المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الوقت الذي يصلى فيه الفجر أي وقت هو - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٣

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: الوقت الذي يصلى فيه الفجر أي وقت هو

‌ص: باب: الوقت الذي يصلى فيه الفجر أي وقت هو

؟

ش: أي هذا باب في بيان الوقت المستحب الذي ينبغي أن تصلى فيه صلاة الفجر لفضيلة ذلك الوقت، وأما وقت الجواز فقد مرّ بيانه، والمناسبة بين الأبواب ظاهرة؛ لأن كلها في بيان أحوال الأوقات وأنوعها.

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان بن عُيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كنَّ نساء المؤمنات يصلين مع النبي عليه السلام صلاة الصبح متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى أهلهن وما يعرفهن أحدٌ".

ش: إسناده صحيح على شرط مسلم ورجاله رجاله.

والزهري محمد بن مسلم.

وأخرجه الجماعة، فقال البخاري (1): ثنا يحيى بن بكير، قال: أنا الليث، عن عُقَيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها أخبرته قالت: "كنَّ نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله عليه السلام صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس".

وقال مسلم (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب، كلهم عن سفيان -قال عمرو-: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة:"أن نساء المؤمنات كن يصلين الصبح مع النبي عليه السلام ثم يرجعن متلفعات بمروطهن لا يعرفهن أحد".

وقال أبو داود (3): ثنا القعنبي، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها أنهما قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح، فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن، ما يعرفن من الغلس".

(1)"صحيح البخاري"(1/ 210 رقم 553).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 445 رقم 645).

(3)

"سنن أبي داود"(1/ 168 رقم 423).

ص: 354

وقال الترمذي (1): ثنا قتيبة، عن مالك

إلى آخره نحوه.

وقال النسائي (2): أنا إسحاق بن إبراهيم قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"إن نساء المؤمنات كُنَّ يصلين الصبح مع النبي عليه السلام متلفعات بمروطهن، فيربعن فما يعرفهن أحد من الغلس".

وقال ابن ماجه (3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت:"كن نساء المؤمنات يصلين مع النبي عليه السلام صلاة الصبح، ثم يرجعن إلى أهلهن، فلا يعرفهن أحد يعني من الغلس".

قوله: "كن نساء المؤمنات" من قبيل "أكلوني البراغيث"، وإلا فالقياس يقتضي أن يقال كانت نساء المؤمنات، ونساء المؤمنات كلام إضافي مرفوع؛ لأنه اسم لقوله:"كن" وخبره قوله: "يصلين".

فإن قيل: إضافة النساء إلى المؤمنات إضافة الشيء إلى نفسه، وهي لا تجوز.

قلت: الإضافة ها هنا كالإضافة في قولهم: رجال القوم أي: مقدموهم وفضلاؤهم، وكذلك المعنى هَا هنا: كُنَّ فاضلات النساء المؤمنات، ويقال: تقديره نساء الأنفس المؤمنات، ويقال: نساء الجماعات المؤمنات، والكل يرجع إلى معنى واحد.

قوله: "متلفعات" حال من النساء، أي متجللات بأكسيتهن، قال الأصمعي: التلفع بالثوب: أن يشتمل به حتى يجلل به جسده، وهذا اشتمال الصماء عند العرب؛ لأنه لم يرفع جانبًا منه فيكون فيه فرجة، وهو عند الفقهاء كالاضطباع إلا أنه في ثوب واحد، وعن يعقوب: اللفاع: الثوب تلتفع به المرأة، أي تلتحف به فيغيبها، وعن كراع: وهو الملفع أيضًا، وعن ابن دريد: اللفاع الملحفة أو الكساء.

(1)"جامع الترمذي"(1/ 287 رقم 153).

(2)

"المجتبى"(1/ 271 رقم 546).

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 220 رقم 669).

ص: 355

وقال أبو عمرو: هو الكساء. وعن صاحب "العين": تلفع بثوبه وتلفع الرجل بالشيب، كأنه غطى سواد رأسه ولحيته، وقال عبد الملك بن حبيب في "شرح الموطأ": التلفع أن يلقي الثوب على رأسه ثم يلتف به، ولا يكون الالتفاع إلا بتغطية الرأس، وقد أخطأ من قال الالتفاع مثل الاشتمال، وأمّا التلفف فيكون مع تغطية الرأس وكشفه، وفي "المحكم": الملفعة: ما يُلْفع به من رداء أو لحاف أو قناع. انتهى.

وذكر القزاز أن عمر قال: إن فلانة كانت ترجلني ولم يكن عليها إلَاّ لفاع، قال: فهذا يدل على أن اللفاع غير القناع؛ لأنه نفي أن يكون عليها غيره ومحال أن يكون عليها قناع ولا شيء تلبسه، وفي "المغيث" وقيل: اللفاع: النطع. وقيل: الكساء الغليظ، وفي "الصحاح": لفع رأسه تلفيعًا أي غطاه.

قال القاضي: ووقع لبعض رواة "الموطأ" يحيى وغيره: "متلففات" بفائين، وأكثرهم بالفاء والعين، والمعنى متقارب إلا أن التلفع يختص بتغطية الرأس.

قوله: "بمروطهن" جمع مِرط -بكسر الميم- قاله الجوهري، وقال القزاز: المرط ملحفة يؤتزر بها، والجمع أمراط ومروط. وقيل: يكون المرط كساء من خزٍّ أو صوف أو كتان. وفي "المحكم" قيل: هو الثوب الأخضر. وفي "مجمع الغرائب" أكسية من شعر أسود، وعن الخليل هي أكسية معلمة. وقال ابن الأعرابي: هو الإزار. وقال النضر بن شميل: لا يكون المرط إلا درعًا وهو من خزٍّ أخضر، ولا يسمى المرط إلا أخضر، ولا يلبسه إلا النساء.

وفي "شرح الموطأ": هو كساء صوف رقيق خفيف مربع، كن النساء في ذلك الزمان يأتزرن به ويلتففن.

قوله: "وما يعرفهن أحد" قيل: يعني أرجال أم نساء؟ قاله الداودي، ويقال ما يعرف أعيانهن أحد.

ص: 356

وقال النووي: وهذا ضعيف؛ لأن المتلفعة في النهار أيضًا لا يُعرف عينها، فلا يبقى في الكلام فائدة.

قلت: ليس مراد هذا القائل أن يشخصهن أحد حقيقة التشخص، بل مراده لا يعرفهن أرجال أم نساء أم صبيان أم بنات؟ فهذا أيضًا قريب من كلام الداودي.

ص: حدثنا بن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري

فذكر مثله بإسناده.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا فليح بن سليمان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها بمثله، غير أنه قال:"وما يعرف بعضهن بعضًا من الغلس".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة نحوه.

غير أنه قال: "وما يعرفن من الغلس".

ش: هذه ثلاث طرق أخرى وهي صحاح:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة دينار القرشي الحمصي، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة، عن عائشة.

وأخرجه البخاري (1): ثنا أبو اليمان، أبنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة، أن عائشة قالت:"لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر، فتشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات في مروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس".

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود أيضًا، عن سعيد بن منصور الخرساني، عن فليح بن سليمان بن أبي المغيرة بن يحيى المدني، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد ابن أبي بكر الصديق، عن أبيه القاسم بن محمد، عن عائشة

إلى آخره.

(1)"صحيح البخاري"(1/ 146 رقم 365).

ص: 357

وأخرجه البزار في "سننه"(1): ثنا عمرو بن علي، نا أبو داود، نا فليح بن سليمان، حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت:"كن نساء المؤمنات يصلين مع رسول الله عليه السلام صلاة الصبح متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى أهلهن ما يعرفن من الغلس".

وهذا الحديث قد روي عن عائشة من غير وجه. وحديث عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة لا نعلم رواه عنه إلا فليح.

قلت: الغلس والغبش والغبس واحد، كل ذلك من بقايا ظلمة الليل، وفي "المحكم" الغلس: ظلام آخر الليل، ويقال: الغَلَس - بفتحتين- بقاء ظلام الليل واختلاطه بضياء الصباح، والغبس قريب منه إلا أنه دونه.

الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة.

وأخرجه أبو داود (2): عن القعنبي، عن مالك.

والترمذي (1): عن قتيبة، عن مالك، وقد ذكرناهما.

ص: حدثنا بن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أسامة بن زيد، عن عروة بن الزبير، قال: أخبرني بشير بن أبي مسعود، عن أبيه:"أن النبي عليه السلام صلى الغداة، فغلس بها، ثم صلاها فأسفر، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله تعالى".

ش: عبد الله بن صالح كاتب الليث فيه مقال، فقال النسائي: ليس بثقة. ووثقه كثيرون حتى قيل: إن البخاري روى عنه في "الصحيح" ولكنه يدلسه فيقول: حدثنا عبد الله ولا ينسبه وهو هو.

(1) كذا "بالأصل، ك"، والصواب:"مسنده"، ولم يطبع مسند عائشة بعد.

(2)

تقدم قريبًا.

ص: 358

وبَشير -بفتح الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة- الأنصاري المدني.

قيل: إنه صحب النبي عليه السلام ولا يثبت سماعه منه، والأكثرون على أنه تابعي، روى له الجماعة سوى الترمذي.

وأبوه أبو مسعود اسمه عقبة بن عمرو البدري الأنصاري الصحابي.

وأخرجه أبو داود (1) مطولًا وقال: ثنا محمد بن سلمة، نا ابن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، أن ابن شهاب أخبره:"أن عمر بن عبد العزيز كان قاعدًا على المنبر، فأخَّر العصر شيئًا، فقال له عروة بن الزبير: أما إن جبريل عليه السلام قد أخبر محمدًا عليه السلام بوقت الصلاة، فقال له عمر: اعلم ما تقول، فقال له عروة: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبا مسعود الأنصاري يقول: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: نزل جبريل عليه السلام فأخبرني بوقت الصلاة، فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صلت معه -يحسب بأصابعه خمس صلوات- فرأيت رسول الله عليه السلام صلى الظهر حين نزول الشمس، وربما أخّرها حين يشتد الحر ورأيته يصلي العصر والشمس مرتفعة بيضاء، قبل أن تدخلها الصفراء، فينصرف الرجل من الصلاة فيأتي ذا الحليفة قبل غروب الشمس، ويصلي المغرب حين تسقط الشمس، ويصلي العشاء حين يسود الأفق، وربما أخرها حتى يجتمع الناس، وصلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، لم يعد إلى أن يسفر".

وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"(2)، والبيهقي في "سُننه" (3): وقد احتج به قوم على أن حكم التغليس مستمر، وأنه سُنَّه مستمرة.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 161 رقم 394).

(2)

"صحيح ابن حبان"(4/ 298 رقم 1449).

(3)

"السنن الكبرى"(1/ 363 رقم 1580).

ص: 359

وقال الحافظ أبو محمد موسى بن حازم في كتاب "الناسخ والمنسوخ": قد اختلف أهل العلم في الإسفار بصلاة الصبح والتغليس بها، فرأى بعضهم الإسفار الأفضل وذهب إلى قوله:"اصبحوا بالصبح" ورآه محكمًا.

وزعم الطحاوي أن حديث الإسفار ناسخ لحديث التغليس، وأنهم كانوا يدخلون مغلسين ويخرجون مسفرين، وليس الأمر كما ذهب إليه؛ لأن حديث التغليس ثابت، وأن النبي عليه السلام داوم عليه حتى فارق الدنيا.

ثم روى الحديث المذكور وقال: هذا إسناد رواته عن آخرهم ثقات.

قلت: يرد هذا ما أخرجه البخاري (1)، ومسلم (2): عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود قال:"ما رأيت رسول الله عليه السلام صلى صلاة لغير وقتها إلا بجمع، فإنه يجمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها".

قال العلماء: يعني وقتها المعتاد في كل يوم، لا أنه صلاها قبل الفجر، وإنما غلس بها جدًّا وتوضحه رواية البخاري:"والفجر حين نزع"، وهذا دليل على أنه عليه السلام كان يسفر بالفجر دائمًا، وقلَّما صلاها بغلس، وبه استدل الشيخ في "الإِمام" لأصحابنا، على أن أسامة بن زيد قد تُكُلِّم فيه، فقال أحمد: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي والدارقطني: ليس بقوي. فثبت بهذا أن زعم الطحاوي صحيح، وأن رد الحازمي كلام الطحاوي ردٌّ غير صحيح، والحق أحق أن يتبع.

وقد تكلم البيهقي ها هنا كلامًا فيه تحامل على الطحاوي، وسنذكره مع جوابه في موضعه عن قريب إن شاء الله تعالى.

ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي (ح).

(1)"صحيح البخاري"(2/ 604 رقم 1598).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 938 رقم 1289).

ص: 360

وحدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني نهيك بن يريم، عن مغيث بن سُمَيّ، قال:"صليت مع عبد الله بن الزبير الصبح فغلس، فالتفت إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقلت: ما هذا؟! قال: هذه صلاتنا مع رسول الله عليه السلام ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما قتل عمر رضي الله عنه أسفر بها عثمان رضي الله عنه".

ش: أخرجه من طريقين جيدين:

الأول: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني صاحب الإِمام محمد بن الحسن الشيباني، عن بشر بن بكر التنيسي أبي عبد الله البجلي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن نَهيك -بفتح النون- بن يَرِيم -بفتح الياء آخر الحروف- الأوزاعي، عن مغيث بن سُمَي الأوزاعي أبي أيوب الشامي.

وأخرجه ابن ماجه (1): نا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، نا الوليد بن مسلم، نا الأوزاعي، نا نهيك بن يريم الأوزاعي، ثنا مغيث بن سُمي، قال:"صليت مع عبد الله بن الزبير الصبح بغلس، فلما سلم أقبلت على ابن عمر فقلت: ما هذه الصلاة؟! قال: هذه صلاتنا كانت مع رسول الله عليه السلام وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما طعن عمر رضي الله عنه أسفر بها عثمان رضي الله عنه"

الثاني: عن فهد بن سليمان بن يحيى الكوفي، عن محمد بن كثير العبدي شيخ البخاري وأبي داود، عن الأوزاعي

إلى آخرة.

وأخرجه البيهقي في "المعرفة"(2): أنا أبو عبد الله الحافظ، قال: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: ثنا محمد بن الفضل العسقلاني، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: ثنا الأوزاعي، قال: ثنا نهيك بن يريم، قال: ثنا مغيث بن سمي: "أن ابن الزبير غلس بصلاة الفجر، فأنكرت ذلك، فلما سلم التفت إلى ابن عمر

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 221 رقم 671).

(2)

"معرفة السنن والآثار"(2/ 342 رقم 702).

ص: 361

فقلت: ما هذه الصلاة؟! وهو إلى جانبي، فقال: هذه صلاتنا مع رسول الله عليه السلام وأبي بكر وعمر فلما قتل عمر أسفر بها عثمان رضي الله عنهما".

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن أنس بن مالك وزيد بن ثابت رضي الله عنهما قالا:"تسحرنا مع النبي عليه السلام ثم خرجنا إلى الصلاة، قلت: كم بين ذلك؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية".

حدثنا محمد بن سليمان الباغندي، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أنا هشيم، عن منصور بن زاذان، عن قتادة، عن أنس، عن زيد بن ثابت، مثله.

ش: هذان إسنادان صحيحان:

أحدهما: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو القيسي العَقَدي نسبة إلى عَقَد -بفتح العين والقاف- قوم من قيس، عن هشام الدستوائي، عن قتاده، عن أنس.

وأخرجه البخاري (1): ثنا عمرو بن عاصم، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن أنس، أن زيد بن ثابت حدثه:"أنهم تسحروا مع النبي عليه السلام، ثم قاموا إلى الصلاة، قلت: كم بينهما؟ قال: قدر خمسين أو ستين -يعني آية-".

حدثنا حسن بن صباح (2)، سمع روحًا، ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك:"أن نبي الله عليه السلام وزيد بن ثابت تسحرا، فلما فرغا من سحورهما قام نبي الله عليه السلام إلى الصلاة وصلى، قلنا لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية".

(1)"صحيح البخاري"(1/ 210 رقم 550).

(2)

"صحيح البخاري"(1/ 210 رقم 551).

ص: 362

وأخرجه مسلم (1) في كتاب الصوم: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، عن هشام، عن قتادة، عن أنس، عن زيد بن ثابت قال:"تسحرنا مع رسول الله عليه السلام ثم قمنا إلى الصلاة. قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: خمسين آية".

وأخرجه الترمذي (2) أيضًا في كتاب "الصوم": ثنا يحيى بن موسى، قال: نا أبو داود الطيالسي، قال: نا هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أنس، عن زيد بن ثابت قال:"تسحرنا مع النبي عليه السلام ثم قمنا إلى الصلاة، قال: قلت: كم كان قدر ذلك؟ قال: قدر خمسين آية".

وأخرجه النسائي (3) أيضًا في كتاب "الصوم": أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا وكيع، قال: نا هشام، عن قتادة، عن أنس، عن زيد بن ثابت قال:"تسحرنا مع رسول الله عليه السلام ثم قمنا إلى الصلاة، قال: زعم أن أنسًا القائل: ما كان بين ذلك؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية".

ويستفاد منه حكمان:

الأول: استحباب تأخير السحور، قال الترمذي: وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، استحبوا تأخير السحور.

الثاني: استحباب التغليس بصلاة الصبح، والجواب عنه أن المراد من قوله:"قاموا إلى الصلاة" أو "قمنا، أو "قام" هو القيام إلى الصلاة بتحصيل شروطها لا حقيقة الشروع في الصلاة عقيب فراغهم من السحورة فإنهم ما كانوا يتسحرون إلا قبل طلوع الفجر، وكذا فراغهم عنه قبله، ولا يمكن أن يسرعون في الصلاة عقيبه؛ لأنه يكون قبل الوقت، ولهذا قدَّر زيد بن ثابت الوقت الذي بين فراغهم من السحور وبين قيامهم إلى الصلاة بمقدار قراءة خمسين آية أو ستين آية، وهذا

(1)"صحيح مسلم"(2/ 771 رقم 1097).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 84 رقم 703).

(3)

"المجتبى" بهذا السند (4/ 143 رقم 2155، 2156).

ص: 363

المقدار مقدار جيد، فيكون قيامهم إلى تحصيل شروط الصلاة بعد مضي هذا المقدار، وحنيئذ لا يكون شروعهم في نفس الصلاة إلا في الإسفار؛ لأن بين طلوع الفجر وبين الإسفار مسافة يسيرة؛ ولئن سلمنا أنهم كانوا يسرعون في نفس الصلاة بعد مضي هذا المقدار من حين فراغهم من السحور، فنقول: إنه محمول على ما إذا أراد تطويل القراءة، ونحن نقول أيضًا بأن المستحب في حق من يريد تطويل القراءة في صلاة الصبح أن يبتدئ في أول الوقت، ويختمها بالإسفار، أو يكون هذا في إبتداء الإِسلام حين كانت الجماعة قليلة، فلما قوي الإِسلام وكثر المسلمون، كان النبي عليه السلام يسفر بها؛ ليلحق الجماعه بصلاته عليه السلام.

