكَيْم بن عبد الله، عن عامر بن سعد بن أبي قاص، عن سعد بن أبي وقاص، عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من قال حين يسمعُ الأذان أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد ورسوله، رضيت بالله ربًا وبمحمد رسولًا وبالإِسلام دينًا؛ غفر له ذنبه".

قال ابن رمح في روايته: "من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد" ولم يذكر قتيبة: "وأنا".

وأخرجه أبو داود (2): عن قتيبة بن سعيد نحوه، وفي آخره:"غفر له" فقط، وليس فيه:"ذنبه".

وأخرجه النسائي (3): عن قتيبة كذلك.

وأخرجه الترمذي (4) أيضًا: عن قتيبة، عن الليث كذلك.

وأخرجه ابن ماجه (5): عن محمد بن رمح المصري، عن الليث كذلك.

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن يوسف، عن الليث بن سعد، عن الحُكَيْم بن عبد الله، عن عامر بن سعد، عن سعد، عن النبي عليه السلام.

وأخرجه عبدبن حميد في "مسنده"(6): ثنا وهب بن جرير، ثنا ليث بن سعد، عن حُكَيْم بن عبد الله، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يسمع النداء: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده

(1)"صحيح مسلم"(1/ 290 رقم 386).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 199 رقم 525).

(3)

"المجتببى"(2/ 26 رقم 679).

(4)

"جامع الترمذي"(1/ 411 رقم 210).

(5)

"سنن ابن ماجه"(1/ 238 رقم 721).

(6)

"المنتخب من مسند عبد بن حميد"(1/ 78 رقم 142).

ص: 119

لا شريك له وأن محمدًا عبد ورسوله، رضيت بالله ربًا وبمحمدٍ نبيًّا غفر له ذنبه. فقلت: ما تقدم من ذنبه. فقال: ليس هكذا قال سعد، قال: غُفر له ذنبه".

الثالث: عن رَوْح بن الفرج القطان، عن سعيد بن كثير بن عفير أبي عثمان المصري، عن يحيى بن أيوب الغافقي أبي العباس المصري، عن عبيد الله بن المغيرة ابن مُعَقبة، المصري عن الحكيم بن عبد الله، عن عامر بن سعد، عن سعد بن أبي وقاص

إلى آخره، وزاد فيه روح بن الفرج أنه قال: "من قال حين يَسمع المؤذن يتشهد: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده

" إلى آخره.

قوله: "ورضيت بالله ربًا" أي قنعتُ به واكتفيتُ به ولم أطلب معه غيره.

قوله: "وبالإسلام دينًا" أي رضيت بالإِسلام دينًا بمعنى: لم أسَعْ في غير طريق الإِسلام، ولم أسلك إلا ما يوافق شرع محمد عليه السلام، أو لم أتبع غير الإِسلام دينًا.

فإني قيل: بماذا انتصب ربًّا ورسولًا ودينًا؟

قلت: يجوز أن يُنصبْن على التمييز، وهو وإن كان الأصل فيه أن يكون فاعلًا في المعنى يجوز أن يكون مفعولًا أيضًا نحو {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} (1) ويجوز أن ينصبن علي المفعولية لأن "رضي" إذا عُدي بالباء يتعدى إلى مفعول آخر.

فإن قيل: ما المراد من قوله: "دينًا"؟

قلت: المراد من الدين ها هنا التوحيد، وبذلك فسر صاحب "الكشاف" في قوله: تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} (2) بمعنى التوحيد.

وأما في الحديث الصحيح عن عمر رضي الله عنه قال: "بينما نحن عند رسُول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب

إلى آخره" (3). فقد أطلق رسُول الله عليه السلام الدين على الإِسلام والإيمان والإحسان بقوله: "إنه جبريل أتاكم

(1) سورة القمر، آية:[12].

(2)

سورة آل عمران، آية:[85].

