المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الرجلين يؤذن أحدهما ويقيم الآخر - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٣

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: الرجلين يؤذن أحدهما ويقيم الآخر

‌ص: باب: الرجلين يؤذن أحدهما ويقيم الآخر

ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجلين اللَذيْن يؤذن أحدُهما ويقيم الآخر هل يجوز أم لا؟ وإذا جاز هل يكره أم لا؟

ص: حدثنا يونُس، قال: أنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن زياد بن أَنْعُم، عن زياد بن نعيم أنه سمع زياد بن الحارث الصُدائيّ قال: قال: "أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان أذان الصبح، أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة، فجاء بلال ليُقيم فقال رسُول الله عليه السلام: إن أخا صُدَاء أذن، ومَن أذن فهو يقيم".

حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو عاصَم، عن سفيان، قال: أخبرني عبد الرحمن ابن زياد، زياد بن نعيم، عن زياد بن الحارث الصدائي، عن النبي عليه السلام مثله.

ش: أخرج هذا من طريقين، أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى -شيخ مسلم-، عن عبد الله بن وهب المصري عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعُم الأفريقي -وثقه أحمد بن صالح، وضعّفه آخرون-، عن زياد بن نعيم هو زياد بن ربيعة بن نُعيم يُنسب أول جدّه الحضرمي المصري وثقه العجلي وابن حبان، عن زياد بن الحارث الصدائي الصحابي، ونسبته إلى صُداء -بضم الصاد- باليمن حي من اليمن وهو يزيد بن حَرْب بن عُلَة بن خالد بن خالد بن مالك بن أدد بن زيد بن مشجب بن غَرِيب بن رند بن كهلان بن سبأ بن مشجُب بن يَعرُب بن قحطان.

وأخرجه أبو داود (1) ثنا عبد الله بن مسلمة، نا عبد الله بن عمر بن غانم، عن عبد الرحمن بن زياد، عن زياد بن نعيم الحَضْرمي أنه سمع زياد بن الحارث الصدائي قال: "لما كان أول أذان الصبح أمَرني -يعني النبي عليه السلام- فأذنتُ، فجعلتُ أقول: أقيم يا رسُول الله.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 142 رقم 514).

ص: 94

فجعل ينظر في ناحية المشرق إلى الفجر، فيقول: لا. حتى إذا طلع الفجر نزل، فبرز، ثم انصرف إليَّ وقد تلاحق أصحابُه -يعني فتوضأ- فأراد بلالٌ أن يقيم، فقال له نبي الله: إن أخا صُداء هو أذّن، ومن أذّن فهو يُقيم قال: فأقمت".

وأخرجه الترمذي (1) نا هنّاد، قال: نا عبدة ويعلى بن عُبَيد، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعُم الأفريقي، عن زياد بن نعيم الحضرمي، عن زياد بن الحارث الصُدائي قال:"أمر رسول الله عليه السلام أن أؤذن في صلاة الفجر، فأذنتُ فأراد بلال أن يقيم فقال رسُول الله: إن أَخَاصُداء قد أذّن، ومَنْ أذّن فهو يُقيم".

والآخر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النَبِيل الضحاك بن مخلد، عن سفيان الثوري إلى آخره.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(2): ثنا إسحاق بن إبراهيم الدبريّ، عن عبد الرزاق، عن الثوري، عن عبد الرحمن بن زياد، عن زياد بن نُعيم، عن زياد بن الحارث الصدائي قال:"كنت مع رسُول الله عليه السلام، فأمرني فأذنت للفجر، فجاء بلال ليقيم فقال النبي عليه السلام: يا بلال إن أخا صداء أذّن، ومن أذن فهو يقيم".

قوله:"إن أخا صداء" أراد به زياد بن الحارث. قوله: "أول أذان الصبح" في رواية أبي داود أراد به الأذان الذي يؤذن ليقوم النائم، ويتسحر الصائم. قوله:"فبرز" أي: خرج لقضاء حاجته والوضوء؛ من برز الرجل يَبْرُز بروزًا ولهذا فسّر بقوله: "يعني فتوضأ" ومنه البراز وهو كناية عن قضاء الحاجة وأصله الفضاء المتسع ثم استعير للحدث.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذا الحديث فقالوا: لا ينبغي أن يقيم الصلاة غير الذي أذّن لها.