والطريق الآخر: عن محمد بن سليمان بن الحارث الباغندي، قال الدارقطني: لا بأس به. وقال الخطيب: رواياته كلها مستقيمة؛ فلا أعلم في حديثه منكرًا، ولا أعلم لأي علة ضعَّفه من ضعَّفه، ونسبته إلى باغند -بالباء الموحدة وفتح الغين المعجمة، وسكون النون، والدال المهملة- وهي قرية من قرى واسط ينسب إليها جماعة من العلماء.

وهو يروي عن عمرو بن عون بن أوس أبي عثمان الواسطي البزاز، روى له الجماعة.

عن هشيم بن بشير روى له الجماعة، عن منصور بن زاذان أبي المغيرة الواسطي روى له الجماعة، عن قتادة، عن أنس، عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا علي بن سعيد الرازي، ثنا القاسم بن عيسى الطائي، ثنا هشيم، عن منصور بن زاذان، عن قتادة، عن أنس، عن زيد بن ثابت قال:"تسحرنا مع رسول الله عليه السلام ثم خرجنا فصلينا".

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، قال: حدثني سعد ابن إبراهيم، قال: سمعت محمد بن عمرو بن الحسن قال: لما قدم الحجاج وجعل

(1)"المعجم الكبير"(5/ 116 رقم 4793).

ص: 364

يؤخر الصلاة، فسألنا جابر بن عبد الله عن ذلك، فقال: كان رسول عليه السلام أو قال: كانوا يصلون الصبح بغلس".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد بن عمرو بن حسن، عن جابر بن عبد الله قال:"كانوا يصلون الصبح بغلس".

ش: هذان إسنادان صحيحان:

الأول: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة بن الحجاج، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري أبي إسحاق المدني، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم القرشي الهاشمي، أبي عبد الله المدني من رجال الصحيحين.

عن جابر بن عبد الله الأنصاري.

وأخرجه الطيالسي في "مسنده"(1): ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم قال: سمعت محمد بن عمرو بن الحسن يقول: "لما قدم الحجاج بن يوسف كان يؤخر الصلاة، فسألنا جابر بن عبد الله عن وقت الصلاة، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجير أو حين تزول الشمس، ويصلي العصر والشمس مرتفعة، ويصلي المغرب حين تغرب الشمس، ويصلي العشاء يؤخر أحيانًا ويعجل أحيانًا، إذا اجتمع الناس عَجَّل، وإذا تأخروا أخّر، وكان يصلي الصبح بغلس- أو قال: كانوا يصلونها بغلس".

قال أبو داود: وهكذا قال شعبة.

وأخرجه البخاري (2): ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد بن عمرو هو ابن الحسن بن علي، قال: "سألت جابر بن

(1)"مسند الطيالسي"(1/ 238 رقم 1722).

(2)

"صحيح البخاري"(1/ 207 رقم 540).

ص: 365

عبد الله عن صلاة النبي عليه السلام فقال: كان النبي عليه السلام يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس حية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء إذا كثر الناس عَجَّل، وإذا قلُّوا أخر، والصبح بغلس".

وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا غندر، عن شعبة.

وثنا محمد بن مثنى وابن بشار، قالا: نا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي بعض قال:"لما قدم الحجاج المدينة، فسألنا جابر بن عبد الله، فقال: كان رسول عليه السلام يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء أحيانًا يؤخرها، وأحيانًا يعجل، كان إذا رآهم قد اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم قد أبطئوا أخَّر، والصبح كانوا -أو قال-: كان النبي عليه السلام يصليها بغلس".

وأخرجه أبو داود (2): عن مسلم بن إبراهيم، نحو رواية البخاري، غير أن في رواية أبي داود: "والمغرب إذا غربت الشمس

" والباقي سواء بسواء.

وأخرجه النسائي (3): أنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار، قالا: ثنا محمد، قال: ثنا شعبة

إلى آخره مثل رواية مسلم، غير أنه لم يذكر الصبح.

قوله: "لما قدم الحجاج" أي المدينة كما صرح به في رواية مسلم، والحجاج هو ابن يوسف بن الحكم بن أبي عَقِيل -بالفتح- بن مسعودبن عامر بن معتّب -بالتشديد- بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قَسِيّ -وهو ثقيف- الثقفي، عامل عبد الملك بن مروان على العراق وخراسان، توفي في رمضان -أو في شوال- سنة خمس وتسعين للهجرة، وعمره ثلاث أو أربع وخمسون سنة.

قوله: "عن ذلك" أي عن تأخير الحجاج الصلاة.

(1)"صحيح مسلم"(1/ 446 رقم 646).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 163 رقم 397).

(3)

"المجتبى"(1/ 264 رقم 527).

ص: 366

قوله: "بغلس" أي في أول الوقت عند اختلاط الظلام بالضياء.

والطريق الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم البصري، عن شعبة بن الحجاج، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمَّد بن عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.

عن جابر بن عبد الله الأنصاري.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي قال: "لما قدم الحجاج المدينة، فسألنا جابر بن عبد الله فقال: كان رسول الله عليه السلام

" إلى آخره نحو رواية مسلم سواء.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال: ثنا عبد الله بن حسان العنبري، قال: حدثتني جدتاي صفية بنت عُليبة ودحيبة بنت عُليبة، أنهما أخبرتهما قيلة ابنة مخرمة، أنها قدمت على رسول الله عليه السلام وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، وقد أقيمت حين شق الفجر، والنجوم شابكة في السماء، والرجال لا تكاد تعارف من الظلمة".

ش: يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمي أبو محمد البصري المقرئ النحوي روى له الجماعة سوى البخاري، الترمذي في "الشمائل".

وعبد الله بن حسان التميمي أبو الجنيد العنبري يلقب عتريس، روى له أبو داود والترمذي.

وصفية بنت عُليبة -بضم العين المهلة وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة- روى لها أبو داود والترمذي.

ودحيبة -بضم الدال وفتح الحاء المهملتين وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة- بنت عُليبة وثقها ابن حبان. روى لها البخاري في "الأدب" وأبو داود والترمذي، وهي وصفية أختان بنتا عليبة وجدتان لعبد الله بن حسان.

(1)"مسند أحمد"(3/ 369 رقم 15011).

ص: 367

وقَيْلة -بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف- بنت مخرمة العنبرية الصحابية وكانت صفية ودحيبة ربيبتي قيلة هذه وكانت قيلة جدة أبيهما.

والحديث أخرجه الطبراني في "الكبير"(1) مطولًا: ثنا أبو مسلم الكشي، ثنا حفص بن عمر أبو عمر البصري الحوضي (ح).

وثنا معاذ بن المثنى والفضل بن حباب أبو خليفة، قالا: ثنا عبد الله بن سوَّار بن قدامة بن عنزة العنبري (ح).

وثنا يعقوب بن إسحاق المخرمي، ثنا عفان بن مسلم (ح).

وثنا محمد بن زكرياء الغلابي، ثنا عبد الله بن رجاء الغداني (ح).

وثنا محمد بن هشام بن أبي الدميك المستلمي، نا عبيد الله بن محمد بن عائشة التيمي، قالوا: ثنا عبد الله بن حسان العنبري أبو الجنيد أخو بني كعب العنبري، حدثتني جدتاي صفية ودحيبة ابنتا عليبة، وكانتا ربيبتي قيلة، أن قيلة بنت مخرمة حدثتهما أنها كانت تحت حبيب بن أزهر أخي ابن جناب، فولدت له النساء، ثم توفي، فانتزع منها بناتها أثوب بن أزهر عمهن، فخرجت تبتغي الصحابة إلى رسول الله عليه السلام في أول الإِسلام فبكت جويرية منهن.

حديباء قد كانت أخذتها الفرصة، وهي أصغرهن، عليها سبيج لها من صوف فرحمتها فاحتملتها معها فبَيْنا هما ترتكان الجمل إذا انتفجت الأرنب فقالت الحديباء الفصتية: لا والله لا يزال كعبك أعلى من كعب أثوب في هذ الحديث أبدًا ثم لما سنح الثعلب فسمته اسمًا غير الثعلب نَسَبَه عبد الله بن حسان ثم قالت ما قالت في الأرنب فبينما هما ترتكان إذْ برك الجمل وأخذته رعدة فقالت الحديباء الفَصْتية: والله أخذة أثوب، فقلت: واضطررت إليها: ويحكي ما أصنع؟ قا لت: قلبي ثيابك ظهورها لبطونها، وتدحرجي ظهرك لبطنك، وقلبي أحلاس جملك ثم خلعت سبيجها فقلبته وتدحرجت ظهرها لبطنها، فلما فعلتُ ما أمرتني انتفض الجمل، ثم

(1)"المعجم الكبير"(25/ 7 رقم 1).

ص: 368

قام فتفأّج وبال فقالت الحديباء: أعيدي عليك إداتك، ففعلتُ ما أمرتني به، فأعدتها، ثم خرجنا نرتك، فإذا أثوب يسعى على إثرنا بالسيف صَلْتًا فَوَألنا إلى حواء ضخم، فداراه حتى ألقى الجمل إلى رواق البيت الأوسط جمل ذلول، واقتحمت داخله بالجارية وأدركني بالسيف فأصابت، ظبته طائفة من قرون رأسي، وقال: ألقي إليَّ بنت أخي يادفار، فرميت بها إليه، فجعلها على منكبه، فذهب بها، وكنت أعلم به من أهل البيت ومضيت إلى أخت لي ناكح من بني شيبان أبتغي الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول الإسلام، فبينما أنا عندها ذات ليلة من الليالي تَحْسِب يميني نائمة جاء زوجها من الشام، فقال: وأبيك لقد وجدت لقيلة صاحبًا صاحب صدق، فقالت أختي: من هو؟ قال: حريث بن حسان الشيباني، عاد وافد بكر بن وائل إود رسول الله عليه السلام ذا صباح، فقالت أختي: الويل لب، لا تسمع بهذا أختي فتخرج مع أخي بكر بن وائل بين سمع الأرض وبصرها ليس معها من قومها رجل، فقال: لا تذكريه لها فإني غير ذاكر لها، فسمعت ما قالا فعدوت فشددت على جملي، فوجدته غير بعيد، فسألته الصحبة، فقال: نعم وكرامة، وركابه مناخة عنده فخرجت معه صاحب صدق حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس صلاة الغداة وقد أقيمت حين شق الفجر، والنجوم شابكة في السماء، والرجال لا تكاد تعارف من ظلمة الليل فصففت مع الرجال، امرأة حديثة عهد بجاهلية، فقال لي الرجل الذي يليني من الصف: امرأة أنت أم رجل؟ فقلت: لا بل امرأة، فقال: إنك قد كدت تفتنيني، فصلي في النساء ورائك وإذا صف من نساء قد حدث عند الحجرات لم أكن رأيته حين دخلت،

فكنت فيهن حتى إذا طلعت الشمس دنوت، فجعلت إذا رأيت رجلًا ذا رداء وذا قشرٍ طمح إليه بصري لأرى رسول الله عليه السلام فوق الناس، حتى جاء رجل بعد ما ارتفعت الشمس، فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال رسول الله عليه السلام: وعليك السلام ورحمة الله، وعليه أسمال مُليَّتين قد كانتا بزعفران، وقد نفضتا، وبيده عُسَيب نخلة مقشوّ غير خوصتين من أعلاه، قاعد القرفصاء، فلما رأيت

ص: 369

رسول الله عليه السلام المتخشع في الجلسة أرعدت من الفَرَق فقال له جليسه: يا رسول الله، أرعدت المسكينة. فقال رسول الله عليه السلام ولم ينظر إلى وأنا عند ظهره: يا مسكينة، عليك السكينة، فلما قالها رسول الله عليه السلام؛ أذهب الله ما كان دخل قلبي من الرعب، وتقدم صاحبي أول رجل حريث بن حسان فبايعه على الإسلام وعلى قومه، ثم قال: يا رسول الله، أكتب بيننا وبين بني تميم بالدهناء لا يجاوزها إلينا منهم إلا مسافر أو مجاوز، فقال رسول الله عليه السلام: اكتب له بالدهناء يا غلام، فلما أمر له بها، شُخِصَ بي، وهي وطني وداري، فقلت: يا رسول الله لم يسألك السوية من الأمر إذْ سألك؛ إنما هذه الدهناء عندها مقيد الجمل، ومرعى الغنم، ونساء بني تميم وأبناؤها وراء ذلك، فقال: أمسك يا غلام، صدقت المسكينة، المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفُتَّان، فلما رأى ذلك حريث أن قد حيل دون كتابه ضرب بإحدى يديه على الأخرى، ثم قال: كنت أنا وأنت كما قال وحتفها تحمل ضأن بأظلافها فقالت: والله ما أعلم أن كنت لدليلًا في الظلماء بذولا لذي الرحل، عفيفًا عن الرفيقة، حتى قدمنا على رسول الله عليه السلام، ولكن لا تلمني على أن أسأل حظي إذْ سألت حظك، قال: وما حظك في الدهناء لا أبا لك؟ قلت: مقيد جملي تسأله لجمل امرأتك قال: لا جرم إني أشهد رسول الله عليه السلام إني لك أخ وصاحب ما حييت إذا ثنيت على هذا عنده فقلت: إذ بدأتها ولن أضيعها، فقال رسول الله عليه السلام أيلام ابن هذه أن يفصِّل الخطة وينتصر من وراء الحجرة، فبكيتُ ثم قلت: قد والله ولدته يا رسول الله حرامًا، فقاتل معك يوم الربذة ثم ذهب يميرني من خيبر فأصابته حماها فمات، فترك عليّ النساء، فقال رسول الله عليه السلام: فوالذي نفسي بيده لو لم تكوني مسكينة لجررناك على وجهك -أو لجررت على وجهك شك عبد الله بن حسان أي الحرفين حدثته المرأتان- أتغلب إحداكن صوحبها في الدنيا معروفًا فإذا حال بينه وبين من هو أولى به اسْتُرجع ثم قال: رب آسني ما أمضيت فأعني على ما أبقيتَ، فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبلى فيستعير له صويحبه فيا عباد الله لا تعذبوا موتاكم، ثم كتب لها في قطيعة أديم أحمر

ص: 370

لقيلة والنسوة من بنات قيلة ألا يظلمن حقًّا ولا يكرهن على منكح وكل مؤمن ومسلم لهن نصير، أحْسنَّ ولا تَسئنَ". انتهى.

وقد أخرج أبو داود (1) قطعة منه في باب إقطاع الأرضين في كتاب الخراج، وقال: ثنا حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل -المعنى واحد- قالا: نا عبد الله ابن حسان العنبري، قال: حدثتني جدتاي صفية ودحيبة ابنتا عليبة وكانتا ربيبتي قيلة بنت مخرمة، وكانت جدة أبيهما، أنها أخبرتهما قالت:"قدمنا على رسول الله عليه السلام، تقدم صاحبي -تعني حريث بن حسان- وافد بكر بن وائل، فبايعه على الإسلام عليه وعلى قومه، ثم قال: يا رسول الله، اكتب بيننا وبين تميم بالدهناء لا يجاوزها إلينا منهم إلا مسافر أو مجاوز، فقال: أكتب له يا غلام بالدهناء، فلما رأيته قد أمر له بها شُخِصَ بي، وهي وطني وداري، فقلت له: يا رسول الله، إنه لم يسألك السويّة من الأرض إذ سألك، إنما هذه الدهناء عندها نقيد الجمل، ومرعى الغنم، ونساء بني تميم وأبناؤها وراء ذلك، فقال: أمسك يا غلام، صدقت المسكينة؛ المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر، ويتعاونان على الفتان".

وأخرج الترمذي (2) قطعة أيضًا في باب "ما جاء في الثوب الأصفر": ثنا عبد بن حميد، قال: ثنا عفان بن مسلم الصفار أبو عثمان قال: ثنا عبد الله بن حسان، أنه حدثته جدتاه صفية بنت عليبة ودحيبة بنت عليبة، حدثتاه عن قيلة بنت مخرمة وكانتا ربيبتيها وكانت قيلة جدة أبيهما أمُّ أمه، أنها قالت: "قدمنا على رسول الله عليه السلام

" فذكرت الحديث بطوله: "حتى جاء رجل وقد ارتفعت الشمس، فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال رسول الله عليه السلام: وعليك السلام ورحمة الله، وعليه -تعني النبي عليه السلام أسمال مليئتين كانتا بزعفران، وقد نفضتا ومعه عسيب نخلة". قال أبو عيسى: حديث قيلة لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن حسان انتهى.

قوله: "فخرجت تبتغي الصحابة" أي تطلبها.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 193 رقم 3070).

(2)

"جامع الترمذي"(5/ 120 رقم 2814).

ص: 371

قوله: "حديباء" تصغير حدباء، والحَدَب بالتحريك ما ارتفع وغلط من الظهر، وقد يكون في الصدر، وصاحبه: أحدب.

قلت: الذي في ظهره: أحدب، والذي في صدره: أقعس.

قوله: "أخذتها الفرصة" قال ابن الأثير: أي ريح الحديث، ويقال بالسين، وقال ابن عائشة: الفَرصة ذات الحديث، والفِرصة القطعة من المسك، والفُرصة: الدولة، يقال: أنتهز فرصتك: أي دولتك.

قوله: "عليها سُبَيِّج" بضم السين المهملة، وفتح الباء الموحدة، وتشديد الياء آخر الحروف وفي آخره جيم تصغير سبيج كَرَغِيف ورُغَيِّفّ، وهو معرب: شَبِيّ، للقميص بالفارسية، وقيل: معناه ثوب صوف أسود، وقال ابن عائشة: السُّبَيِّج سَمل كساء، وفي "العباب": وقال ابن الأعرابي: السِّيبج -بكسر السين وسكون الياء وفتح الباء الموحدة- قال: وأراه معربًا.

قوله: "تُرْتِكان الجمل" أي تحملانه على السير السريع، يقال: رَتَكَ يَرْتِكُ رَتْكًا ورَتَكَانًا، وقال ابن عائشة: الرَتَكان: ضرب من السير.

قوله: "إذا انتفجت الأرنب" أي وثبت، وقال ابن عائشة: الانتفاج: السعي.

قوله: "الفصية" قال ابن عائشة: الفصية: انقضاء الأمور، قلت: هو بفتح الفاء وسكون الصاد المهملة وفتح الياء آخر الحروف، وأرادت بها الخروج من الضيق إلى السعة، وهو اسم من التفصي. وقال ابن الأثير: أرادت أنها كانت في ضيق وشدة من قبل عمّ بناتها، فخرجت منه إلى السعة والرخاء.

قوله: "ثم سنح" قال ابن عائشة: أي ولاك ميامنه، وبعض العرب يجعل مياسره، وهم يتطيرون بأحدهما ويتفاءلون بالآخر.

قوله: "أحلاس جملك" جمع حِلْس -بالكسر- وهو الكساء الذي يلي ظهر

ص: 372

البعير، تحت القَتَب.

