المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: قراءة: بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٣

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: قراءة: بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة

‌ص: باب: قراءة: بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة

ش: أي هذا باب في بيان قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة كيف هي؟

والمناسبة بين البابين ظاهرة؛ لأن البسملة في الصلاة بعد قراءة سبحانك اللهم

إلى آخره، والطحاوي لم يذكر أحكام التعوذ مع أن محله بين قراءة سبحانك اللهم، وبن البسملة؛ لأنه ليس فيه خلاف بين الأئمة الثلاثة أعني أبا حنيفة والشافعي وأحمد، فإنه عندهم سُنَّة، وأما مالك فإنه لا يرى شيئًا من التسبيح والتعوذ والتسمية، بل عنده لما يكبر يشرع بقراءة أم القرآن، وعند الظاهرية التعوذ فرض.

وقال ابن حزم في "المحلى"(1): فرض على كل مصلي أن يقول إذا قرأ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لابدَّ له في كل ركعة من ذلك؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (2).

ثم قال: يجب التعوذ بعموم الآية عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها.

ثم قال: وروينا (3) من طريق معمر، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين:"أنه كان يتعوذ من الشيطان في الصلاة قبل أن يقرأ بأم القرآن، وبعد أن يقرأ أم القرآن".

وعن ابن جريج عن عطاء قال: "الاستعاذة واجبة لكل قراءة في الصلاة وغيرها" وبالتعوذ في الصلاة يقول سفيان الثوري والأوزاعي وداود وغيرهم.

قلت: قول ابن حزم مخالف لإجماع السلف؛ لأنهم أجمعوا على أن التعوذ سُنَّة والأمر في الآية ليس للوجوب، ثم اختلف القراء في صفة التعوذ؛ فاختيار

(1)"المحلى"(3/ 247).

(2)

سورة النحل، آية:[98].

(3)

"المحلى"(3/ 250).

ص: 541

ابن عمرو وعاصم وابن كثير: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، واختيار نافع وابن عامر والكسائي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العلم، واختيار حمزة الزيات: أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. وهو قول ابن سيرين، وبكل ذلك ورد الأثر، وإنما يتعوذ المصلي في نفسه إمامًا كان أو منفردًا؛ لأن الجهر بالتعوذ لم ينقل عن النبي عليه السلام، والذي روي عن عمر رضي الله عنه أنه جهر بالتعوذ (1). تأويله: أنه كان وقع اتفاقًا لا قصدًا، أو كان ليعلم السامعين أن المصلي ينبغي له أن يتعوذ، كما نقل عنه الجهر بثناء الافتتاح فيما قدمنا.

وروى عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن معمر، عن حماد، عن إبراهيم قال:"أربع يخفيهن الإِمام: بسم الله الرحمن الرحيم، والاستعاذة، وأمين، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، قال: ربنا لك الحمد".

عبد الرزاق (3): عن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم قال:"خمس يخفيهن الإِمام: سبحانك اللهم وبحمدك، والتعوذ، وبسم الله الرحمن الرحيم، وآمين، واللهم ربنا لك الحمد".

ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا الليث بن سعد، قال: أخبرني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم بن المُجْمر، قال:"صليت وراء أبي هريرة فقرأ: بسم الله الرحمن، فلما بلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (4) قال: آمين. فقال الناس: آمين، ثم يقول إذا سلم: أما والذي نفسي بيده، أني لأشبهكم صلاة برسول الله عليه السلام".

ش: سعيد بن أبي مريم هو سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم المعروف بابن أبي مريم الجمحي أبو محمَّد المصري شيخ البخاري.

(1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1/ 214 رقم 2456).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 87 رقم 2596).

(3)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 87 رقم 2597).

(4)

سورة الفاتحة، آية:[7].

ص: 542

وخالد بن يزيد المصري أبو عبد الرحيم الإسكندراني، روى له الجماعة.

وسعيد بن أبي هلال أبو العلاء المصري، روى له الجماعة.

ونعيم بن المجمر هو نعيم بن عبد الله مولى آل عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمي المجمر لأنه كان يجمر المسجد، والمجمر صفة لعبد الله -على الصحيح- وبه جزم ابن حبان، وتدل عليه رواية الطحاوي: نعيم بن المجمر، ويقال: صفة لنعيم، فعل هذا يقال: نعيم المجمر، وقد وقع هكذا في بعض الروايات وقال النووي: ويطلق على ابنه مجازًا، وروى له الجماعة.

وأخرجه الدارقطني في "سننه"(1): ثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا محمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم، ثنا أبي وشعيب بن الليث، قالا: ثنا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر أنه قال:"صليت وراء أبي هريرة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن، حتى بلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (2) قال: آمين، وقال الناس: آمين، ويقول كلما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس من اثنتين قال: الله أكبر، ثم يقول إذا سلم: والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاة برسول الله عليه السلام".

وأخرجه ابن خزيمة، (3) وابن حبان (4) في "صحيحيهما"، والحكم في "مستدركه" (5) وقال: إنه على فرط الشيخين ولم يخرجاه.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(6) وقال: إسناد صحيح وله شواهد.

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 305 رقم 14).

(2)

سورة الفاتحة، آية:[7].

(3)

"صحيح ابن خزيمة"(1/ 251 رقم 499).

(4)

"صحيح ابن حبان"(5/ 100 رقم 1797).

(5)

"مستدرك الحاكم"(1/ 357 رقم 849).

(6)

"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 46 رقم 2223).

ص: 543

وقال في "الخلافيات": رواته كلهم ثقات مجمع على عدالتهم محتج بهم في "الصحيح". وسيجيء الجواب عن هذا كله إن شاء الله تعالى.

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث النخعي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة رضي الله عنه: "أن النبي عليه السلام كان يصلي في بيتها: فيقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} (1).

ش: عمر بن حفص شيخ البخاري، وأبوه حفص بن غياث بن طلق النخعي الكوفي القاضي أحد أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه روى له الجماعة.

وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي روى له الجماعة.

وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة واسمه زهير بن عبد الله بن جدعان القرشي التيمي أبو بكر المكي الأحول، روى له الجماعة.

وأم سلمة زوج النبي عليه السلام، واسمها هند بنت أبي أمية حكى.

وأخرجه أبو داود في كتاب "الحروف"(2): ثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: ثنا أبي، قال: نا ابن جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن أم سلمة "ذكرت -أو كلمة غيرها- قراءة رسول الله عليه السلام:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} يقطع قراءته آية آية".

وأخرجه أحمد (3): ثنا يحيى بن سعيد الأموي

إلى آخره نحوه: "أنها سئلت عن قراءة رسول الله عليه السلام، فقالت: كان يقطع قراءته آية آية: {بِسْمِ اللَّهِ

(1) سورة الفاتحة.

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 433 رقم 4001).

(3)

"مسند أحمد"(6/ 302 رقم 26625).

ص: 544

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} (1).

وأخرجه الدارقطني (1): ثنا محمَّد بن القاسم بن زكرياء، ثنا عبَّاد بن يعقوب، ثنا عمر بن هارون.

وثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، ثنا إبراهيم بن هانئ، ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني، ثنا عمر بن هارون البلخي، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة:"أن النبي عليه السلام كان يقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} يقطعها آية آية، وعدّها عند الإعراب، وعدَّ بسم الله الرحمن الرحيم آية ولم تعد عليهم".

ورواه الحكم أيضًا (2): من طريق عمر بن هارون، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة: "أن رسول الله عليه السلام قرأ في الصلاة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فعدها آية {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} آيتين {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثلاث آيات

" إلى آخره.

وأخرجه الطبراني (3): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو عُبيد القاسم بن سلام، نا يحيى بن سعيد الأموي، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة قالت: "كان رسول الله عليه السلام يقطع قراءته: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 305 رقم 14).

(2)

"مستدرك الحاكم"(1/ 356 رقم 848).

(3)

"المعجم الكبير"(23/ 278 رقم 603).

ص: 545

وأخرجه البيهقي (1): أنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أنا علي بن عمر الحافظ، قال: ثنا محمَّد بن القاسم بن زكرياء، قال: ثنا عباد بن يعقوب، قال: ثنا عمر بن هارون، (ح).

قال: وثنا علي، قال: ثنا عبد الله بن عبد العزيز، قال: ثنا إبراهيم بن هانئ، قال: ثنا محمَّد بن سعيد الأصبهاني، قال: ثنا عمر بن هارون البلخي، عن ابن جريج

إلى آخره نحو رواية الدارقطني.

وروى البيهقي أيضًا (2): عن أبي عبد الله الحافظ، عن أبي العباس الأصم، عن محمَّد بن إسحاق الصغاني، عن خالد بن خراش، عن عمر بن هارون، بإسناده هذا:"أن النبي عليه السلام قرأ في الصلاة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فعدها آية {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} آيتين {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثلاث آيات {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أربع آيات وقال: هكذا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وجمع خمس أصابعه".

وقال البيهقي في كتاب"المعرفة"(3): قال البويطي في كتابه: أخبرني غير واحد، عن حفص بن غياث، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة زوج النبي عليه السلام:"أن رسول الله عليه السلام -كان إذا قرأ بأم القرآن بدأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يعدها آية ثم قرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بعدها ست آيات".

ص: فذهب قوم إلى أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} من فاتحة الكتاب وأنه ينبغي للمصلي أن يقرأ بها كما يقرأ بفاتحة الكتاب، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء ومجاهدًا وطاوسًا والشافعي وأحمد في رواية؛ فإنهم ذهبوا إلى أن البسملة من الفاتحة، وأنها يجهر بها كما يجهر بالفاتحة حيث

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 45 رقم 2217).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 44 رقم 2214).

(3)

"معرفة السنن والآثار"(1/ 510).

ص: 546

تجهر، واحتجوا في ذلك بحديث أبي هريرة وأم سلمة، وقال الترمذي: وقد قال بهذا عدة من أهل العلم من أصحاب النبي عليه السلام منهم أبو هريرة وابن عمر وابن الزبير ومَن بعدهم من التابعين رأوا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وبه يقول الشافعي.

ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما روي عن أصحاب النبي عليه السلام.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا عمر بن ذر، عن أبيه، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه قال:"صليت خلف عمر رضي الله عنه فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وكان أبي يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم".

ش: أي احتج هؤلاء القوم أيضًا فيما ذهبوا إليه بما روي عن بعض الصحابة، منهم: عمر رضي الله عنه.

أخرج أثره عن أبي بكرة بكّار، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الزبيري الأسدي الكوفي روى له الجماعة، عن عمر بن ذر الهمداني المُرهبي أبي ذر الكوفي، قال يحيى والنسائي والدارقطني: ثقة. وعن أبي داود: كان رأسًا في الإرجاء. وقال أبو حاتم: كان صدوقًا، وكان مرجئًا، لا يحتج بحديثه. روى له الجماعة سوى مسلم.

عن أبيه ذر بن عبد الله بن زرارة أبي عمر الكوفي روى له الجماعة، عن سعيد بن عبد الرحمن روى له الجماعة، عن أبيه عبد الرحمن بن أَبزَى الخزاعي، مختلف في صحبته، روى له الجماعة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا خالد بن مخلد، عن عمر بن ذر، عن أبيه، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أَبْزَى، عن أبيه:"أن عمر رضي الله عنه جهر ببسم الله الرحمن الرحيم".

وأخرجه البيهقي أيضًا في "الخلافيات".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 362 رقم 4157).

ص: 547

والجواب عنه أنه مخالف للصحيح الثابت عن عمر رضي الله عنه أنه كان لا يجهر، كما رواه أنس، فإن ثبت هذا عن عمر رضي الله عنه فيحمل على أنه فعله مرة أو بعض أحيان؛ لأجل التعليم أنها من سنن الصلاة.

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: ثنا شريك بن عبد الله، عن عاصم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أنه جهر بها".

ش: رجاله ثقات.

وعاصم هو ابن بهدلة أبو بكر المقرئ.

وأخرجه البيهقي في كتاب "المعرفة"(1): أنا أبو عبد الله الحافظ، قال: ثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، قال: ثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أنا عبد الوهاب ابن عطاء، قال: أنا سعيد، عن عاصم بن بهدلة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أنه كان يفتتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم".

وأخرجه الدارقطني (2) مرفوعًا: ثنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن مبشر، ثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام، ثنا معتمر بن سليمان، ثنا إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان، عن أبي خالد، عن ابن عباس قال:"كان رسول الله عليه السلام يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم".

والجواب عنه أنه معارض بما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قراءة الأعراب".

وأخرجه عبد الرزاق أيضًا في "مصنفه"(4): عن الثوري، نحوه.

(1)"معرفة السنن والآثار"(1/ 521 رقم 720).

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 304 رقم 8).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 361 رقم 4143).

(4)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 89 رقم 2605).

ص: 548

وجواب آخر: أن قوله: "جهر بها" لا يدل على أنه جهر بها وهو في الصلاة، فلا يتم به الدليل، وكذلك قوله:"إنه كان يفتتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم" لا يدل صريحًا على أنه كان في الصلاة، وأما رواية الدارقطني فهي ضعيفة. فقال الأزدي: تكلموا في إسماعيل بن أبي حماد. ولئن سلمنا أنها صحيحة ولكنها لا تدل على أنه كان يجهر بها فلا يتم الدليل.

فإن قيل: روى الدارقطني (1) أيضًا: عن أبي الصلت الهروي واسمه عبد السلام ابن صالح، ثنا عباد بن العوام، ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"كان النبي عليه السلام يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم".

قلت: هذا أضعف من الأول؛ فإن أبا الصلت متروك، قال أبو حاتم: ليس بصدوق عندي. وقال الدارقطني: رافضيٌّ خبيث.

فإن قيل: رواه الحكم في "المستدرك"(2): عن عبد الله بن عمرو بن حسان، ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"كان رسول الله عليه السلام يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم".

قال الحكم: إسناده صحيح وليس له علة.

قلت: غير صحيح ولا صريح، أما كونه غير صريح فلأنه ليس فيه أنه في الصلاة، وأما كونه غير صحيح فإن عبد الله بن عمرو بن حسان كان يضع الحديث، قاله إمام الصنعة علي بن المديني. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: ليس بشيء، كان يكذب. وقال ابن عدي: أحاديثه مقلوبات. فانظر إلى تساهل الحاكم واستهتاره في هذا لأجل إقامة الحجة لما ادعاه.

فإن قيل: روى البزار في "مسنده"(3): عن المعتمر بن سليمان، ثنا إسماعيل،

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 303 رقم 6).

(2)

"مستدرك الحاكم"(1/ 326 رقم 750).

(3)

قال الهيثمي في "مجمع "الزوائد" (2/ 281 رقم 2633): رواه البزار، ورجاله موثقون.

ص: 549

عن أبي خالد، عن ابن عباس:"أن النبي عليه السلام كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة".

قلت: هذا هو الحديث الذي أخرجه الدارقطني الذي ذكرناه الآن.

وأخرجه أبو داود، (1) والترمذي (2) بهذا الإسناد كلهم قالوا فيه:"كان يفتتح صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم". وقال الترمذي: ليس إسناده بذاك.

وقال أبو داود: حديث ضعيف.

ورواه العقيلي في كتابه (3) وأعله بإسماعيل هذا، وقال: حديثه غير محفوظ، ويرويه عن مجهول، ولا يصح في الجهر بالبسملة حديث مسند.

ورواه ابن عدي (4) وقال: حديث غير محفوظ، وأبو خالد مجهول.

وقال البزار: وإسماعيل لم يكن بالقوي في الحديث.

وله طريق أخر عند الدارقطني (5): عن عمر بن حفص المكي، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس:"أن النبي عليه السلام لم يزل يجهر في السورتين ببسم الله الرحمن الرحيم حتى قبض".

قلت: هذا لا يجوز الاحتجاج به؛ فإن عمر بن حفص ضعيف، قال ابن الجوزي في "التحقيق": أجمعوا على ترك حديثه.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أنا ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه:"أنه كان لا يدع بسم الله الرحمن الرحيم قبل السورة، وبعدها إذا قرأ بسورة أخرى في الصلاة".

(1) وكذا عزاه إلى أبي داود المزي في "التحفة"(5/ 265)، وقال: حديث "د" في رواية أبي الطيب الأشناني، ولم يذكره أبو القاسم.

(2)

"جامع الترمذي"(2/ 14 رقم 245).

(3)

"الضعفاء" للعقيلي (1/ 80).

(4)

"الكامل في الضعفاء"(1/ 311).

(5)

"سنن الدارقطني"(1/ 304 رقم 9).

ص: 550

ش: أبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، وابن جريج هو عبد الملك.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع: "أن ابن عمر رضي الله عنه كان لا يدع بسم الله الرحمن الرحيم، يفتتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم".

وأخرجه البيهقي في "المعرفة"(2): أنا أبو زكرياء، وأبو بكر وأبو سعيد، قالوا: ثنا أبو العباس، قال: أنا الربيع، قال: أنا الشافعي، قال: أنا مسلم وعبد المجيد، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان لا يدع بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن والسورة التي بعدها".

والجواب عنه أنه كان لا يدعها سرًّا، وليس فيه دليل صريح على أنه كان يجهر بها، والحمل على أنه كان يُسرُّ بها أولى لاستفاضة النقل وتواتر الأخبار عن النبي عليه السلام وعن الخلفاء الراشدين أنهم كانوا لا يجهرون بها.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو بكر النهشلي، قال: ثنا يزيد الفقير، عن ابن عمر رضي الله عنه:"أنه كان يفتتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم".

ش: أبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وأبو بكر النهشلي الكوفي قيل: اسمه عبد الله بن قطاف. وقيل: عبد الله بن معاوية بن قطاف. وقيل: وهب ابن قطاف. وقيل: معاوية بن قطاف. قال أحمد ويحيى وأبو داود: ثقة. وروى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.