(1)"جامع الترمذي"(1/ 384 رقم 199).

(2)

"المعجم الكبير"(5/ 263 رقم 5286).

ص: 95

ش: أراد بالقوم هؤلاء الأوزاعي والزهري والشافعي ومالكًا وأحمد؛ فإنهم ذهبوا إلي هذا الحديث وقالوا: لا ينبغي أن يقيم الصلاة إلا الذي أذن لها، وفي فروع الحنابلة: إذا كان في موضع مؤذنان أو أكثر فيُقيم مَن يؤذن أولًا.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا بأس أن يقيم الصلاة غير الذي أذن لها.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم الحسن البصري، والثوري، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، وأصحابهم، فإنهم قالو ا: لا بأس أن يقيم الصلاة غير الذي أذن لها. وإليه ذهب الظاهرية، وقال ابن حزم في المحلى: وجائز أن يقيم غير الذي أذّن؛ لأنه لم يأت عن ذلك نهي يصح، والأثر المروي في "إنما يقيم من أذن" إنما جاء من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وهو هالك.

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو أُمّية، قال: ثنا المُعلي بن منصور، قال: أخبرني عبد السلام بن حَرْب، عن أبي العُمَيْس، عن عبد الله بن محمَّد بن عبد الله ابن زيد، عن أبيه، عن جَده "أنه حين أذِن الأذان أَمَرَ النبي عليه السلام بلالًا فأذن ثم أمَر عبد الله فأنام".

ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن زيد الأنصاري.

وإسناده صحيح، ورجاله ثقات، وأبو أمية الطرسُوسي محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الخزاعي، وثقه أبو داود وغيره، وأبو العُمَيس -بضم العين وبالسين المهملتين- اسمه عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، روي له الجماعة، وعبد الله بن محمَّد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربّه الأنصاري الخزرجي. وثقه ابن حبان، وأبوه محمَّد بن عبد الله روى له الجماعة غير البخاري، وجدّه عبد الله بن زيد بن عبد الله الأنصاري الصحابيّ.

ص: 96

وأخرجه الدارقطني في "سننه"(1) ثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا أبو يحيى بن عبد الرحيم، ثنا معلي بن منصور، قال: أنا عبد السلام بن حرب إلى آخره نحوه، وهذا فيه صريح دلالة على أن الإقامة من غير المؤذن لا تكره والعمل به أولى لأنه صحيح، وحديث الصدائي ضعيف، وقال الترمذي: حديث زياد إنما نعرفه من حديث الأفريقي، والأفريقي هو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره، وقال أحمد: لا أكتب حديث الأفريقي.

ص: وبما قد حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن أبي العُمَيْس، عن عبد الله بن محمَّد بن عبد الله بن زيد، عن أبيه، عن جده قال:"أتيت رسول الله عليه السلام فأخبرتُه كيف رأيت الأذان، فقال: ألقِهنّ على بلال فإنه أنْدى صوتًا منك فلما أذن بلال ندم عبد الله، فأمره النبي عليه السلام أن يقيم".

ش: أي واحتجوا أيضًا بما قد حدثنا فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني إلى آخره.

وأخرجه البيهقي في "سننه الكبير"(2) من حديث عبد السلام بن حرب، عن أبي العُمَيْس إلي آخره نحوه. ثم قال: ويروى عن زيد بن محمَّد بن عبد الله، عن أبيه، عن جده.

قوله: "ألقهن": أي: كلمات الأذان.

قوله: "أَنْدى صوتًا": أي: أرفع وأعلى. وقيل: أحسن وأعذب، وقيل: أبْعَد، وقيل: هو أفعل من النَدَى -بفتح النون وبالقصر -وهو بمعنى الغاية مثل المدى، والندى أيضًا بعد ذهاب الصوت، و"صوتًا" نصب على التمييز، وفيه أن كان أرفع صوتا وأحسن؛ كان أولى بالأذان لأنه إعلام، فكل من كان الإعلام بصوته أوقع؛ كان به أحق وأخدَر.