قوله: "فتفاءَّج": أي تفتح.

قوله: "صلتًا" أي مجردًا مسلولًا.

قوله: "فوألنا" أي لجأنا إلى "حِواء" بكسر الحاء المهملة، وبالمد في آخره، قال ابن الأثير: الحِواء: بيوت مجتمعة من الناس على ماء والجمع: أحوية.

قوله: "فأصابت ظبته" أي طَرفُه وحدُّه وأصلها ظُبَوٌ على وزن صُرَدٌ، فحذفت الواو، وعُوِّض منها الهاء.

قوله: "طائفة من قرون رأسي" أي قطعة من ذوائب شعري، وكل ضفيرة من ضفائر الشعر قرن.

قوله: "يا دفار" أي يا مُنْتنة.

قوله: "حين شق الفجر" أي حين طلع، يقال: شق الفجر وانشق إذا طلع، كأنه شق موضع طلوعه وخرج منه.

قوله: "والنجوم شابكة في السماء" أي مشتبكة، أرادت أن النجوم ظهرت جميعها واختلط بعضها ببعض لكثرة ما ظهر منها.

قوله: "لا تكاد تَعَارَفُ" بفتح التاء وضم الفاء، وأصله تتعارف بتاءين، فحذفت إحداها للتخفيف كما في قوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} (1) أصله: تتلظى.

قوله: "ذا رُواء" بضم الراء وبالمد، أي ذا منظر حسن.

قوله: "وذا قِشْر" أي ذا لباس والقِشْر اللباس ومنه تسمى الحلة: قشرة.

قوله: "طمح إليه بصري" أي امتد وعلا.

قوله: "وعليه أسمال" جمع سَمْل، وهو الخَلِق من الثياب، وهو مضاف إلى قوله:

(1) سورة الليل، آية:[14].

ص: 373

"مُلَيَّتين" تصغير ملائين تثنية ملاءة، وهي الإزار.

قوله: "عُسّيِّب نخلة" أي جريدة منها، وهي السعفة، مما لا ينبت عليه الخوص، وقال ابن الأثير: الرواية: "عُسَيِّب نخلة" مصغرًا.

قوله: "مقشوّ" أي مقشور عنه خوصه، يقال: قشوت العود إذا قشرته.

قوله: "بالدهناء" الدهناء -بفتح الدال تمد وتقصر- موضع ببلاد بني تميم.

قوله: "شُخِصَ بي" أي ارتفع بصري.

قوله: "علي الفتان" يروى بضم الفاء وفتحها، فبالضم جمع فاتن، أي يعاون أحدهما الآخر على الذين يضلون الناس عن الحق، ويفتنونهم، وبالفتح: هو الشيطان؛ لأنه يفتن الناس عن الدين، وفُتَّان مبالغة فاتن.

قوله: "وحتفها تحمل ضأنًا بأظلافها" هذا مثل، وأصله: أن رجلًا كان جائعًا بالبلد القفر، فوجد شاة ولم يكن معه ما يذبحها به، فبحثت الشاة الأرض فظهرت فيها مدية فذبحها بها، فصار مثلًا لكل من أعان على نفسه بسوء تدبيره، والحتف: الموت، والضمير في حتفها يرجع إلى الضأن، وهو جمع ضائن خلاف الماعز، والتقدير: تحمل ضأن حتفها بأظلافها.

و"الأظلاف" جمع ظلف وهو للبقرة والشاة والظبي ونحوها، ويجمع على ظلف أيضًا.

قوله: "رب آسني" أي اجعل لي أسوة بما تعطني به، قال ابن الأثير: معناه عَزِّني وصَبِّرني، ويروى: أُسْني -بضم الهمزة وسكون السين - أي عَوِّضني، والأوْس العوض.

ص: حدثنا أبو أميّة، قال: ثنا ووح بن عبادة والحجاج بن نصير، قالا: ثنا قرة بن خالد السدوسي، قال: ثنا ضرغامة بن عليية بن حرملة العنبري، قال: حدثني أبي، عن جدي قال: "أتيت رسول الله عليه السلام في ركوب من الحي، فصلى بنا صلاة الغداة فانصرف وما كاد أعرف وجوه القوم، أي كأنه

ص: 374

بغلس".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز، قال: ثنا قرة، عن ضرغامة بن عليبة، عن أبيه، عن جده، عن النبي عليه السلام، مثله.

ش: هذان طريقان:

أحدهما: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي شيخ النسائي وأبي عوانة الإسفرائيني وأبي حاتم الرازي، قال في "الميزان": محدث رحَّال ثقة.

عن روح بن عبادة بن العلاء البصري روى له الجماعة.

وعن الحجاج بن نصير الفساطيطي القيسي أبي محمد البصري، فعن أحمد: ضعيف. وكذا عن النسائي، وذكره ابن حبان في "الثقاب" وقال: يخطئ ويهم.

كلاهما يرويان عن قرة بن خالد السدوسي أبي محمد البصري روى له الجماعة.

عن ضرغامة بن عليبة العنبري وثقه ابن حبان.

عن أبيه عليبة بن حرملة العنبري التميمي وثقه ابن حبان.

عن جده حرملة بن عبد الله التميمي العنبري الصحابي، وهو جَدُّ حبان بن عاصم لأمه، وجَدُّ صفية ودحيبة ابنتي عليبة لأبيها.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا معاذ بن المثنى، ثنا أبي وعمي عبيد الله بن معاذ، قالا: ثنا أبي، ثنا قرة بن خالد، ثنا ضرغامة بن عليبة بن حرملة، حدثني أبي، عن أبيه قال:"انطلقت في وفد الحي إلى رسول الله عليه السلام، فصلى بنا صلاة الصبح، فلما سلم جعلت انظر إلى وجه الذي إلى جنبي، فما أكاد أعرفه من الغلس فقلت: يا رسول الله، أوصني، قال: اتق الله، وإن كنت في القوم فسمعتهم يقولون لك ما يعجبك فأته، وإن سمعتهم يقولون لك ما تكره، فدعه".

(1)"المعجم الكبير"(4/ 6 رقم 3476).

ص: 375

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن هارون بن إسماعيل الخزاز -بالخاء والزائين المعجمات- وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هارون بن إسماعيل الخزاز فقال: شيخ محله الصدق، كان عنده كتاب عن علي بن المبارك، وكان تاجرًا.

عن قرة بن خالد، عن ضرغامة

إلى آخره.

وأخرجه الطيالسي في "مسنده"(1): ثنا قرة بن خالد، ثنا ضرغامة بن عليبة بن حرملة العنبري، عن أبيه عليبة، عن جده حرملة قال:"أتيت رسول الله عليه السلام في ركب من الحي، فصلى بنا صلاة الصبح، فجعلت انظر إلى الذي بجنبي فما أكاد أعرفه من الغلس، فلما أردت الرجوع، قلت: أوصني يا رسول الله، قال: اتق الله، وإذا كنت في مجلس فقمت عنهم فسمعتهم يقولون ما يعجبك فأته وإذا سمعتهم يقولون ما تكره فلا تأته".

قوله: "في ركوب من الحط" الركوب جمع رَكْب جمع رَاكِب كصَحْب جمع صَاحِب، والراكب في الأصل هو راكب الإبل خاصة، ثم اتسع فيه فأطلق على كل من ركب دابة.

قوله: "وما أكاد" أي وما أقرب "أعرف"، وذلك لأجل الغلس، وهو ظلمة آخر الليل المختلطة بضياء الصباح.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذه الآثار، وقالوا: هكذا يفعل في صلاة الفجر يغلس بها؛ فإنها أفضل من الإسفار بها.

ش: أراد بهؤلاء القوم: الأوزاعي والليث وإسحاق بن راهويه والشافعي وأحمد ومالكًا -في الصحيح عنه- وأبا ثور وداود؛ فإنهم ذهبوا إلى هذه الأحاديث المذكورة، وقالوا: التغليس بالفجر أفضل من الإسفار بها، وذكر ابن قدامة عن أحمد: إذا اجتمع المصلون فالتغليس أفضل وإن أخروا فالتأخير أفضل.

(1)"مسند الطيالسي"(1/ 167 رقم 126).

ص: 376

وقال ابن المنذر: وقد روينا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن الزبير وابن عمر وأبي هريرة أخبارًا تدل على أن التغليس أفضل من تأخيرها.

قلت: وسنذكر عن عمر وعلي وعثمان وأبي موسى وابن عمر ما يخالف هذا.

وقال ابن حزم: وتعجيل جميع الصلوات في أول أوقاتها، أفضل على كل حال حاشى العتمة؛ فإن تأخيرها إلى آخر وقتها في كل حال وكل زمان أفضل، إلا أن يشق ذلك على الناس فالرفق بهم أولى، وحاشى الظهر للجماعة خاصة في شدة الحر خاصة، فالإبراد بها إلى آخر وقتها أفضل.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل الإسفار بها أفضل من التغليس.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وإبراهيم النخعي وطاوسًا وسعيد بن جبير وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأكثر العراقيين وفقهاء الكوفة وأصحاب ابن مسعود رضي الله عنهم فإنهم قالوا: بل الإسفار بالصبح أفضل من التغليس، وقالوا: الإسفار قوة الضوء. وهو أيضًا اختيار ثعلب وغيره من اللغوين، يقال: أسفرت المرأة إذا ألقت خمارها عن وجهها، وأسفر وجهها إذا أضاء، وقال الجوهري: معنى اسفروا بالفجر: أي صلوها مسفرين، ويقال: طولوها إلى الإسفار.

وقال ابن طريف: أسفر الليل: انقضى انكشفت ظلمته. وفي "المغيث": أسفر الصبح: انكشف، وفي "الأساس" للزمخشري: وخرجوا في السفر: في بياض الفجر، ورُحْ بنا بسفر: ببياض قبل الليل، وفي المجاز: وجه مسفر: مشرق سرورًا، قال تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} (1)، وفي "المعرب": أسفر الصبح: أضاء، وأسفر بالصلاة أي صلاها بالإسفار، وقال في "المحيط": إذا كانت السماء مُصْحية فالإسفار أفضل إلا للحاج بمزدلفة، فهناك التغليس أفضل، وعمم في "المبسوط" فقال: الإسفار أفضل من التغليس في الأوقات كلها، وقال الطحاوي:

(1) سورة: عبس، آية:[38].

ص: 377

إن كان من عزمه التطويل يشرع في التغليس ليخرج في الإسفار، قال: وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه، وفي كتاب "الأسرار" للدبوسي: لا يباح التأخير لمن ينام في بيته بعد الفجر بل يحضر المسجد لأول الوقت، ثم ينتظر الصلاة، ثم يصلي لآخر الوقت؛ إذ لو صلى لأول الوقت قَلَّ ما يمكنه اللبث والمقام إلى طلوع الشمس فلا ينشغل بعد الفراغ بحديث الدنيا.

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو إسحاق، قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول: "حجَّ عبد الله، فأمرني علقمة أن ألزمه، فلما كانت ليلة المزدلفة فطلع الفجر، قال: أقم، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إن هذه لساعة ما رأيتك تصلي فيها قط، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم، قال عبد الله: هما صلاتان تحولان عن وقتهما: صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس من المزدلفة، وصلاة الغداة حين يبزغ الفجر، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك".

وحدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا أبو إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال:"خرجت مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى مكة، فصلى الفجر يوم النحر حين سطع الفجر، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هاتين الصلاتين تحولان عن وقتهما في هذا المكان: المغرب، وصلاة الفجر في هذه الساعة".

ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه من فضيلة الإسفار بالفجر؛ بحديث عبد الله بن مسعود.

وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن روح بن الفرج القطان أبي الزنباع المصري، عن عمرو بن خالد ابن فروخ الحنظلي أبي الحسن الجزري الحراني أحد مشايخ البخاري وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين.

ص: 378

عن زهير معاوية بن حديج أبي خيثمة الكوفي أحد أصحاب أبي حنيفة، وعن أحمد: زهير فيما روى من المشايخ ثبت بخٍ بخٍ. روى له الجماعة.

عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة.

عن عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي أبي بكر الكوفي، ابن أخي علقمة بن قيس، روى له الجماعة

إلى آخره.

وأخرجه البخاري (1): من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن ابن يزيد قال:"خرجت مع عبد الله إلى مكة، ثم قدمنا جَمْعًا فصلى الصلاتين، كل صلاة وحدها بأذان وإقامة، وتعشى بينها، ثم صلى الفجر وقائل يقول: طلع، وقائل يقول: لا، ثم قال: إن رسول الله عليه السلام قال: إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان، ولا يقدم الناس جمعًا حتى يُعتموا، وصلاة الفجر هذه الساعة، ثم وقف حتى أسفر ثم قال: لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن أصاب السُنَّة، فما أدري أقوله كان أسرع أم دفع عثمان؟ فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة".

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا عفان، ثنا جرير بن حازم، سمعت أبا إسحاق يحدث عن عبد الرحمن بن يزيد قال:"حججنا مع ابن مسعود في خلافة عثمان رضي الله عنه قال: فلما وقفنا بعرفة قال: فلما غربت الشمس، قال ابن مسعود: لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن كان قد أصاب فلا أدري كلمة ابن مسعود كانت أسرع أو إفاضة عثمان؟ قال: فأوضع الناس ولم يزد ابن مسعود على العَنَق حتى أتينا جمعًا، فصلى ابن مسعود المغرب، ثم دعى بعشائه فتعشى، ثم قام فصلى العشاء الآخرة، ثم رقد حتى إذا طلع الفجر قام فصلى الغداة، قال: فقلت له: ما كنت تصلي هذه الصلاة هذه الساعة -قال: وكان يسفر بالصلاة- قال: إني رأيت رسول الله عليه السلام في هذا اليوم في هذا المكان يصلي في هذه الساعة".

(1)"صحيح البخاري"(2/ 604 رقم 1599).

(2)

"مسند أحمد"(1/ 410 رقم 3893).

ص: 379

قوله: "حين يبزغ الفجر" أي حين يطلع يقال: بزغت الشمس، وبزغ القمر، وغيرهما، إذا طلعت، والبزوغ: الطلوع.

قوله: "حتى يعتموا" أي حتى يدخلوا في وقت العتمة، وهي العشاء.

قوله: "فأوضع الناس" من وضع البعير يضع وضعا، وأوضع راكبه إيضاعًا: إذا حمله على سرعة السير.

قوله: "على العَنَق" وهو ضرب من السير، قال الجوهري: العنق ضرب من سير الدابة والإبل، وهو سير مستطرّ، أي ممتد.

وهذا يدل على استحباب الإسفار بالفجر؛ لأن عبد الله لما صلى الفجر يومئذ في أول وقته استعجبه عبد الرحمن بن يزيد؛ لأن عهده أنه يسفر بالفجر دائمًا، ولهذا قال: إن هذه لساعة ما رأيتك تصلي فيها قط، وقال ابن مسعود في جوابه: إن رسول الله عليه السلام كان لا يصلي هذه الساعة -يعني في أول الفجر- إلا هذه الصلاة -يعني صلاة الصبح- في هذا المكان -يعني في مزدلفة- في هذا اليوم -يعني يوم النحر- فدل ذلك أن رسول الله عليه السلام كان لا يصلي الفجر دائمًا إلا في الإسفار إلا في يوم مزدلفة؛ فإنه كان يغلس بها فيها، لتدارك الوقوف، ولا يعارضه حديث أبي مسعود البدري:"أنه عليه السلام صلى الصبح بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك بالغلس حتى مات عليه السلام لم يعد إلى أن يسفر". من وجهين:

الأول: أن في إسناده أسامة بن زيد قد تكلموا فيه، فقال أحمد: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي والدارقطني: ليس بالقوي. فلا يعارض حديث ابن مسعود؛ لكون رجاله ثقاتًا من رجال الصحيحين.

الوجه الثاني: أن ابن مسعود أخبر بحال الرسول عليه السلام من أبي مسعود؛ لشدة ملازمته رسول الله عليه السلام، وكان حامل نعله، ولا يفارقه، وهو أكثر اطلاعًا من غيره في أمور عباداته واختياره الأوقات المستحبة فيها.

ص: 380

فإن قيل: حديث أبي مسعود قد أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود وابن ماجه، فهلَّا يعارض حديث ابن مسعود.

قلت: بلى قد أخرجوه، ولكن البخاري ومسلما لم يذكرا في روايتهما قضية الإسفار مرة، ثم كانت صلاته التغليس حتى مات.

فإن قيل: قد قال المنذري: هذه الزيادة في قضية الإسفار رواتها عن آخرهم ثقات، والزيادة من الثقة مقبولة.

قلت: قَدْ مَرَّ جوابه آنفًا: أن فيهم أسامة بن زيد، وقد قيل فيه ما قيل، وقد مر الكلام فيه مرة.

الطريق الثاني: ليس من الطحاوي، وإنما هو من أبي بكر محمد بن إبراهيم بن المقرئ الذي روينا كتاب "معاني الآثار" عنه عن الطحاوي، وهو من زيادات أبي بكر، ولهذا لا يوجد في كثير من النسخ.

يروي عن أبي عروبة الحسن بن محمد الحراني الإمام الحافظ.

عن عبد الرحمن بن عمرو البجلي، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا حسن بن موسى، ثنا زهير، ثنا أبو إسحاق، سمعت عبد الرحمن بن يزيد قال: "حج عبد الله بن مسعود، فأمرني علقمة أن ألزمه، فلزمته فكنت معه

". فذكر الحديث وفيه: "فلما كان حين طلع الفجر، قال: أقم، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إن هذه لساعة ما رأيتك صليت فيها! قال: قال: "إن رسول الله عليه السلام كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم، قال عبد الله: هما صلاتان تُحَولان عن وقتهما: صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس المزدلفة، وصلاة الغداة حين يبزغ الفجر، قال: رأيت رسول الله عليه السلام فعل ذلك".

(1)"مسند أحمد"(1/ 461 رقم 4399).

ص: 381

الطريق الثالث: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أبي عبد الله محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عبد الرحمن بن يزيد

إلى آخره.

وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده"(1): ثنا عبد الرزاق، أنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال:"أفضت مع ابن مسعود من عرفه، فلما جاء المزدلفة صلى المغرب والعشاء كل واحدة منهما بأذان وإقامة، وجعل بينهما العَشَاء، ثم نام، فلما قال قائل: طلع الفجر. صلى الفجر، ثم قال: إن رسول الله عليه السلام قال: إن هاتين الصلاتين أخرتا عن وقتهما في هذا المكان، أما المغرب فإن الناس لا يأتون ها هنا حتى يُعتموا، وأما الفجر فهذا الحين، ثم وقف، فلما أسفر قال: إن أصاب أمير المؤمنين دفع الآن، قال: فما فرغ عبد الله من كلامه حتى دفع عثمان رضي الله عنه".