(3)

أخرجه مسلم (1/ 36 رقم 8)، وأخرجه البخاري (1/ 27 رقم 50) من حديث أبي هريرة.

ص: 120

ليعلمكم دينكم" وإنما علمهم هذه الثلاثة، والحاصل في هذا أن الدين تارةً يطلق على الثلاثة التي سأل عنها جبريل عليه السلام، وتارةً يطلق على الإِسلام كما في قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) وبهذا يمنع قول من يقول: بين الآية والحديث معارضة؛ حيث أطلق الدين في الحديث على ثلاثة أشياء، وفي الآية على شيء واحد، واختلاف الإطلاق إما بالاشتراك أو بالحقيقة والمجاز، أو بالتواطئ ففي الحديث أطلق على مجموع الثلاثة؛ وهو أحد مدلولَيْه، وفي الآية أطلق على الإِسلام وحده؛ وهو مسماه الآخر.

فإن قيل: لم قال: بالإِسلام ولم يقل: بالإيمان؟

قلت: الإِسلام والإيمان واحد فلا يرد السؤال، والدليل على ذلك قوله تعالى:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} (2) والمراد بهما آل لوط عليه السلام، فوصفهم تارة بأنهم مؤمنون، وتارة بأنهم مسلمون، فدل على أن الإيمان والإِسلام شيء واحد.

قوله: "غفر له ذنبه" جواب قوله: "مَن قال" أي غُفِرَ له ذنوبه ما دون الكبائر، هكذا قالوا، ولكن اللفظ بعمومه يتناول الصغائر والكبائر، نعم يخرج عنه حق العباد لدلائل أخرى، فافهم.

ص: حدثنا محمد بن النعمان السَقَطي، قال: ثنا يحيى بن يحيى النيسابوريّ، قال: ثنا أبو عمر البزار. عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مسلم يقول إذا سمع النداء فيكبر المنادي فيكبر، ثم يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأن محمدًا رسول الله، فيشهد على ذلك ثم يقول: اللهم أعط محمدًا الوسيلة واجعله في الأَعْلين درجته، وفي المصطفين محبته، وفي المقربين ذكره. إلا وجبتْ له شفاعة مني يوم القيامة".

(1) سورة المائدة، آية:[3].

(2)

سورة الذاريات، آية:[35، 36].

ص: 121

ش: يحيى النيسابوري شيخ البخاري ومسلم، وأبو عمر البزار. اسمه حفص ابن سليمان الأسدي ويعرف بحَفَيْص، ضعيف جدًّا حتى كذبه بعضهم، ولكن كان ثبتًا في القراءة، والبَزَّار -بالباء الموحدة المفتوحة وتشديد الزاي المعجمة وفي آخره زاي معجمة- وقيس بن مسلم الجَدَلي العَدْواني أحد مشايخ أبي حنيفة روى له الجماعة، وطارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي.

وأخرجه الطبراني (1): ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا أبو كريب نا عثمان بن سعيد نا أبو عمر حفص، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مسلم يقول حين يسمع النداء بالصلاة فكبّر، فيكبّر ويَشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أن محمد رسُول الله، ثم يقول: اللهم أعط محمدًا الوسيلة والفضيلة، واجعله في الأعلين درجته وفي المَصْطفين محَبتَه وفي المقربين ذكره إلا وجبت له الشفاعة يوم القيامة".

قوله: "إذا سمع النداء" أي الأذان.

قوله: "الوسيلة" قد فسرها في الحديث أنها منزلة في الجنة، وقد مَرَّ الكلام فيه عن قريب.

قوله: "واجعله في الأعلين درجته" أي اجعل له في الأعلين درجته، وهو جمع أعلى وقد علم أن الجمع بالواو والنون، يكون في الصفات والأعلام التي للعقلاء، ولا شك أن "أعلى" ها هنا صفة من يَعقل لأن المراد منهم الأنبياء المقربون والملائكة المقربون عليه السلام، فجمع بالواو والنون، تقول: أعلون. كما في قوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} (2) ثم يكون إعرابه كإعراب سائر المجموع المصحّحة، وهو أن يكون بالواو حالة الرفع، وبالياء حالة النصب والجر.