(1)"سنن الدارقطني"(1/ 242 رقم 37).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 399 رقم 1739).

ص: 97

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فلما تضادّ هذان الحديثان؛ أردنا أن نلتمس حكم هذا الباب من طريق النظر، لنستخرج به من هذين القولين قولًا صحيحًا، فنظرنا في ذلك، فوجدنا الأصل المتفق عليه أنه لا ينبغي أن يؤذن رجلين أذانًا واحدًا، يؤذن كل واحد منهما بعضه، فاحتمل أن يكون الأذان والإقامة كذلك؛ لا يَفْعلهما إلا رجل واحد، واحتمل أن يكونا كالشيئين المقترنين فلا بأس بأن يتولى كل واحد منهما رجلٌ على حدةٍ، فنظرنا في ذلك؛ فرأينا الصلاة لها أسباب تتقدّمها من الدعاء إليها بالأذان، ومن الإقامة لها، هذا في سائر الصلوات، ورأينا الجمعة تتقدمها خطبة لا بدّ منها، فكانت الصلاة متضمنة بالخطبة، وكان مَنْ صلى الجمعة بغير خطبة فصلاته باطلة حتى تكون الخطبة قد تقدمت الصلاة، ورأينا الإِمام لا ينبغي أن يكون هو غير الخطيب؛ لأن كل واحد منهما مضمّن بصاحبه، فكما كان لابدّ منهما؛ لا ينبغي أن يكون القائم بهما إلا رجلًا واحدًا، ورأينا الإقامة جُعلت من أسباب الصلاة أيضًا، وأجمعوا أنه لا بأس أن يتولاها غير الإمام فكما قد كان يتولاها غير الإِمام وهي في الصلاة أقرب منها في الأذن؛ كان لا بأس أنْ يتولاها غير الذي تولى الأذن، فهذا هو النظر وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله.

ش: أراد بقوله: "هذان الحديثان": حديث زياد بن الحارث الصدائي، وحديث عبد الله بن زيد الأنصاري.

وجه التضاد بينهما ظاهر لأن حديث الصدائي يقتضي أن لا يقيم الصلاة إلا مَنْ يؤذن لها، وحديث عبد الله بن زيد يقتضي العموم، وهذا إنما يكون على تقدير تسليم صحة حديث الصُدائي، وقد قلنا إنه ضعيف، فلا يساوي حديث عبد الله بن زيد فلا يثبت التعارض؛ لأن من شرط التعارض بين الحديثين أن يكونا متساويَيْن في القوة والضَعْف، ثم إن الذي ذكره الطحاوي ليس يُدفع به التضاد بين المتضادّيَن وإنما هو بيان أن النظر والقياس أيضًا يقتضي بأن لا بأس بإقامة غير المؤذن ووجه ذلك ظاهر.

ص: 98

وأراد من قوله: "لها أسباب" وقوله: "جعلت من أسباب الصلاة" العلامات لا الأسباب المصطلح عليها على ما لا يخفى.

قوله: "مُضمّن" بتشديد الميم المفتوحة.

قوله: "وهي من الصلاة" أي الإقامة من الصلاة أقرب منها من الأذان أي من قرب الأذان وهو ظاهر، فإن قيل: ينبغي أن يكون خبر الصدائي أصلى بالأخذ والعمل لأنه متأخر عن خبر عبد الله بن زيد بلا شك، وكذا قال البيهقي: وإذا صحّ الخبران فخبر الصُدائي أصلى لأنه متأخر.

قلت: نسلّم ذلك إذا استوى الخبران، وخبر الصدائي ضعيف فلا يعارض خبر الأنصاري على أنه عليه السلام إنما قال:"من أذن فهو يقيم"، تطييبًا لقلب الصدائي؛ لأنه كان حديث عهد بالإسلام؛ لأن قدوم وفد صداء وفيهم زياد بن الحارث الصدائي كان في حجة الوداع، وكان بعثه عليه السلام ابن عبادة إلى ناحية اليمن، وأمره أن يطأ صداء كان حين انصرف عليه السلام من الجعرانة سنة ثمان، والله أعلم.

ص: 99