قوله: "تُحولان" أي تنقلان وتصليان في غير وقتها المعهود، وهذا دليل صريح إلى أنه عليه السلام كان يسفر بالصبح دائمًا؛ لأنه قال:"وصلاة الفجر في هذه الساعة" يعني ساعة طلوع الفجر، ولو كان يغلس بها دائما كما غلس بها في هذا اليوم لَما قال:"إن هاتين الصلاتين تحولان عن وقتهما" أي عن وقتهما المعهود؛ لأن المعهود في المغرب أن يصلى عقيب غروب الشمس، والمعهود في الصبح أنه كان يصليها عند الإسفار، وإن كان وقتها من بعد طلوع الفجر، ولو لم يكن المعنى ما ذكرنا لخلا كلامه عليه السلام عن الفائدة.

ص: وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا بشر بن السري، قال: ثنا زكرياء بن إسحاق، عن الوليد بن عبد الله بن أبي سُمَيْرة، قال: حدثني أبو طريف "أنه كان شاهدًا مع النبي عليه السلام حصن الطائف، فكان يصلي بنا صلاة البَصَر حتى لو أن إنسانًا رمى بنبله أبصر مواقع نبله".

(1)"مسند أحمد"(1/ 449 رقم 4293).

ص: 382

ش: يحيى بن معين -بفتح الميم- بن عون المري الغطفاني أبو زكرياء البغدادي الحافظ، إمام أهل الحديث في زمانه، والمشار إليه بين أقرانه، وهو أحد مشايخ البخاري ومسلم وأبي داود وأحمد بن حنبل وأبي يعلى الموصلي وآخرين

وبشر بن السري البصري أبو عَمرو الأفوه روى له الجماعة.

وزكرياء بن إسحاق المكي روى له الجماعة.

والوليد بن عبد الله بن أبي سُمَيْرة. وقيل: ابن سُمَيْر ذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين.

وأبو طريف مولى عبد الرحمن بن طلحة حجازي، قال عبد الرحمن بن أبي هاشم عن أبيه: أبو طريف روى عن النبي عليه السلام، روى عنه الوليد بن عبد الله بن أبي سميرة.

وقال أبو عمر في "الاستيعاب": أبو طريف الهذلي سمع النبي عليه السلام، يعد في أهل الحجاز، ويقال: إنه تابعي.

والحديث أخرجه البغوي (1): عن علي بن مسلم، عن يحيى بن معين، عن بشر بن السري

إلى آخره نحو رواية الطحاوي متنًا وإسنادًا.

وأخرجه البغوي مرة أخرى بلفظ: "حاضرنا مع رسول الله عليه السلام حصن الطائف، وصلى بنا صلاة البصر، حتى لو شاء إنسان أبصر مواقع نبله".

وأخرجه العسكري في كتاب "الصحابة": ثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمود بن آدم، قال: نا بشر بن السري، قال: ثنا زكرياء بن إسحاق، عن الوليد بن عبد الله بن أبي سميرة، نحوه.

غير أن في روايته: "فكان يصلي بنا صلاة المغرب".

(1) وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 447 رقم 1941).

ص: 383

وكذلك أخرجه ابن الأثير في "معرفة الصحابة"(1) وقال: أنا يحيى بن أبي رجاء بإسناده إلى ابن أبي عاصم، قال: ذكر بشر بن طريف، عن أزهر بن القاسم، عن زكرياء بن إسحاق، عن الوليد بن عبد الله بن أبي سميرة، عن أبي طريف أنه قال:"كنت مع النبي عليه السلام حين حاصر أهل الطائف، وكان يصلي بنا صلاة المغرب. ولو أن إنسانًا رمى بنبله لأبصر مواقع نبله".

قوله: "صلاة البَصَر" بفتح الباء الموحدة والصاد. قيل: هي صلاة المغرب، وروي ذلك عن أحمد أبي أنه قال: صلاة البَصَر: صلاة المغرب. وقيل: صلاة الفجر؛ لأنهما يؤديان وقد اختلط الظلام بالضياء، والبَصَر ها هنا بمعنى الإبصار، يقال: بَصُر به بصرًا، فعل هذا تحمل الروايتان على المعنين، فتحمل رواية الطحاوي على صلاة الفجر؛ لأنه أخرجه دليلًا على استحباب الإسفار بالفجر، وتحمل رواية غيره على صلاة المغرب، فكلتا الروايتين صحيحة، ووقع في بعض نسخ الطحاوي:"صلاة الفجر" موضع "صلاة البصر".

ص: وحدثنا يزيد بن مشان، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: "كان النبي عليه السلام يؤخر الفجر كاسمها".

ش: إسناده جيد حسن.

وسفيان هو الثوري، وعبد الله بن محمد بن عَقِيل -بفتح العين- بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبو محمد المدني، ضعفه النسائي، وقال الترمذي: صدوق. وقال البخاري: مقارب الحديث. وروى له في غير الصحيح.

قوله: "كاسمها" أراد أنه كان يصليها عند انفجار الصبح، وهو انفلاقه وانكشافه عند آخر الليل؛ لأن الفجر في آخر الليل كالشفق في أوله، فكما أنه اسم

(1)"أسد الغابة"(1/ 1200).

ص: 384

لآخر الليل فكذلك كان عليه السلام يؤخر صلاة الفجر إلى آخر وقت الفجر، يعني وقت الإسفار.

ص: وحدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا سعيد بن عامر الضبعي، قال: ثنا عوف، عن سيار بن سلامة قال:"دخلت مع أي على أبي برزة رضي الله عنه فسأله عن صلاة رسول الله عليه السلام فقال: كان ينصرف من صلاة الصبح والرجل يعرف وجه جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المائة".

ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات، وعوف هو ابن أبي جميلة العبدي الهجري أبو سهل البصري المعروف بابن الأعرابي، روى له الجماعة.

وسيّار بن سلامة الرياحي أبو المنهال البصري، روى له الجماعة.

وأبو برزة -بفتح الباء الموحدة وسكون الراء المهملة بعدها الزاي المعجمة- اسمه نضلة بن عبيد بن برزة الأسلمي رضي الله عنه.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا محمد بن إسحاق بن راهويه، ثنا أبي، ثنا النضر بن شميل، ثنا سيّار بن سلامة، عن أبي برزة قال:"كان رسول الله عليه السلام ينصرف من الصبح، فينظر الرجل إلى الجليس الذي كان يعرفه فيعرفه".

وأخرج النسائي (2) في فضل القراءة: أنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، ثنا يزيد، قال: أنا سليمان التيمي، عن سيّار -يعني ابن سلامة- عن أبي برزة:"أن رسول الله عليه السلام كان يقرأ في صلاة الغداة بالستين إلى المائة".

ويستفاد منه: استحباب الإسفار بالفجر، وتطويل القراءة فيه.

ص: قالوا: ففي هذه الآثار ما يدل على تأخير رسول الله عليه السلام إياها، وعلى تنويره بها، وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يصلي في سائر الأيام صلاة

(1) (

).

(2)

"المجتبى"(2/ 157 رقم 948).

ص: 385

الصبح في خلاف الوقت الذي يصلي فيه بمزدلفة، وأن هذه الصلاة تحول عن وقتها.

ش: أي قال الجماعة الآخرون في هذه الأحاديث التي رويت عن عبد الله بن مسعود وأبي طريف وجابر بن عبد الله وأبي برزة ما يدل على أن النبي عليه السلام كان يؤخر صلاة الفجر إلى وقت الإسفار والتنوير، وكذلك حديث عبد الله يدل على ذلك؛ لأنه قال:"كان عليه السلام يصلي في جميع الأيام صلاة الصبح في خلاف الوقت الذي كان يصليها فيه بمزدلفة، وكان في مزدلفة يصليها في أول الوقت بالغلس" فيكون خلافه الإسفار والتنوير، وقال أيضًا:"إن هذه الصلاة تحول عن وقتها". يعني عن وقتها المعتاد، وهو الإسفار والتنوير؛ فدل أنه عليه السلام كان يستمر على الإسفار بها إلا في يوم مزدلفة وهذا ظاهر لا يخفى.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: وليس في شيء من هذه الآثار ولا فيما تقدمها دليل على أن الأفضل من ذلك ما هو؟ لأنه قد يجوز أن يكون عليه السلام فعل شيئًا وغيره أفضل منه، على التوسعة منه على أمته، كما توضأ مرة بعد مرة، وكان وضوءه ثلاثًا ثلاثًا أفضل من ذلك، فأردنا أن ننظر فيما روي عنه سوى هذه الآثار هل فيها ما يدل على الفضل في شيء من ذلك؟ فإذا علي بن شيبة قد حدثنا، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان الثوري، عن محمد بن عجلان، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله عليه السلام: "أسفروا بالفجر، فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر، أو لأجوركم".

وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج، قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر".

وحدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم بن أبي الناس، قال: حدثني شعبة، عن داود، عن زيد بن أسلم، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله عليه السلام: "نوروا بالفجر فإنه أعظم للأجر".

ص: 386

ش: أشار بهذا الكلام إلى أن استدلال كل واحد من الفريقين بالأحاديث التي ذكرها كل فريق للاحتجاج لا يتم به؛ وذلك لأنه قد يجوز أن يكون عليه السلام فعل التغليس والحال أن الإسفار أفضل، ويجوز أن يكون فعل الإسفار والحال أن التغليس أفضل توسعة بذلك على أمته، كما فعل كذلك في الوضوء حيث توضأ مرة مرة، والحال أن الثلاث كان أفضل، فإذا كان كذلك فلا يتم استدلال بذلك، فيتعين الرجوع إلى غير هذا ليوقف على أي شيء أفضل، فنظرنا في ذلك فوجدنا رافع بن خديج رضي الله عنه قد روى عن النبي عليه السلام:"أسفروا بالفجر". وفي رواية: "نوروا" وكذا روي عن غيره بصيغة الأمر على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

فدل ذلك على أن الإسفار أفضل من التغليس؛ فحينئذ يتم استدلال أهل المقالة الثانية، وتقوم حجتهم على ساقها.

فإنْ قيل: فعل هذا ينبغي أن يكون الإسفار واجبًا لمقتضى الأوامر فيه.

قلت: الأمر إنما يدل على الوجوب إذا كان مطلقًا مجردًا عن القرائن الصارفة إلى غيره، والأوامر التي وردت في الإسفار ليست كذلك، فلا يدل إلا على الاستحباب.

ثم إنه أخرج حديث رافع بن خديج من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن على بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن محمد بن عجلان القرشي روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا، عن عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري روى له الجماعة، عن محمود بن لبيد بن عتبة بن رافع الأنصاري ذكره مسلم في التابعين من الطبقة الثانية وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال: له صحبة، قال: وقال أبي: لا يعرف له صحبة. قال أبو عمر: قول البخاري أولى.

ص: 387

والحديث أخرجه الأربعة:

فالترمذي (1): عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر. لباقون.

عن محمد بن عجلان، عن عاصم بن عمر.

ولفظ أبي داود (2): "أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم أو أعظم للأجر".

ولفظ ابن ماجه (3): "أصبحوا بالصبح فإنه أعظم للأجر أو لأجركم".

ولفظ النسائي (4): "أسفروا بالفجر".

وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"(5) وقال: أنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: ثنا أبو خيثمة، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن عجلان، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج، عن النبي عليه السلام قال:"أصبحوا بالصبح؛ فإنكم كلما أصبحتم بالصبح كان أعظم لأجوركم أو لأجرها". وذكره الطوسي وابن القطان وابن حزم في الصحاح، فقال ابن القطان: طريقه طريق صحيح.

وقال الترمذي: حديث رافع بن خديج حديث حسن صحيح، وقال البغوي: هو حديث حسن.

ولما ذكر ابن حزم هذا الحديث في "المحلى" قال: الخبر صحيح، وقال أبو محمد الأزدي: هذا حديث يدور بهذا الإسناد فيما أعلم على عاصم، وهو ثقة عند أبي زرعة وابن معين، وضعفه غيرهما، وقد روي مسند آخر إلى رافع، وحديث عاصم أصح.

(1)"جامع الترمذي"(1/ 289 رقم 154).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 169 رقم 424).

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 221 رقم 672).

(4)

"المجتبى"(1/ 272 رقم 548).

(5)

"صحيح ابن حبان"(4/ 355 رقم 1489).

ص: 388

وحديث رافع من طريق عاصم حسن.

وقال ابن القطان: لا أعرف لعاصم مضعِّفًا.

ورواه أبو داود من حديث ابن عجلان بدلًا من ابن إسحاق.

وجمع بينهما الطبراني (1) فقال: نا إبراهيم بن نائلة، نا محمد بن المغيرة، ثنا النعمان، ثنا سفيان، عن محمد بن إسحاق وابن عجلان.

وثنا (2) محمد بن عبدوس، ثنا إبراهيم بن راشد الأدمي، ثنا معلى بن عبد الرحمن، عن عبد الحميد بن جعفر، قالوا: ثنا عاصم به.

قال: وثنا (3) أبو مَعْن، ثنا آدم بن أبي إياس، ثنا شعبة، عن أبي داود، عن زيد بن أسلم، عن محمود بن لبيد، عن رافع.

قال: لم يروه عن شعبة إلا آدم وبقية، إلا أن بقية رواه عن شعبة، عن داود البصري، وقيل: إنه داود بن أبي هند.

ورواه أبو نعيم في كتاب "الصلاة"(4): عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن محمود به.

وهذا الطحاوي أيضًا رواه من حديث ابن عجلان وابن إسحاق، كلاهما عن عاصم، ومن حديث داود بن أبي هند عن زيد بن أسلم عن محمود به.

الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم

إلى آخره.

وأخرجه الترمذي (5): ثنا هناد، قال: ثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن

(1)"المعجم الكبير"(4/ 250 رقم 4287).

(2)

"المعجم الكبير"(4/ 251 رقم 4291).

(3)

"المعجم الكبير"(4/ 251 رقم 4292)، وهو في "الأوسط"(3/ 334 رقم 3319).

(4)

"فضائل الصلاة" لأبي نعيم الفضل بن دكين (1/ 337 رقم 273).

(5)

"جامع الترمذي"(1/ 289 رقم 154).

ص: 389

عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر".

الثالث: عن بكر بن إدريس بن الحجاج الأزدي، عن آدم بن أبي إياس عبد الرحمن التميمي شيخ البخاري، عن شعبه بن الحجاج، عن داود بن أبي هند البصري، عن زيد بن أسلم

إلى آخره.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، حدثني أبي، ثنا بقية بن الوليد، عن شعبة بن الحجاج، حدثني داود البصري، عن زيد بن أسلم، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج، عن النبي عليه السلام قال:"أسفروا بصلاة الفجر فإنه أعظم للأجر".

فإن قيل: قد قال ابن حزم في "المحلى"(2): وهذا الخبر صحيح، إلا أنه لا حجة لهم فيه إذا أضيف إلى الثابت من فعله عليه السلام في التغليس، حتى إنه لينصرف والنساء لا يعرفن، أو حين يعرف الرجل وجه جليسه الذي كان يعرفه، وإن هذا كان المداوم عليه من عمله عليه السلام، وصح أن الإسفار المأمور به إنما هو بأن ينقضي طلوع الفجر ولا يصلي على شك منه.

قلت: قد مر أن الثابت من فعله عليه السلام في التغليس لا يدل على الأفضلية؛ لأنه يجوز أن يكون غيره أفضل منه وإنما فعل ذلك للتوسعة على أمته، بخلاف الخبر الذي فيه الأمر؛ لأن قوله:"أعظم للأجر". أفعل التفضيل فيقتضي أجرين أحدهما أكمل من الآخر؛ لأن صيغة أفعل تقتضي المشاركة في الأصل مع رجحان أحد الطرفين، فحينئذ يقتضي هذا الكلام حصول الأجر في الصلاة بالغلس، ولكن حصوله في الإسفار أعظم وأكمل منه، فلو كان الإسفار لأجل تقصي طلوع الفجر لم يكن في وقت التغليس أجر لخروجه عن الوقت. فافهم.

(1)"المعجم الكبير"(4/ 251 رقم 429).

(2)

"المحلى"(3/ 189).

ص: 390

فإن قيل: قد قال البيهقي (1): رجح الشافعي: حديث عائشة رضي الله عنها بأنه أشبه بكتاب الله عز وجل الله تعالى يقول: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (2) فإذا دخل الوقت فأولى المصلين بالمحافظة المقدم للصلاة، وأن رسول الله عليه السلام لا يأمر بأن تُصلى صلاة في وقت يصليها في غيره، وهذا أشبه بسنن رسول الله عليه السلام وذكر حديث (3)"أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله" وهو لا يؤثر على رضوان الله شيئًا، والعفو لا يحتمل إلا معنيين: عفو عن تقصير، أو توسعة. والتوسعة تشبه أن يكون الفضل في غيرها إذا لم يؤمر بترك ذلك الغير الذي وُسِّع في خلافه -يريد الوقت الأول- قال: وقد أبان رسول الله عليه السلام مثل ما قلنا، وسئل أي الأعمال أفضل؟ فقال:"الصلاة في أول وقتها" وهو لا يدع موضع الفضل ولا يأمر الناس إلا به.

وقال: قال الشافعي في حديث رافع: له وجه يوافق حديث عائشة ولا يخالفه، وذلك أن رسول الله عليه السلام لما حضَّ الناس على تقديم الصلاة، وأخبر بالفضل فيها احتمل أن يكون من الراغبين من يقدمها قبل الفجر الآخر، فقال:"أسفروا بالفجر" حتى يتبين الفجر الآخر معترضًا فأراد عليه السلام -فيما نرى- الخروج من الشك، حتى يصلي المصلي بعد اليقين بالفجر، فأمرهم بالإسفار أي بالتبين.

قلت: المراد بالآية والمحافظة فيها: هو المداومة على إقامة الصلوات في أوقاتها، وليس فيها دليل على أن أول الوقت أفضل، بل هي دليل لنا؛ لأن الذي يسفر بالفجر يترقب الإسفار في أول الوقت، فيكون هو المحافظ المداوم على الصلاة؛ ولأنه ربما تقع صلاته في التغليس قبل الفجر، فلا يكون محافظًا للصلاة في وقتها.

قوله: "وإن رسول الله عليه السلام لا يأمر بأن تصلى صلاة

" إلى آخره يوهم رد حديث رافع المذكور، وليس هذا بصحيح؛ لأنه ثبت من طريق صحيح عن

(1)"معرفة السنن والآثار"(1/ 472 - 473).

(2)

سورة البقرة، آية:[238].

(3)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 436 رقم 1893)، والدارقطني في "سننه"(1/ 249 رقم 21) من حديث ابن عمر، وأخرجه بنحوه الترمذي (1/ 321 رقم 172).

ص: 391

النبي عليه السلام أنه أمر بالإسفار كما مَرَّ ذكره، وقد قلنا أيضًا: إن صلاته عليه السلام في الغلس لا يدل على الأفضلية حتى يقال لا يأمر بأن تصلى صلاة في وقت يصليها في غيره.