(1)"المعجم الكبير"(10/ 14 رقم 979).

(2)

سورة آل عمران، آية:[139].

ص: 122

فإن قيل: فعلى ما ذكرت تكون درجة النبي عليه السلام في جملة درجات الأعلَين فلا يحصل له مزية على غيره.

قلت: كلمة "في" ها هنا بمعنى "على" كما في قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (1) أي على جذوع النخل والمضاف محذوف، وتقدير الكلام: واجعل له درجته على درجات الأعلين. ويمكن أن يكون هذا جمع أعلى الذي هو المكان الأعلى من غيره، ويكون جمعه كجمع أدْنَون ونحوه، ويكون المعنى حينئذ: اجعل له درجته على الأماكن العالية التي ليس عليها مكان لأحدٍ. فإن قيل: شرط هذا الجمع أن يكون فيه ضمة قبل الواو في حالة الرفع، وكسرة قبل الياء في حالة الجرِّ والنصب، وها هنا ليس كذلك؛ لأن "اللام" من الأعلين مفتوحة، والحال أنه مجرور.

قلت: هذا مكسور وحكمه أن تكون الضمة والكسرة مقدرتين في حالتي الجر والنصب في الألف المحذوفة لألتقاء الساكنين، فافهم.

قوله: "وفي المصطفين" بفتح الفاء وهو جمع مصطفى فهو أيضًا يكون بالواو حالة الرفع وبالياء حالتي النصب والجر، تقول: جاءني المصطفون، ورأيت المصطفين ومررت بالمصطفين. فالكسرة التي يجب أن تكون قبل الياء في الحالتين مقدرة ها هنا أيضًا كما في الأعلين، والمصطفى المختار، من الصفوة، وأصله مُصْتفى بالتاء ولكنها قلبت طاء لأن "الصاد" من المجهورة و"التاء" من المهموسة فلا يتفقان.

وفيه: استحباب هذا الدعاء عند تشهد المؤذن في أذانه، وإثبات الشفاعة ردًّا على من أنكرها، وجواز دعاء أحد لأحد والطلب له من الله تعالى ما يليق له من الفضائل والفواضل.

ص: حدثنا عبد الرحمن بن عَمرو الدمشقي، قال: ثنا علي بن عياش، قال: ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: "كان

(1) سورة طه، آية:[71].

ص: 123

رسُول الله عليه السلام إذا سمع المؤذن قال: اللهم رَبّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة أَعْط محمدًا الوسيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته".

ش: إسناده صحيح وعلي بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة والشين المعجمة ابن مسلم الأَلْهاني الحمصي شيخ البخاري.

وأخرجه البخاري (1): ثنا علي بن عياش، ثنا بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته. حلت له شفاعتي يوم القيامة".

وأخرجه أبو داود (2): عن أحمد بن حنبل، عن علي بن عياش نحو رواية البخاري، غير أن في روايته "إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة".

وأخرجه الترمذي (3): عن محمد سهل وإبراهيم بن يعقوب، كلاهما عن علي بن عياش نحو رواية أبي داود.

وأخرجه النسائي (4): عن عمرو بن منصور، عن علي بن عياش نحوه إلا أنه ليس في روايته:"يوم القيامة".

وأخرجه ابن ماجه (5): عن محمد يحيى والعباس بن الوليد الدمشقي ومحمد بن أبي الحسين، كلهم عن علي بن عياش نحو رواية النسائي.

قوله: "اللهم" معناه: يا الله و"الميم" فيه عوض من "يا" ولذلك لا يجتمعان، فلا يقال: يا اللهم. وهذا بعض خصائص هذا الاسم، كما اختص بالتاء في القسم،

(1)"صحيح البخاري"(1/ 222 رقم 589).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 201 رقم 529).

