الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الجمع بين الصلاتين كيف هو
؟
ش: أي هذا باب في بيان حكم كيفية الجمع بين الصلاتين، وهل يجوز ذلك أم لا؟ فإذا جاز كيف يجمع ومتى الجمع؟ ولما كان متعلقًا بالأوقات؛ ذكره عقيب باب الأوقات.
ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا محمَّد بن عمران بن أبي ليلى، قال: حدثني أبي، عن ابن أبي ليلى، عن أبي قيس الأودي، عن هزيل بن شُرحبيل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام كان يجمع بين الصلاتين في السفر".
ش: محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي وثقه ابن حبان وروى له الترمذي.
وأبوه عمران بن محمد بن أبي ليلى الأنصاري ذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه.
وابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري أبو عبد الرحمن الكوفي الفقيه قاضي الكوفة، فيه مقال، وكان يحيى بن سعيد يُضعفه، وعن يحيى: ليس بذاك. وقال أبو حاتم: محله الصدق يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ليس بقوي. وروى له الأربعة.
وأبو قيس اسمه عبد الرحمن بن ثروان الأودي -بفتح الهمزة وسكون الواو- نسبة إلى أود بن صعب قبيلة، الكوفي الأعمى روى له الجماعة سوى مسلم.
وهُزيل بن شرحبيل -بضم الهاء والشين المعجمة- الأودي الكوفي الأعمى روى له الجماعة سوى مسلم.
وأخرجه البزار في "مسنده"(1): ثنا أحمد بن عثمان بن حكيم، نا بكر بن عبد الرحمن، قال: نا عيسى بن المختار، عن ابن أبي ليلى، عن أبي قيس، على الهذيل، عن عبد الله:"أن رسول الله عليه السلام جمع بين الصلاتين في السفر".
(1)"مسند البزار"(5/ 414 رقم 2046).
وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عبد الله إلا بهذا الإسناد، واحتج به الشافعي وآخرون على جواز الجمع بين الصلاتين في السفر على ما يجيء بيانه إن شاء الله بعد.
والجواب عنه: أن هذا حديث ضعيف، والصحيح عن عبد الله بن مسعود -ما أخرجه البخاري (1) ومسلم (2) وأبو داود (3) والنسائي (4) - قال:"ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين: جمع بين المغرب والعشاء بجمعٍ، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها".
أو المراد منه: الجمع بينهما فعلًا لا وقتًا، على ما يجيء إن شاء الله.
ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن أبي الزبير المكي، عن أبي الطفيل، أن معاذ بن جبل رضي الله عنه أخبره:"أنهم خرجوا مع النبى عليه السلام عام تبوك، فكان رسول الله عليه السلام يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء".
ش: إسناده صحيح، وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وأبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي الصحابي، وأخرجه الجماعة ما خلا البخاري.
فمسلم (5): عن أحمد بن عبد الله بن يونس، عن زهير، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل عامر، عن معاذ قال:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام في غزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا".
وأبو داود (6): عن القعنبي، عن مالك، عن أبي الزبير المكي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، أن معاذ بن جبل أخبرهم: "أنهم خرجوا مع رسول الله عليه السلام في
(1)"صحيح البخاري"(2/ 406 رقم 1598).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 938 رقم 1289).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 193 رقم 1934).
(4)
"المجتبى"(5/ 260 رقم 3027).
(5)
"صحيح مسلم"(1/ 490 رقم 706).
(6)
"سنن أبي داود"(2/ 4 رقم 126).
غزوة تبوك، فكان رسول الله عليه السلام يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فأخر الصلاة يومًا ثم خرج وصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج وصلى المغرب والعشاء جميعًا".
والترمليى (1): عن قتيبة، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن معاذ بن جبل:"أن النبي عليه السلام كان في غزوة تبوك إذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجل العصر إلى الظهر وصلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخرّ المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب".
والنسائي (2): عن محمد بن مسلمة والحارث بن مسكين قراءة عليه وهو يسمع واللفظ له، عن ابن القاسم، قال: حدثني مالك، عن أبي الزبير المكي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، أن معاذ بن جبل أخبره:"أنهم خرجوا مع رسول الله عليه السلام عام تبوك، فكان رسول الله عليه السلام يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فأخر الظهر يومًا ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء".
وابن ماجه (3): عن علي بن محمد، عن وكيع، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل:"أن النبي عليه السلام جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في غزوة تبوك في السفر".
قوله: "عام تبوك" أراد به غزوة تبوك، وكانت في سنة تسع من الهجرة، وتبوك -بفتح التاء المثناة، وضم الباء الموحدة، وفي آخره كاف- بليدة بين الحجر والشام، وبها عين ونخيل، وقيل: كان أصحاب الأيكة بها.
(1)"جامع الترمذي"(2/ 438 رقم 553).
(2)
"المجتبى"(1/ 285 رقم 587).