وأما حديث (1): "أول الوقت، رضوان الله، وآخره عفو الله" فالمراد من العفو: الفضل، كما في قوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (2) أي الفضل، فكان معنى الحديث -والله أعلم-: أن من أدى الصلاة في أول الوقت فقد نال رضوان الله وأمن من سخطه وعذابه، لامتثاله أمره وأدائه ما وجب عليه، ومن أدى في آخر الوقت فقد نال فضل الله، ونيل فضل الله لا يكون بدون الرضوان، فكانت هذه الدرجة أفضل من تلك.

وأما حديث (3): "سئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة في أول وقتها" فمعناه أداء الصلوات في أول وقتها أفضل الأعمال، وذكر "أول" ها هنا لأجل الحث والتحضيض والتأكيد على إقامة الصلوات في أوقاتها، وإلا فالذي يؤديها في ثاني الوقت أو ثالثه أو رابعه كالذي يؤديها في أوله، فعُلم أن المراد من ذكر الأول الحث والتأكيد في المنع عن الكسل في آدائها وتأخيرها عن وقتها إلى خروجها عنه، لا أن الجزء الأول له مزية على الجزء الثاني أو الثالث أو الرابع، فحاصل المعنى: الصلاة في وقتها أفضل الأعمال ثم يتميز الجزء الثاني في صلاة الصبح عن الجزء الأول بالأمر الذي فيه الإسفار الذي يقتضي التأخير عن الجزء الأول.

وأما قوله: وقد قال الشافعي في حديث رافع

إلى آخره، يرده ويبطل تأويله

(1) تقدم قريبًا.

(2)

سورة البقرة، آية:[219].

(3)

أخرجه أبو داود في "السنن"(1/ 169 رقم 426)، وأحمد في "المسند"(6/ 374 رقم 27147)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 302 رقم 680) كلهم من حديث أم فروة، وأخرج البخاري نحوه من حديث ابن مسعود (1/ 197 رقم 504).

ص: 392

ما رواه ابن أبي شيبة (1)، وإسحاق بن راهويه، وأبو داود الطيالسي (2) في مسانيدهم والطبراني في "معجمه"(3).

فقال الطيالسي (3): ثنا إسماعيل بن إبراهيم المدني.

وقال الباقون: ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، ثنا إسماعيل بن إبراهيم المدني، ثنا هُرير بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج، سمعت جدي رافع بن خديج يقول: قال رسول الله عليه السلام لبلال: "يا بلال، نوِّر صلاة الصبح حتى يبصر القوم مواقع نبلهم من الإسفار".

ورواه بن أبي حاتم في "علله"(4) فقال: ثنا هارون بن معروف وغيره، عن أبي إسماعيل المؤدب إبراهيم بن سليمان، عن هُرَير به.

قال: ورواه أبو نعيم، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مجمع، عن هُرَير به.

ورواه ابن عدي أيضًا في "الكامل"(5): عن أبي إسماعيل المؤدب، وأسند عن ابن معين أنه قال: أبو إسماعيل المؤدب ضعيف. قال ابن عدي: ولم أجد في تضعيفه غير هذا، وله أحاديث غرائب حسان تدل على أنه من أهل الصدق، وهو ممن يكتب حديثه.

وحديث آخر يبطل ما قالوا، رواه الإمام (أبو القاسم القاسم بن ثابت) (6) السَّرَقُسْطي في كتاب "غريب الحديث": حدثنا موسى بن هارون، ثنا محمد بن الأعلى، ثنا المعتمر، سمعت يبانًا، أنا سعيد، قال: سمعت أنسًا رضي الله عنه يقول:

(1)"مسند ابن أبي شيبة"(1/ 78 رقم 83).

(2)

"مسند الطيالسي"(1/ 129 رقم 961).

(3)

"المعجم الكبير"(4/ 277 رقم 4414) من طريق أبي إسماعيل المؤدب، ثنا هريرة به.

(4)

"علل ابن أبي حاتم"(1/ 139 رقم 385).

(5)

"الكامل" لابن عدي (1/ 250).

(6)

كذا في "الأصل، ك"، ولعل الصواب: أبو القاسم ثابت. انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء"(14/ 562 - 563).

ص: 393

"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح حين يفسح البصر" انتهى. قال: يقال: فسح البصر وانفسح إذا رأى الشيء عن بعد، يعني به إسفار الصبح، فحينئذ تأويلهم معنى الإسفار أن يظهر الفجر ويتبين حتى لا يُشَك فيه غير صحيح؛ لأن الغلس الذي يقولون به هو اختلاط ظلام الليل بنور النهار كما ذكره أهل اللغة، وقبل ظهور الفجر لا تصح صلاة الفجر، فثبت أن المراد بالإسفار إنما هو التنوير وهو التأخير عن الغلس وزوال الظلمة.

فإن قيل: قد قيل: إن الأمر بالإسفار إنما جاء في الليالي المقمرة؛ لأن الصبح لا يتبين فيما جدًّا فأمرهم بزيادة التبيّن استظهارًا باليقين في الصلاة.

قلت: هذا تخصيص بلا مخ صلى الله عليه وسلم وهو باطل.

ويرده أيضًا ما أخرجه ابن أبي شيبة (1): عن إبراهيم النخعي: "ما اجتمع أصحاب محمد عليه السلام على شيء ما اجتمعوا على التنوير بالفجر".

ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا زهير بن عباد، قال: ثنا حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن عاصم بن عمرو بن قتادة، عن رجال من قومه من الأنصار من أصحاب النبي عليه السلام قالوا: قال النبي عليه السلام: "أصبحوا بصلاة الصبح، فما أصبحتم بها فهو أعظم للأجر".

وحدثنا محمد بن هشام، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث بن سعد، قال: حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عاصم بن عمر، عن رجال من قومه من الأنصار من أصحاب النبي عليه السلام قالوا: قال رسول الله عليه السلام: "أصبحوا بالصبح. فكلما أصبحتم بها فإنه أعظم للأجر".

ش: هذان طريقان صحيحان:

الأول: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن زهير بن عباد الرؤاسي قال الدراقطني: مجهول.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 284 رقم 3256).

ص: 394

قلت: هو ابن عم وكيع بن الجراح كوفي نزل مصر، وحدث عن مالك وحفص بن ميسرة وجماعة، وعنه الحسن بن سفيان وأبو حاتم الرازي وروح بن الفرج وغيرهم، ووثقه جماعة.

عن حفص بن ميسرة العقيلي أبي عمر الصنعاني نزيل عسقلان روى له البخاري ومسلم والنسائي

إلى آخره.

وأخرجه النسائي (1): من حديث زيد بن أسلم، عن عاصم بن عمر، عن رجال من قومه من الأنصار، أن النبي عليه السلام قال:"ما أصبحتم بالصبح فهو أعظم للأجر".

الثاني: عن محمد بن هشام هو محمد بن حميد بن هشام الرُّعَيْني، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد.

قوله: "أصبحوا" أمر من الإصباح وهو الإسفار والتنوير.

ص: وحدثنا علي بن معبد، قال: ثنا شبابة بن سوار، قال: ثنا أيوب بن سيّار، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن أبي بكر الصديق، عن بلال رضي الله عنهم عن النبي عليه السلام، مثله.

ش: أخرج الطبراني (2) نحوه: ثنا عبد الرحمن بن سالم الرازي، ثنا الهيثم بن اليمان، ثنا أيوب بن سيّار، عن ابن المنكدر، عن جابر، عن أبي بكر، عن بلال رضي الله عنهم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بلال، أصبحوا بالصبح؛ فإنه خير لكم".

وأخرجه البزار في "مسنده"(3) من حديث جابر عن بلال: ثنا محمد بن عبد الرحيم، قال: ثنا شبابة بن سوّار، قال: ثنا أيوب بن سيَّار، عن ابن المنكدر، عن جابر، عن بلال، عن النبي عليه السلام:"أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" وقال:

(1)"السنن الكبرى"(1/ 479 رقم 1513).

(2)

"المعجم الكبير"(1/ 329 رقم 1016).

(3)

"مسند البزار"(4/ 196 رقم 1357)، وفيه جابر، عن أبي بكر، عن بلال. وقد رواه الطبراني أيضًا في "الكبير"(1/ 351 رقم 1067) من نفس الطريق دون ذكر أبي بكر فيه.

ص: 395

أيوب ليس بالقوي، وقال ابن الجوزي: أيوب بن سيّار أبو سيّار الزهري المدني نزل فيد فعرف بالفيدي يروي عن ابن المنكدر، قال يحيى: ليس بشيء. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن المدني: ضعيف جدًا. وقال يحيى مرة: كذاب.

قلت: قال ابن عدي: أظنه مدنيًّا وليست أحاديثه بالمنكرة جدًّا إلا أن الضعف يتبين على رواياته. ولعله عند الطحاوي مَرْضي؛ ولهذا أخرج حديثه في معرض الاستدلال، أو يكون زيادة وتأكيدًا؛ لأن في الباب أحاديث صحيحة كثيرة. فافهم.

وهذا كما قد رأيت أخرج الطحاوي أحاديث هذا الباب عن رافع بن خديج، وعن رجال من الأنصار من الصحابة، وبلال رضي الله عنهم وقال الترمذي: وفي الباب عن أبي برزة الأسلمي وجابر وبلال.

قلت: وفي الباب عن قتادة بن النعمان وابن مسعود وأبي هريرة ومحمود بن لبيد وأنس بن مالك وأبي الدرداء وحواء الأنصارية فحديث أبي برزة وجابر وبلال قد ذكر.

وحديث قتادة عند البزار والطبراني في "الكبير" من حديث فليح بن سليمان، ثنا عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم لأجركم- أو للأجر". ورجاله ثقات.

وحديث ابن مسعود عند الطبراني (1): ثنا أحمد بن أبي يحيى الحضرمي، ثنا أحمد بن سهل بن عبد الرحمن الواسطي، ثنا المعلى بن عبد الرحمن، ثنا سفيان الثوري وشعبة، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا نحوه.

وحديث أبي هريرة عند ابن حبان في كتاب "الضعفاء"(2): من حديث سعيد بن أوس، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعًا، نحوه.

(1)"المعجم الكبير"(10/ 178 رقم 10381).

(2)

"المجروحين"(1/ 324، 325).

ص: 396

وروى البزار في "مسنده" والطبراني في "معجمه"(1) بإسنادهما: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا تزال أمتي على الفطرة ما أسفروا بصلاة الفجر". وفيه حفص بن سليمان ضعفه ابن معين والبخاري وأبو حاتم وابن حبان ووثقه أحمد في رواية، وضعفه في أخرى.

وحديث محمود بن لبيد عند أحمد في "مسنده"(2): ثنا إسحاق بن عيسى، ثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن محمود بن لبيد، عن النبي عليه السلام أنه قال:"أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر". وعبد الرحمن بن زيد ضعيف.

وحديث أنس بن مالك عند البزار: ثنا محمد بن يحيى بن عبد الكريم الأزدي، ثنا خالد بن مخلد، ثنا يزيد بن عبد الملك، عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله عليه السلام: "اسفروا بصلاة الصبح فإنه أعظم للأجر أو أعظم لأجركم". ويزيد بن عبد الملك ضعفه البخاري وأحمد والنسائي وابن عدي، ووثقه ابن معين في رواية وضعفه في أخرى.

وحديث أبي الدرداء عند أبي إسحاق (3) إبراهيم بن محمد بن عُبيد: ثنا أبو زرعة، نا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، ثنا محمد بن شعيب، سمعت سعيد بن سنان يحدث، عن أبي الزاهرية، عن أبي الدرداء، عن النبي عليه السلام قال:"أسفروا بالفجر تفقهوا".

وحديث حواء الأنصارية عند الطبراني في "الكبير"(4): ثنا أحمد بن محمد الجمحي، ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنيني، نا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم،

(1) قال الهيثمي في "المجمع"(2/ 63 رقم 1767): رواه البزار والطبراني في "الكبير" وفيه حفص ابن سليمان ضعفه ابن معين والبخاري وأبو حاتم وابن حبان وقال ابن خراش: كان يضع الحديث ووثقه أحمد في رواية وضعفه في أخرى.

(2)

"مسند أحمد"(5/ 429 رقم 23685).

(3)

انظر "عمدة القاري"(4/ 90).

(4)

"المعجم الكبير"(24/ 222 رقم 563).

ص: 397

عن ابن بجيد الحارثي، عن جدته حواء الأنصارية -وكانت من المبايعات- قالت: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر". وإسحاق بن إبراهيم الحنيني ضعفه النسائي وغيره، وذكره ابن حبان في "الثقات"، والحنيني بضم الحاء، وبعدها نون، ثم ياء آخر الحروف، ثم نون. وابن بُجَيْد بضم الباء الموحدة، وفتح الجيم، وسكون الياء آخر الحروف، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وجدته حواء بنت زيد بن السكن، أخت أسماء بنت زيد بن السكن.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: ففي هذه الآثار الأخبار عن موضع الفضل، وأنه التنوير بالفجر، وفي الآثار الأول التي في الفصلين الأولين الإخبار عن الوقت الذي كان يصلي فيه النبي عليه السلام أي وقت هو، فقد يجوز أن يكون كان رسول الله عليه السلام مرة يغلس، ومرة يسفر على التوسعة، والأفضل من ذلك ما بينه في حديث رافع حتى لا تتضاد الآثار في شيء من ذلك، فهذا وجه ما روي عن النبي عليه السلام في هذا الباب.

ش: أراد بهذه الآثار: التي رويت عن رافع بن خديج، وعن رجال من الأنصار من الصحابة، وعن بلال رضي الله عنهم التي فيها الأمر بالإسفار.

قوله: "الإخبار" بكسر الهمزة.

قوله: "وأنه التنوير" بيان لقوله: "عن موضع الفضل".

قوله: "التي في الفصلين الأولين" أراد بالفصلين فصل أحاديث أهل المقالة الأولى التي فيها الإخبار بالتغليس وفصل أحاديث أهل المقالة الثانية التي فيها الإخبار عن الإسفار؛ فإن كلاًّ من أحاديث الفصلين لا يدل إلا على الوقت الذي كان يصلي فيه النبي عليه السلام أي وقت هو، فليس فيها دليل على أفضلية أحدهما؛ لأنه يجوز أن يفعل أحدهما مع كون الآخر أفضل منه؛ توسعة على أمته، كما ذكرناه فيما مضى.

وأما بيان الأفضل من الفعلين ففي حديث رافع بن خديج؛ لأنه نص عليه بالأمر، وقد ذكرناه مستقصى، فبهذا التوجيه يرتفع التضاد بين أحاديث الفصلين المذكورين، فافهم.

ص: 398

ص: وأما ما روي عمن بعده في ذلك: فإن محمد بن خزيمة قد حدثنا، قال: ثنا الحجاج بن منهال، قال: ثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت منصور بن المعتمر يحدث، عن إبراهيم النخعي، عن حبان بن الحارث قال:"تسحرنا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلما فرغ من السحور أمر المؤذن فأقام الصلاة".

قال أبو جعفر رحمه الله: ففي هذا الحديث أن عليًّا رضي الله عنه دخل في الصلاة عند طلوع الفجر، وليس في ذلك دليل على وقت خروجه منها أي وقت كان؟ فقد يحتمل أن يكون أطال فيها القراءة فأدرك التغليس والتنوير جميعًا، وذلك عندنا حسن.

ش: أي أما الآثار التي رويت عن من بعد النبي عليه السلام في الباب المتنازع فيه، فإن من جملة ما روي في ذلك: أثر على بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه يدل على أنه غلس، فاستدل به أهل المقالة الأولى وقالوا: لو لم يكن التغليس أفضل لما بادر علي رضي الله عنه إلى إقامة الصلاة من بعد فراغه من السحور، فأجاب الطحاوي عن ذلك بقوله: "قال أبو جعفر

" إلى آخره، وهو ظاهر.

ورجال هذا الأثر ثقات.

حِبَّان -بكسر الحاء وتشديد الباء الموحدة- بن الحارث أبو عقيل الكوفي، ذكره ابن حبان في "الثقات".

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا جرير، عن منصور، عن شبيب بن غرقدة، عن أبي عَقِيل قال:"تسحرت مع علي رضي الله عنهم ثم أمر المؤذن أن يقيم".

وأخرجه البيهقي (2): ثنا أبو زكرياء وأبو بكر وأبو سعيد، قالوا: ثنا أبو العباس، قال: أنا الربيع، قال: قال الشافعي: أنا ابن عينية -وفي رواية

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 276 رقم 8930).

(2)

"معرفة السنن والآثار"(1/ 471 رقم 639)، وهو في "سنن البيهقي الكبرى"(1/ 456 رقم 1985) من طريق أبي زكرياء عن أبي العباس.

ص: 399

أبي سعيد- عن ابن عُينية، عن شبيب بن غرقدة، عن حبان بن الحارث قال:"أتيت عليًّا رضي الله عنه وهو معسكر بِدَيْر أبي موسى، فوجدته يطعم، فقال: ادن فكل، فقلت: إني أريد الصوم، قال: وأنا أريده، فدنوت فأكلت، فلما فرغ قال: يا ابن التياح، أقم الصلاة".

ص: فأردنا أن ننظر هل روي عنه ما يدل على شيء من ذلك؛ فإذا أبو بشر الرفي قد حدثنا، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن داود بن يزيد الأودي، عن أبيه قال:"كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يصلي بنا الفجر، ونحن نتراءى الشمس مخافة أن تكون قد طلعت".

فهذا الحديث يخبر عن إنصرافه أنه كان في حال التنوير، فدل ذلك على ما ذكرنا.

ش: لما أول ما روي عن علي رضي الله عنه من الأثر المذكور بالتأويل المذكور، أتى بأثر آخر روي عنه يدل على صحة ما ذكره من التأويل؛ لأنه كان يخبر فيه أنه كان ينصرف عن صلاته في حال التنوير، فإذن لا يتم استدلال أهل المقالة الأولى بالأثر المذكور، بل يكون هو دليلًا لنا عليهم على ما لا يخفى، وعندي جواب آخر فتح لي من الأنوار الإلهية، وهو أن إقامة علي رضي الله عنه الصلاة بعد فراغه من السحور لم يكن لأجل أن التغليس أفضل عنده، وإنما كانت لكونه مشغولًا بأمر العسكر لمصالح العباد، فاستعجل في إقامة الصلاة في أول وقتها ليتفرغ إلى أشغاله، والدليل عليه: رواية البيهقي: "أتيت عليًّا وهو يعسكر بِدَيْر أبي موسى" فكان علي على السفر وتجهيز العسكر، وكان تغليسه لذلك، وكان ربما لو أخر إلى الإسفار لضاعت مصالح المسلمين، ورعاية مصالح المسلمين أولى بل أوجب من رعاية الوقت المستحب، فافهم.

وأبو بشر الرقي اسمه عبد الملك بن مروان وقد تكرر ذكره. وشجاع بن الوليد بن قيس السكوني روى له الجماعة، وداود بن يزيد الأودي الزعافري أبو يزيد الكوفي الأعرج، عمّ عبد الله بن إدريس، فيه مقال، فضعفه أحمد ويحيى، وروى له الترمذي وابن ماجه.

ص: 400

وأبوه يزيد بن عبد الرحمن الأودي جد عبد الله بن إدريس، وثقه ابن حبان.