(3)

"جامع الترمذي"(1/ 413 رقم 411).

(4)

"المجتبى"(2/ 62 رقم 680).

(5)

"سنن ابن ماجه"(1/ 239 رقم 722).

ص: 124

وبدخول حرف النداء عليه وفيه "لام" التعريف، وبقطع همزته في يا ألله، وبغير ذلك، قاله الزمخشري.

قوله: "ربّ" منصوب على النداء، ويجوز رفعه علي أنه خبر مبتدأ محذوف أي: أنت ربُّ هذه الدعوة، والربّ المربّي المصلح للشأن، واشتقاقه من الربّة وهي نبت يصلح عليه المال يقال: ربّ يَرُبُّ ربّا ورَبَّى يربّي تربية، وأصله رَبَبٌ وهو قول زيد بن علي وسعيد بن أوس. وقال الحسين بن الفضل: هو الثابت لم يزل، مِنْ ربّ بالمكان إذا أقام، وأرض مُربٌ ومِرباب دام بها المطر، وفي اللغة الربُّ: المالك والسيد والصاحب.

وقال الواسطي: هو الخالق ابتداء، والمربي غدا والغافر انتهى.

وقال الزمخشري: ربّه يربَه فهو رب كما تقول نمّ عليه ينمّ فهو نم، ويجوز أن يكون وصفًا بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل، ولم يطلقوا الرب إلَّا في اللهَ وحده وفي غيره على التقيد بالإضافة كقولهم: ربّ الدار ورب الناقة، ومعنى "رب هذه الدعوة التامة" أي صاحب هذه الدعوة، و"الدَّعوة" بفتح الدال وكذلك كل شيء دعوته، ويريد بالدعوة التامة التوحيد، وقيل لها: تامة؛ لأنه لا نقص فيها ولا عيب، وقيل: وصفها بالتمام لأنها ذكر للهَ ويُدعى بها إلى عبادته وذلك الذي يستحق التمام، وقيل: التامة: الكاملة وكمالها أن لا يدخلها نقص ولا عيب كما يدخل في كلام الناس، وقيل: معنى التمام: كونها محمية عن النسخ وإلا بدال، باقية إلى يوم القيامة، وقد بسطت الكلام فيه في شرحي للكلم الطيب لابن تيمية رحمه الله.

قوله: "والصلاة القائمة" أي الدائمة التي لا تغيرها ملة ولا تنسخها شريعة، وأنها قائمة ما دامت السموات والأرض.

قوله: "الوسيلة" منصوب على المفعولية، وقد مر معناها عن قريب أنها منزلة في الجنة، وقيل: هي الشفاعة يوم القيامة، وقيل: هي القرب من اللهَ تعالى.

ص: 125

قوله: "المقام المحمود" أي الذي يحمده القائم فيه وكل من رآه وعرفه، وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات.

وقيل: المراد الشفاعة وهي نوع مما يتناوله، وعن ابن عباس: مقامًا يحمدك فيه الأولون والآخرون وتشرف فيه على جميع الخلائق؛ تسأل فتُعْطى، وتَشْفَع فَتُشَفَّع، ليس أحد إلا تحت لوائك.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه السلام: "هو المقام الذي اشفع فيه لأمتي".

فإن قيل: قد وعده الله تعالى بالمقام المحمود، وهو لا يخلف الميعاد، فما الفائدة في دعاء الأمُة بذلك؟

قلت: إما لطلب الدوام والثبات، وإما للإشارة إلى جواز دعاء الشخص لغيره والاستعانة بدعائه في حوائجه ولا سيما من الصالحين.

قوله: "الذي وعدته" بدل من المقام المحمود، أو منصوب بأعني، أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وأراد به حكايته لفظ القرآن في قوله تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (1).