ويزيد الفقير هو يزيد بن صهيب الفقير أبو عثمان الكوفي روى له الجماعة سوى الترمذي.

(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 90 رقم 2608).

(2)

"معرفة السنن والآثار"(1/ 520 رقم 717).

ص: 551

وأخرجه البيهقي في "المعرفة"(1) وغيره: أنا أبو محمَّد الحسن بن علي بن المؤمل، قال: ثنا أبو عثمان عمرو بن عبد الله البصري، قال: ثنا محمَّد بن عبد الوهاب، قال: أنا يعلى بن عُبيد، قال: نا مسعر، عن يزيد الفقير:"أنه سمع ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ فاتحة الكتاب، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم".

والجواب عنه ما ذكرناه الآن.

ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو زيد الهروي، قال: ثنا شعبة عن الأزرق بن قيس، قال:"صليت خلف ابن الزبير رضي الله عنه فسمعته يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} بسم الله الرحمن الرحيم".

ش: أبو زيد اسمه سعيد بن الربيع الحرشي العامري وكان يبيع الثياب الهروية فنسب إليها روى له الجماعة.

والأزرق بن قيس الحارثي روى له البخاري وأبو داود والنسائي.

وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا وكيع، عن شعبة، عن الأزرق بن قيس، قال:"سمعت ابن الزبير رضي الله عنه قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ الحمد لله رب العالمين، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم".

وأخرجه البيهقي في "سننه"(3).

الجواب عنه: أن ابن عبد اللهادي قال: إسناده صحيح، ولكنه يحمل على الإعلام، فإن قراءتها سنة فإن الخلفاء الراشدين كانوا يسرون بها، فظن كثير من الناس أن قراءتها بدعة، فجهر بها من جهر بها من الصحابة ليعلموا الناس أن قراءتها سنة لا أنه فعلها دائمًا وقد ذكر ابن المنذر عن ابن الزبير ترك الجهر.

(1)"معرفة السنن والآثار"(1/ 520 رقم 718).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 361 رقم 4154).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 192 رقم 2881).

ص: 552

وكذا يجاب عما أخرجه الخطيب (1): عن محمَّد بن أبي السري، عن المعتمر، عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني قال:"صليت خلف عبد الله بن الزبير، وكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وقال: ما يمنع أمراؤكم أن يجهروا بها إلَّا الكبر".

ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أنا ابن جريج، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عباس:" {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} (2) قال: فاتحة الكتاب ثم قرأ ابن عباس بسم الله الرحمن الرحيم، وقال: هي الآية السابعة، قال: وقرأ عَلَيّ سعيد بن جبير كما قرأ عليه ابن عباس".

ش: أبو عاصم النبيل الضحاك مخلد، وابن جريج هو عبد الملك، وأبوه عبد العزيز بن جريج، قال البخاري: لا يتابع على حديثه. ووثقه ابن حبان قال: وروى عن عائشة ولم يسمع منها. وروى له الأربعة.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3) بأتم منه: عن ابن جريج، قال: أخبرني أبي، أن سعيد بن جبير أخبره، أن ابن عباس قال:" {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} (2) وأم القرآن، وقرأها عليَّ سعيدٌ كما قرأتها عليك، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة، قال ابن عباس: قد أخرجها الله لكم فما أخرجها لأحدٍ قبلكم. قال عبد الرزاق: قرأها علينا ابن جريج {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} آية {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} آية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} آية {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} آية {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} إلى آخرها آية".

(1) انظر "نصب الراية"(1/ 265).

(2)

سورة الحجر، آية:[87].

(3)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 90 رقم 2609).

ص: 553

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث ابن المبارك، عن ابن جريج، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -في السبع المثاني- قال: هي فاتحة الكتاب، قرأها ابن عباس بسم الله الرحمن الرحيم، سبعًا، قلت لأبي: أخبرك سعيد عن ابن عباس أنه قال: بسم الله الرحمن الرحيم آية من كتاب الله؟ قال: نعم، ثم قال: قرأها ابن عباس في الركعتين جميعًا".

والجواب عنه أن في إسناده عبد العزيز بن جريج والد عبد الملك، وقد قال البخاري: حديثه لا يتابع عليه، ولئن سلمنا أن حديثه يتابع عليه سيعارضه ما يدل على خلافه، وهو حديث أبي هريرة قال:"كان رسول الله عليه السلام إذا نهض في الثانية استفتح بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت".

رواه الطحاوي كما يجيء، ومسلم (2) أيضًا؛ وهذا دليل صريح على أن البسملة ليست من الفاتحة؛ إذ لو كانت منها لقرأها في الثانية مع الفاتحة.

وهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي لأهل هذه المقالة حديثين عن أبي هريرة وأم سلمة، وآثارًا عن عمر وابن عمر وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنه وقد أخرج غيره أيضًا أحاديث مرفوعة عن أبي هريرة أيضًا وعلي وعمار والنعمان بن بشير والحكم بن عمير وأنس ومعاوية رضي الله عنهم.

أما حديث أبي هريرة فأخرجه الخطيب (3): عن أبي أويس -واسمه عبد الله ابن أويس- قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة:"أن النبي عليه السلام كان إذا أَمَّ الناس جهر ببسم الله الرحمن الرحيم".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 47 رقم 2228).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 419 رقم 599).

(3)

انظر "نصب الراية"(1/ 261)، ومنه ينقل المؤلف رحمه الله كثيرًا ولا يعزوه إليه.

ص: 554

وأخرجه الدارقطني في "سننه"، (1) وابن عدي في "الكامل" (2) فقالا فيه:"قرأ" عوض "جهر".

والجواب عنه: أن هذا غير محتج به؛ لأن أبا أويس لا يحتج بما انفرد به، وكيف إذا انفرد بشيء وخالفه فيه من هو أوثق منه مع أنه متكلم فيه؟! فوثقه جماعة وضعفه آخرون، وممن ضعفه: أحمد بن حنبل وابن معين وأبو حاتم الرازي، وممن وثقه: الدارقطني وأبو زرعة، وقال ابن عدي: يكتب حديثه.

فإن قيل: أبو أويس قد أخرج له مسلم في "صحيحه".

قلت: صاحبا "الصحيح" إذا أخرجا لمن تُكُلِّم فيه إنما يخرجان بعد انتقائهما من حديثه ما توبع عليه وظهرت شواهده وعلم أن له أصلًا، ولا يخرجان ما تفرد به سيما إذا خالفه الثقات، وهذه العلة راجت على كثير ممن استدرك على "الصحيحين" فتساهلوا في استدراكهم، ومن أكثرهم تساهلًا الحاكم أبو عبد الله في كتابه "المستدرك"؛ فإنه يقول: هذا على شرط الشيخين أو أحدهما؛ وفيه هذه العلة، إذ لا يلزم من كون الراوي محتجًّا به في الصحيح أنه إذا وجد في أي حديث كان يكون ذلك الحديث على شرطه، ولهذا قال ابن دحية في كتابه "العلم المشهور": ويجب على أهل الحديث أن يتحفظوا من قول الحاكم أبي عبد الله، فإنه كثير الغلط، ظاهر السقط، وقد غفل عن ذلك كثير ممن جاء بعده وقلده في ذلك.

والمقصود أن حديث أبي أويس هذا لم يترك لكلام الناس فيه، بل لتفرده به ومخالفة الثقات له، وعدم إخراج أصحاب المسانيد والكتب المشهورة والسنن المعروفة.

ولرواية مسلم الحديث في "صحيحه"(3) من طريقه وليس فيه ذكر البسملة.

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 306 رقم 17).

(2)

"الكامل في الضعفاء"(4/ 183).

(3)

"صحيح مسلم"(1/ 296 رقم 395).

ص: 555

فإن قيل: قد جاء من طريق آخر أخرجه الدارقطني (1): عن خالد بن إلياس، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "علمني جبريل عليه السلام الصلاة، فقام فكبر لنا، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فيما يجهر به في كل ركعة".

قلت: هذا إسناد ساقط؛ فإن خالد بن إلياس مجمع على ضعفه، قال البخاري: عن أحمد أنه منكر الحديث. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء ولا يكتب حديثه. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال البخاري: ليس بشيء. وقال ابن حبان: روى الموضوعات عن الثقات. وقال الحاكم: روول عن المقبري ومحمد بن المنكدر وهشام بن عروة أحاديث موضوعة.

فإن قيل: قد جاء آخر رواه الدارقطني (2) أيضًا: عن جعفر بن مكرم، نا أبو بكر الحنفي، ثنا عبد الحميد بن جعفر، أخبرني نوح بن أبي بلال، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "إذا قرأتم الحمد فاقرءوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، و {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إحدى آياتها".

قلت: قال أبو بكر الحنفي: ثم لقيت نوحًا فحدثني عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة مثله، ولم يرفعه.

فإن قيل: قال عبد الحق في "أحكامه الكبرى": رفع هذا الحديث عبد الحميد بن جعفر وهو ثقة؛ وثقه ابن معين.

قلت: كان سفيان الثوري يضعفه ويحمل عليه، ولئن سلمنا رفعه فليس فيه دلالة على الجهر، ولئن سُلِّم فالصواب فيه الوقف كما قال الدارقطني: اختلف فيه على

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 307 رقم 18).

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 312 رقم 36).

ص: 556

نوح بن أبي بلال، فرواه عبد الحميد عنه واختلف عنه، فرواه المعافى بن عمران، عن عبد الحميد، عن نوح، عن المقبري، عن أبي هريرة مرفوعًا.

ورواه أسامة بن زيد وأبو بكر الحنفي، عن نوح، عن المقبري، عن أبي هريرة موقوفًا، وهو الصواب.

فإن قيل: هذا موقوف في حكم المرفوع؛ إذ لا يقول الصحابي: إن البسملة إحدى آيات الفاتحة إلَّا عن توقيف أو دليل قوي ظهر له وحينئذٍ يكون له حكم سائر آيات الفاتحة من الجهر والإسرار.

قلت: لعل أبا هريرة سمع النبي عليه السلام يقرأها فظنها من الفاتحة، فقال: إنها إحدى آياتها، ونحن لا ننكر أنها من القرآن، ولكن النزاع في موضعين:

أحدهما: أنها آية مستقلة قبل السورة وليست منها؛ جمعًا بين الأدلة، وأبو هريرة لم يخبر عن النبي عليه السلام أنه قال: هي إحدى آياتها، وقراءتها قبل الفاتحة لا تدل على ذلك، وإذا جاز أن يكون مستند أبي هريرة قراءة النبي عليه السلام لها، وقد ظهر أن ذلك ليس بدليل على محل النزاع، فلا يعارض به أدلتنا الصحيحة الثابتة، وأيضًا فالمحفوظ الثابت عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة في هذا الحديث عدم ذكر البسملة كما رواه البخاري في "صحيحه" (1): من حديث ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله: هي أم القرآن، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم".

ورواه أبو داود، (2) والترمذي (3) وقال: حسن صحيح.

على أن عبد الحميد بن جعفر تكلم فيه، ولكن الثقة قد يغلط والظاهر أنه قد غلط في هذا الحديث والله أعلم.

(1)"صحيح البخاري"(4/ 1738 رقم 4427).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 461 رقم 1457).

(3)

"جامع الترمذي"(5/ 297 رقم 3124).

ص: 557

وأما حديث علي وعمار رضي الله عنهما فأخرجه الحكم في "مستدركه"(1): عن سعيد بن عثمان الخزاز، نا عبد الرحمن بن سعد المؤذن، ثنا فطر بن خليفة، عن أبي الطفيل، عن علي وعمار:"أن النبي عليه السلام كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم". وقال: صحيح الإسناد لا أعلم في رواته منسوبًا إلى الجرح، والجواب عنه ما قال الذهبي في "تنقيح المستدرك": هذا خبر واهٍ كأنه موضوع؛ لأن عبد الرحمن صاحب مناكير، ضعّفه ابن معين، وسعيد إن كان الكريزي فهو ضعيف وإلا فهو مجهول.

وعن الحكم رواه البيهقي في "المعرفة"(2) بسنده ومتنه، وقال: إسناده ضعيف إلا أنه أمثل من حديث جابر الجعفي.

قلت: وفطر بن خليفة قال السعدي: غير ثقة، روى له البخاري مقرونًا بغيره والأربعة، وتصحيح الحاكم لا يعتد به سيما في هذا الموضع؛ فقد عرف تساهله في ذلك، وقال ابن عبد الهادي: هذا حديث باطل ولعله أدخل عليه.

وروى الدارقطني هذا الحديث في "سننه"(3): عن أسيد بن زيد، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي الطفيل، عن علي وعمار نحوه، وعمرو بن شمر وجابر الجعفيان كلاهما لا يجوز الاحتجاج به، لكن عمرًا أضعف من جابر، قال الحاكم: عمرو بن شمر كثير الموضوعات عن جابر وغيره. وقال الجوزجاني: عمرو بن شمر زائغ كذاب. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي والدارقطني والأزدي: متروك الحديث. وقال ابن حبان: كان رافضيًا يسب الصحابة وكان يروي الموضوعات عن الثقات لا يحل كتب حديثه إلَّا على جهة التعجب.

وأما جابر الجعفي فقال الإِمام أبو حنيفة: ما رأيت كذب من جابر الجعفي، ما أتيته من شيء من رأيي إلَّا أتاني فيه بأثر. وكذبه أيضًا أيوب وزائدة وليث بن أبي سليم والجوزجاني وغيرهم.

(1)"مستدرك الحاكم"(1/ 439 رقم 1111).

(2)

"معرفة السنن والآثار"(5/ 403 رقم 2001).

(3)

"سنن الدارقطني"(1/ 302 رقم 4).

ص: 558

ورواه الدارقطني (1) أيضًا: عن عيسى بن عبد الله بن محمَّد بن عمر بن علي بن أبي طالب، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه قال:"كان النبي عليه السلام يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في السورتين جميعًا".

والجواب عن هذا: أن عيسى هذا والد أحمد بن عيسى المتهم بوضع حديث ابن عمر، قال ابن حبان والحاكم: روى عن آبائه أحاديث موضوعة، لا يحل الاحتجاج به.

فأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فأخرجه الدارقطني في سننه" (2): ثنا عمر بن الحسن بن علي الشيباني، ثنا جعفر بن محمَّد بن مروان، ثنا أبو طاهر أحمد بن عيسى، ثنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر قال: "صليت خلف النبي عليه السلام وأبي بكر وعمر فكانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم".

والجواب عنه: أنه باطل من هذا الوجه، لم يحدث به ابن أبي فديك قط، والمتهم به أحمد بن عيسى بن عبد الله بن محمَّد أبو طاهر القرشي، وقد كذبه الدارقطني أيضًا، وقال الخطيب: سألت الحسن بن محمَّد الخلال عنه فقال: ضعيف. وجعفر بن محمَّد بن مروان ليس مشهورًا بالعدالة وقد تكلم فيه الدارقطني أيضًا وقال: لا يحتج به.

وله طريق آخر عند الخطيب (3): عن عبادة بن زياد الأسدي، ثنا أبو يونس بن أبي يعفور العبدي، عن المعتمر بن سليمان، عن ابن أبي عُبيدة، عن مسلم بن حبان قال:"صليت خلف ابن عمر، فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في السورتين، فقيل له، فقال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض، وخلف أبي بكر رضي الله عنه حتى قبض، وخلف عمر رضي الله عنه حتى قبض، فكانوا يجهرون بها في السورتين، فلا أدع الجهر بها حتى أموت".

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 302 رقم 2).

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 305 رقم 12).

(3)

انظر "نصب الراية"(1/ 263).

ص: 559

قلت: هذا أيضًا باطل، وعبادة بن زياد -بفتح العين- قال أبو حاتم: كان من رؤساء الشيعة. وقال الحافظ محمَّد النيسابوري: هو مجمع على كذبه. وشيخه يونس بن يعفور فيه مقال، ضعفه النسائي وابن معين، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، لا يجوز الاحتجاج عندي بما انفرد به. ومسلم ابن حبان غيره معروف.

وأما حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: فأخرجه الدارقطني (1) أيضًا: عن يعقوب ابن يوسف بن زياد الضبي، ثنا أحمد بن حماد الهمداني، عن فطر بن خليفة، عن أبي الضحى، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمَّني جبريل عليه السلام عند الكعبة، فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم". والجواب عنه: أن هذا حديث منكر بل موضوع، ويعقوب بن يوسف الضبي ليس بمشهور، وأحمد بن حماد ضعفه الدارقطني، وسكوت الدارقطني والخطيب وغيرهما من الحفاظ عن مثل هذا الحديث بعد روايتهم له قبيح جدًّا.

وأما حديث الحكم بن عمير: فأخرجه الدارقطني (2) أيضًا: ثنا أبو القاسم الحسن بن محمَّد بن بشر الكوفي، ثنا أحمد بن موسى بن إسحاق الحمار، نا إبراهيم ابن حبيب، ثنا موسى بن أبي حبيب الطائفي، عن الحكم بن عمير وكان بدريًّا قال:"صليت خلف النبي عليه السلام فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاة الليل وصلاة الغداة وصلاة الجمعة".

والجواب عن هذا: أن هذا من الأحاديث الغريبة المنكرة بل هو حديث باطل من وجوه، وهي: أن الحكم ليس بدريًّا ولا في البدريين أحد اسمه الحكم بن عمير، بل لا تعرف له صحبة، فإن موسى بن حبيب الراوي عنه لم يلق صحابيًّا، بل هو مجهول لا يحتج بحديثه، وقال ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل": الحكم بن عمير

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 309 رقم 27).

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 310 رقم 31).