وأخرجه بن جرير الطبري: من حديث داود بن يزيد الأودي، عن أبيه قال:"كان علي رضي الله عنه يصلي بنا الفجر ونحن نتوقى الشمس مخافة أن تكون قد طلعت".

ص: وقد روي عنه أيضًا في ذلك الأمر بالإسفار، كما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، عن سعيد بن عُبيد، عن علي بن ربيعة، قال: سمعت عليًّا رضي الله عنه يقول: يا قنبَرْ أسفر أسفر".

وكما حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا ابن الأصبهاني، قال: ثنا سيف بن هارون البرجمي، عن عبد الملك بن سَلع الهمداني، عن عبد خير قال:"كان علي رضي الله عنه ينور بالفجر أحيانًا، ويغلس بها أحيانًا".

قال أبو جعفر رحمه الله: فيحتمل تغليسه بها أن يكون تغليسًا يدرك به الإسفار.

ش: أي وقد روي عن علي رضي الله عنه أيضًا في الإسفار: الأمر به، وروي عنه أيضًا أنه كان تارة يسفر، وتارة يغلس، فتغليسه يحتمل أن يكون تغليسًا يدرك به الإسفار، وبهذا يحصل التوفيق بين أمره بالإسفار وبين تغليسه بنفسه وإسفاره بنفسه أيضًا، فافهم.

فالأول: أخرجه عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن سعيد بن عبيد الطائي أبي الهزيل الكوفي، عن علي بن ربيعة الوالبي أبي المغيرة الكوفي.

وهذا إسناد صحيح؛ لأن رواته ثقات.

وأخرجه ابن جرير الطبري.

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن الثورى، عن سعيد بن عبيد، عن

(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 569 رقم 2165).

ص: 401

علي بن ربيعة، قال:"سمعت عليًّا رضي الله عنه يقول لمؤذنه: أسفر أسفر يعني صلاة الصبح".

وقُنْبر -بضم القاف، وسكون النون، وفتح الباء الموحدة، وقيل: بفتح القاف، وقيل: بضم القاف والباء أيضًا -وهو مولى علي بن أبي طالب، ويقال: كان (كرديًا)(1).

والثاني: أخرجه عن فهد بن سليمان بن يحيى الكوفي، عن محمد بن سعيد بن سليمان الأصبهاني شيخ البخاري، عن سيف بن هارون البرجمي أبي الورقاء الكوفي، فيه مقال؛ فعن يحيى: ليس بذاك، وقال النسائي والدارقطني: ضعيف. وزاد الدارقطني: متروك. روى له الترمذي وابن ماجه.

والبُرْجمي -بضم الباء الموحدة وسكون الراء، وضم الجيم- نسبة إلى أحد البراجم وهم قيس وكلفة وغالب وعمرو، أولاد حنظلة بن مالك بن زيد مناة، وأكثر أهل الحديث يفتحون الباء.

عن عبد الملك بن سَلع الهمداني الكوفي، وثقه ابن حبان وقال: كان ممن يخطئ، ونسبته إلى هَمْدان -بسكون الميم- قبيلة كبيرة.

عن عبد خير بن يزيد الهمداني أبي عمارة الكوفي، مخضرم، وثقه العجلي وابن معين.

قوله: "قال أبو جعفر:" قد ذكرنا فحوى ما قاله، وعندي جواب آخر في هذا، وهو: أنه إنما كان ينور أحيانا عند فراغه من الاشتغال بأمور الناس فيسفر؛ طلبًا لفضيلة الوقت المستحب التي حث عليها عليه السلام بأمره وفعله، وكان يغلس أحيانًا لاشتغاله بأمور الناس مثل تجهيز العساكر أو السفر إلى ناحية، ونحو ذلك، وكان يغلس عند مثل ذلك لئلا يفوت مصالح العباد.

(1) كذا "بالأصل، ك"، وفي "مغاني الأخيار" (4/ 53) يقال: كردي حتى لا يدري ما يقول.

قلت: ولعل الصواب: كَبُرَ حتى لا يدري ما يقول. وهذا هو نص كلام الأزدي كما نقله عنه الذهبي في "الميزان"(3/ 392) فتصحفت على المؤلف رحمه الله. والله أعلم.

ص: 402

ص: وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثل ذلك:

كما حدثنا فهد، قال: ثنا ابن الأصبهاني، قال: أنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن خرشة بن الحر قال:"كان عمر رضي الله عنه ينور بالفجر، ويغلس، ويصلي فيما بين ذلك، ويقرأ سورة يوسف ويونس، وقصار المثاني والمفصل".

ش: أي مثل ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه روي عن عمر رضي الله عنه في الإسفار والتغليس معًا.

أخرجه بإسناد صحيح:

عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الكوفى المقرئ، عن أبي حَصين -بفتح الحاء- اسمه عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي، عن خرشة -بفتح الخاء المعجمة، وفتح الراء والشين المعجمة- بن حُرٍّ الفزاري مختلف في صحبته، وذكره ابن حبان في التابعين.

وأخرجه عبد الرزاق (1) بدون ذكر القراءة: عن أبي بكر بن عياش، عن أبي حَصين، عن خرشة بن الحر قال:"كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يغلس بصلاة الصبح ويسفر، ويصليها بين ذلك" انتهى.

معناه أنه تارة كان يسفر بالفجر، وتارة كان يغلس، وتارة كان يصلي بين التغليس والإسفار.

قوله: "وقصار المثاني" أراد بالمثاني السور التي تقصر عن المئين وتزيد على المفصَّل كأن المئين جعلت مبادئ والتي تليها مثاني.

قوله: "والمفصل" عطف على قوله: "المثاني" أي فقرأ قصار المفصل، والمفصل السبع السابع؛ سمي به لكثرة فصوله، وهو من سورة "محمد" -وقيل: من "الفتح" وقيل: من "قاف"- إلى آخر القرآن، وقصار المفصل مِنْ "لم يكن" إلى

(1)"مصنف عبد الرزاق"(1/ 570 رقم 2168).

ص: 403

آخر القرآن، وأوساطه من "والسماء ذات البروج" إلى، "لم يكن" وطواله من سورة "محمد" أو من "الفتح" إلى "والسماء ذات البروج".

ص: وقد رويت عنه آثار متواترة تدل على أنه قد كان ينصرف من صلاته مسفرًا:

كما قد حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه سمع عبد الله بن عامر يقول:"صلينا وراء عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاة الصبح فقرأ فيها بسورة يوسف وسورة الحج، قراءة بطيئة، فقلت: والله إذًا لقد كان يقوم حين يطلع الفجر، قال: أجل".

وحدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: حدثني محمد بن يوسف، قال: سمعت السائب بن يزيد، قال:"صليت خلف عمر رضي الله عنه الصبح، فقرأ بالبقرة، فلما انصرفوا استشرفوا الشمس، فقالوا: طلعت. فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين".

وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك ابن ميسرة، عن زيد بن وهب، قال: صلى بنا عمر رضي الله عنه صلاة الصبح، فقرأ ببني إسرائيل والكهف، حتى جعلت أنظر إلى جدر المسجد هل طلعت الشمس؟ ".

وحدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: ثنا مسعر، قال: أخبرني عبد الملك بن ميسرة، عن زيد بن وهبا قال:"قرأ عمر رضي الله عنه في صلاة الصبح بالكهف وبني إسرائيل".

وحدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا سفيان بن عُيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عامر:"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ في الصبح بسورة الكهف وسورة يوسف".

وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا حماد بن زيد، قال: ثنا بُديل بن ميسرة، عن عبد اللهَ بن شقيق، قال: "صلى بنا الأحنف بن قيس

ص: 404

صلاة الصبح بعاقول الكوفة، فقرأ في الركعة الأول "الكهف" وفي الثانية بسورة "يوسف" قال: وصلى بنا عمر رضي الله عنه صلاة الصبح فقرأ بهما فيهما".

وحدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:"صلى بنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمكه صلاة الفجر، فقرأ في الركعة الأولى بيوسف حتى بلغ {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (1)، ثمِ ركع فقام، فقرأ في الثانية بالنجم فسجد ثم قام فقرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (2) ورفع صوته بالقراءة، حتى لو كان في الوادي أحد لأسمعه".

وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه:"أنه صلى مع عمر رضي الله عنه الفجر، فقرأ في الركعة الأولى بيوسف، وفي الثانية بالنجم فسجد".

وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا أبي، قال: سمعت الأعمش يحدث، عن إبراهيم التيمي، عن حصين بن سبرة قال: "صلى بنا عمر رضي الله عنه

" فذكرمثله.

قال أبو جعفر رحمه الله: فلما روي ما ذكرنا عن عمر رضي الله عنه في حديث عبد الله بن عامر، أن قراءته تلك كانت بطيئة لم يجز -والله أعلم- أن يكون دخوله فيها كان إلا بغلس، ولا خروجه منها كان إلا وقد أسفر إسفارًا شديدًا.

ش: أي قد رويت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه آثار متكاثرة، كلها تدل على أنه قد كان ينصرف من صلاته في الصبح في حالة الإسفار؛ وذلك لأن عبد الله بن عامر قد روي عنه أنه قرأ في الصبح بسورة "الكهف" وسورة "يوسف" وأن قراءته كانت بطيئة يعني كان يتأنى فيها ويترسل، ولا يتصور ذلك إلا أن يكون دخوله في

(1) سورة يوسف، آية:[84].

(2)

سورة الزلزلة، آية:[1].

ص: 405

الصلاة بغلس، وخروجه إلا بعد الإسفار الشديد؛ لأن قراءة هاتين السورتين مع التأني والتوقف يقتضي ساعة مديدة، وهذا ظاهر حسيًّا ولا يُنكر، فَعُلم من هذا كله أن الإسفار مطلوب مستحب؛ لأن عمر رضي الله عنه ما كان يطول في القراءة إلا لينال هذه الفضيلة، ولأن فيه شغل كل الوقت بالعبادة، على أن الأصل أن يكون وقت كل صلاة مشغولًا بصلاته، وأن يشرع المصلي فيها من أوله ويمدها إلى آخره، ولكن الله تعالى رخص لعَبيدِه رحمةً عليهم، أن يصلوا كل صلاة في وقتها في أي جزء كان من ساعاتها بعد أن يُجانبوا التفويت والتفريط.

ثم إنه أخرج الآثار المذكورة من تسع طرق صحاح، رجالها كلهم ثقات:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب المصري، عن مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن عبد الله بن عامر بن ربيعة العَنْزي -بفتح العين، وسكون النون- مات رسول الله عليه السلام وعمره خمس سنين، وروى عنه عليه السلام.

وأخرجه مالك في "موطإه"(1): عن هشام بن عروة

إلى آخره نحوه سواء.

وقال مسلم (2): أصحاب هشام بن عروة كلهم يروون هذا الحديث عن هشام بن عروة، قال: أخبرني عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: "صليت خلف عمر رضي الله عنه" ولم يقولوا: عن أبيه، كذلك رواه أبو أسامه وحاتم بن إسماعيل ووكيع ابن الجرح، عن هشام بن عروة، وهو الصواب عندي؛ لأنهم جماعة حفاظ.

قوله: "فقلت" قائله عروة بن الزبير، وعلى قول مسلم قائله هشام بن عروة.

قوله: "لقد كان يقوم حين يطلع الفجر" أي لقد كان عمر بن الخطاب يقوم إلى الصلاة من حين طلوع الفجر؛ وذلك لأن هذه القراءة الطويلة تقتضي وقتًا مديدًا ولا يكون ذلك إلا من حين طلوع الفجر إلى وقت الإسفار جدًّا.

(1)"موطأ مالك"(1/ 82 رقم 183).

(2)

"التمييز"(1/ 220) بنحوه.

ص: 406

الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز، عن يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن محمد بن يوسف بن بنت السائب بن يزيد، من رجال "الصحيحين"، عن السائب بن يزيد بن سعد الأسدي، ويقال: الليثي، ويقال: الهذلي، الصحابي، له ولأبيه صحبة.

قوله: "فقرأ بالبقرة" أي بالسورة التي تذكر فيها البقرة.

قوله: "استشرفوا الشمس" أي حدَّقوا النظر إليها، وأصل الاستشراف أن تضع يدك على حاجبك، وتنظر كالذي يستظل من الشمس حتى يستبين الشيء، وأصله من الشرف والعلو. كأنه ينظر إليه من موضع مرتفع، فيكون أكثر لإدراكه.

قوله: "لو طلعت لم تجدنا غافلين" أي لو طلعت الشمس لم تجدنا في غفلة من العبادة، بل كانت تجدنا في العبادة والطاعة.

كما جاء في رواية عبد الرزاق (1): "لو طلعت لألفتنا غير غافلين" وهذا يدل جزمًا أن عمر رضي الله عنه كان يسفر بالصبح جدًّا بعد أن كان يشرع فيها بالغلس؛ لأن قراءة سورة البقرة تقتضي ساعة مديدة؛ لأنها مائتا آية وسبعة وثمانون آية، ولا سيما قراءة عمر رضي الله عنه أنه كان يقرأ بالترسل والتأني والتفكر في معانيه والتدبر في ألفاظه المعجزة.

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن عبد الملك بن ميسرة الهلالي العامري أبي زيد الكوفي الزرَّاد، عن زيد بن وهب الجهني أبي سليمان الكوفي، رحل إلى النبي عليه السلام، فقبض وهو في الطريق.

وهؤلاء كلهم من رجال الصحيحين وغيرهما ما خلا ابن مرزوق.

وأخرجه ابن جرير الطبرى، من حديث زيد بن وهب نحوه.

(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 115 رقم 2717).

ص: 407

الرابع: عن يزيد بن سنان القزاز، عن يحيى بن سعيد القطان، عن مسعر بن كدام

إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة فى "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن مسعر، عن عبد الملك بن ميسرة، عن زيد بن وهب:"أن عمر رضي الله عنه قرأ في الفجر "الكهف" و"بني إسرائيل".

الخامس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عُيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عامر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه

إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن وكيع، عن هشام بن عروة، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال:"سمعت عمر رضي الله عنه يقرأ في الفجر بسورة يوسف قراءة بطيئة". وقد أسقط في رواية ابن أبي شيبة: عروة بن الزبير بين هشام، وعبد الله بن عامر، وهو الذي نص عليه مسلم أنه هو الصواب، كما ذكرناه عن قريب.

السادس: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي أبي عمرو القصاب البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن بُدَيْل بن ميسرة العقيلي البصري، عن عبد الله بن شقيق العقيلي البصري أنه قال: "صلى بنا الأحنف بن قيس بن معاوية التميمي أبي بحر البصري، والأحنف لقبه، واسمه: الضحاك. وقيل: صخر، أدرك حياة النبي عليه السلام ولم يره.

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): عن معتمر بن سليمان، عن الزبير بن خريت، عن عبد الله بن شقيق، عن الأحنف قال:"صليت خلف عمر رضي الله عنه الغداة، فقرأ بيونس وهود ونحوهما".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 310 رقم 3547) دون ذكر "وبني إسرائيل".

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 310 رقم 3548).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 310 رقم 3546).

ص: 408

قوله: "بعاقول الكوفة" قال في "العُباب": دَيْر العاقول موضع بين المدائن والنعمانية والعاقول من النهر والوادي والرمل: المعوج، وعاقولى اسم الكوفة في التوراة.

قوله: "بهما فيهما" أي بالكهف ويوسف، في ركعتي الفجر.

السابع: عن روح بن الفرج، عن يوسف بن عدي بن زريق الكوفي شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عمرو بن مرة بن عبد الله الكوفي الأعمى، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى

إلى آخره.

وهؤلاء كلهم من رجال الصحيح ما خلا روحًا.

الثامن: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي تيم الرباب، عن أبيه يزيد بن شريك بن طارق التيمي

إلى آخره.

وأخرجه عبد الرزاق (1): عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن حصين بن سبرة، عن عمر بن الخطاب:"أنه قرأ في الفجر بيوسف وركع، ثم قرأ في الثانية بالنجم فسجد، ثم قام فقرأ {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (2) ".

التاسع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم بن زيد الجهضمي، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن حصين ابن سَبْرة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن حصين بن سبرة، قال: "صليت خلف عمر رضي الله عنه فقرأ في

(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 116 رقم 2724) من طريق الثوري وابن عيينة عن الأعمش

(2)

سورة الزلزلة، آية [1].

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 312 رقم 3564).

ص: 409

الركعة الأول بسورة يوسف، ثم قرأ في الثانية بالنجم، فسجد ثم قام فقرأ {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (1) ثم ركع".

ص: وكذلك كان يكتب إلى عماله:

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، قال: ثنا محمد بن سيرين، عن المهاجر:"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى رضي الله عنه أن صلى الفجر بسوادٍ -أو قال: بغلس- وأطل القراءة".

وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا ابن عون، عن محمد، عن المهاجر، عن عمر مثله.

قال أبو جعفر رحمه الله: أفلا تراه يأمرهم أن يكون دخولهم فيها بغلس، وأن يطيلوا القراءة؟! فذلك عندنا إرادة منه أن يدركوا الإسفار.

ش: أي مثل ما كان عمر رضي الله عنه يفعل من الشروع في صلاة الصبح في الغلس، وتطويل القراءة إلى الإسفار الشديد، كان كذلك يكتب إلى عُمَّاله -بضم العين وتشديد الميم- جمع عامل، وأراد بهم نوابه في بلاد الإِسلام، وكان أبو موسى الأشعري، واسمه عبد الله بن قيس من جملة نوابه، وكان عمر رضي الله عنه استنابه على البصرة، واستعمله عثمان رضي الله عنه على الكوفة، توفي بمكان يقال له: الثَّوِيَّة، على ميلين من الكوفة، سنة اثنين وخمسين، وقيل: سنة إحدى، وقيل: سنه ثنتين وأربعين، وقيل: غير ذلك.

وأخرج الأثر المذكور من طريقين حسنين جيدين.

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري، ونسبته إلى حوض داود بن المهدي بن المنصور، محلة ببغداد.

عن يزيد بن إبراهيم التسترى البصري، عن محمد بن سيرين، عن المهاجر -غير

(1) سورة الزلزلة، آية [1].

ص: 410

منسوب- ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: لا أدري من هو، ولا ابن من هو.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: أخبرني المهاجر قال: "قرأت كتاب عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما فيه مواقيت الصلوات، فلما انتهى إلى الفجر -أو قال: إلى الغداة- قال: قم فيها بسواد -أو بغلس- وأطل القراءة".

قوله: "بسوادٍ" أراد به سواد الصبح بعد طلوع الفجر الثاني، وكذلك الغلس وقد مرَّ غير مرة، أن المراد منه: اختلاط ظلام الليل ببياض النهار.

الثاني: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري، عن محمد بن سيرين، عن المهاجر مثله.

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن معمر، عن قتادة، عن أبي العالية، قال:"كتب عمر رضي الله عنه: أن صل الصبح إذا طلع الفجر والنجوم مشتبكة بغلس، وأطل القراءة".