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نُعَيْم الطحان، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن حفصة ابنة أبي كثير عن أمها قالت: علمتني أم سلمة رضي الله عنها وقالت: علمني رسُول الله عليه السلام قال: "يا أم سلمة إذا كان عند أذان المغرب فقولي: اللهم عند استقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دُعاتك وحضور صلواتك؛ اغفر لي".

ش: أبو نعيم اسمه ضرار بن صُرَد التيمي الطحان الكوفي، فيه مقال كثير حتى كذبه يحيى بن معين وتركه النسائي.

(1) سورة الإسراء، آية:[79].

ص: 126

ومحمد بن فضيل بن غزوان أبو عبد الرحمن الكوفي روى له البخاري والنسائي وابن ماجه.

وعبد الرحمن بن إسحاق بن الحارث أبو شيبة الواسطي فيه مقال كثير، روى له أبو داود والترمذي.

وحفصة ابنة أبي كثير مولى أم سلمة ويقال لها: خُميصة، وكذا وقع في رواية للطبراني على ما نذكره، وذكرها ابن حبان في "الثقات"، وأم حفصة لم أدر من هي ولا وقفت على اسمها، ولعل هذا تصحيف، والصحيح عن حفصة بنت أبي كثير، عن أبيها كما وقع هكذا في رواية الترمذي (1) حيث قال: ثنا حسين بن علي بن الأسود البغدادي، قال: نا محمد بن فُضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن حفصة بنة أبي كثير، عن أبيها أبي كثير، عن أم سلمة قالت:"علمني رسُول الله عليه السلام قال: قولي عند أذان المغرب: اللهم عند استقبال ليلك، وإدبار النهار، وأصوات دُعاتك، وحضور صلواتك، أسألك أن تغفر لي" هذا حديث غريبٌ إنما نعرفه من هذا الوجه، وحفصة بنت أبي كثير لا نَعْرفها ولا أباها. ذكره في الدعوات.

وأخرجه أبو داود (2): عن أبي كثير مولى أم سلمة، عن أم سلمة، فقال: ثنا في مُؤملَ ابن إهاب، ثنا عبد اللهَ بن الوليد العَدَني، ثنا القاسم بن مَعْن، نا المسعودي، عن أبي كثير مولى أم سلمة، عن أم سلمة قال:"علمني رسُول الله عليه السلام أن أقول عند أذان المغرب: اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي".

وكذا أخرجه الطبراني (3) فقال: ثنا الحسن بن إسحاق، ثنا عثمان بن أبي شيبة، وثنا عبيد بن أبي غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قالا: ثنا إسحاق بن منصور، نا هريم بن سفيان، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن أبي كثير مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: قال لي رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "قولي عند أذان المغرب: اللهم عند إقبال

(1)"جامع الترمذي"(5/ 574 رقم 3589).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 201 رقم 530).

(3)

"المعجم الكبير"(23/ 303 رقم 680).

ص: 127

ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك وحضور صلواتك، اغفر لي. وكانت إذا تعارت من الليل تقول: ربّ اغفر وارحم واهد السبيل الأقوم".

وله (1) من طريق آخر عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن خميصة، عن النبي عليه السلام نحوه.

قلت: خُميصة -بضم الخاء المعجمة وبالصاد المهملة (2).

قوله: "عند استقبال" ظرف، والعامل فيه قوله:"اغفر لي".