ص: 560

روى عن النبي عليه السلام أحاديث منكرة، لا تذكر سماعًا ولا لقاء، روى عنه ابن أخيه موسى بن أبي حبيب وهو ضعيف الحديث، سمعت أبي يذكر ذلك.

وقد ذكر الطبراني في "معجمه الكبير" الحكم بن عمير وقال في نسبته الثمالي: ثم روى له بضعة عشر حديثًا منكرًا، وكلها من رواية موسى بن أبي حبيب عنه (1).

وروى له ابن عدي في "الكامل" قريبًا من عشرين حديثًا (2)، ولم يذكرا فيها هذا الحديث، والراوي عن موسى هو إبراهيم بن إسحاق الصيني الكوفي، قال الدارقطني: متروك الحديث. ويحتمل أن يكون هذا الحديث صنعته؛ فإن الذين رووا نسخة موسى عن الحكم لم يذكروا هذا الحديث فيها، كبقي بن مخلد وابن عدي والطبراني، وإنما رواه -فيما علمنا- الدارقطني ثم الخطيب، ووهم الدارقطني فقال: إبراهيم بن حبيب. وإنما هو إبراهيم بن إسحاق، وتبعه الخطيب وزاد وهمًا ثانيًا، فقال: الضبي -بالضاد المعجمة والباء الموحدة- وإنما هو الصيني -بالصاد المهملة والنون-.

وأما حديث أنس رضي الله عنه فأخرجه الحكم في "مستدركه"، (3) والدارقطني في "سننه" (4): من حديث محمَّد بن أبي المتوكل بن أبي السري، قال:"صليت خلف المعتمر بن سليمان من الصلوات ما لا أحصيها: الصبح والمغرب، فكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها، وقال المعتمر: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي، وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس، وقال أنس: ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله عليه السلام".

قال الحكم: رواته كلهم ثقات.

(1)"المعجم الكبير"(3/ 217).

(2)

"الكامل في الضعفاء"(5/ 250).

(3)

"مستدرك الحاكم"(1/ 358 رقم 854).

(4)

"سنن الدارقطني"(1/ 308 رقم 25).

ص: 561

والجواب عن هذا: أن هذا معارض بما رواه ابن خزيمة في "مختصره"(1)، والطبراني في "معجمه" (2): عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن، عن أنس رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، وأبو بكر، وعمر". و"في الصلاة" زادها ابن خزيمة.

ورواه الحكم (3) أيضًا من طريق آخر: عن محمَّد بن أبي السري، ثنا إسماعيل بن أبي أويس، ثنا مالك، عن حميد، عن أنس قال:"صليت خلف النبي عليه السلام وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم فكلهم كانوا يجهرون بسم الله الرحمن الرحيم" قال الحاكم: وإنما ذكرته شاهدًا.

قلت: قال الذهبي في "تنقيح المستدرك": أما استحى الحاكم يورد في كتابه مثل هذا الحديث الموضوع؟! فأنا أشهد بالله، والله إنه لكذب. وقال ابن عبد الهادي: سقط منه "لا".

وروى الخطيب (4) أيضًا: عن ابن أبي داود، عن ابن أخي ابن وهب، عن عمه العمري ومالك وابن عيينة، عن حميد، عن أنس:"أن رسول الله عليه السلام كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الفريضة".

والجواب عنه: ما قاله ابن عبد الهادي سقط منه "لا" كما رواه الباغندي وغيره: عن ابن أخي ابن وهب، هذا هو الصحيح، وأما الجهر فلم يحدث به ابن وهب قط، ويوضحه أن مالكًا رواه في "الموطأ" (5): عن حميد، عن أنس قال:"قمت وراء أبي بكر الصديق وعمر وعثمان، فكلهم لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتحوا الصلاة". وقال ابن عبد البر في "التقصي": هكذا رواه جماعة موقوفًا، ورواه ابن

(1) وهو في "صحيح ابن خزيمة"(1/ 250 رقم 498) من طريق عمران القصير، عن الحسن به.

(2)

"المعجم الكبير"(1/ 255 رقم 739).

(3)

"مستدرك الحاكم"(1/ 359 رقم 855).

(4)

انظر "نصب الراية"(1/ 264).

(5)

"موطأ مالك"(1/ 81 رقم 178).

ص: 562

أخي ابن وهب عن مالك، وابن عُيينة والعمري، عن حميد، عن أنس مرفوعًا، فقال:"إن النبي عليه السلام وأبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا يقرءون". قال: وهذا خطأ من ابن أخي ابن وهب في رفعه ذلك عن عمه عن مالك، فصار هذا الذي رواه الخطيب خطأً على خطأٍ، والصواب فيه عدم الرفع، وعدم الجهر.

وأما حديث معاوية رضي الله عنه فرواه الحكم في "مستدركه"(1): عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، أن أبا بكر بن حفص بن عمر أخبره، أن أنس بن مالك قال:"صلى معاوية بالمدينة صلاة فجهر فيها بالقراءة، فبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها حتى قضى تلك الصلاة ولم يكبر حين يهوي فلما سلم ناداه من سمع ذاك من المهاجرين والأنصار ومن كل مكان: يا معاوية، أسرقت الصلاة أم نسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أم القرآن، وكبر حين يهوى ساجدًا". قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.

ورواه الدارقطني (2) وقال: رواته كلهم ثقات، وقد اعتمد الشافعي على حديث معاوية هذا في إثبات الجهر، وقال الخطيب: هو أجود ما يعتمد عليه في هذا الباب.

والجواب عنه من وجوه:

الأول: أن مداره على عبد الله بن عثمان بن خثيم وهو وإن كان من رجال مسلم لكنه متكلم فيه، أسند ابن عدي إلى ابن معين أنه قال: أحاديثه غير قوية. وقال النسائي: لين الحديث ليس بالقوي فيه. وقال الدارقطني: لينوه. وقال ابن المديني: منكر الحديث.

وبالجملة فهو يختلف فيه، فلا يقبل ما تفرد به، مع أنه قد اضطرب في إسناده ومتنه، وهو أيضًا من أسباب الضعف، أما في إسناده فإن ابن خثيم تارة يرويه عن

(1)"مستدرك الحاكم"(1/ 357 رقم 851) بنحوه.

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 311 رقم 33).

ص: 563

أبي بكر بن حفص عن أنس، وتارة يرويه عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه، وقد رجح البيهقي الأولى في "المعرفة" لجلالة راويها وهو ابن جريج، ومال الشافعي إلى ترجيح الثانية، ورواه ابن خثيم أيضًا، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن جده فزاد ذكر الجد، كذلك رواه عنه إسماعيل بن عياش، وهي عند الدارقطني، والأولى، عنده وعند الحاكم، والثانية عند الشافعي.

وأما الاضطراب في متنه: فتارة يقول: "صلى فبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم حين افتتح القرآن وقرأ بأم الكتاب".

كما هو عند الدارقطني (1): في رواية إسماعيل بن عياش، وتارة يقول:"فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن ولا للسورة التي بعدها".

كما هو عند الدارقطني (2): في رواية ابن جريج، ومثل هذا الاضطراب في السند والمتن مما يوجب ضعف الحديث؛ لأنه مشعر بعدم ضبطه.

الوجه الثاني: أن شرط الحديث الثابت ألَّا يكون شاذًّا ولا معللًا، وهذا شاذ معلل؛ فإنه مخالف لما رواه الثقات الأثبات عن أنس، وكيف يروي أنس مثل حديث معاوية هذا محتجًّا به، وهو مخالف لما رواه عن النبي- عليه السلام وعن خلفائه الراشدين، ولم يعرف أحد من أصحاب أنس المعروفين بصحبته أنه نقل عنه مثل ذلك، ومما يرد حديث معاوية هذا: أن أنسًا كان مقيمًا بالبصرة، ومعاوية لما قدم المدينة لم يذكر أحد علمناه أن أنسًا كان معه، بل الظاهر أنه لم يكن معه.

الوجه الثالث: أن مذهب أهل المدينة قديمًا وحديثًا ترك الجهر بها، ومنهم من لا يرى قراءتها أصلًا، قال عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة: أدركت الأئمة وما يستفتحون القراءة إلَّا بالحمد لله رب العالمين. وقال عبد الرحمن بن القاسم: ما سمعت القاسم يقرأ بها. وقال عبد الرحمن الأعرج: أدركت الأئمة وما يستفتحون القراءة إلَّا بالحمد لله رب العالمين. ولا يحفظ عن أحد من أهل المدينة بإسناد صحيح

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 311 رقم 34).

(2)

تقدم قريبًا.

ص: 564

أنه كان يجهر بها، إلَّا شيء يسير، وله محمل، وهذا عملهم يتوارثه آخرهم عن أولهم، فكيف ينكرون على معاوية ما هو سنتهم؟! هذا باطل.

الوجه الرابع: أن معاوية لو رجع إلى الجهر بالبسملة كما نقلوه، لكان هذا معروفًا من أمره عند أهل الشام الذين صحبوه، ولم ينقل ذلك عنهم، بل الشاميون كلهم خلفاؤهم وعلماؤهم كان مذهبهم ترك الجهر بها، وما روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه من الجهر بها فباطل لا أصل له، والأوزاعي إمام الشام، ومذهبه في ذلك مذهب مالك، لا يقرأها سرًّا ولا جهرًا، ومن المستبعد أن يكون هذا حال معاوية، ومعلوم أن معاوية قد صلى مع النبي عليه السلام، فلو سمع النبي عليه السلام يجهر بالبسملة لما تركها حتى ينكر عليه رعيته أنه لا يحسن يصلي، وهذه الوجوه من تدبرها علم أن حديث معاوية باطل، ومغير عن وجهه، وقد يتمحل فيه، ويقال: إن كان هذا الإنكار على معاوية محفوظًا فإنما هو إنكار لترك إتمام التكبير لا لترك الجهر بالبسملة، ومعلوم أن ترك إتمام التكبير كان مذهب الخلفاء من بني أمية وأمرائهم على البلاد، حتى إنه كان مذهب عمر بن عبد العزيز، وهو عدم التكبير حين يهوي ساجدًا بعد الركوع، وحين يسجد بعد القعود، وإلَّا فلا وجه لإنكارهم عليه ترك الجهر بالبسملة وهو مذهب الخلفاء الراشدين وغيرهم من أكابر الصحابة، ومذهب أهل المدينة أيضًا، وبالجملة فهذه الأحاديث كلها ليس فيها صريح صحيح، بل فيها عدمهما أو عدم أحدهما، وكيف تكون صحيحة وليست مخرجة في الصحيح ولا المسانيد ولا السنن المشهورة؟! وفي رواتها الكذابون والضعفاء والمجاهيل الذين لا يوجدون في التواريخ ولا في كتب الجرح والتعديل، كعمرو بن شمر، وجابر الجعفي، وحصين بن مخارق وعمر بن حفص المكي، وعبد الله بن عمرو بن حسان الواقعي، وأبي الصلت الهروي، [وعبد الكريم بن أبي المخارق، وابن أبي علي الأصبهاني](1) الملقب

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "نصب الراية"(1/ 264). ومنه نقل المؤلف ولم يعزه له، وقد نبهنا على أول النقل، وسننبه -إن شاء الله تعالى- على آخر النقل.

ص: 565

بجراب الكذب، وعمر بن هارون البلخي، وعيسى بن ميمون المدني وآخرين، وكيف يجوز أن يعارض برواية هؤلاء ما رواه البخاري ومسلم في "صحيحهما" (1): من حديث أنس الذي رواه عنه غير واحد من الأئمة الأثبات، منهم قتادة الذي كان أحفظ أهل زمانه، ويرويه عنه شعبة الملقب بأمير المؤمنين في الحديث، وتلقاه الأئمة بالقبول، ولم يضعفه أحد بحجة إلَّا من ركب هواه، وحمله فرط التعصب على أن علله باختلاف ألفاظه، مع أنها ليست مختلفة، بل بعضها يصدق بعضًا، وعارضه بمثل حديث ابن عمر الموضوع أو بمثل حديث علي الضعيف، ومتى وصل الأمر إلى مثل هذا فجعل الصحيح ضعيفًا، والضعيف صحيحًا، والمعلل سالما من التعليل، والسالم معللًا؛ سقط الكلام، وهذا ليس بعدل، والله أمر بالعدل، ولكن كل هذا من التعصب الفاسد والغرض الكاسد، وهذا تمشية للباطل، والله يحق الحق ويبطل الباطل، ويكفينا في تضعيف أحاديث الجهر إعراض أصحاب الجوامع الصحيحة والسنن المعروفة والمسانيد المشهورة المعتمد عليها في العلم ومسائل الدين، والبخاري مع شدة تعصبه وفرط تحمله على مذهب أبي حنيفة، لم يودع صحيحه منها حديثًا واحدًا، فالله تعالى يدري ويعلم ما جهد وتعب في تحصيل حديث صحيح في الجهر حتى يخرجه في "صحيحه" فما ظفر به ولو ظفر به ما تركه أصلًا، وكذلك مسلم لم يذكر شيئًا من ذلك، ولم يذكرا في هذا الباب إلَّا حديث أنس الدال على الإخفاء.

فإن قيل: إنهما لم يلتزما أن يودعا في صحيحهما كل حديث صحيح، فيكونان قد تركا أحاديث الجهر في جملة ما تركا من الأحاديث الصحيحة.

قلت: هذا لا يقوله إلَّا كل سخيف أو مكابر؛ فإن مسألة الجهر بالبسملة من أعلام المسائل ومعضلات الفقه، ومن أكثرها دورانًا في المناظرة وجولانًا في المصنفات، والبخاري كثيرًا ما يتتبع لما يرد على أبي حنيفة من السنة فيذكر الحديث، ثم يُعَرِّض بذكره فيقول: قال رسول الله عليه السلام كذا وكذا، ثم يقول: وقال بعض

(1) البخاري (1/ 295 رقم 710)، ومسلم (1/ 299 رقم 399).

ص: 566

الناس كذا وكذا، يشير به إليه، ويشنع به عليه، وكيف يخلي كتابه من أحاديث الجهر بالبسملة، وهو يقول في أول كتابه: باب الصلاة من الإيمان، ثم يسوق أحاديث الباب، ويقصد الرد على أبي حنيفة قوله: إن الأعمال ليست من الإيمان. مع غموض ذلك على كثير من الفقهاء؟!

ومسألة الجهر يعرفها عوام الناس ورعاعهم، ولو حلف الشخص بالله أيمانًا مؤكدة، إنه لو اطلع على حديث منها موافق لشرطه أو قريب من شرطه لم يخل منه كتابه، ولا كذلك مسلم، ولئن سلمنا فهذا أبو داود والترمذي وابن ماجه مع اشتمال كتبهم على الأحاديث السقيمة والأسانيد الضعيفة لم يخرجوا منها شيئًا، فلولا أنها عندهم واهية بالكلية لما تركوها.

وقد تفرد النسائي (1) منها بحديث أبي هريرة الذي رواه نعيم المجمر، وهو أقوى ما فيها عندهم، وقد بيَّنَّا ضعفه من وجوه والله أعلم.

فإن قيل: أحاديث الجهر تقدم على أحاديث الإخفاء بأشياء:

منها: كثرة الراوين فإن أحاديث الإخفاء رواها اثنان من الصحابة أنس بن مالك، وعبد الله بن مغفل، وأحايث الجهر رواها أربعة عشر صحابيًا.

ومنها: أن أحاديث الإخفاء شهادة على نفي، وأحاديث الجهر شهادة على الإثبات، والإثبات مقدم على النفي.

ومنها: أن أنسًا قد روي عنه إنكار ذلك في الجملة.

فروى أحمد، (2) والدارقطني (3) من حديث سعيد بن زيد بن أبي مسلمة قال: "سألت أنسًا كان رسول الله عليه السلام يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم أو الحمد لله رب العالمين؟ قال: إنك لتسألني عن شيء ما أحفظ أو ما سألني أحد قبلك.

(1)"المجتبى"(2/ 134 رقم 905).

(2)

"مسند أحمد"(3/ 190 رقم 12997).

(3)

"سنن الدارقطني"(1/ 316 رقم 10).

ص: 567

قال: الدارقطني: إسناده صحيح.

قلت: الجواب عن الأول: أن الاعتماد على كثرة الرواة إنما يكون بعد صحة الدليلين، وأحاديث الجهر ليس فيها صحيح صريح، بخلاف حديث الإخفاء فإنه صحيح صريح ثابت مخرج في الصحيح والمسانيد المعروفة والسنن المشهورة، مع أن جماعة من الحنفية لا يرون الترجيح بكثرة الرواة، وأحاديث الجهر وإن كثرت رواتها لكنها كلها ضعيفة وكم من حديث كثرت رواته وتعددت طرقه وهو ضعيف، كحديث الطير وحديث:"أفطر الحاجم والمحجوم" وحديث: "من كنت مولاه فعلي مولاه" بل قد لا يزيد الحديث كثرة الطرق إلَّا ضعفًا، وأحاديث الجهر لم يروها إلَّا الحاكم والدارقطني، فالحاكم عرف تساهله وتصحيحه للأحاديث الضعيفة بل الموضوعة، والدارقطني قد ملأ كتابه من الأحاديث الضعيفة والغريبة والشاذة والمعللة، وكم فيه من حديث لا يوجد في غيره، وقد حكي أن الدارقطني لما دخل مصر سأله بعض أهلها تصنيف شيء في الجهر بالبسملة، فصنف فيه جزءًا، فأتاه بعض المالكية فأقسم عليه أن يخبره بالصحيح من ذلك، فقال: كل ما روي عن النبي عليه السلام في الجهر فليس بصحيح، وأما عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف.

وعن الثاني: أن هذه الشهادة وإن ظهرت في صورة النفي فمعناها الإثبات، على أن هذا مختلف فيه، فالأكثرون على تقديم الإثبات، وعند البعض هما سواء، وعند البعض النافي مقدم على المثبت، وإليه ذهب الآمدي وغيره.