(3)
"سنن ابن ماجه"(1/ 340 رقم 1070).
قوله: "كان رسول الله يجمع بين الظهر والعصر" يعني كان يؤخر الظهر إلى آخر وقته فيصليها فيه، ثم يصلي العصر في أول وقته، فيكون جامعًا بينهما فعلًا لا وقتًا، وسيجيء مزيد الكلام فيه مستفيض إن شاء الله.
ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا قرة بن خالد، عن أبي الزبير، قال: حدثنا أبو الطفيل، قال: ثنا معاذ بن جبل
…
فذكر مثله قال: "قلت: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته".
ش: هذا طريق أخر وهو أيضًا صحيح.
وأخرجه مسلم (1): ثنا يحيى بن حبيب، قال: ثنا خالد بن الحارث، قال: ثنا قرة بن خالد، قال: ثنا أبو الزبير، قال: ثنا عامر بن واثلة أبو الطفيل، قال: ثنا معاذ بن جبل قال: "جمع رسول الله عليه السلام في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء قال: فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال: فقال: أراد أن لا يحرج أمته".
لوله: "أراد أن لا يحرج" أي أراد النبي عليه السلام أن لا يوقع أمته في الحرج، وهو الضيق، وهو من الإحراج.
و"أمته" نُصب على المفعولية.
ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن زيد يحدث، عن ابن عباس قال:"صلى رسول الله عليه السلام ثمانيًا جميعًا وسبعًا جميعًا".
حدثنا إسماعيل، قال: ثنا محمد بن إدريس، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا عمرو بن دينار، قال: أنا جابر بن زيد، أنه سمع ابن عباس يقول:"صليت مع النبي عليه السلام بالمدينة ثمانيًا جميعًا وسبعًا جميعًا". قلت لأبي الشعثاء: أظنه أخَّر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظن ذلك.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 490 رقم 706).
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن أبي الزبير المكي، عن ابن عباس أنه قال:"صلى رسول الله عليه السلام الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا في غير خوف ولا سفر".
حدثنا يزيد بن سفيان، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا قرة بن خالد، عن أبي الزبير
…
فذكر بإسناده مثله.
قلت: "وما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته".
حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن أبي الزبير
…
فذكر مثله بإسناده.
حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: ثنا داود بن قيس الفراء، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس
…
مثله، غير أنه قال:"في غير سفر ولا مطر".
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، على عمران بن حدير، عن عبد الله بن شقيق:"أن ابن عباس رضي الله عنهما أخَّر صلاة المغرب ذات ليلة، فقال رجل: الصلاة، الصلاة، فقال: لا أم لك، أتعلمنا بالصلاة، وقد كان النبي عليه السلام ربما جمع بينهما بالمدينة".
ش: هذه سبع طرق عن ابن عباس إلى رضي الله عنهما وهي صحاح، ورجالها كلهم ثقات:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن أسد بن موسى أسد السنة، على شعبة بن الحجاج، عن عمرو بن دينار المكي، عن جابر بن زيد الأزدي اليحمدي أبي الشعثاء الجوفي -بالجيم- عن عبد الله بن عباس.
وأخرجه البخاري (1): ثنا أبو النعمان، قال: ثنا حماد -هو ابن زيد- على عمرو بن دينار، عن جابر، عن زيد، عن ابن عباس: "أن النبي عليه السلام صلى بالمدينة
(1)"صحيح البخاري"(1/ 201 رقم 518).
سبعًا وثمانيًا الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة، قال: عسى".
وأخرجه أبو داود (1): ثنا سليمان بن حرب ومسدّد، قالا: ثنا حماد، ثنا عمرو بن عون، أنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال:"صلى بنا رسول الله عليه السلام بالمدينة ثمانيًا وسبعًا: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء".
قوله: "صلى رسول الله عليه السلام ثمانيًا جميعًا" أي ثماني ركعات، وأراد بها الظهر والعصر، فإنه جمع بينهما في الحضر، تفسره الرواية الأخرى وهي قوله:"بالمدينة".
قوله: "سبعًا جميعًا" أي سبع ركعات، وأراد بها المغرب والعشاء، فإنه جمع بينهما في الحضر أيضًا، والمراد منه أنه جمع بينهما فعلًا لا وقتًا؛ على ما يجيء إن شاء الله.
الثاني: عن إسماعيل بن يحيى المزني خال الطحاوي وأكبر أصحاب الشافعي، عن محمد بن إرديس الشافعي الإِمام، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار المكي، عن جابر بن زيد الأزدي، أنه سمع ابن عباس
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار
…
نحو رواية الطحاوي وليس في لفظه: "بالمدينة".
قوله: "قلت لأبي الشعثاء" القائل هو عمرو بن دينار، وأبو الشعثاء كنية جابر ابن زيد، وهذا الكلام يؤيد تأويل الحنفية في قولهم: إنه عليه السلام جمع بين الظهرين والعشاءين فعلًا لا وقتًا.