قوله: "دعاتك" جمع دل، كقضاة جمع قاضٍ، وإنما أضاف هذه الأشياء إلى الله تعالى وإن كانت جميع الأشياء للهَ تعالى؛ لإظهار فضيلة هذه الأشياء لأن المضاف يكتسي الفضيلة والشرف من المضاف إليه كما في ناقة الله، وإنما حث بالدعاء في هذا الوقت لأنه وقت شريف باعتبار أنه آخر النهار -وهو وقت ارتفاع الأعمال- وأول الليل اللذين هما اثنان من آيات الله تعالى الدالة على وحدانيته وبقائه وَقِدَمِه، وأنه وقت حضور العبادة فيكون أقرب للإجابة.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فهذه الآثار تدل على أنه إنما أراد بما يقال عند الأذان الذكر، فكل الأذان ذكرٌ غير حي على الصلاة، حي على الفلاح فإنهما دعاء، فما كان من الأذان ذكرًا فينبغي للسامع أن يقوله، وما كان منه دعاء إلى الصلاة فالذكر الذي هو غيره أفضل منه وأولى أن يقال.

ش: أراد به الأحاديث التي رواها عن سَعْد وابن مسعود وجابر بن عبد الله وأم سلمة رضي الله عنهم، والباقي واضح.

ص: وقد قال قوم: قولُ النبي عليه السلام: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" على الوجوب.

(1)"المعجم الكبير"(23/ 303 رقم 681).

(2)

كذا بالأصل- والصواب- حميضة -بالحاء المهملة والضاد المعجمة- انظر "الإكمال"(2/ 537).

ص: 128

ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وابن وهب من أصحاب مالك والظاهرية، فإنهم قالوا: الأمر ها هنا على الوجوب؛ لأن الأمر المجرد عن القرائن يدل على الوجوب، ألا ترى أنه يجب عليه قطع القراءة وترك الكلام والسلام ورده وكل عمل غير الإجابة، فهذا أمارة الوجوب، وقد مر التحقيق فيه في هذا الباب.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: ذلك على الاستحباب لا على الوجوب.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: الشافعي ومالكًا وأحمد وجمهور الفقهاء، فإنهم قالوا: الأمر في هذا الباب على الاستحباب دون الوجوب، وهو اختيار الطحاوي أيضًا، فلذلك أقام الحجة لهؤلاء ولم يقل عند انتهاء الباب: وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد كما هو عادته في أكثر المواضع.

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك:

ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبيد اللهَ بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن أبي الأحوص، عن علقمة، عن عبد اللهَ قال:"كنا مع النبي عليه السلام في بعض أسفاره، فسمع مناديًا وهو يقولُ: الله أكبر، الله أكبر. فقال النبي عليه السلام: على الفطرة: فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال رسُول الله عليه السلام: خرج من النار. قال: فابتدرناه؛ فإذا صاحب ماشية أدركته الصلاة فنادى بها".

قال أبو جعفر: فهذا رسُول الله عليه السلام قد سمع المنادي ينادي فقال غير ما قال، فدل ذلك أن قوله:"إذا سمعتم المنادي فقولوا مثل الذي يقول" ليس على الإيجاب، وأنه على الاستحباب والنَدْبة إلى الخير وإصابة الفضل، كما قد علم من الدعاء الذي أمرهم أن يقولوه في دُبُر الصلوت وما أشبه ذلك، والله أعلم.

ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين فيما قالوه: حديث ابن مسعود؛ فإنه يدل على أن إجابة المؤذن غير واجبة؛ لأنه عليه السلام قد سمع ذلك المنادي ولم يقل مثل ما قال المنادي بل قال غير ما قاله، فلو كانت الإجابة واجبة لكان عليه السلام -

ص: 129

أجابه بمثل ما قال فدل ذلك على أن الأمر في قوله عليه السلام: "فقولوا مثل الذي يقول" ليس على الإيجاب، وأنه على الاستحباب وإصابة الفضل كما في سائر الأدعية التي عَلَّمها رسُول الله عليه السلام أمته أن يقولوها في أدبار الصلوات وما أشبه ذلك.

قلت: فيه نظر لأن الأمر المطلق المجرد عن القرائن يدل على الوجوب ولا سيما قد تأيد ذلك بما روي من الآثار والأخبار في الحث على الإجابة.

وقد روي ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن المسيب بن رافع، عن عبد اللهَ قال:"من الجفاء أن تسمع المؤذن ثم لا تقول مثل ما يقول".