وعن الثالث: أن ما روي من إنكار أنس لا يقاوم ما ثبت عنه خلافه في الصحيح، ويحتمل أن يكون أنس رضي الله عنه نسى في تلك الحال لكبره، وقد وقع مثل ذلك كثيرًا كما سئل يومًا عن مسألة، فقال:"عليكم بالحسن فاسألوه؛ فإنه حفظ ونسينا"(1) وكم ممن حدث ونسى، ويحتمل أنه سأله عن ذكرها في الصلاة أصلًا، لا عن الجهر بها وإخفائها.

(1)"الطبقات الكبرى"(7/ 176).

ص: 568

فإن قيل: يجمع بين الأحاديث بأن يكون أنس لم يسمعه لبعده، وأنه كان صبيًّا يومئذٍ.

قلت: هذا مردود؛ لأنه عليه السلام هاجر إلى المدينة، ولأنس يومئذ عشر سنين، ومات وله عشرون سنة، فكيف يتصور أن يصلي خلفه عشر سنين فلا يسمعه يومًا من الدهر يجهر؟! هذا بعيد، بل مستحيل، ثم قد روى هذا في زمن النبي عليه السلام فكيف وهو رجل في زمن أبي بكر وعمر وكهل في زمن عثمان، مع تقدمه في زمانهم وروايته للحديث، وقد روى أنس قال:"كان رسول الله عليه السلام يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه".

رواه النسائي، (1) وابن ماجه، (2) وقال النووي في "الخلاصة": إسناده على شرط البخاري ومسلم (3).

وقد ذهب البعض إلى أن أحاديث الجهر منسوخة لما نبينه إن شاء الله تعالى.

ص: وخالفهم في ذلك أخرون فقالوا لا نرى الجهر بها، واختلفوا بعد ذلك فقال بعضهم: يقولها سرًّا، وقال بعضهم: لا يقولها البتة، لا في السر ولا في العلانية.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم الأوزاعي والثوري وعبد الله بن المبارك، وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: لا يجهر بالبسملة، ثم اختلفوا بعد ذلك، فقال: بعضهم يقولها سرًّا وأراد بهؤلاء البعض: الثوري وأبا حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق.

وقال بعضهم: لا يقولها البتة لا في السر ولا في العلانية، وأراد بهؤلاء البعض: الأوزاعي ومالكًا وابن جرير الطبري.

وقال أبو عمر (4): قال مالك: لا تقرأ البسملة في الفرض سرًّا ولا جهرًا، وفي

(1)"سنن النسائي الكبرى"(5/ 84 رقم 8311).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1/ 313 رقم 977).

(3)

هذا آخر ما نقله المؤلف عن الزيلعي في "نصب الراية"، وإن كان لم يعزه إليه، انظر "نصب الراية".

(4)

"التمهيد"(20/ 207).

ص: 569

النافلة إن شاء فعل وإن شاء ترك. وهو قول الطبري، وقال الثوري وأبو حنيفة وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل: تقرأ مع أم القرآن في كل ركعة، إلا ابن أبي ليل قال: إن شاء جهر بها، وإن شاء أخفاها، وقال سائرهم: يخفيها. وقال الشافعي: هي آية من الفاتحة يخفيها إذا أخفى، ويجهر بها إذا جهر، واختلف قوله هل هي آية من كل سورة أم لا؟ على قولين: أحدهما: نعم. وهو قول ابن المبارك. والثاني: لا. وقال أيضًا: أجمعت الأمة أن الفاتحة سبع آيات وقال النبي عليه السلام: هي السبع المثاني (1)، ثم جاء في هذا الحديث وأشار به إلى حديث أبي هريرة: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي

" الحديث (2) أنه عدها سبع آيات ليس فيها "بسم الله الرحمن الرحيم"، وأن {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية، وهو عدد أهل المدينة وأهل الشام وأهل البصرة وأكثر القراء، وأما أهل الكوفة من القراء فإنهم عدوا فيها بسم الله الرحمن الرحيم ولم يعدوا {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وأبو عُبيد: هي آية من الفاتحة. وللشافعي قولان:

أحدهما: أنها آية من الفاتحة دون غيرها من السور.

والقول الآخر: هي آية من أول كل سورة.

وكذلك اختلف أصحابه على القولين جميعًا.

وأما أصحاب أبي حنيفة فزعموا أنهم لا يحفظون عنه هل هي آية من الفاتحة أم لا، ومذهبه يقتضي أنها ليست آية من فاتحة الكتاب؛ لأنه يسر بها في السر والجهر.

وقال داود: هي آية من القرآن في كل موضع وقعت فيه، وليست من السور،

(1) أخرجه البخاري (4/ 1738 رقم 4427)، وأبو داود (1/ 461 رقم 1457)، والترمذي (5/ 297 رقم 3124)، والنسائي (2/ 139 رقم 914).

(2)

أخرجه مسلم (1/ 296 رقم 395)، وأبو داود (1/ 276 رقم 821)، والترمذي (5/ 201 رقم 2953)، والنسائي (2/ 135 رقم 909)، وابن ماجه (2/ 135 رقم 909).

ص: 570

وإنما هي آية مفردة غير ملحقة بالسور، وزعم الرازي: أن مذهب أبي حنيفة هكذا انتهى (1).

قلت: الصحيح من مذهب أصحابنا أنها من القرآن؛ لأن الأمة أجمعت أن ما كان مكتوبًا بين الدفتين بقلم الوحي فهو من القرآن، والتسمية كذلك، وكذلك روى المعلى عن محمَّد فقال: قلت لمحمد: التسمية آية من القرآن أم لا؟ فقال: ما بين الدفتين كله قرآن. وكذا روى الجصاص عن محمَّد أنه قال: التسمية آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور، وللبداية بها تبركًا، وليست بآية من كل واحدة منها، وينبني على هذا أن فرض القراءة في الصلاة يتأدى بها عند أبي حنيفة إذا قرأها على قصد القراءة دون الثناء عند بعض مشايخنا؛ لأنها آية من القرآن، وقال بعضهم: لا يتأدى؛ لأن في كونها آية تامة احتمال، فإنه روي عن الأوزاعي أنه قال: ما أنزل الله في القرآن "بسم الله الرحمن الرحيم" إلا في سورة النمل، وهي وحدها ليست بآية تامة وإنما الآية من قوله:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (2) فوقع الشك في كونها آية تامة، فلا يجوز بالشك، وكذا يحرم على الجنُب والحائض والنفساء قراءتها على قصد القرآن، أما على قياس قول الكرخي؛ لأن ما دون الآية يحرم عليهم، وكذا على رواية الطحاوي؛ لاحتمال أنها آية تامة فيحرم عليهم قراءتهاة احتياطيًا، وهذا القول هو قول المحققين من أصحاب أبي حنيفة، وهو قول ابن المبارك وداود وأتباعه، وهو المنصوص عن أحمد.

وقالت طائفة: إنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل، وهو قول مالك وبعض الحنفية وبعض الحنابلة.

ص: واحتجوا على أهل المقالة الأولى في ذلك بما قد حدثنا الحسين بن نصر،

(1) هذا آخر كلام ابن عبد البر في "التمهيد"(2/ 207).

(2)

سورة النمل، آية:[30].

ص: 571

قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا عمارة بن القعقاع، قال: ثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير، قال: ثنا أبو هريرة قال: "كان رسول الله عليه السلام إذا نهض في الثانية استفتح بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت".

قالوا: ففي هذا دليل أن بسم الله الرحمن الرحيم ليست من فاتحة الكتاب، ولو كانت من فاتحة الكتاب لقرأ بها في الثانية كما قرأ فاتحة الكتاب، والذين يستحبون الجهر بها في الركعة الأولى لأنها عندهم من فاتحة الكتاب استحبوا ذلك أيضًا في الثانية، فلما انتفى بحديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أن يكون النبي عليه السلام قرأ بها في الثانية، انتفى به أيضًا أن يكون قرأ بها في الأولى، فعارض هذا الحديث حديث نعيم بن المُجْمر، وكان هذا أولى منه لاستقامة طريقه، وفضل صحة مجيئه على مجيء حديث نعيم.

ش: أي احتج هؤلاء الآخرون الذين ذهبوا إلى ترك الجهر بالبسملة على أهل المقالة الأولى -وهم الذين ذهبوا إلى الجهر بها في ذلك أي فيما ذهبوا إليه من ترك الجهر- بحديث أبي هريرة، ودلالته على ذلك ظاهرة، وبَيَّنَها بقوله: "قالوا: ففي هذا دليل

" إلى آخره.

وأخرجه عن الحسين بن نصر بن المعارك، عن يحيى بن حسان بن حيان التنيسي البكري، أبي زكرياء البصري، سكن تنيس -بلدة بساحل مصر واليوم خراب- فنسب إليها، روى له الجماعة سوى ابن ماجه.

عن عبد الواحد بن زياد العبدي أبي عبيدة البصري، روى له الجماعة.

عن عمارة بن القعقاع بن شبرمة الضبي الكوفي، ابن أخي عبد الله بن شبرمة، روى له الجماعة.

عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي، روى له الجماعة،

ص: 572

واسمه هرم، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: عمرو، وقيل: جرير.

وأخرجه مسلم (1): وقال: حدثت عن يحيى بن حسان ويونس المؤدب وغيرهما، قالوا: أخبرنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثني عمارة بن القعقاع

إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء.

قوله: "فعارض هذا الحديث" أي حديث أبي هريرة الذي رواه عنه أبو زرعة حديث نعيم بن المجمر الذي رواه عن أبي هريرة المذكور في أول الباب الذي احتج به أهل المقالة الأولى، وأشار بقوله:"وكان هذا أولى منه لاستقامة طريقه" إلى أن حديث نعيم معلول، وهو أن ذكر البسملة فيه مما تفرد به نعيم بن المجمر من بين أصحاب أبي هريرة، وهم ثمان مائة ما بين صاحب وتابع، ولا يثبت عن ثقة من أصحاب أبي هريرة أنه حدث عن أبي هريرة أنه عليه السلام كان يجهر بالبسملة في الصلاة، ألا ترى كيف أعرض صاحبا الصحيح عن ذكر البسملة في حديث أبي هريرة "كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها

" الحديث (2).

فإن قيل: نعيم بن المجمر ثقة والزيادة من الثقة مقبولة.

قلت (3): ليس ذلك مجمعًا عليه بل فيه خلاف مشهور، فمنهم من يقبلها مطلقًا، ومنهم من لا يقبلها، والصحيح التفصيل، وهو أنها تقبل في موضع دون موضع، فتقبل إذا كان الراوي الذي رواها ثقة حافظًا ثبتًا، والذي لم يذكرها مثله أو دونه في الثقة، كما قبل الناس زيادة مالك بن أنس قوله:"من المسلمين" في صدقة الفطر (4) واحتج بها أكثر العلماء، ومن حكم في ذلك حكمًا عامًا فقد غلط، بل كل زيادة لها حكم يخصها، ففي موضع يجزم بصحتها كزيادة مالك، وفي موضع يغلب على الظن صحتها كزيادة سعد بن طارق في حديث: "جعلت لي الأرض مسجدًا

(1)"صحيح مسلم"(1/ 419 رقم 599).

(2)

أخرجه البخاري (1/ 276 رقم 770)، ومسلم (1/ 293 رقم 392).

(3)

هذا كلام الزيلعي في "نصب الراية"(1/ 261).

(4)

أخرجه البخاري (2/ 547 رقم 1433)، ومسلم (2/ 677 رقم 984).

ص: 573

وجعلت تربتها لنا طهورًا" (1).

وفي موضع نجزم بخطأ الزيادة كزدياة معمر ومن وافقه قوله: "وإن كان في مائعًا فلا تقربوه"(2)، وكزيادة عبد الله بن زياد -ذكر البسملة- في حديث:"قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"(3) وإن كان معمر ثقة وعبد الله بن زياد ضعيفًا؛ فإن الثقة قد يغلط.

وفي موضع يغلب على الظن خطؤها كزيادة معمر في حديث ماعز الصلاة عليه.

رواه البخاري في "صحيحه"(4): وسئل: هل رواها غير معمر؟ فقال: لا.

وقد رواه أصحاب السنن الأربعة (5): عن معمر وقال فيه: "ولم يصل عليه".

فقد اختلف على معمر في ذلك، والراوي عن معمر هو عبد الرزاق، وقد اختلف عليه أيضًا، والصواب أنه قال:"ولم يصل عليه". وفي موضع يتوقف في الزيادة كما في أحاديث كثيرة، وزيادة نعيم بن المجمر التسمية في هذا الحديث مما يتوقف فيه؛ بل يغلب على الظن ضعفه، وعلى تقدير صحتها فلا حجة فيها لمن قال بالجهر؛ لأنه قال:"فقرأ أو قال: بسم الله الرحمن الرحيم" وذلك أعم من قراءتها سرًا، أو جهرًا، أو إنما هو حجة على من لا يرى قراءتها.

فإن قيل: لو كان أبو هريرة أسَّر بالبسملة ثم جهر بالفاتحة لم يعبر عن ذلك نعيم بعبارة واحدة متنَاولة للفاتحة والبسملة تناولًا واحدًا، ولقال: فأسر بالبسملة ثم جهر بالفاتحة، والصلاة كانت جهرية، بدليل تأمينه وتأمين المأمومين.

قلنا: ليس الجهر فيه بصريح، ولا ظاهر يوجب الحجة، ومثل هذا لا يقدم على

(1) أخرجه مسلم (1/ 371 رقم 522).

(2)

أخرجه أبو داود (2/ 392 رقم 3842)، والنسائي (7/ 178 رقم 4260).

(3)

"سنن الدارقطني"(1/ 312 رقم 35).

(4)

"صحيح البخاري"(6/ 2500 رقم 6434).

(5)

أبو داود (2/ 553 رقم 4430)، والترمذي (4/ 36 رقم 1429)، والنسائي (4/ 62 رقم 1956).

ولم أجده عند ابن ماجه، وما عزاه له المزي في "تحفة الإشراف"(2/ 393 - 394 رقم 2149).

ص: 574

النص الصريح المقتضي للإسرار، ولو أخذ الجهر من هذا الإطلاق لأخذ منه أنها ليست من أم القرآن؛ فإنه قال:"فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ أم القرآن" والعطف يقتضي المغايرة.

وجواب آخر عن هذا الحديث: أن قوله: "فقرأ أو قال" ليس بصريح أنه سمعها منه؛ إذ يجوز أن يكون أبو هريرة أخبر نعيمًا أنه قرأها سرًّا، ويجوز أن يكون سمعها منه في مخافتته لقربه منه، كما روى عنه من أنواع الاستفتاح وألفاظ الذكر في قيامه وقعوده وركوعه وسجوده، ولم يكن ذلك منه دليلًا على الجهر.

وجواب آخر: أن التشبيه لا يقتضي أن يكون مثله من كل وجه، بل يكفي في غالب الأفعال، وذلك يتحقق في التكبير وغيره دون البسملة، فإن التكبير وغيره من أفعال الصلاة ثابت صحيح عن أبي هريرة، وكان مقصوده الرد على من تركه، وأما التسمية ففي صحتها عنه نظر، فينصرف إلى الصحيح الثابت دون غيره، ومما يلزمهم على القول بالتشبيه من كل وجه أن يقولوا بالجهر بالتعوذ. لأن الشافعي (1) روى: أخبرنا ابن محمَّد الأسلمي، عن ربيعة بن عثمان، عن صالح بن أبي صالح:"أنه سمع أبا هريرة وهو يؤم الناس رافعًا صوته في المكتوبة إذا فرغ من أم القرآن: ربنا إنا نعوذ إلى من الشيطان الرجيم"، فهلّا أخذوا بهذا كما أخذوا بجهر البسملة.

مستدلين بما في "الصحيحين"(2) عنه: "فما أسمعنا عليه السلام أسمعناكم وما أخفانا أخفينا عنكم"، وكيف يظن بأبي هريرة أنه يريد التشبيه في الجهر بالبسملة وهو الراوي عن النبي عليه السلام قال: "يقول الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، قال الله:

(1)"مسند الشافعي"(1/ 35 رقم 138) بنحوه.

(2)

البخاري (1/ 267 رقم 738)، ومسلم (1/ 297 رقم 396).

ص: 575

أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجدني عبدي، وإذا قال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل".

أخرجه مسلم في "صحيحه"(1): عن سفيان بن عيينة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة

فذكره.

وعن مالك بن أنس، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة.

وعن ابن جريج عن العلاء بن عبد الرحمن.

وهذا الحديث ظاهر في أن البسملة ليست من الفاتحة، وإلا لابتدأ بها؛ لأن هذا محل بيان واستقصاء لآيات السورة حتى إنه لم يخل منها بحرف، والحاجة إلى قراءة البسملة أمس ليرتفع الإشكال، وقال ابن عبد البر رحمه الله: حديث العلاء هذا قاطع تعلق المتنازعين، وهو نص لا يحتمل التأويل، ولا أعلم حديثًا في سقوط البسملة أبين منه، واعترض بعض المتأخرين على هذا الحديث بأمرين.

أحدهما: لا (يعتبر)(2) بكون هذا الحديث في "صحيح مسلم" فإن العلاء بن عبد الرحمن تكلم فيه ابن معين، فقال: ليس حديثه بحجة، مضطرب الحديث، ليس بذاك، هو ضعيف. روي عنه هذه الألفاظ جميعًا، وقال ابن عدي: ليس بالقوي. وقد انفرد بهذا الحديث فلا يحتج به.

الثاني: قال: وعلى تقدير صحته فقد جاءت في بعض الروايات عنه ذكر التسمية.