ص: وكذلك كل من روينا عنه في هذا شيئًا سوى عمر رضي الله عنه قد كان ذهب إلى هذا المذهب أيضا.

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال:"صلى بنا أبو بكر رضي الله عنه صلاة الصبح، فقرأ بسورة إلى عمران، فقالوا: قد كادت الشمس تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين".

وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا ابن لهيعة، قال: ثنا عبيد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزبيدي قال: "صلى بنا

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 283 رقم 3235).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(1/ 570 رقم 2170).

ص: 411

أبو بكر رضي الله عنه صلاة الصبح، فقرأ بسورة البقرة في الركعتين جميعًا، فلما انصرف قال له عمر رضي الله عنه: كادت الشمس تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين".

قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا أبو بكر رضي الله عنه قد دخل فيها في وقت غير الإسفار، ثم مد القراءة فيها حتى خيف عليه طلوع الشمس، وهذا بحضرة أصحاب رسول الله عليه السلام وبقرب عهدهم برسول الله عليه السلام وبفعله، لا ينكر ذلك عليه منهم منكر؛ فدل ذلك على متابعتهم له، ثم فعل ذلك عمر رضي الله عنه من بعده فلم ينكر عليه من حضره منهم؛ فثبت بذلك أن هكذا يفعل في صلاة الفجر، وأن ما علموا من فعل رسول الله عليه السلام فغير مخالف لذلك.

ش: أي كل من روينا عنه من الصحابة في هذا الباب سوى عمر رضي الله عنه قد كانوا يذهبون إلى مذهب عمر رضي الله عنه في شروعهم في صلاة الصبح في الغلس، ومدهم القراءة إلى الإسفار الشديد، قصدًا منهم لما قصده عمر رضي الله عنه.

قوله: "حدثنا سليمان

" إ إد آخره، بيان لما قبله، وأخرجه عن طريقين:

الأول: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة بن الحجاج، عن قتادة، عن أنس.

وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن ابن عيينة، عن الزهري، عن أنس:"أن أبا بكر رضي الله عنه قرأ في صلاة الصبح بالبقرة، فقال له عمر رضي الله عنه حين فرغ: كربت الشمس أن تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين".

وأخرج عبد الرزاق (2): عن معمر، عن قتادة، عن أنس قال:"صليت خلف أبي بكر، فاستفتح بسورة آل عمران، فقام إليه عمر فقال: يغفر الله لك، لقد كادت الشمس تطلع قبل أن تسلم، فقال: لو طلعت لألفتنا غير غافلين".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 310 رقم 3545).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 113 رقم 2712).

ص: 412

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة فيه مقال، عن عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب السبائي المصري، عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزُّبَيْدي الصحابي، والزُّبَيدي -بضم الزاي وفتح الباء- نسبة إلى زُبَيْد الأكبر، وإليه ترجع قبائل زُبَيْد.

قوله: "فهذا أبو بكر اقد دخل فيها -أي في صلاة الصبح

" إلى آخره غني عن البيان.

ص: فإن قال قائل: فما معنى قول ابن عمر رضي الله عنهما: لمغيث بن سمي لما غلس ابن الزبير بالفجر: هذه صلاتنا مع رسول الله عليه السلام ومع أبي بكر ومع عمر فلما قتل عمر أسفر بها عثمان رضي الله عنهم؟

قيل له: يحتمل أن يكون أراد بذلك وقت الدخول فيها لا وقت الخروج منها حتى يتفق ذلك وما روينا قبله، ويكون قوله:"ثم أسفر بها عثمان" أي ليكون خروجهم في وقت يأمنون فيه، ولا يخافون فيه أن يغتالوا كما اغتيل عمر رضي الله عنه.

ش: تقرير السؤال: أن قول ابن عمر رضي الله عنهما لمغيث حين غلس عبد الله بن الزبيرى رضي الله عنهما: هذه صلاتنا مع رسول عليه السلام ومع أبي بكر وعمر، وهذا يدل على أن النبي عليه السلام ما كان يسفر، ولا أبو بكر من بعده، ولا عمر من بعدهما، وأن الإسفار لم يعمل به إلا عثمان رضي الله عنه بعد أن طُعن عمر في صلاة الصبح؛ خوفًا من غفلة الاغتيال، وهذا ينافي ما ذكرتم.

وتقرير الجواب: أن قول ابن عمر رضي الله عنهما ذلك محمول على أنه أراد به وقت الدخول في صلاة الفجر فقط، ولم يرد به وقت الخروج منها؛ إذ لو لم يكن المعنى على هذا يقع التضاد بين قول ابن عمر وبين ما روي عن غيره، فيما ذُكر في هذا الباب.

فإذا حمل قوله على هذا المعنى تتفق الروايات ولا تتضاد، ومعنى قوله:"أسفر بها عثمان" أي أسفر ابتداءً وانتهاء؛ لأنه كان يخاف الغيلة من الأعداء كما اغتيل

ص: 413

عمر رضي الله عنه وكان يسفر من الأول بخلاف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فإنهما كانا يسفران بعد أن كانا يشرعان بغلس، فيكون كلهم متفقين في الخروج عنها في الإسفار، وهو المطلوب.

ثم حديث مغيث بن سمي أخرجه الطحاوي في أول هذا الباب في حجج أهل المقالة الأولين.

وأخرجه ابن ماجه (1) والبيهقي (2) في سننيهما.

ص: وقد روي عن عثمان رضي الله عنه ما يدل أنه كان يدخل فيها بسواد؛ لإطالة القراءة فيها، كما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد وربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن القاسم بن محمد، أن الفرافصة بن عمير الحنفي أخبره قال:"ما أخذت سورة يوسف إلا من قراءة عثمان بن عفان إياها في الصبح، من كثرة ما كان يرددها".

قال أبو جعفر: فهذا يدل أيضًا أنه قد كان يحذو فيها حذو من كان قبله من الدخول فيها بسواد، والخروج منها في حال الإسفار.

ش: أي قد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أيضًا ما يدل على أنه كان يشرع في صلاة الصبح بالغلس، ويطيل القراءة إلى الإسفار الشديد، كما كان أبو بكر وعمر يفعلانه، فهذا أيضًا يدل على أنه قد كان يحذو فيها أي في صلاة الصبح حَذْو من كان قبله من الصحابة من الدخول فيها بالغلس، والخروج منها في الإسفار، يقال: حَذَا فلانٌ حَذْو فلانٍ أي اقتدى به في طريقته، وكذلك احتذى به: أي اقتدى به، وأصله من حذوت النعل بالنعل حذوًا: إذا قدرت كل واحدة على صاحبتها، يقال: حذو القذة بالقذة.

وإسناد الأثر المذكور صحيح. ويحيى بن سعيد الأنصاري قاضي المدينة، وربيعة

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 221 رقم 671).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 456 رقم 1982).

ص: 414

هو المعروف بالرأي أحد مشايخ مالك وأبي حنيفة، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق روى له الجماعة، والفرافصة بفائين وراء خفيفة، وصاد مهملة، إلا أنه عند المحدثين بفتح الفاء الاولى، وقال غيرهم: الفاء الأول مضمومة، وثقه ابن حبان.

وأخرجه مالك في "موطأه"(1)، وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (2) ولكن في روايته عن عمر موضع عثمان: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا عبد الله، قال: أخبرني ابن الفرافصة، عن أبيه قال:"تعلمت سورة يوسف خلف عمر رضي الله عنه في الصبح".

ص: وقد كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ينصرف منها مسفرًا كما حدثنا فهد، قال: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثني إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد:"أنه كان يصلي مع إمامهم في التيم فيقرأ بهم سورة من المائين، ثم يأتي عبد الله فيجده فى صلاة الفجر".

وكما حدثنا أبو الدرداء هاشم بن محمد الأنصاري، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا أبو إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال:"كنا نصلي مع ابن مسعود رضي الله عنه فكان يسفر بصلاة الصبح".

فقد عقلنا بهذا أن عبد الله كان يسفر، فعلمنا بذلك أن خروجه منها كان حينئذ، ولم يُذكر في هذه الأحاديث دخوله فيها في أى وقت كان؟ فذلك عندنا والله أعلم على مثل ما روي عن غيره من أصحابه.

ش: أشار بهذا إلى أن عبد الله بن مسعود أيضًا كان يفعل كما كان أبو بكر وعمر وعثمان يفعلون من الانصراف عنها مسفرين، ولكن لم يتبين في ذلك دخوله في أي وقت كان؟ فذلك أيضًا محمول على مثل ما روي عن غيره من أنه كان يغلس ويمد القراءة إلى الإسفار الشديد.

وأخرج أثره عن طريقين صحيحين:

(1)"موطأ مالك"(1/ 82 رقم 184).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 310 رقم 3549).

ص: 415

الأول: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص الكوفي شيخ البخاري ومسلم، عن أبيه حفص بن غياث بن طلق قاضي الكوفة أحد أصحاب أبي حنيفة، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، عن الحارث بن سويد التيمي أبي عائشة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1) بدون ذكر ابن مسعود: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، قال:"كان إمامنا يقرأ بنا في الفجر بالسورة من المائين".

قوله: "في التيم" أي في قبيلة التيم، وتيم من قريش رهط أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهو بن مالك بن النضر، وتيم بن غالب بن فهو أيضًا من قريش وهم بنو الأدرم وتيم بن عبد مناة بن آد بن طابخة بن إلياس بن مضر، وتيم بن قيس بن ثعلبة بن عكابة في بكر، وتيم اللات أيضًا في الخزرج من الأنصار، وهم تيم اللات بن ثعلبة، واسمه النجار، وتيم الله من بكر يقال لهم: اللهازم وهو تيم الله بن ثعلبة بن عكابة، وتيم الله في النمر بن قاسط.

قوله: "فيقرأ بهم" أي فيهم بسورة من المائين كسورة آل عمران، والنساء، والمائدة ونحوها.

الثاني: عن أبي الدرداء هاشم بن محمَّد الأنصاري مؤذن بيت المقدس، عن آدم بن أبي إياس التميمي العسقلاني شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عبد الرحمن ابن يزيد بن قيس النخعي.

والكلُّ رجال الصحيح ما خلا هاشمًا.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 311 رقم 3555).

ص: 416

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال:"كان ابن مسعود رضي الله عنه ينور بالفجر".

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال:"كان عبد الله يسفر بصلاة الغداة".

ص: وقد كان يُفعل أيضًا مثل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثنا إسماعيل ابن يحيى المزني، قال: ثنا محمَّد بن إدريس، قال: أنا سفيان، قال: ثنا عثمان بن أبي سليمان، قال: سمعت عراك بن مالك يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: "قدمت المدينة ورسول الله عليه السلام بخيبر، ورجل من بني غفار يؤم الناس، فسمعته يقرأ في صلاة الصبح في الركعة الأولى بسورة مريم، وفي الثانية {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} ".

وكما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا فضيل بن سليمان، عن خثيم بن عراك بن مالك، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مثله، غير أنه قال:"واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وصليت خلفه".

قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا سباع بن عرفطة رضي الله عنه قد كان في عهد النبي عليه السلام باستخلاف النبي عليه السلام إياه يصلي بالناس صلاة الصبح هكذا، يطيل فيها القراءة حتى يصيب فيها التغليس والإسفار جميعًا.

ش: أي قد كان يفعل أيضًا مثل ما ذُكر من تطويل القراءة في الصبح، الذي يدل على الإسفار على عهد رسول الله عليه السلام أي على زمنه وأيامه، كما في حديث أبي هريرة، فإنه أخبر أن سباع بن عرفطة قد كان يصلي بالناس صلاة الصبح باستخلاف النبي عليه السلام إياه حين سافر إلى خبير، وكان يقرأ في الركعة الأولى بسورة (مريم)، وفي الثانية بـ (المطففين)، وإنما كان يفعل هكذا حتى يجمع بين التغليس

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 284 رقم 3249).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(1/ 568 رقم 2160).

ص: 417

والإسفار، وهو يدل أيضًا على أن عنده علمًا من النبي عليه السلام في ذلك.

وأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن مسلم المزني أبي إبراهيم صاحب الإِمام الشافعي الفقيه المشهور المقدم في مذهب الشافعي خال الطحاوي، عن محمد بن إدريس الإِمام الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن عثمان بن أبي سليمان ابن جبير بن مطعم القرشي النوفلي المكي، عن عراك بن مالك الغفاري المدني، عن أبي هريرة.

وأخرجه ابن حزم في "المحلى"(1): من حديث سفيان بن عيينة، عن عثمان بن أبي سليمان النوفلي، عن عراك بن مالك، سمع أبا هريرة يقول:"قدمت المدينة ورسول الله عليه السلام بخيبر، فوجدت رجلًا من غفار يؤم الناس في صلاة الصبح، يقرأ في الركعة الأول. سورة (مريم)، وفي الثانية: (ويل للمطففين) ".

قوله: "ورسول الله عليه السلام بخيبر" جملة حالية، وكذلك قوله:"ورجل من بني غفار" جملة حالية، وهذا الرجل هو سباع بن عرفطة الغفاري كما فسره في الرواية الثانية، وكانت خيبر في سنة ست على قول الزهري، والصحيح أن ذلك في أول سنة سبع.

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن المُقدَّمي -بضم الميم، وفتح الدال المشددة- وهو محمَّد بن أبي بكر بن على بن عطاء بن مقدم شيخ البخاري ومسلم، عن فضيل بن سليمان النميري، عن خثيم بن عراك بن مالك، عن أبيه عراك بن مالك الغفاري المدني، عن أبي هريرة.

وأخرجه البيهقي في "سُننه"(2): من حديث الدراوردي، حدثني خثيم بن عراك، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: "خرج رسول الله عليه السلام فاستخلف سباع بن

(1)"المحلى"(4/ 105) بلفظ: "يؤم الناس في صلاة المغرب".

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 390 رقم 3828).

ص: 418

عرفطة على المدينة، فقدمت المدينة مهاجرًا، فصليت الصبح وراءه، فقرأ في السجدة الأولى: سورة مريم، وفي الأخرى: ويل للمطففين".

وقال الذهبي: إسناده صالح، وسباع بن عرفطة من مشاهير الصحابة.

ص: وقد روي أيضًا عن أبي الدرداء رضي الله عنه من هذا شيء كما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا معاوية ابن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير قال:"صلى بنا معاوية الصبح بغلس، فقال أبو الدرداء: أسفروا بهذه الصلاة فإنه أفقه لكم، إنما تريدون أن تخلوا بحوائجكم".

فهذا عندنا والله أعلم من أبي الدرداء على إنكاره عليهم ترك المد بالقراءة إلى وقت الإسفار، لا على إنكاره وقت الدخول فيها، فلما كان ما روينا عن أصحاب رسول الله عليه السلام وهو الإسفار الذي يكون الانصراف من الصلاة فيه مع ما روينا عنهم من إطالة القراءة في تلك الصلاة؛ ثبت أن الإسفار بصلاة الصبح لا ينبغي لأحد تركه، وإن التغليس لا يفعل إلا ومعه الإسفار، فيكون هذا في أول الصلاة، وهذا في آخرها.

ش: أي وقد روي أيضًا عن أبي الدرداء عويمر بن مالك الصحابي رضي الله عنه من هذا شيء أي من الإسفار بالصبح، كما في الأثر الذي أخرجه الطحاوي، عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني أيضًا، عن محمَّد بن المثنى البصري الحافظ شيخ الجماعة، عن عبد الرحمن بن مهدي روى له الجماعة، عن معاوية بن صالح بن حُدير الحمصي قاضي الأندلس روى له الجماعة، البخاري في غير الصحيح، عن أبي الزهراية حدير بن كريب الحمصيى روى له مسلم وأبو داود، عن جبير بن نفير بالتصغير فيهما الحمصي روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح.

وأخرجه أبو إسحاق إبراهيم بن محمَّد بن عبيد مرفوعًا: ثنا أبو زرعة، ثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، ثنا محمد بن شعيب، سمعت سعيد بن سنان

ص: 419

يحدث، عن أبي الزاهرية، عن أبي الدرداء، عن النبي-عليه السلام قال:"أسفروا بالفجر تفقهوا". وقد ذكرناه مرة عن قريب.

قوله: "فإنه أفقه لكم" أي الإسفار أبين لكم، والفقه في اللغة الفهم، والبيان لازمه.

قوله: "تريدون أن تخلوا بحوائجكم" من خلوت بالشيء خلوة وخلاء إذا اشتغلت به وتفرغت له، ومراده أنكم تستعجلون في الصلاة ولا تطيلون القراءة إلى الإسفار لتختلوا بحوائج الدنيا وتشتغلوا بها، وإنكاره عليهم في هذا لا في دخولهم وقت الغلس، ولو لم يكن عنده علم من إستحباب الإسفار لما أنكر عليهم بذلك؛ فدل ذلك على أن التغليس وحده لا ينبغي أن يفعل وإنما التغليس المستحب هو الذي يكون آخره إسفار فافهم.

ص: قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما معنى ما روي عن عائشة رضي الله عنها: "أن النساء كن يصلين الصبح مع رسول الله عليه السلام ثم ينصرفن وما يعرفن من الغلس".

قيل: يحتمل أن يكون هذا قبل أن يؤمر بإطالة القراءة فيها؛ فإنه قد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا مرجَّا بن رجاء، قال: ثنا داود -يعني داود بن أبي هند- عن السبيعي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"أول ما فرضت الصلاة: ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله عليه السلام المدينة وصل إلى كل صلاة مثلها، غير المغرب فإنها وتر، وصلاة الصبح؛ لطول قراءتها، وكان إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى".

قال أبو جعفر: فأخبرت عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث أن رسول الله أن عليه السلام كان يصلي قبل أن يتم الصلاة على مثال ما يصلي إذا سافر، وحكم المسافر تخفيف الصلاة، ثم أحكم بعد ذلك فزيد في بعض الصلاة، وأمرنا بإطالة بعضها، فيجوز -والله أعلم- أن يكون ما كان يفعل من تغليسه بها، وانصراف النساء المؤمنات منها ولا يعرفن من الغلس، كان في ذلك الوقت الذي كان يصليها فيه على مثال ما

ص: 420

تصلى فيه الآن في السفر، ثم أُمِرَ بإطالة القراءة فيها، وأن يكون مفعوله في الحضر بخلاف ما يفعل في السفر من إطالة هذه وتخفيف هذه، وقال:"أسفروا بالفجر" أي أطيلوا القراءة فيها، ليس ذلك على أن تدخلوا فيها في آخر وقت الإسفار، ولكن تخرجوا منها في وقت الإسفار.

فثبت بذلك نسخ ما روي عن عائشة رضي الله عنها مما ذكرنا، مع ما قد دل على ذلك أيضًا من فعل أصحاب النبي عليه السلام من بعده، في إصابتهم الإسفار في وقت إنصرافهم منها واتفاقهم على ذلك حتى لقد قال إبراهيم النخعي ما قد حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن إبراهيم قال:"ما اجتمع أصحاب محمَّد عليه السلام على شيء ما اجتمعوا على التنوير".