ولا يكون من الجفاء إلا ترك الواجب، وترك المستحب ليس من الجفاء ولا تاركه جافٍ.

وأما حديث ابن مسعود فلا ينافي إجابة الرسول عليه السلام لذلك المنادي بمثل ما قال، وترك الراوي ذكره لأنه يمكن أن يكون قد قال مثل ما قال ذلك المنادي ثم قال ما قال، أو قال ما قال ثم أجاب، فتقدمُ ما قال على الإجابة يكون لمصلحة ظهرت له في ذلك الوقت، أو يكون الأمر بالإجابة بعد هذه القضية.

قوله: "والنَدبة" بفتح النون: الدعوة، من ندبه الأمر فانتدب له أي دعاه له فأجاب، وأما النُدبة -بضم النون- فهو اسم للنْدب من ندب على الميت إذا بكى عليه وعدّد محاسنه، والنَّدَب -بالتحريك- الخطر والندَبُ أيضًا: أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد.

قوله: "في دبر الصلوات" أي عقيبها وأدبارها، ودبر كل شىء عقيبه.

قوله: "وما أشبه ذلك" أي: من الأدعية التي علمهم النبي عليه السلام أن يقولوها عند الصباح والمساء ونزول المطر وهبوب الريح وركوب الدابة ونحو ذلك.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 116 رقم 1326).

ص: 130

ثم إسناد حديث عبد الله بن مسعود صحيح على شرط مسلم، وأبو الأحوص اسمه عوف بن مالك بن نضلة الأشجعي الكوفي.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث عبد الوهاب بن عطاء، أنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الأحوص، عن علقمة، عن ابن مسعود: "بينما نحن مع رسول الله عليه السلام في بعض أسفاره إذ سمعنا منادِيًا يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسُول الله عليه السلام

" إلى آخره نحوه.

وأخرج مسلم (2): من حديث أنس رضي الله عنه قال: حدثني زُهيْر بن حَرْب، قال: ثنا يحيى -يعني ابن سعيد- عن حماد بن سلمة، قال: نا ثابت، عن أنس بن مالك قال:"كان رسُول الله عليه السلام يُغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار. قال: فسمع رجلًا يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسُول الله عليه السلام: على الفطرة. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. فقال رسُول الله عليه السلام: حرمتَ من النار. فنظروا فإذا هو راعي معزَى".

قوله: "على الفطرة" أي على الإسلام إذ كان الأذان شعارهم، ولهذا كان عليه السلام إذا سمع أذانًا أمسك وإلا أغار؛ لأنه كان فرقُ ما بين بلد الكفر وبلد الإسلام.

قوله: "خرج من النار" أراد بتوحيده وصحة إيمانه؛ لأن ذلك منج من النار.

فإن قيل: كيف يكون مجرد القول بلا إله إلا الله إيمانًا؟

قلت: هو إيمان ثابت في حق المشرك وحق من لم يكن بين المسلمين، أو يخالط المسلمين لا يصير مؤمنًا إلا بالتلفظ بكلمتي الشهادة بل شرط بعضهم التبرئ مما كان عليه من الدين الذي يعتقده.

قوله: "فابتدرناه" أي تسارعنا إلى أخذه، وأصله: من بدرتُ إلى الشيء أبْدُر بُدورًا إذا أسرعت إليه، وكذلك بادرتُ، وتبادر القوم: سارعوا، وابتدروا السلاح: تسارعوا إلى أخذه.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 405 رقم 1763) بدون ذكر علقمة.

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 288 رقم 382).

ص: 131

قوله: "فإذا" كلمة مفاجأة تدخل على الجملة وهي ها هنا.

قوله: "صاحب ماشية أدركته الصلاة" وهي جملة أسمية، والماشية اسم يقع على الإبل والبقر والغنم وأكثر ما يستعمل في الغنم.