(1)"صحيح مسلم"(1/ 296 رقم 395).

(2)

كذا في "الأصل، ك"، وفي "نصب الراية" (1/ 261):"يُعْبَأ".

ص: 576

كما أخرجه الدارقطني (1): عن عبد الله بن زياد بن سمعان، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فنصفها لي، ونصفها له، يقول عبدي إذا افتتح الصلاة:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فيذكرني عبدي، ثم يقول:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيقول: حمدني عبدي

" إلى آخره، وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة ولكنها مفسرة لحديث مسلم أنه أراد السورة لا الآية.

قلت: هذا القائل حمله الجهل وفرط التعصب ورداءة الرأي والفكر. وعلى أنه ترك الحديث الصحيح وضعفه لكونه غير موافق لمذهبه، وقال: لا (يعتبر)(2) بكونه في مسلم مع أنه قد رواه عن العلاء الأئمة الثقات الأثبات كمالك وسفيان بن عيينة وابن جريج وشعيب وعبد العزيز الدراوردي وإسماعيل بن جعفر ومحمد بن إسحاق والوليد بن كثير وغيرهم، والعلاء نفسه ثقة صدوق، وهذه الرواية مما انفرد بها عنه ابن سمعان وهو كذاب، ولم يخرجها أحد من أصحاب الكتب الستة، ولا في المصنفات المشهورة، ولا المسانيد المعروفة، وإنما رواه الدارقطني في "سننه" التي يروي فيها غرائب الحديث، وقال عمر بن عبد الواحد: سألت مالكًا عند أبي عن ابن سمعان فقال: كان كذابًا. وقال يحيى بن بكير: قال هشام بن عروة فيه: فقد كذب عليَّ وحدث عني بأحاديث لم أحدثه بها. وعن أحمد بن حنبل: متروك الحديث. وسئل ابن معين عنه فقال: كان كذابًا. وقيل لابن إسحاق: إن ابن سمعان يقول: سمعت مجاهدا، فقال: لا إله إلا الله أنا والله أكبر منه، ما رأيت مجاهدًا ولا سمعت منه. وقال ابن حبان: كان يروي عمن لم يره، ويحدث بما لم يسمع. وقال أبو داود: متروك الحديث، وكان من الكذابين. وقال النسائي: متروك.

(1) تقدم تخريجه.

(2)

كذا في "الأصل، ك"، وفي "نصب الراية" (1/ 261):"يُعْبَأ".

ص: 577

وكيف يُعل الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في "صحيحه" بالحديث الضعيف الذي رواه الدارقطني عن كذاب متروك لا شيء، وهلَّا جعلوا الحديث الصحيح علة للضعيف، ومخالفة أصحاب أبي هريرة الثقات الأثبات لنعيم؛ موجبًا لردِّه، إذ مقتضى العلم أن يعلل الحديث الضعيف بالحديث الصحيح، كما فعلنا نحن والله أعلم.

ص: وقالوا: وأما حديث أم سلمة الذي رواه ابن أبي مليكة، قد اختلف الذين رَوَوْه في لفظه، فرواه بعضهم على ما ذكرنا، ورواه آخرون على غير ذلك.

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن عبد الله ابن عبيد الله بن أبي مليكة، عن يعلى:"أنه سأل أم سلمة رضي الله عنه عن قراءة النبي عليه السلام، فنعتت له قراءة مفسرة حرفًا حرفًا".

فقالوا: ففي هذا أن ذكر قراءة بسم الله الرحمن الرحيم من أم سلمة تنعت بذلك قراءة رسول الله عليه السلام لسائر القرآن كيف كانت، وليس في ذلك دليل أن رسول الله عليه السلام كان يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فمعنى هذا غير معنى حديث ابن جريج، وقد يجوز أيضًا أن يكون تقطيع فاتحة الكتاب الذي في حديث ابن جريج كان من ابن جريج أيضًا حكايته منه للقراءة المفسرة حرفًا حرفًا، التي حكاها الليث عن ابن أبي مليكة، فانتفى بذلك أن يكون في حديث أم سلمة ذلك حجة لأحد.

ش: أي قال أهل المقالة الثانية في الجواب عن حديث أم سلمة الذي احتج به أهل المقالة الأولى، بيانه: أن إسناد هذا الحديث مضطرب؛ لأن بعضهم رواه عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة على ما ذكره الطحاوي في أول الباب في بيان استدلال أهل المقالة الأولى، وبعضهم رواه عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مالك عن أم سلمة، وهذا أصح من الأول.

ص: 578

وقد أشار الترمذي (1): إلى ذلك حيث أسنده من حديث يعلى: "أنه سأل أم سلمة عن قراءة النبي عليه السلام

" فذكر الحديث بمعناه.

ثم قال: غريب حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث الليث، عن ابن أبي مليكة، عن يعل عن أم سلمة. وقد روى ابن جريج هذا الحديث عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة:"أنه عليه السلام -كان يقطع قراءته"، وحديث الليث أصح؛ ولأجل ذلك قال الطحاوي في كتاب "الرد على الكرابيسي": لم يسمع ابن أبي مليكة هذا الحديث من أم سلمة، واستدل عليه بهذا الإسناد الذي ذكره ها هنا، فإذا كان الطريق الصحيح هو الذي أخرجه الليث، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى، عن أم سلمة، فليس فيه حجة لهم؛ لأن فيه ذكر قراءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} من أم سلمة نعت منها لقراءة رسول الله عليه السلام لسائر القرآن كيف كانت، وليس فيه ما يدل أن رسول الله عليه السلام كان يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فحينئذ يكون معناه غير معنى الحديث الذي رواه ابن جريج.

وأيضًا فإنه يمكن أن أم سلمة سمعته سرًّا في بيتها لقربها منه، وأيضًا كان قصدها الإخبار بأنه عليه السلام كان يرتل قراءته ولا يسردها.

قوله: "وقد يجوز أيضًا

" إلى آخره جواب بطريق التسليم، بيانه: أنا ولو سلمنا أن طريق حديث ابن جريج صحيح، ولكنا لا نسلم أنه يدل على ما ذكرتم؛ لأنه يجوز أن يكون تقطيع فاتحة الكتاب في حديث ابن جريج كان منه حكايته للقراءة المفسرة حرفًا حرفًا، التي حكاها الليث بن سعد عن ابن أبي مليكة، فحينئذ لا يكون في حديث أم سلمة حجة لأحد مطلقًا، سواء كان من هذا الطريق أو من ذاك الطريق.

(1)"جامع الترمذي"(5/ 182 رقم 2923).

ص: 579

وقد ذكرنا أن أبا داود (1)، وأحمد (2)، والدارقطني (3)، والحاكم (4)، والطبراني (5)، والبيهقي (6): رووا هذا الحديث بالطريق الأول كما سردناه عن الكل، وليس في رواية أبي داود وأحمد والطبراني ذكر الصلاة، إنما هو إخبار عن أم سلمة عن ترتيل قراءة النبي عليه السلام، وأما رواية الدارقطني والحاكم والبيهقي فمدارها على عمر بن هارون البلخي وهو مجروح تكلم فيه غير واحد من الأئمة، فقال أحمد: لا أروي عنه شيئًا. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال ابن المبارك: كذاب. وقال النسائي: متروك الحديث. وسئل عنه ابن المديني فضعفه جدًّا. ونقل ابن الجوزي عن يحيى فقال: كذاب خبيث ليس حديثه بشيء. وقال مرة: كذاب. وقال أبو داود: غير ثقة. وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المعضلات ويدعي شيوخًا لم يرهم. وقال صالح بن محمَّد: كان كذابًا. والبيهقي ذكر حديث يعلى في باب ترتيل القراءة، وتركه في باب الدليل على أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية تامة من الفاتحة؛ لكونه لا يوافق مقصوده، ولأن فيه بيان علة حديثه، والعجب ثم العجب منه روى هذا الحديث عن عمر بن هارون وألان القول فيه، وقال: ورواه عمر بن هارون وليس بالقوي، عن ابن جريج. وذكره في باب لا شفعة فيما ينقل، أنه ضعيف لا يحتج به، وكذلك العجب من الحاكم كيف يودع هذا الحديث الضعيف السقيم في كتابه الذي سماه "صحيحًا"وماذا إلا تحامل وتعصب، والدين لا يقوم بهذا، والحق أحق أن يتبع، وقال الذهبي: في "مختصر سنن البيهقي": هذا خبر منكر شذَّ به

(1)"سنن أبي داود"(1/ 463 رقم 1466).

(2)

"مسند أحمد"(6/ 294 رقم 26569).

(3)

"سنن الدارقطني"(1/ 307 رقم 21) من طريق ابن جريج.

(4)

"مستدرك الحاكم"(1/ 453 رقم 1165).

(5)

"المعجم الكبير"(23/ 278 رقم 603).

(6)

"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 13 رقم 4489).

ص: 580

عمر بن هارون، وقد قال ابن معين وغيره: كذاب. وقال النسائي وغيره: متروك. وأيضًا فإن كان عدها بلسانه في الصلاة فذلك مناف للصلاة، وإن كان بأصابعه فلا يدل على أنها آية من الفاتحة انتهى.

ويقال: المحفوظ في هذا الحديث والمشهور: أنه ليس في الصلاة، وإنما قوله:"في الصلاة" زيادة من عمر بن هارون، وقبول الزيادة من ثقة فيه كلام فضلًا عن زيادة كذاب متروك لا شيء، ثم رجال حديث يعلى هذا ثقات، وهو يعلى بن مالك، ويقال: مملك. وثقه ابن حبان.

وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بتكبير الابن وتصغير الأب، وأبو مليكة اسمه زهير بن عبد الله المكي الأحول، روى له الجماعة.

والحديث أخرجه الترمذي (1) كما ذكرنا، وأخرجه أبو داود (1): أيضًا ثنا يزيد ابن خالد بن موهب الرملي، نا الليث، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك:"أنه سأل أم سلمة عن قراءة رسول الله عليه السلام وصلاته، فقالت: وما لكم وصلاته، كان يصلي، وينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى، حتى يصبح، ونعتت قراءته، فإذا هي تنعت حرفًا حرفًا".

وأخرجه النسائي (2) أيضًا.

قوله: "تنعت" من النعت، وهو وصف الشيء بما فيه من حسن، ولا يقال في المذموم إلا أن يتكلف متكلف فيقول: نعت سوء.

قوله: "حرفًا حرفًا" أي كلمة كلمة، أرادت أنه كان يقرأ بالترتيل والتجويد والتأني ورعاية مخارج الحروف وغير ذلك من أنواع التجويد، وانتصاب "حرفًا حرفا" كانتصاب "درهمًا درهمًا" في قول القائل: خذوا هذا الألف واقتسموا درهمًا درهما. وفي الحقيقة هي حال، ومعناه: اقتسموا حال كونها معدودة بهذا العدد،

(1) تقدم تخريجه.

(2)

"المجتبى"(3/ 214 رقم 1629).

ص: 581

وذلك لأن غير المشتق يقع حالًا بالتأويل، والمعنى في الحديث: فوصفت قراءة ظاهرة حال كونها معدودة بحرف حرف، و"حرفًا" الثاني كرر للتأكيد، فافهم.

ص: وقالوا لهم أيضًا فيما رووه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم في قوله {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} (1): أما ما ذكرتموه من أنها هي السبع المثاني فإنا لا ننازعكم في ذلك، وأما ما ذكرتموه من أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} منها فقد روي هذا عن ابن عباس كما ذكرتم، وقد رُوي عن غيره ممن روينا عنه في هذا الباب أنه لم يجهر بها ما يدل على خلاف ذلك، ولم يختلفوا جميعًا أن فاتحة الكتاب سبع آيات، فمن جعل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} منها عدها آية، ومن لم يجعلها منها عد عليهم آية، ولما اختلفوا في ذلك وجب النظر، وسنبين ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

ش: أي قال أهل المقالة الثانية لأهل المقالة الأولى في جواب حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس الذي استدلوا به على أن البسملة آية من الفاتحة وأنها يجهر بها حيثما يجهر، بيان ذلك: أن الذي ذكرتم من أن الفاتحة هي السبع المثاني مسلَّم لا نزاع فيه لأحد معكم، ولكن النزاع في أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هل هي في الفاتحة أم لا؟ فالذي روي عن ابن عباس كما ذكرتم أنها من الفاتحة، ولكن روي عن غيره أنها ليست من الفاتحة؛ إذ لو كانت آية منها لجهر بها كما جهر بالفاتحة، ولما وقع الاختلاف في هذا وجب النظر، ولم يذكر الطحاوي وجه النظر ها هنا وأحاله على موضع آخر والظاهر أنه ذكره في كتابه "الرد على الكرابيسي" وجه النظر في ذلك أنهم اتفقوا على أن الفاتحة سبع آيات بلا خلاف لأحد، ولكن الخلاف في كيفية العدد، فقراء الكوفيين عدوا البسملة آية منها ولم يعدوا عليهم، وقراء البصريين عدوا عليهم ولم يعدوا البسملة، ثم اتفق كلهم على أن سورة الكوثر مثلًا ثلاث آيات، وسورة الإخلاص أربع آيات، وليس في ذلك خلاف لأحد، فمتى قلنا: إن البسملة آية من أول كل سورة يلزم أن تكون سورة الكوثر أربع آيات، وسورة الإخلاص خمس

(1) سورة الحجر، آية:[87].

ص: 582

آيات، ولم يقل به أحدة فالنظر على ذلك ينبغي أن لا تعد البسملة آية من الفاتحة أيضًا، قياسًا على غيرها من السور، ويكون كونها سبع آيات من غير البسملة، فعلى هذا الوجه إذا جعلت البسملة من الفاتحة يلزم أن تكون الفاتحة ثمان آيات، ولم يقل به أحد.

فإن قيل: إنما عدوا آيات السور سوى البسملة لأنه لا إشكال فيها عندهم.

قلت: فحينذ لا يجوز لهم أن يقولوا: سورة الإخلاص أربع آيات، وسورة الكوثر ثلاث آيات، والثلاث والأربع إنما هي بعض السور، ولو كان كذلك لوجب أن يقولوا في الفاتحة: إنها ست آيات.

ثم معنى قوله: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} (1) أي: سبع آيات، وهي الفاتحة، والمثاني: من التثنية وهي التكريرة لأن الفاتحة مما تكرر قراءتها في الصلاة، أو في الثناء؛ لاشتمالها على ما هو ثناء على الله تعالى، الواحدة: مثناة أو مُثْنية، صفة الآية. قاله الزمخشري رحمه الله.

ص: وقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ما قد حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا هوذة بن خليفة، عن عوف، عن يزيد الفارسي، عن ابن عباس رضي الله عنه قال:"قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من السبع الطول، وإلى براءة وهم من المئين فقرنتم بينهما، وجعلتموها في السبع الطول ولم تكتبوا بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقال عثمان رضي الله عنه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الآية، فيقول: اجعلوها في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وتوفي رسول الله عليه السلام ولم أسأله عن ذلك، فخفت أن تكون منها، فقرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وجعلتهما من السبع الطول".

(1) سورة الحجر، آية:[87].

ص: 583

قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا عثمان رضي الله عنه يخبر في هذا الحديث أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لم تكن عنده من السور، وأنه إنما كان يكتبها في فصل السور، وهي غيرهن؛ فهذا خلاف ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما من ذلك.

ش: أشار بهذا إلى دليل يدل على أن البسملة ليست من أوائل السور، فإذا لم تكن من السور لم تكن من الفاتحة أيضًا؛ لأنها من السور، وهو أيضًا خلاف ما ذهب إليه ابن عباس، وهو الذي أخرجه عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن هوذة بن خليفة بن عبد الله الثقفي البكراوي بن الأشهب البصري، وثقه ابن حبان، وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس.

عن عوف بن أبي جميلة العبدي، المعروف بالأعرابي، روى له الجماعة.

عن يزيد الفارسي البصري، وقيل: إنه يزيد بن هرمز المدني، والصحيح أنه غيره، وفي بعض النسخ: يزيد الرقاشي، وليس بصحيح؛ لأن يزيد الرقاشي يزيد بن أبان الرقاشي، وهو لم يدرك ابن عباس، وإنما روى عن أنس بن مالك، وكلاهما من أهل البصرة، ويزيد الفارسي أقدم من يزيد الرقاشي، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي.

وهذا إسناد صحيح، وأخرجه أبو داود (1): ثنا عمرو بن عون، أنا هشيم، عن عوف، عن يزيد الفارسي، قال: سمعت ابن عباس قال: "قلت لعثمان: ما حملكم أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين، وإلى الأنفال وهي من المثاني فجعلتموهما في السبع الطول ولم تكتبوا بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؟ قال عثمان رضي الله عنه: كان النبي عليه السلام مما تنزل عليه الآيات، فيدعو بعض من كان يكتب له، ويقول: ضع هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآية والآيتان فيقول مثل ذلك، وكانت الأنفال من أول ما نزل عليه بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فمن هناك وضعتهما في السبع الطول ولم أكتب بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

(1)"سنن أبي داود"(1/ 268 رقم 786).

ص: 584

وأخرجه الترمذي (1) في أبواب تفسير القرآن وقال: ثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي وسهل بن يوسف، قالوا: نا عوف بن أبي جميلة، قال: حدثني يزيد الفارسي، قال: حدثني ابن عباس قال: "قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنهم: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؟ ووضعتموهما في السبع الطول، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان رضي الله عنه: كان رسول الله عليه السلام مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعى بعض من كان يكتبه، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وإذا نزلت عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله عليه السلام ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، فوضعتهما في السبع الطول".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث عوف، عن يزيد الفارسي، عن ابن عباس رضي الله عنه.