قال أبو جعفر رحمه الله: فأخبر أنهم قد كانوا اجتمعوا على ذلك، فلا يجوز عندنا -والله أعلم- اجتماعهم على خلاف ما قد كان النبي عليه السلام فعله إلا بعد نسخ ذلك، وثبوت خلافه، فالذي ينبغي: الدخول في الفجر في وقت التغليس، والخروج منها في وقت الإسفار، على موافقة ما روينا عن رسول الله عليه السلام وأصحابه رضي الله عنهم هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: هذا السؤال وارد على ما تقدم من معنى الإسفار بصلاة الصبح، وهو أن يدخل فيها بالغلس، ويمدها بالقراءة إلى أن ينصرف عنها بالإسفار، تقريره: أن ما ذكرتم ينافيه حديث عائشة رضي الله عنها: "أن النساء كن يصلين الصبح

" إلى آخره؛ لأنه يدل على أنهم كانوا يدخلون فيها بالغلس، ويخرجون منها بالغلس.

وتقرير الجواب ملخصًا: أن حديث عائشة رضي الله عنها منسوخ بوجهين:

الأول: أن عائشة أخبرت في حديثها: "أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين

" إلى آخره، أن النبي عليه السلام كان يصلي قبل أن تتم الصلاة مثل المسافر بتخفيف القراءة، ولما أحكم الأمر وزيدت الصلاة التي زيدت أُمر بإطالة القراءة في صلاة الصبح عوضًا عن الزيادة، كالجمعة قصرت على الركعتين لمكان الخطبة، وذلك

ص: 421

الأمر هو قوله عليه السلام: "أسفروا بالفجر". فإن معناه أطيلوا القراءة فيها، حتى تخرجوا منها في وقت الإسفار، وليس معناه ادخلوا فيها في آخر وقت الإسفار، فثبت بذلك نسخ حديث عائشة رضي الله عنها وما يضاهيه.

الوجه الثاني لبيان النسخ: فعل الصحابة رضي الله عنهم وإجماعهم من بعده على الإسفار، بالمعنى الذي ذكرنا؛ فإنهم كانوا يطولون القراءة فيها، ويخرجون مسفرين، ولو لم يعلموا نسخ ذلك لما وسعهم أن يعملوا بخلافه، والدليل على إجماعهم على ذلك ما قاله إبراهيم النخعي:"ما اجتمع أصحاب محمَّد عليه السلام على شيء ما اجتمعوا على التنوير" ولو لم يكن النسخ صحيحًا فكيف كان يجوز لأكابر الصحابة رضي الله عنهم أن يجتمعوا على الإسفار، مخالفين لما قد كانوا علموا من النبي عليه السلام من التغليس في الدخول فيها والخروج عنها، وهذا محال في حقهم؛ لأنهم عالمون بموارد النصوص ومواقع الأحكام، وأما ما شنع الحافظ الحازمي على الطحاوي في هذا الموضع في دعواه النسخ فقد مَرَّ جوابه فيما مضى من هذا الباب بما فيه الكفاية.

وشنع البيهقي أيضًا في كتابه "المعرفة"(1) وغيره لما تحرك له عرق العصبية، وقال: وقد ذكر الطحاوي الأحاديث التي وردت في تغليس النبي عليه السلام ومن بعده من الصحابة بالفجر ثم زعم أنه ليس فيها دليل على الأفضل، وإنما ذلك في حديث رافع، ولم يعلم أن النبي عليه السلام لا يداوم إلا على ما هو الأفضل، وكذلك أصحابه من بعده، فخرج من فعل أصحابه فإنهم كانوا يدخلون فيها مغلسين ليطيلوا القراءة، ويخرجون فيها مسفرين؛ فإن النبي عليه السلام إنما خرج منها مغلسًا قبل أن يشرع فيها طول القراءة، فاستدل على النسخ بفعلهم ولم يعلم أن بعضهم كانوا يخرجون منها مغلسين كما روينا عنهم، وقال عمرو بن ميمون الأودي:"صليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاة الفجر ولو أن ابني مني ثلاثة أذرع لم أعرفه إلا أن يتكلم". ثم احتج بحديث عائشة رضي الله عنها: "أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما قدم

(1)"معرفة السنن والآثار"(1/ 474).

ص: 422

رسول الله عليه السلام المدينة، وصل إلى كل صلاة مثلها غير المغرب، فإنها وتر، وصلاة الفجر لطول القراءة فيها" وزعم أن الزيادة في الصلاة والإطالة في القراءة كانتا معًا: وظاهر الحديث يدل على أن الزيادة في الصبح إنما لم تشرع لطول قراءتها المشروع فيها قبلها ثم حمل حديث عائشة رضي الله عنها في التغليس على أن ذلك كان قبل أن يشرع فيها طول القراءة، وعائشة رضي الله عنها قد أخبرت أن الزيادة في الصلاة كانت حين قدم النبي عليه السلام المدينة، وغيرها يقول: حين فرضت قبل قدومه المدينة، وعلى زعمه شرع طول القراءة فيها حين زيد في عدد غيرها، وعائشة إنما حملت حديث التغليس وهي عند النبي عليه السلام بالمدينة، وكذلك أم سلمة، وإنما تزوج بها بعد ما هاجرت بسنتين؟ فكيف يكون منسوخًا بحكم تقدم عليه؟! كيف وقد أخبرتنا عن دوام فعله وفعل النساء معه، وروينا عن جابر بن عبد الله الأنصاري في حديث مخرج في "الصحيحين" (1):"أن النبي عليه السلام كان يصليها بغلس".

وفي حديث أبي مسعود الأنصاري: "أن النبي عليه السلام صلى الصبح بغلس ثم صلاها يومًا فأسفر بها ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله تعالى". وهذا كله يدل على بطلان النسخ الذي ادعاه الطحاوي في حديث عائشة وغيرها في التغليس، والطريق الصحيح في ذلك: أن تحمل الأحاديث التي وردت في الإخبار عن تغليس النبي عليه السلام وبعض أصحابه بالصبح على أنهم فعلوا ما هو الأفضل؛ لأن ذلك كان أكثر فعلهم، ويحمل حديث رافع رضي الله عنه على تبيين الفجر باليقن وإن كان يجوز الدخول فيها في الغيم بالاجتهاد قبل التبيين، انتهى.

والجواب عن ذلك فصل، فصل.

أما قوله: "ولم يعلم أن النبي عليه السلام لا يداوم إلا على ما هو الأفضل" قول لم يعلم هو ما قال فيه؛ لأن الطحاوي وأدنى من الطحاوي يعلم أن النبي عليه السلام لا يداوم إلا على الأفضل، ولكن من يقول أن النبي عليه السلام داوم على التغليس، فإن عارض بحديث

(1)"صحيح البخاري"(1/ 205 رقم 535)، ومسلم (1/ 446 رقم 646).

ص: 423

أبي مسعود البدري الذي فيه "وصلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى، أن يسفر" فجوابه: أن هذا من أسامة بن زيد وهو متكلم فيه فقال أحمد: ليس بشىء. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي والدارقطني: ليس بقوي.

ويرده أيضًا ما أخرجه البخاري (1)، ومسلم (2): عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"ما رأيت رسول الله عليه السلام صلى صلاة لغير وقتها إلا بجمع، فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصك صلاة الصبح من الغد قبل وقتها". قالت العلماء: يعني قبل وقتها المعتاد في كل يوم، لا أنه صلاها قبل طلوع الفجر، ولم يقل به أحد، وإنما معناه أنه غلس بها جدًّا.

وتوضحه رواية البخاري (3) و"الفجر حين بزغ" وهذا دليل قاطع على أنه عليه السلام كان يسفر بالفجر دائمًا وقلَّما صلاها بغلس فأين البيهقي من هذا المعنى.

وأما قوله: "ولم يعلم أن بعضهم كانوا يخرجون منها بغلس" كما روينا عنهم فقول يشبه القول الأول، وكيف لا يعلم وقد روى هو أيضًا مثل ما روى البيهقي:"أنهم كانوا يخرجون منها مغلسين" ولكن لا يضره ذلك ولا يدفع كلامه؛ لأنه قد يجوز أن يكون ذلك منهم مع علمهم أن الإسفار أفضل لأجل التوسعة، أو لأجل عارض قد عرض لهم ومنعهم عن مد الصلاة بتطويل القراءة إلى أن ينصرفوا منها مسفرين، كما ذكر فيما مضى، غاية ما في الباب أن أخبار التغليس التي رويت عن النبي عليه السلام وعن الصحابة مِنْ بعده تدل على الإخبار بالوقت الذي صلوا فيه، أي وقت هو وليس فيه شيء يدل على الأفضلية كما يدل حديث رافع رضي الله عنه.

وأما قوله: "وقال عمرو بن ميمون الأودي" فيعارضه ما روى السائب بن يزيد

(1)"صحيح البخاري"(2/ 604 رقم 1598).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 938 رقم 1289).

(3)

"صحيح البخاري"(2/ 602 رقم 1591).

ص: 424

قال: "صليت خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأ بالبقرة فلما انصرفوا استشرفوا الشمس، فقالوا: طلعت. فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين".

فأين كان البيهقي من هذا الأثر؟!

فإن قيل: هذا لا يدل على الأفضلية لأنه أيضًا مجرد إخبار عن الوقت الذي صلى فيه فقط.

يقال: كذلك ليس في أثر عمرو بن ميمون ما يدل على الأفضلية؛ لأنه أيضًا مجرد إخبار عن الوقت الذي صلى فيه.

وأما قوله: "وزعم أن الزيادة في الصلاة والإطالة في القراءة كانتا معًا وظاهر الحديث يدل على أن الزيادة في الصبح إنما لم تشرع لطول قراءتها المشروع فيها قبلها" فغير مُسَلَّم؛ لأن ظاهر الحديث لا يدل على أن طول القراءة شرع في الصبح قبل الزيادة في غيرها، فأي كلام وأي عبارة تدل على هذا حتى يقول: "ظاهر الحديث يدل على أن الزيادة

" إلى آخره؟! لأن الدلالة هو فهم المعنى من اللفظ، وليس فيما ذكره فهم هذا المعنى، بل ظاهر الحديث أن لزيادة لما زيدت فيما زيدت من الصلاة، شُرع بعدها طول القراءة في الصبح؛ عوضًا عن الزيادة فافهم. ولم يقل الطحاوي أن الزيادة في الصلاة والإطالة في القراءة كانت معًا، بل كلامه يشعر أن إطالة القراءة في الصبح كانت بعد الزيادة في غيرها بزمان؛ لأنه ذكر الإطالة بكلمة "ثم" التي تدل على التراخي، وهو قوله: "ثم أمر بإطالة القراءة فيها".

وبهذا خرج الجواب أيضًا عن قول البيهقي: "فكيف يكون منسوخًا بحكم تقدم عليه". حاصله أنه اعترض على الطحاوي بأنه زعم أن شروع إطالة القراءة في الصبح كان حين زيد في عدد غيرها، وعائشة احتملت حديث التغليس وهي عند النبي عليه السلام بالمدينة، فيكون حكم إطالة القراءة متقدمًا على حديث التغليس، والمتقدم كيف يكون ناسخًا للمتأخر؟!

قلنا: لا نُسَلم أن إطالة القراءة متقدمة على حديث التغليس بل حديث التغليس،

ص: 425

متقدم على حكم الإطالة، بيان ذلك: أن تغليس النبي عليه السلام وانصراف النساء المؤمنات منها ولا يعرفن من الغلس، كان في الوقت الذي كان يصليها عليه السلام فيه على مثال ما يصلى فيه الآن في السفر بتخفيف القراءة، ثم أَمَر رسول الله عليه السلام بإطالة القراءة بقوله:"أسفروا" أي أطيلوا القراءة بالصبح لتخرجوا منها مسفرين، فحينئذٍ نسخ هذا المتأخر ذلك المتقدم، والله أعلم.

وأما قوله: "وروينا عن جابر في حديث مخرج في الصحيحين" فغير دالٍّ على مدعاه؛ لأنه إخبار عن الوقت الذي كان صلى فيه النبي عليه السلام أيّ وقت هو؟ وليس فيه شيء يدل على الأفضلية.

وأما قوله: "وفي حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه" فقد مَرَّ جوابه الآن مستوفى.

وأما قوله: "والطريق الصحيح

" إلى آخره، طريق غير صحيح؛ لأن الأحاديث التي وردت في الإخبار عن تغليس النبي عليه السلام وبعض أصحابه بالصبح ليس فيها ما يدل على الأفضلية، فإن عارضونا في ذلك، بأن أكثر فعلهم يدل على الأفضلية، فعارضناهم بالأوامر التي وردت بالإسفار؛ لأن أقل درجات الأمر تدل على الفضيلة، ولا سيما إذا قارن بها الفعل أيضًا.

وأما قوله: "ويحمل حديث رافع على تبيين الفجر باليقين". فمردود؛ لأن الغلس الذي يقولون به هو اختلاط ظلام الليل بضياء النهار كما ذكره أهل اللغة وقبل ظهور الفجر لا تصح صلاة الفجر؛ فثبت أن المراد بالإسفار إنما هو التنوير.

والدليل عليه ما روى ابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وأبو داود الطيالسي، في مسانيدهم، والطبراني في "معجمه" (1). فقال الطيالسي: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم المدني، وقال الباقون: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، ثنا إسماعيل بن إبراهيم المدني، ثنا هُرَير بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج، سمعت جدي رافع ابن خديج

(1) سبق تخريجه.

ص: 426

يقول: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: يا بلال، نوِّر صلاة الصبح حتى يبصر القوم مواقع نبلهم من الإسفار" وقد استوفينا الكلام فيما مضى من هذا الباب.

ثم حديث الغلس الذي روته عائشة قد ذكرنا الكلام فيه مستوفى في هذا الباب.

وأما حديثها الآخر: فرجاله ثقات، فأبو عمر هو حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري وأبي داود، نسبته إلى حوض داود، محلة بالبصرة.

ومرجا بن رجاء اليشكري أبو رجاء البصري وثقه أبو زرعة، وعن أبي داود: صالح.

وداود بن أبي هند دينار بن عذافر أبو محمَّد البصري، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا.

والشعبي هو عامر، ونسبته إلى شعب بطن من همدان.

ومسروق بن الأجدع الهمداني أبو عائشة الكوفي، روى له الجماعة.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت:"إن أول ما فرضت الصلاة ركعتين، فلما قدم النبي عليه السلام المدينة واطمأن زاد ركعتين غير المغرب؛ لأنها وتر، وصلاة الغداة لطول قراءتها، وكان إذا سافر صلى صلاته الأولى".

قوله: "غير المغربِ" بالجر؛ لأنها صفة لقوله: "كل صلاة" وفي الحقيقة استثناء منها ولكن الأصل في "غير" أن تكون صيغة دالة على مخالفة صاحبه بالحقيقة.

قوله: "فإنها وتر" تعليل لعدم الزيادة بمثل ما كانت في أول فرضها، بل زيدت فيها ركعة؛ لأنها وتر النهار.

قوله: "وصلاة الصبح" بالجرِّ أيضًا عطفًا على قوله غير المغرب، أي وغير صلاة

(1)"السنن الكبرى"(1/ 363 رقم 1579).

ص: 427

الصبح؛ لأجل طول القراءة فيها.

قوله: "عاد إلى صلاته الأولى" وهي الركعتان في الظهر والعصر والعشاء، فهذا يدل صريحًا على أن الصلاة كانت تصلى ركعتين ركعتين إلى أن قدم النبي عليه السلام المدينة، ولم تشرع أربع في ذوات الأربع إلَّا عند قدومه عليه السلام إلى المدينة. فإن قيل: روي من حديث يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمَّد، عن أبي مسعود قال:"أتى جبريل النبي عليه السلام فقال: قم فصل -وذلك دلوك الشمس حين مالت الشمس- فقام فصلى الظهر أربعًا، ثم أتاه حين كان ظله مثله فقال: قم فصل، فصلى العصر أربعًا، ثم أتاه حين غربت الشمس فقال: قم فصل، فصلى المغرب ثلاثًا، ثم أتاه حين غاب الشفق فقال: قم فصل، فصلى العشاء الآخرة أربعًا، ثم أتاه حين كان الفجر فقال له: قم فصل، فصلى الصبح ركعتين، ثم أتاه من الغد في الظهيرة حين صار ظل كل شيء مثله، فقال: قم فصل، فصلى الظهر أربعًا، ثم أتاه حين صار ظل كل شيء مثليه، فقال: قم فصل، فصلى العصر أربعًا، ثم أتاه الوقت بالأمس حين غربت الشمس فقال: قم فصل، فصلى المغرب ثلاثًا، ثم أتاه بعد أن غاب الشفق وأظلم فقال: قم فصل، فصلى العشاء الآخرة أربعًا، ثم أتاه حين أسفر الفجر فقال: قم فصل، فصلى الصبح ركعتين، ثم قال: ما بين هذين صلاة".

أخرجه البيهقي (1)، والطبراني في "الكبير"(2).

فهذا فيه دليل على أن ذلك كان بمكة بعد المعراج، وأن الخمس فرضن حينئذٍ بأعدادهن.

قلت: أبو بكر بن محمَّد عن أبي مسعود منقطع، قاله الذهبي وغيره.

وأيضًا الثابت عن عائشة في "الصحيح"(3) يعارضه وينافيه، فقال البخاري:

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 361 رقم 1575).

(2)

"المعجم الكبير"(17/ 263 رقم 724).

(3)

"صحيح البخاري"(1/ 137 رقم 343).

ص: 428

حدثنا ابن يوسف، عن مالك، عن صالح، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها:"فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر". وذكر الداودي أن الصلوات زيد فيها ركعتين ركعتين، وزيد في المغرب ركعة.

وقال أبو عمر: ظاهر حديث عائشة العموم، والمراد به الخصوص، ألا ترى أن صلاة المغرب غير داخلة في قولها فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، وكذلك الصبح؟ لأنه معلوم أن الصبح لم يزد فيها ولم ينقص منها، وأنها في الحضر والسفر سواء.

قلت: الذي يعلم من حديث عائشة الذي أخرجه البخاري أن فرض الصلاة كان ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، ولكن لم تُعلم الزيادة عليها متى كانت، والحديث الذي أخرجه الطحاوي عن عائشة يبين ما كان مجملًا في حديثها الآخر من أن الزيادة كانت عند مقدم النبي عليه السلام المدينة، وقال ابن جرير الطبري: وفي السنة الأولى من الهجرة زيد في صلاة الحضر ركعتان، وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين، وذلك بعد مقدم النبي عليه السلام المدينة بشهر في ربيع الأول، لمضي اثنتي عشر ليلة منه.

ثم أثر إبراهيم النخعي إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن خزيمة.

والقعنبي هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب شيخ البخاري ومسلم وأبي داود.

والأعمش هو سليمان بن مهران.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم قال:"ما أجمع أصحاب محمَّد عليه السلام على شيء ما أجمعوا على التنوير بالفجر".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 284 رقم 3256).

ص: 429