ويستفاد منه أحكام:

الأول: أن الأذان شعار الإِسلام، وقال عياض: فرض على الكفاية واختلف لفظ مالك وبعض أصحابه في إطلاق الوجوب عليه، فقيل: معناه وجوب السنن المؤكدة كما جاء في الجمعة والوتر وغيرهما، وقيل: هو على ظاهره من الوجوب على الكفاية، إذ معرفة الأوقات فرض وليس كل أحد يقدر على مراعاتها، فقام به بعض الناس عن بعض.

وقيل: "سنة" يعني ليس من شرط صحة الصلاة.

واختلف المذهب في أذان الجمعة أهو فرض أم سنة، فظاهر قول مالك في "الموطإ" أنه على الوجوب في الجماعات والمساجد. وقال به بعض أصحابنا وأنه فرض على الكفاية وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال الأوزاعي وداود في آخرين: فرض، ولم يفصِّلوا وروى الطبري عن مالك: إن ترك أهل مصر الأذان عامدين أعادوا الصلاة، وذهب بعضهم ومعظمهم أصحابنا أنه سنة. والأول هو الصحيح. انتهى.

وقال أحمد: الأذان فرض للصلوات الخمس. وهو قول الإصطخري أيضًا في فروع الحنابلة: الأذان والإقامة فرض كفاية حضرًا لكل صلاة، فرض عين يقاتل أهل البلد على تركهما ويُسنان سفرًا، هذا اختيار أبي بكر والقاضي في "المجرد"، والصحيح: أن لا فرق بين الحاضر والمسافر، والقرية والواحد والجماعة، وعنه يُسنان إلا الأذان المحرِّم للبيع يوم الجمعة.

وقال صاحب "البدائع": قد ذكر محمد ما يدل على وجوب الأذان فإنه قال: لو أن أهل بلدة اجتمعوا على ترك الأذان لقاتلتهم عليه ولو تركه واحدٌ ضربته

ص: 132

وحبسته، وإنما يقاتل ويضرب ويحبس على ترك الواجب، وعامة مشايخنا قالوا: إنهما سنتان مؤكدتان.

قلت: القولان يتنافيان؛ لأن السنة المؤكدة والواجب سواء، خصوصًا السنة التي هي من شعار الإِسلام فهذا أولى فافهم.

الثاني: فيه حجة في استحباب الأذان للمفرد البادي؛ لأن الأذان والإقامة من لوازم الجماعة المسلمة والسفر لم يسقط الجماعة فلا يُسقط ما هو من لوازمها، فإن صلوا بجماعة فأقاموا وتركوا الأذان أجزأهم ولا يكره، ويكره لهم ترك الإقامة بخلاف أهل العصر إذا تركوا الأذان، وذلك لأن السفر سبب الرخصة وقد أثر في سقوط شطر الصلاة، فجاز أن يؤثر في سقوط أحد الأذانين إلا أن الإقامة أكثر ثبوتًا من الأذان فيسقط الأذان دون الإقامة.

الثالث: فيه دليل على أن من يقول: لا إله إلا الله لا يُؤَبد في النار، وأن من لا يقوله لا يخرج من النار.

الرابع: أن الحكم بحسب الظاهر ولا يكلف إلى معرفة الباطن، ألا ترى أنه عليه السلام قال:"على الفطرة" حين سمع المنادي يقول: "الله أكبر، الله أكبر" -أي على الإِسلام كما قلنا- ولم يقل شيئًا غير ذلك. والله أعلم (1).

(1) كتب المؤلف رحمه الله هنا: فرغت يمين مؤلفه من تبييضه وتنقيحه ليلة الاثنين الرابع من شهر صفر عام تسعة عشر وثمانمئة بحارة كتامة بمدرسته التي أنشأها فيها، عمرها الله تعالى بذكره، فنسأل اللهَ العظيم أن يرزقنا إتمامه بحرمة محمد عليه السلام -

ص: 133