فهذا عثمان رضي الله عنه لو رأى البسملة من السور لكتبها بين الأنفال وبراءة، ولم تكن عنده من السور، وأنه كان إنما كان يكتبها في فصل السور بينها وبين غيرها.

فإن قيل: إذا لم تكن آية من أوائل السور، فينبغي أن لا يقال: إنها آية من القرآن بأخبار الآحاد.

قلت: ليس الأمر كذلك؛ لأنه ليس على النبي عليه السلام توقيف الأمة على مقاطع الآي ومقاديرها، ولم نتعبد بمعرفتها؛ فجاز إثباتها آية بأخبار الآحاد، وأما موضعها من

(1)"جامع الترمذي"(5/ 272 رقم 3086).

ص: 585

السور فهو كإثباتها من القرآن، فسبيله النقل المتواتر ولا يجوز بأخبار الآحاد، ولا بالنظر والمقاييس كسائر السور، وكموضعها في سورة النمل، ألا ترى أنه قد كان يكون من النبي عليه السلام توقيف على مواضع الآي كما في رواية ابن عباس عن عثمان في هذا الحديث، ولم يوجد من النبي عليه السلام توقيف في سائر الآي على مبادئها ومقاطعها، فثبت أنه غير مفروض علينا مقادير، فإذْ قد ثبت أنها آية، فليست تخلو من أن تكون آية في كل موضع هي مكتوبة فيه من القرآن وإن لم تكن من أوائل السور، أو تكون آية منفردة كررت في هذه المواضع على حسب ما يكتب في أوائل الكتب على جهة التبرك باسم الله تعالى، فالأصلى أن تكون آية في كل موضع هي مكتوبة فيه لنقل الأمة أن جميع ما في المصحف من القرآن، ولم تخص شيئًا منه من غيره، وليس وجودها مكررة في هذه المواضع مخرجها من أن تكون من القرآن، لوجود كثير مثل ذلك مذكور على وجه التكرار، ولا يخرجه ذلك من أن يكون كل واحد آية منه، نحو قوله تعالى:{الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1) من سورة البقرة، ومثله في سورة آل عمران (2) ونحو قوله:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (3) كل آية منها منفردة في موضعها من القرآن لا على معنى تكرار آية واحدة، وكذلك {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقول النبي عليه السلام: إنها آية يقتضي أن تكون آية في كل موضع ذكرت فيه، والله أعلم.

قوله: "أن عمدتم" أي أن قصدتم و"أن" في محل الجر في تأويل المصدر، أي على عمدكم إلى الأنفال.

قوله: "وهي من السبع الطُوَال"وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والتوبة، و"الطُوَل" بضم الطاء وفتح الواو جمع "الطولى" تأنيث الأطول، مثل الكُبَر في الكبرى وهذا البناء يلزمه الألف واللام أو الإضافة.

(1) سورة البقرة، آية:[255].

(2)

سورة آل عمران، آية:[2].

(3)

سورة الرحمن، آية:[12]، وتكررت فيها.

ص: 586

قوله: "وهي من المئين" أي من السور التي تشتمل على أكثر من مائة آية، والمئون -بكسر الميم-: جمع مائة، وبعضهم يقول: مُؤون -بالضم- وأصل مائة مائي، والهاء عوض الياء.

قوله: "وكانت قصتها شبيهة بقصتها" أي قصة براءة كانت شبيهة بقصة الأنفال؛ لأن فيها ذكر العهود وفي براءة نبذها.

قوله: "فخفت أن تكون منها" أي أن تكون سورة براءة من الأنفال، فلأجل ذلك وضعها في السبع الطول، ولم يكتب بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ويقال: تركت البسملة بينهما؛ لأنها نزلت لرفع الأمان، و {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أمان، وقيل: لما اختلفت الصحابة في أنها سورة واحدة، وهي سابعة السبع الطول، أو سورتان فتركت بينهما فرجة ولم تكتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. وقيل: لم تكتب البسملة لأنها رحمة، والسورة في المنافقين.

ص: وقد جاءت الآثار متواترة عن رسول الله عليه السلام وعن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أنهم كانوا لا يجهرون بها في الصلاة.

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا إسماعيل بن علية، عن الجريري، عن قيس بن عباية، قال: حدثني ابن عبد الله بن مغفل، عن أبيه وقيل ما رأيت رجلًا أشد عليه حدثًا في الإسلام منه، فسمعني وأنا أقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقال: أي بني، إياك والحدث في الإسلام؛ فإني قد صليت مع رسول الله عليه السلام وأبي بكر وعثمان رضي الله عنهم فلم أسمعها من أحد منهم ولكن إذا قرأت فقل: الحمد لله رب العالمين".

ش: أي قد جاءت الأحاديث والأخبار حال كونها متكاثرة مترادفة، عن رسول الله عليه السلام وعن أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورين رضي الله عنهم أنهم كانوا لا يجهرون بالبسملة في الصلاة، فهذا أدل دليل على أن البسملة ليست من الفاتحة، وأنها لا يجهر بها، والحديث يدل على أن ترك الجهر عندهم كان ميراثًا عن نبيهم عليه السلام يتوارثونه خَلَفُهم عن سَلَفِهم، وهذا وجه كاف في المسألة، ولو كان عليه السلام -

ص: 587

يجهر بها دائمًا لما وقع فيه اختلاف ولا اشتباه، ولكان معلومًا بالاضطرار، ولَمَّا قال أنس:"لم يجهر بها عليه السلام ولا خلفاؤه الراشدون"(1) ولا قال عبد الله بن مغفل ذلك أيضًا وسماه "حدثًا" ولَمَّا استمر أهل المدينة في محراب النبي عليه السلام على ترك الجهر، فتوارثه آخرهم عن أولهم، وذلك جار عندهم مجرى الصالح والمدَّ بل أبلغ من ذلك؛ لاشتراك جميع المسلمين في الصلاة؛ ولأن الصلاة تتكرر كل يوم وليلة، وكم من إنسان لا يحتاج إلى صاع ولا مدٍّ، ومن يحتاجه يمكث مدة لا يحتاج إليه، ولا يظن عاقل أن أكابر الصحابة والتابعين وأكثر أهل العلم، كانوا يواظبون على خلاف ما كان رسول الله عليه السلام يفعله.

ثم إنه أخرج الحديث المذكور عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر عبد الله بن شيبة الحافظ صاحب "المصنف" و"المسند".

عن إسماعيل بن علية وهو إسماعيل بن إبراهيم بن سهم البصري، وعلية اسم أمه، روى له الجماعة.

عن سعد بن إياس الجُريري -بضم الجيم وفتح الراء- نسبة إلى جُرَير بن عباد أخي الحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن بكر بن وائل، روى له الجماعة.

عن قيس بن عَباية -بفتح العين- الحنفي الزماني، قال يحيى: بصري ثقة.

وروى له الأربعة.

عن ابنٍ لعبد الله بن مغفل ولم يعلم اسمه، ويقال: اسمه يزيد.

عن عبد الله بن مغفل الصحابي رضي الله عنه.

وأخرجه الترمذي (2): ثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: ثنا سعيد بن إياس الجريري، عن قيس بن عَبَاية، عن ابن عبد الله بن مغفل قال: "سمعني أبي وأنا في الصلاة أقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: أي بني،

(1) تقدم تخريجه.

(2)

"جامع الترمذي"(2/ 12 رقم 244).

ص: 588

محدث، إياك والحدث- قال: ولم أر أحدًا من أصحاب رسول الله عليه السلام كان أبغض إليه الحدث في الإِسلام يعني منه- قال: وقد صليت مع النبي عليه السلام ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يقولها، فلا تقلها، إذا أنت صليت فقل:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ".

وأخرجه النسائي (1): أنا إسماعيل بن مسعود، قال: ثنا خالد، قال: نا عثمان بن غياث، قال: أخبرني أبو نعامة الحنفي، قال: ثنا ابن عبد الله بن مغفل، قال:"كان عبد الله بن مغفل إذا سمع أحدنا يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يقول: صليت خلف رسول الله عليه السلام وخلف أبي بكر وخلف عمر رضي الله عنهما فما سمعت أحدًا منهم قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

وأخرجه ابن ماجه (2): عن أبي بكر بن أبي شيبة نحو رواية الطحاوي.

فإن قلت: ما حكم هذا الحديث؟

قلت: حديث حسن، قال الترمذي عقيب إخراجه: قال أبو عيسى: حديث عبد الله بن مغفل حديث حسن، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي عليه السلام، منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، ومن بعدهم من التابعين.

فإن قيل: قال النووي في "الخلاصة": وقد ضعف الحفاظ هذا الحديث، وأنكروا على الترمذي تحسينه كابن خزيمة وابن عبد البر والخطيب، وقالوا: إن مداره على ابن عبد الله بن مغفل وهو مجهول.

قلت: رواه أحمد في "مسنده"(3): من حديث أبي نعامة، والطبراني في "معجمه" من طريقين: طريق من عبد الله بن بريدة، وطريق من أبي سفيان، فالطرق الثلاثة عن ابن عبد الله بن مغفل.

(1)"المجتبى"(2/ 135 رقم 908).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1/ 267 رقم 815).

(3)

"مسند أحمد"(4/ 85 رقم 16833).

ص: 589

وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"(1).

وقال الخطيب: عبد الله بن بريدة أشهر من أن يثنى عليه، وأبو سفيان السعدي وإن تُكُلِّم فيه ولكنه يعتبر منه ما تابعه عليه غيره من الثقات، وهو الذي سمى ابن عبد الله بن مغفل يزيد فحينئذٍ ترتفع الجهالة عن ابن عبد الله بن مغفل برواية هؤلاء الثلاثة الأجلاء عنه، وبالجملة فهذا حديث صريح في عدم الجهر بالبسملة، وهو إن لم يكن من أقسام الصحيح فلا ينزل عنه درجة الحسن، وقد حسنه الترمذي، والحديث الحسن يحتج به لا سيما إذا تعددت شواهده وكثرت متابعاته، والذين تكلموا فيه وتركوا الاحتجاج به لجهالة ابن عبد الله بن المغفل احتجوا في هذه المسألة بما هو أضعف منه، بل احتج الخطيب بما يعلم أنه موضوع، ولم يحسن البيهقي في تضعيف هذا الحديث إذْ قال بعد أن رواه في كتاب "المعرفة" من حديث أبي نعامة: تفرد به أبو نعامة قيس بن عباية، وأبو نعامة وابن عبد الله بن مغفل لم يحتج بهما صاحبا "الصحيح".

قلت: قوله: "تفرد به أبو نعامة" ليس بصحيح، فقد تابعه عبد الله بن بريدة وأبو سفيان السعدي، وقوله: وأبو نعامة وابن عبد الله بن مغفل لم يحتج بهما صاحب "الصحيح" ليس بلازم في صحة الإسناد، ولئن سلمنا فقد قلنا: إنه حسن والحسن يحتج به (2).

قوله: "وقل ما رأيت رجلًا" معناه: ورؤيتي قليلة جدًّا في الرجال مثله "أشد عليه الحدث في الإِسلام منه" فتكون "ما" مصدرية، يقال: قَلَّ رجل يفعل كذا إلا زَيْد، معناه ما يفعل إلا زيد، والأصل فيه أن تكتب "ما" متصلة بـ"قَلَّ" كما تكتب كذلك في طالما؛ لأنه لما اختلطت به معنى وتقديرًا اختلطت به خطأ وتصويرًا.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 359 رقم 4128).

(2)

هذا وما قبله نص كلام الزيلعي في "نصب الراية"(1/ 260).

ص: 590

قوله: "حدثًا" نصب على التمييز، وأراد به الأمر المحدث الذي لم يكن في عصر النبي عليه السلام ولا في أيام الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.

قوله: "فسمعني وأنا أقرأ" أي في الصلاة كما وقع هكذا في رواية الترمذي؛ وأيضًا القرينة تدل على ذلك؛ فافهم.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم وسعيد بن عامر، قالا: ثنا سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين".

حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "صليت خلف النبي عليه السلام وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم".

حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك أنه قال:"قمت وراء أبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم لا يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إذا افتتح الصلاة".

حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير، عن حميد، عن أنس:؛ أن أبا بكر وعمر- ويُرى حميد أنه قد ذكر النبي عليه السلام

" ثم ذكر نحوه.

حدثنا ابن أبي عمران وعلي بن عبد الرحمن، قالا: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا شيبان، عن قتادة، قال: سمعت أنسًا يقول: "صليت خلف النبي عليه السلام وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنه فلم أسمع أحدًا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم".

حدثنا أبو أمية، قال: ثنا الأحوص بن جوَّاب، قال: ثنا عمار بن رزيق، عن الأعمش، عن شعبة، عن ثابت، عن أنس، قال:"لم يكن رسول الله عليه السلام ولا أبو بكر ولا عمر يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم".

ص: 591

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا دحيم بن اليتيم، قال: ثنا سويد بن عبد العزيز، عن عمران القصير، عن الحسن، عن أنس:"أن النبي عليه السلام وأبا بكر وعمر كانوا يسرون ببسم الله الرحمن الرحيم".

حدثنا أبو أمية، قال: ثنا سليمان بن عبيد الله الرقي، قال: ثنا مخلد بن الحسين، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين والحسن، عن أنس بن مالك قال:"كان رسول الله عليه السلام وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم يستفتحون بالحمد لله رب العالمين".

حدثنا أحمد بن مسعود الخياط المقدسي، قال: ثنا محمَّد بن كثير، عن الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا إبراهيم بن منقذ قال: ثنا عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، أن محمَّد بن نوح أخا بني سعد بن بكر حدثه، عن أنس بن مالك قال:"سمعت رسول الله عليه السلام وأبا بكر وعمر يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين".

ش: هذه عشر طرق صحاح إلا الطريق السابع، فإن فيه سويد بن عبد العزيز قال أحمد: متروك الحديث. وقال يحيى: ليس بشيء. وعنه: ليس بثقة. وقال النسائي: ضعيف.

والطريق العاشر فيه عبد الله بن لهيعة وفيه مقال، وبقية الرجال كلهم ثقات.

الأول: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، وسعيد بن عامر الضبعي، كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة مهران العدوي البصري، عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا محمَّد بن بشر، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا قتادة، عن أنس:"أن رسول الله عليه السلام وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 360 رقم 4130).

ص: 592

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): نا إسماعيل، نا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك:"أن النبي عليه السلام وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين".

وهذا الحديث من أقوى الحجج لمنع الجهر بالبسملة.

فإن قيل: قد قال الترمذي: قال الشافعي: إنما متن هذا الحديث: "أن النبي عليه السلام وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين". معناه أنهم كانوا يبدءون بقراءة فاتحة الكتاب قبل السورة، وليس معناه أنهم كانوا لا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم.

قلت: قال الحافظ أبو بكر محمَّد بن عبد الله بن العربي: هذا تأويل لا يليق بالشافعي لعظيم فقهه، وأنس إنما قال هذا ردا على من يرى قراءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وكذلك عبد الله بن مغفل كما مضى حديثه عن قريب، ورواية مالك، عن حميد الطويل، عن أنس صريحة في ترك قراءة البسملة حيث قال: فكلهم لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فهذا يمنع التأويل المذكور ويرده.

فإن قيل: أيها الحنفي إذا كانت هذه آية من القرآن عندك، أنزلت للفصل بين السور، كان الواجب أن يجهر بها كالجهر بالقراءة في الصلاة التي يجهر فيها بالقرآن، إذ ليس في الأصول الجهر ببعض القراءة دون بعض في ركعة واحدة.

قلت: إذا ثبت أنها لم تكن من الفاتحة، وإنما هي على وجه الابتداء بها تبركًا، جاز أن لا يجهر بها، ألا ترى أن قوله:{وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (2) الآية هو من القرآن، ومن استفتح به الصلاة لا يجهر به مع الجهر بسائر القراءة، كذلك البسملة حالها كحالة.

(1)"مسند أحمد"(3/ 101 رقم 12010).

(2)

سورة الأنعام، آية:[79].

ص: 593

الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني صاحب محمَّد بن الحسن الشيباني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس.

وأخرجه مسلم (1): ثنا ابن المثنى وابن بشار، كلاهما عن غندر -قال ابن المثنى: نا محمد بن جعفر- قال: ثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث، عن أنس قال:"صليت مع رسول الله عليه السلام وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

وأخرجه النسائي (2): أنا عبد الله بن سعيد أبو سعيد الأشج، قال: حدثني عقبة بن خالد، قال: ثنا شعبة وابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس قال:"صليت خلف رسول الله عليه السلام وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فلم أسمع أحدًا منهم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

وأخرجه ابن حبان أيضًا في "صحيحه"(3).

الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن حميد الطويل، عن أنس، وهو موقوف.

وأخرجه مالك في "موطئه"(4). وقال أبو عمر: هكذا هو في "الموطإ" عند جماعة الرواة فيما علمت موقوفًا، ورواه الوليد بن مسلم، عن مالك مرفوعًا، عن حميد، عن أنس قال:"صليت خلف رسول الله عليه السلام وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم كان لا يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتح الصلاة" وهكذا رواه ابن أخي ابن وهب، عن مالك وابن عيينة والعمري، عن حميد، عن أنس مرفوعًا، وهو خطأ عندهم من ابن أخي ابن وهب في رفعه ذلك عن عمه عن مالك، وأما رواية الوليد بن مسلم فلم يتابع عليها عن مالك. والصواب عن مالك خاصة ما في "الموطإ".

(1)"صحيح مسلم"(1/ 299 رقم 399).

(2)

"المجتبى"(2/ 135 رقم 907).

(3)

"صحيح ابن حبان"(5/ 3 رقم 1799).

(4)

"موطأ مالك"(1/ 81 رقم 178).

ص: 594

وقد روي هذا الحديث مرفوعًا عن النبي عليه السلام من طرق كثيرة بأسانيد صحاح عن أنس من حديث قتادة وثابت البناني وحميد رحمهم الله.

الرابع: عن فهد بن سليمان بن يحيى الكوفي، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي، عن زهير بن معاوية، عن حميد الطويل، عن أنس:"أن أبا بكر وعمر رضي الله عنها" موقوفًا، ويرى حميد أنه قد ذكر النبي عليه السلام، فحينئذ يكون الحديث مرفوعًا.

وأخرجه أحمد (1): ثنا أبو كامل، ثنا حماد، ثنا قتادة، وثابت وحميد، عن أنس بن مالك:"أن النبي عليه السلام وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين".

الخامس: عن أحمد بن أبي عمران الفقيه، وعلي بن عبد الرحمن بن المغيرة، كلاهما عن علي بن الجعد بن عبيد الجوهري شيخ البخاري وأبي داود واحد أصحاب أبي حنيفة، عن شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي البصري المؤدب، عن قتادة، عن أنس.

وأخرجه الدارقطني (2): ثنا أبو القاسم عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز البغوي، ثنا علي بن الجعد، ثنا شعبة وشيبان، عن قتادة قال: سمعت أنس بن مالك قال: "صليت خلف النبي عليه السلام -وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فلم أسمع أحدًا منهم يجهر بسم الله الرحمن الرحيم".

السادس: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن الأحوص بن جواب الكوفي من رجال مسلم، عن عمار بن رزيق الضبي الكوفي من رجال مسلم أيضًا، عن سليمان الأعمش، عن شعبة، عن ثابت بن أسلم، عن أنس رضي الله عنه.

(1)"مسند أحمد"(3/ 168 رقم 12737).

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 314 رقم 1).

ص: 595

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا العباس بن عبد العظيم، ثنا أبو الجوَّاب، ثنا عمار بن رزيق، عن الأعمش، عن شعبة، عن ثابت، عن أنس:"أن النبي عليه السلام وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين". ولا نعلم روى الأعمش عن شعبة غير هذا الحديث ولا نعلم حدث به عن الأعمش إلا عمار بن رزيق.

السابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن دحيم -بضم الدال، وفتح الحاء المهملتين، وسكون الياء آخر الحروف- وهو لقب عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، عن سويد بن عبد العزيز بن نمير السلمي الدمشقي، فيه مقال وقد ذكرناه الآن، عن عمران بن مسلم المِنْقري البصري القصير، عن الحسن البصري، عن أنس.

وأخرجه الطبراني (1): من حديث محمَّد بن أبي السري، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن، عن أنس رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام كان يسر ببسم الله الرحمن الرحيم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما".

الثامن: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم الطرسوسي، عن سليمان بن عبيد الله الرقي أبي أيوب الأنصاري، عن مخلد بن الحسن الأزدي المهلبي أبي محمَّد البصري نزيل المصيصة، عن هشام بن حسان الأزدي القردوسي أبي عبد الله البصري، عن محمَّد بن سيرين والحسن البصري، كلاهما عن أنس بن مالك.

وأخرجه ابن الجارود في "مسنده"(2) نحوه.

التاسع: عن أحمد بن مسعود الخياط، عن محمد بن كثير بن أبي عطاء الثقفي أبي يوسف نزيل المصيصة، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري، عن أنس رضي الله عنه.

(1)"المعجم الكبير"(1/ 255 رقم 739).

(2)

"المنتقى" لابن الجارود (1/ 55 رقم 182) من طريق قتادة.

ص: 596

وأخرجه مسلم (1): عن محمَّد بن مهران، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال: أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالك يذكر ذلك، وأشار به إلى ما رواه من حديث قتادة عن أنس قال: قال: "صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها".

وأخرجه الدارقطني (2): ثنا محمَّد بن عثمان بن ثابت الصيدلاني، ثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك، ثنا هشام بن عمار، ثنا الوليد، ثنا الأوزاعي، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس قال:"كنا نصلي خلف رسول الله عليه السلام وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بأم القرآن فيما يجهر به".

العاشر: عن إبراهيم بن منقذ بن إبراهيم العصفري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن محمَّد بن نوح أخي بني سعد بن بكر، عن أنس بن مالك.

وأخرجه عبد الله بن وهب في "مسنده".

ص: حدثنا محمَّد بن عمرو بن يونس، قال: حدثني أسباط بن محمَّد، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن بديل، عن أبي الجوزاء، عن عائشة رضي الله عنه قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبر، ويفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين، ويختمها بالتسليم".

ش: إسناده صحيح على شرط مسلم.

وبديل -بضم الباء الموحدة- ابن ميسرة العقيلي البصري، وأبو الجوزاء -بالجيم والزاي المعجمة- أوس بن عبد الله الربعي البصري روى له الجماعة.

(1)"صحيح مسلم"(1/ 299 رقم 399).

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 216 رقم 9).

ص: 597

وأخرجه مسلم (1) بأتم منه: ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، ثنا أبو خالد -يعني الأحمر- عن حسين المعلم.

وثنا إسحاق بن إبراهيم -واللفظ له- قال: أنا عيسى بن يونس، قال: ثنا حسين المعلم، عن بديل بن ميسرة، عن أبي الجوزاء، عن عائشة قالت:"كان رسول الله عليه السلام يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسًا، وكان يقول في كل الركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهي عن عقبة الشيطان، وينهي أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم" وفي رواية ابن نمير عن أبي خالد: "وكان ينهى عن عقب الشيطان".

وأخرجه أبو داود (2): ثنا مسدد، ثنا عبد الوارث بن سعيد، عن حسين المعلم، عن بديل بن ميسرة، عن أبي الجوزاء، عن عائشة قالت: "كان رسول الله عليه السلام يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين

" إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "وكان ينهى عن عقب الشيطان، وعن فَرْشة السَّبع

" والباقي نحوه.

وأخرجه ابن ماجه (3) مختصرًا.

قوله: "يفتتح الصلاة بالتكبير" أي يشرع فيها بقول: الله أكبر، ويشرع في القراءة بسورة الفاتحة.

قوله: "بـ الحمدُ لله رب العالمين" برفع الدال على الحكاية، وهي أن يجيء بالقول بعد نقله على استثناء صورته الأولى، كقولك: دعني من تمرتان. في

(1)"صحيح مسلم"(1/ 357 رقم 498).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 267 رقم 783).

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 267 رقم 812).

ص: 598

جواب من قال: يكفيك تمرتان وبدأت بـ الحمدُ لله، وبدأت بـ {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} (1) ويقول أهل الحجاز في استعلام من يقول: رأيتَ زيدًا؟ من زيدًا.

قوله: "لم يشخص" من الإشخاص أي لم يرفع رأسه.

قوله: "ولم يصوبه" أي لم يخفضه، من صَوَّب، بالتشديد.

قوله: "عن عقبة الشيطان" وهو أن يضع إليتيه على عقبيه بين السجدتين، وهو الذي يجعله بعض الناس الإقعاء.

وفيه حجة لأبي حنيفة ومالك أن البسملة ليست من الفاتحة، وحجة لأبي حنيفة أنها لا يُجهر بها؛ لأنه صرح أنه عليه السلام -كان يفتتح الصلاة بالتكبير ثم بفاتحة الكتاب.

وقد ثبت (2) أنه عليه السلام كان له سكتتان: سكتة بعد التكبير وكان فيها البسملة ودعاء الاستفتاح.

وفيه إثبات التكبير في أول الصلاة، وقال النووي: وفيه تعيّن لفظ التكبير؛ لأنه ثبت أنه عليه السلام كان يفعله، وأنه عليه السلام قال:"صلوا كما رأيتموني أصلي" وهذا الذي ذكرناه من تعيين التكبير هو قول مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء من السلف والخلف.

قلت: اشتراط التعيين أمر زائد؛ لأن المراد من التكبير التعظيم وبكل لفظ حصل التعظيم يجوز الافتتاح به، ثم إن تكبيرة الافتتاح من أركان الصلاة عندهم، وقال أبو حنيفة وأصحابه من شروطها، وثمرة الخلاف تظهر في جواز بناء النفل على تحريمة الفرض، فعندنا يجوز خلافًا لهم، وكذا على الخلاف لو بني التطوع بلا تحريمة يصير شارعًا في الثاني، وكذا على الخلاف إذا كبَّر مقارنًا لزوال الشمس.

(1) سورة النور، آية:[1].

(2)

أخرجه أبو داود (1/ 266 رقم 777)، والترمذي (2/ 30 رقم 251)، وابن ماجه (1/ 275 رقم 844)، وأحمد (5/ 15 رقم 20178).

ص: 599

وقال ابن المنذر: تنعقد الصلاة بمجرد النيّة بلا تكبير، قال أبو بكر: ولم يقل به غيره، وقال ابن البطال: وذهب جمهور العلماء إلى وجوب تكبيرة الإحرام، وذهبت طائفة إلى أنها سنة، روي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن والحكم والزهري والأوزاعي، وقالوا: إن تكبيرة الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام، وروي عن مالك في المأموم ما يدل على أنه سنة، ولم يختلف قوله في المنفرد والإمام أنها واجبة على كل واحد منها، وأن من نسيها يستأنف الصلاة، وفي "المغني" لابن قدامة: التكبير ركن لا تنعقد الصلاة إلا به، سواء تركه عمدًا أو سهوًا، قال: وهذا قول ربيعة والثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور، وحكى أبو الحسن الحنفي الكرخي عن ابن عُلية والأصم كقول الزهري في انعقاد الصلاة بمجرد النيّة بدون التكبير، وقال عبد العزيز بن إبراهيم بن بزيزة: قالت طائفة بوجوب تكبير الصلاة كله، وعكس آخرون فقالوا: كل تكبيرة في الصلاة ليست بواجبة مطلقًا، منهم ابن شهاب وابن المسيب وغيرهما، ثم تكبيرة الإحرام مرة واحدة عند جمهور العلماء، وعند الرافضة ثلاث مرات، وقد ورد ذلك في بعض الأحاديث من حديث أبي إمامة "كان عليه السلام إذا قام إلى الصلاة كبر ثلاث تكبيرات".

رواه أبو نعيم الدكيني، عن شريك، عن يعلى بن عطاء، عن رجل، عنه.

وفي "العلل" لابن أبي حاتم قال أبي: هذا حديث كذب لا أصل له.

وفيه دليل على أن السلام سُنَّة، وقال الخطابي: وفي قولها: "كان يفتتح الصلاة بالتكبير، ويختتمها بالتسليم". دليل على أنهما ركنان من أركان الصلاة، ولا تجزئ إلا بهما.

قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن ما من شيء يدل على الفرضية، وفرضية التكبير في أول الصلاة ليس بهذا الحديث بل بقوله:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، ولئن سلمنا ذلك فلا يلزم من كون التكبير فرضًا أن يكون التسليم فرضًا مثله.

ص: 600

بدليل حديث الأعرابي (1): حيث لم يعلمه عليه السلام حين علمه الواجبات، غاية ما في الباب يكون إصابة لفظة السلام واجبة، والله أعلم.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فلما تواترت هذه الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بما ذكرنا، وكان في بعضها أنهم كانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، فليس في ذلك دليل على أنهم كانوا لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قبلها؛ لأنه إنما عنى بالقراءة ها هنا قراءة القرآن، فاحتمل أنهم لم يعدوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قرآنا، وعدوها ذكرًا مثل سبحانك اللهم وبحمدك وما يقال عند افتتاح الصلاة، فكان ما يقرأ من القرآن بعد ذلك ويستفتح بالحمد لله رب العالمين.

وفي بعضها: أنهم كانوا لا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ففي ذلك دليل أنهم كانوا يقولونها من غير طريق الجهر، ولولا ذلك لما كان لذكرهم نفي الجهر معنى؛ فثبت بتصحيح هذه الآثار ترك الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وذكرها سرًّا.

ش: أشار بهذه الآثار إلى الأحاديث والأخبار التي تدل على أن التسمية ليست من الفاتحة، وأنها لا يجهر بها في الصلاة، ولكن لما كان في ألفاظها اختلاف تعرض إلى بيان وجهه، وهو أن قوله على بعض ألفاظها: "كانوا يستفتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهذه العبارة لا تدل على أنهم كانوا لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قبل قرأة فاتحة الكتاب؛ لأن المراد بالقراءة ها هنا هو قرأة القرآن، فيحتمل أنهم لم يكونوا عدُّوا البسملة قرآنا، وإنما عدوها ذكرا مثل الثناء والاستفتاح، فحينئذ يكون القرآن هو الذي يقرأ بعد ذلك، وفي بعضها أنهم كانوا لا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وهذا دليل على أنهم كانوا يقولونها سرًّا؛ إذْ لو لم يكن ذلك لخلا الكلام عن الفائدة، وهو ظاهر،

(1) أخرجه البخاري (1/ 263 رقم 724)، ومسلم (1/ 298 رقم 397).

ص: 601

فإذا كان الأمر كذلك وجب أن نقول: إن البسملة يؤتى بها ولكن يسرُّ بها عملًا بما ورد من الألفاظ، وتعلق مالك بظاهر العبارة الأول حيث قال: يشرع في القراءة عقيب التكبير، ولا يشتغل بشيء غير ذلك. وتعلقت الشافعية منهم الخطيب بقوله:"فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين" وضعف ما سواه من العبارات، وهي سبعة ألفاظ رويت بطرق مختلفة عن أنس:

الأول (1): "كانوا لا يستفتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

والثاني: "فلم أسمع أحدًا يقول أو يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

الثالث: "فلم يكونوا يقرءون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

الرابع: "فلم أسمع أحدًا منهم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

الخامس: "فكانوا لا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

السادس: "فكانوا يسرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

السابع: "فكانوا يستفتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

وهذا هو الذي تعلق به الخطيب وصححه، وجعل اللفظ المحكم عن أنس، وجعل غيره متشابهًا، وحمله على الافتتاح بالسورة لا بالآية، وهو غير مخالف للألفاظ الباقية بوجه، فكيف يجعل مناقضًا لها فإن حقيقة هذا اللفظ الافتتاح بالآية من غير ذكر التسمية جهرًا وسرًا، فكيف يجوز العدول عنه بغير موجب ويؤكده قوله في رواية مسلم (1):"لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول قراءة ولا في آخرها"، لكنه محمول على نفي الجهر؛ لأن أنسًا رضي الله عنه إنما ينفي ما يمكنه العلم بانتقائه؛ فإنه إذا لم يسمع مع القرب، علم أنهم لم يجهروا، وأما كون الإِمام لم يقرأها أصلًا فهذا لا يمكن إدراكه إلا إذا لم يكن بين التكبير والقراءة سكوت يمكن القراءة فيه سرًّا، ولهذا استدل بحديث أنس هذا على عدم قراءتها أصلًا مَنْ لم ير ها هنا سكوتًا كمالك وغيره

(1) تقدم.

ص: 602

كما ذكرنا، ولكن ثبت في "الصحيحين" (1): عن أبي هريرة أنه قال: "يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: كذا وكذا

" إلى آخره، وإذا كان له سكوت لم يكن لأنس أن ينفي قراءة البسملة في ذلك السكوت، فيكون نفيه للذكر والاستفتاح والسماع مرادًا به الجهر بذلك، يدل عليه قوله: "فكانوا لا يجهرون"، وقوله: "فلم أسمع أحدًا منهم يجهر" لا تَعَرُّض فيه للقراءة سرًّا ولا على نفيها؛ إذ لا علم لأنس بها حتى يثبتها أو ينفيها، ولذلك قال لمن سأله: "إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه" (2)، فإن العلم بالقراءة السريّة إنما يحصل بأخبار أو سماع عن قرب، وليس في الحديث شيء منها، ورواية من روى: "فكانوا يسرون" كأنها مرويّة بالمعنى من لفظ: "لا يجهرون".

وأيضًا فحمل الافتتاح بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} على السورة لا الآية مما تستبعده القريحة وتمجه الأفهام الصحيحة؛ لأن هذا من العلم الظاهر الذي يعرفه العام والخاص، كما يعلمون أن الفجر ركعتان، وأن الظهر أربع، وأن الركوع قبل السجود، والتشهد بعد الجلوس

إلى غير ذلك، فليس في نقل مثل هذه فائدة فكيف يجوز أن يظن أن أنسًا قصد تعريفهم بهذا، وأنهم سألوه عنه، وإنما مَثَلُ هذا مَثَلُ من يقول: فكانوا يركعون قبل السجود أو فكانا يجهرون في العشاءين والفجر، ويخافتون في صلاة الظهر والعصر.

وأيضًا فلو أريد الافتتاح بالسورة لقيل: كانوا يفتتحون القراءة بأم القرآن، أو بفاتحة الكتاب، أو بسورة الحمد، هذا هو المعروف في تسميتها عندهم. وأما تسميتها بالحمد لله رب العالمين، فلم ينقل عن النبي عليه السلام ولا عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد يحتج بقوله، وأما تسميتها بالحمد فقط فعرف متأخر، يقولون: فلان قرأ الحمد. وأين هذا من قوله: "فكانوا يفتتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} " فإن هذا لا يجوز أن يراد به السورة إلا بدليل صحيح.

(1) البخاري (1/ 259 رقم 711)، ومسلم (1/ 419 رقم 598).

(2)

أخرجه أحمد (3/ 166 رقم 12723)، والدارقطني (1/ 216 رقم 10).

ص: 603

فإن قيل: فقد روى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس الاستفتاح بأم القرآن، وهذا يدل على إرادة السورة.

قلنا: هذا مروي بالمعنى، والصحيح عن الأوزاعي ما رواه مسلم (1): عن الوليد بن مسلم، عنه، عن قتادة، عن أنس قال:"صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول قراءة ولا في آخرها".

ثم أخرجه مسلم (1): عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالك يذكر ذلك.

هكذا رواه مسلم في "صحيحه" عاطفًا له على حديث قتادة، وهذا اللفظ المخرج في الصحيح هو الثابت عن الأوزاعي، واللفظ الآخر -إن كان محفوظًا- فهو مروي بالمعنى، فيجب حمله على الافتتاح بأم القرآن.

ورواه الطبراني في "معجمه"(2) بهذا الإسناد: "أن النبي عليه السلام وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا لا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

ص: وقد روي ذلك أيضًا عن علي بن أبي طالب وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا أبو بكر ابن عياش، عن أيضًا سعد، عن أبي وائل قال:"كان عمر وعلي رضي الله عنهما لا يجهران بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ولا بالتعوذ ولا بآمين".

ش: أي قد روي ترك الجهر بالبسملة أيضًا عن علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة رضي الله عنهم وأخرج خبر علي، عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني، عن علي بن معبد بن شداد العبدي، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الأسدي

(1) تقدم.

(2)

انظر "نصب الراية"(1/ 331).

ص: 604

الكوفي المقرئ، قيل: اسمه محمَّد، وقيل: عبد الله، وقيل: سالم، وقيل غير ذلك، روى له الجماعة.

عن أبي سعد البقال واسمه سعيد بن المرزبان الأعور، فيه مقال، عن أبي وائل شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، أدرك النبي عليه السلام ولم يره، روى له الجماعة.

وأخرجه ابن جرير الطبري في "تهذيب الآثار": أنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعد، عن أبي وائل قال:"لم يكن عمر وعلي رضي الله عنهما يجهران بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ولا بآمين".

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي سنان، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود قال:"صليت خلف عمر رضي الله عنه سبعين صلاة، فلم يجهر فيها بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

وأخرج (2): عن شاذان، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي وائل:"أن عليًّا وعمارًا كانا لا يجهران بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(3): عن إسرائيل، عن ثوير بن أبي فاختة، عن أبيه:"أن عليًّا رضي الله عنه كان لا يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، كان يجهر بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ".

ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا زهير ابن معاوية، قال: سمعت عاصمًا، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال:"ذلك فعل الأعراب".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 361 رقم 4148).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 361 رقم 4149).

(3)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 88 رقم 2601).

ص: 605

حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: أنا شريك ابن عبد الله، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.

قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا خلاف ما روينا عن ابن عباس في الفصل الذي قبل هذا.

ش: أخرج خبر ابن عباس من طريقين صحيحين:

الأول: عن سليمان بن شعيب، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن زهير بن معاوية بن حديج، أحد أصحاب أبي حنيفة، من رجال الجماعة.

عن عاصم بن بهدلة.

عن عبد الملك بن أبي بشير البصري، وثقه يحيى القطان وابن معين وأبو زرعة والعجلي، وروى له البخاري في الأدب، وأبو داود والترمذي والنسائي.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قراءة الأعراب".

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني

إلى آخره.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن الثوري، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قراءة الأعراب" انتهى.

والمعنى نسبة هذا الفعل إلى الجهل، وأنه من أفعال الجهلاء، لكون الغالب على الأعراب الجهل، وحاصله أنه بدعة؛ والدليل عليه: ما روى المغيرة، عن إبراهيم

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 361 رقم 4143).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 89 رقم 2605).

ص: 606

قال: "جهر الإِمام بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الصلاة بدعة"(1).

وروى جرير، عن عاصم الأحول، قال:"ذكر لعكرمة الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الصلاة، فقال: إذن أعرابي".

وروى أبو يوسف (2): عن أبي حنيفة قال: بلغني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "الجهر في الصلاة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أعرابية".

وروى حماد بن زيد، عن كثير قال:"سئل الحسن عن الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الصلاة، فقال: إنما يفعل ذلك الأعراب".

ذكر ذلك كله أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن"(3).

فإن قيل: كيف تقول فيما روى عبد الرزاق (4): عن معمر، عن أيوب، عن عمرو بن دينار:"أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يفتتح بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

قلت: هذا لا يدل على أنه كان يجهر بها، أو كان ذلك خارج الصلاة، ولا نزاع فيه.

وهذا هو الجواب أيضًا عما قاله البيهقي في كتاب "المعرفة"(5): بعد أن روى عن عاصم بن بهدلة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أنه كان يفتتح القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". وفيه دلالة على خطأ وقع في رواية عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"في قراءة الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قراءة الأعراب".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 360 رقم 4138).

(2)

"الآثار" لأبي يوسف (1/ 112 رقم 105)، ووصله محمَّد بن الحسن في "الآثار"(1/ 109 رقم 81).

(3)

"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 16، 17).

(4)

"مصنف عبد الرزاق"(2/ 90 رقم 610).

(5)

"معرفة السنن والآثار"(1/ 521 رقم 720).

ص: 607

وتخطيئه هذا خطأ؛ لأن هذا روي بطريق صحيح عن أبي عاصم، ورواه عاصم بن بهدلة عن عكرمة أيضًا كما رواه عبد الملك بن أبي بشير عنه عن ابن عباس فما الموجب في تخطئة شيء صواب بلا دليل، لأجل تمشية الدعوى الفاسدة؟! ثم إن البيهقي أوَّل كلام ابن عباس هذا بتأويلين فاسدين:

الأول: قال: أراد به الجهر الشديد الذي يجاوز الحد.

والثاني: أراد أن الأعراب لا يخفى عليهم أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} من القرآن، وأنه يجهر بها، فكيف العلماء وأهل الحَضَر؟!

أما الأول: فإن كان الجهر الشديد مكروهًا أو بدعة فأيْش وجه التخصيص بالبسملة؟ فهذا ترجيح بلا مرجح.

وأما الثاني: فلا نسلم أن الأعراب كانوا يعلمون أن البسملة من القرآن، فمن أين علموا ذلك مع غلبة الجهل عليهم على أن ابن عباس إنما قال ذلك القول على وجه الإنكار على من يجهر بها، وهذان التأويلان خلاف ما أراده ابن عباس، والله أعلم.

وقوله: "فهذا خلاف ما روينا عن ابن عباس

" إلى آخره، إشارة إلى أن ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس -أنه جهر بها- الذي احتجت به أهل المقالة الأولى، وهو الذي أخرجه الطحاوي فيما مضى، عن فهد، عن ابن الأصبهاني، عن شريك، عن عاصم، عن سعيد به، معارض بهذه الرواية، فلا يتم بذاك الدليل، وقد مَرَّ الكلام فيه هناك مستوفى.

ص: حدثنا إبراهيم بن منقذ، قال: ثنا عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، أن سيّار بن عبد الرحمن الصدفي حدثه، عن عبد الرحمن الأعرج قال:"أدركت الأئمة وما يستفتحون القراءة إلا بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ".

حدثنا إبراهيم بن منقذ، قال: ثنا عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، مثله.

ص: 608

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا سعيد بن عفير، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد قال:"لقد أدركت رجالًا من علمائنا ما يقرءون بها".

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا يحيى، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، قال:"ما سمعت القاسم يقرأ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".

ش: أشار بهذا إلى ما روي عن جماعة من التابعين من عدم الجهر بالبسملة في الصلاة منهم: عبد الرحمن بن هرمز الأعرج.

أخرجه عن إبراهيم بن منقذ بن إبراهيم العصفري، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة -فيه مقال، ولكن الطحاوي يرضى به- عن سيّار بن عبد الرحمن الصدفي المصري وثقه ابن حبان، وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: شيخ. وروى له أبو داود وابن ماجه، ونسبته إلى الصِدف بكسر الدال وتفتح في النسبة وهو عمرو بن مالك، وقيل: شهال بن دُعمي بن زياد بن حضرموت.

ومنهم: عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما.

أخرجه عن إبراهيم، عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود وهو النضر -بالضاد المعجمة- بن عبد الجبار راوية ابن لهيعة (1)، وثقه ابن حبان وغيره.

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه وأبي الزبير:"أنهما كانا لا يجهران".

ومنهم: يحيى بن سعيد الأنصاري المدني قاضي المدينة، أخرجه عن روح بن الفرج القطان المصري، عن سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم الأنصاري المصري، وقد ينسب إلى جده، من رجال مسلم.

(1) كلا بل هو أبو الأسود محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي المدني يتيم عروة روى له رواة الجماعة، وأما النضر بن عبد الجبار فبينهما مفاوز، وهو يروي عن ابن لهيعة.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 360 رقم 4139).

ص: 609

عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، روى له الجماعة.

عن يحيى بن سعيد الأنصاري.

ومنهم: القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، أخرجه عن روح أيضًا، عن سعيد بن عفير، عن يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فلما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن من ذكرنا بعده ترك الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثبت أنها ليست من القرآن، ولو كانت من القرآن لوجب أن يجهر بها كما يجهر بالقرآن سواها ألا ترى أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} التي في النمل يجهر بها كما يجهر بغيرها من القرآن؛ لأنها من القرآن، فلما ثبت أن التي قبل فاتحة الكتاب يخافت بها، ويجهر بما سواها من القرآن؛ ثبت أنها ليست من القرآن، وثبت أن يخافت بها وأن يُسَرُّ، كما يُسَرُّ التعوذ والافتتاح وما أشبههما، وقد رأيناها أيضًا مكعوبة في فواتح السور في المصحف، في فاتحة الكتاب وفي غيرها، وكانت في غير فاتحة الكتاب ليست بأية ثبت أيضًا أنها في فاتحة الكتاب ليست بآية وهذا الذي بَيَّنَّا من نفي {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أن تكون من فاتحة الكتاب، ومن نفي الجهر بها في الصلاة، هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله.

ش: أشار بذلك إلى بيان الحكم الذي ظهر من الأحاديث والآثار المذكورة من ترك الجهر بالبسملة، فبين ذلك بوجهين:

الأول: أنه لما ثبت عن رسول الله عليه السلام، وعن جماعة من الصحابة من بعده، وجماعة من التابعين من بعدهم ممن ذكروا في هذا الباب؛ ترك الجهر بالبسملة، ثبت أنها ليست من القرآن؛ لأنها لو كانت من القرآن لوجب الجهر بها كما يجهر بالقرآن حين يجهر به، ألا ترى أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} التي في سورة النمل كيف يجهر بها لأنها من القرآن، فيجهر بها كما يجهر بغيرها من القرآن، وقال أبو بكر بن

ص: 610

العربي: ويكفيك أنها ليست بقرآن الاختلاف فيها، والقرآن لا يختلف فيه، فإن إنكار القرآن كفر.

فإن قيل: إذا لم تكن قرآنًا لكان مُدْخلها في القرآن كافرًا.

قلت: الاختلاف فيها يمنع من أن تكون آية، ويمنع من تكفير من يعدها من القرآن، فإن الكفر لا يكون إلا بمخالفة النص والإجماع في أبواب العقائد، ولما ثبت أنها ليست من القرآن، وثبت أيضًا أن التي قبل فاتحة الكتاب يخافت بها لكونها ليست من القرآن، فكذلك ينبغي أن يخافت بالبسملة ويسر بها كما يسر بالتي قبل فاتحة الكتاب، كالتعوذ والاستفتاح وما أشبهها من الأدعية التي وردت قراءتها قبلها.

الوجه الثاني: أنها لما كانت مكتوبة في فواتح السور في المصحف، في فاتحة الكتاب وفي غيرها، وكانت في غير الفاتحة ليست بآية منها؛ فالنظر على ذلك أن لا تكون البسملة أيضًا من الفاتحة.

فإن قيل: نحن نقول: إنها آية من غير الفاتحة فكذلك نقول: إنها آية من الفاتحة.

قلت: هذا قول لم يقل به أحد، ولهذا قالوا: وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة، وما سبقه إلى هذا القول أحد؛ لأن الخلاف بين السلف إنما هو في أنها من الفاتحة أو ليست بآية منها، ولم يعدها أحد آية من سائر السور.

فإن قيل: قد نقلوا إلينا جميع ما في المصحف على أنه قرآن، وذلك كافٍ في إثباتها في السور في مواضعها المذكورة في المصحف.

قلت: إنما نقلوا إلينا أنها منه، وإنما الكلام بيننا وبينكم في أنها من هذه السور التي هي مكتوبة في أوائلها، ونحن نقول بأنها من القرآن أثبتت هذه المواضع، لا على أنها من السور، وليس إيصالها بالسورة في المصحف وقراءتها معها يوجبان أن تكون منها؛ لأن القرآن كلمه متصل بعضه ببعض.

ص: 611

فإن قيل: قد قلت أولًا بأنها ليست من القرآن، وأقمت عليه برهانًا، ثم تقول ها هنا: ونحن نقول بأنها من القرآن، أثبتت في هذه المواضع لا على أنها من السور.

قلت: معنى قولنا: إنها ليست من القرآن: ليست من الفاتحة ولا من آيات كل سورة هي مكتوبة عليها، ومعنى قولنا: إنها من القرآن كونها آية مفردة مستقلة بذاتها أنزلت للفصل بين السور وليست من الفاتحة ولا من أول كل سورة، ولكن الذي يفهم من عبارة الطحاوي وأبي بكر بن العربي أنها ليست من القرآن مطلقًا، وإنما هي لابتداء القراءة والفصل بين السورتين، وأما التي في سورة النمل فلا خلاف فيه لأحد أنها من القرآن، ولكنها ليست بآية كاملة؛ لأن الآية الكاملة من قوله:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} (1) إلى آخره.

وروي (2) أنه عليه السلام: كان يكتب في أوائل الكتب: باسمك اللهم حتى نزل {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (3) فكتب بسم الله، ثم نزل قوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} (4) فكتب فوقه الرحمن، فنزلت قصة سليمان عليه السلام فكتبها حينئذٍ".

وقال الشعبي ومالك وقتادة وثابت: "إن النبي عليه السلام لم يكتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى نزلت سورة النمل".

والحاصل أن مذهب المحققين أنها من القرآن حيث كتبت، وأنها مع ذلك ليست من السور، بل كتبت آية في كل سورة، وكذلك تتلى آية مفردة، في أول كل سورة كما تلاها النبي عليه السلام حين أنزلت عليه {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (5) وهذا قول

(1) سورة النمل، آية:[30].

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(7/ 261 رقم 35890).

(3)

سورة هود، آية:[41].

(4)

سورة الإسراء، آية:[110].

(5)

سورة الكوثر، آية:[1].

ص: 612

ابن المبارك وداود، وهو المنصوص عن أحمد، وبه قالت جماعة من الحنفية، وذكر أبو بكر الرازي أنه مقتضى مذهب أبي حنيفة.

قلت: ولذلك قال الشيخ حافظ الدين النسفي: وهي آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور، وهذا القول فيه الجمع بين الأدلة، وعن ابن عباس:"كان النبي عليه السلام لا يعرف فصل السورة حتى نزل عليه {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. وفي رواية "لا يعرف انقضاء السورة".

رواه أبو داود، (1) والحاكم (2) وقال: إنه على شرط الشيخين وأما تلاوة النبي عليه السلام حين أنزلت عليه {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} .

فهو ما رواه مسلم، (3) وأبو داود، (4) والنسائي (5): عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "أنزلت عليَّ آنفًا سورة، فقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} حتى ختمها، قال: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي في الجنة".

فإن قيل: لو لم تكن التسمية من أول كل سورة لما قرأها النبي عليه السلام بالكوثر.

قلت: لا نسلم أنه يدل على أنها من أول كل سورة، بل يدل على أنها آية مفردة، والدليل على ذلك ما ورد في حديث بدء الوحي:"فجاءه الملك فقال له: اقرأ فقال: ما أنا بقاريء -ثلاث مرات- ثم قال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} " فلو كانت البسملة من أول كل سورة، لقال: اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ بسم ربك.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 269 رقم 788).

(2)

"مستدرك الحاكم"(1/ 355 رقم 845).

(3)

"صحيح مسلم"(1/ 300 رقم 400).

(4)

"سنن أبي داود"(2/ 650 رقم 14747).

(5)

"المجتبى"(2/ 133 رقم 904).

ص: 613

ويدل على ذلك أيضًا ما رواه أصحاب السنن الأربعة (1): عن شعبة، عن قتادة، عن عباس الجشمي (2)، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"إن سورة من القرآن شفعت لرجل حتى غفر له، وهي {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ".

وقال الترمذي: حديث حسن.

ورواه أحمد في "مسنده"، (3) وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" وصححه.

وعياش الجهني يقال: إنه عياش بن عبد الله، ذكره ابن حبان في "الثقات" ولم يتكلم فيه أحد فيما علمنا، ولو كانت البسملة من أول كل سورة لافتتحها عليه السلام بها، والله أعلم (4).

(1) أبو داود (1/ 445 رقم 1400)، والترمذي (5/ 164 رقم 2891)، والنسائي في "السنن الكبرى"(6/ 178 رقم 10546)، وابن ماجه (2/ 1244 رقم 3786).

(2)

في "الأصل، ك": "عياش الجهني" وهو تحريف، والمثبت من "السنن" ومصادر ترجمته، و"تحفة الأشراف"(10/ 129 رقم 1355). ونتج عن هذا التحريف أن خفي على المؤلف رحمه الله فلم يعرفه بل ظنه آخر، وعباس الجشمي مترجم في "تهذيب الكمال" (14/ 265) وقال المزي: روى له الأربعة، والنسائي في "اليوم والليلة" حديثا واحدًا في فضل {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} .

(3)

"مسند أحمد"(2/ 299 رقم 7962).

(4)

"صحيح ابن حبان"(3/ 67 رقم 787).

ص: 614