فائدة: كل ما قال الشافعي: حدثنا سفيان، المراد منه: هو سفيان بن عيينة؛ لأن الشافعي لم يدرك سفيان الثوري؛ لأن وفاته في سنة خمس وخمسين ومائة، والشافعي مولده في خمسين ومائة، وأما سفيان بن عيينة فإن وفاته في سنة ثمان وتسعين ومائة بمكة.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 6 رقم 1214).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 491 رقم 705).
الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن أبي الزبير محمد بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وأخرجه مسلم (1): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"صلى بنا رسول الله عليه السلام الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، في غير خوف ولا سفر".
ورواه أبو داود (2): عن القعنبي، عن مالك
…
نحوه، وفي آخره:"قال مالك: أرى ذلك كان في مطر".
الرابع: عن يزيد بن سنان، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن قرة بن خالد، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم (3): ثنا أحمد بن يونس وعون بن سلام جميعًا، عن زهير -قال ابن يونس: ثنا زهير- قال: ثنا أبو الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"صلى لنا رسول الله عليه السلام الظهر والعصر جميعًا بالمدينة، في غير خوف ولا سفر، قال أبو الزبير: فسألت سعيدًا، لم فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني، فقال: أراد أن لا يحرج أحدًا من أمته".
وأخرجه أبو داود (4) وقال: ثنا عثمان بن أبي شيبة، نا أبو معاوية، نا الأعمش، عن حبيب، عن سعيد، عن ابن عباس قال:"جمع رسول الله عليه السلام الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر، فقيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته".
(1)"صحيح مسلم"(1/ 489 رقم 705).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 6 رقم 1210).
(3)
"صحيح مسلم"(1/ 490 رقم 705).
(4)
"سنن أبي داود"(2/ 6 رقم 1211).
وأخرجه الترمذي (1) والنسائي (2) أيضًا.
وقال الخطابي: هذا الحديث لا يقول به أكثر العلماء، وإسناده جيد إلا ما تكلموا فيه من أمر حبيب، وكان ابن المنذر يقول به ويحكيه عن غير واحد من أصحاب الحديث، وسمعت أبا بكر القفال يحكيه عن أبي إسحاق المروزي، قال ابن المنذر: ولا معنى يحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار؛ لأن بن عباس قد أخبر بالعلة فيه وهو قوله: "أراد أن لا يحرج أمته". وحكي عن ابن سيرين: "أنه كان لا يرى بأسًا أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شتاء ما لم يتخذه عادة". وتأوله بعضهم على أن يكون ذلك في حال المرض؛ وذلك لما فيه من إرفاق المريض ودفع المشقة، عنه فحمله على ذلك أولى من صرفه إلى من لا عذر له ولا مشقة عليه من الصحيح البدن المنقطع العذر، وقد اختلف الناس في ذلك فرخص عطاء بن أبي رباح للمريض في الجمع بين الصلاتين، وهو قول مالك وأحمد بن حنبل.
وقال أصحاب الرأي: يجمع المريض بين الصلاتين، إلا أنهم أباحوا ذلك على شرطهم في جمع المسافر بينهما، ومنع الشافعي من ذلك في الحضر إلا للمطر.
قلت: كل تأويل أَوَّلوه في هذا الحديث يرده قول ابن عباس: "أراد أن لا يحرج أمته". ما خلا التأويل الذي أوله الطحاوي على تأخير الأولى آخر وقتها وتقديم الأخرى لأول وقتها على ما تأوله أبو الشعثاء جابر بن زيد وعمرو بن دينار في صحيح مسلم، وقال الترمذي في كتابه: ليس في كتابي حديث أجمعت الأمم على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر، وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة.
قلت: هذا الذي قاله الترمذي في حديث شارب الخمر هو كما قاله، فهو منسوخ دلّ الإجماع على نسخه، وأما حديث ابن عباس فلم يجمعوا على ترك العمل به، فإن
(1)"جامع الترمذي"(1/ 355 رقم 187).
(2)
"المجتبى"(1/ 290 رقم 601 - 602).
جماعة ذهبوا إلى العمل بظاهره، وآخرين أوَّلوه كما ذكرنا، والصواب ما قاله الطحاوي رحمه الله.
الخامس: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن حجاج بن محمد الأعور، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير محمد بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وأخرجه عبد الرزاق (1): عن الثوري، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"جمع رسول الله عليه السلام بين الظهر والعصر بالمدينة في غير سفر ولا خوف، قال: قلت لابن عباس: وَلمَ تراه فعل ذلك؟ قال: أراد ألا يُحْرَجَ أحدٌ من أمته".
السادس: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، عن داود بن قيس الفراء، عن صالح بن نبهان مولى التوأمة، عن ابن عباس.
وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا داود بن قيس الفراء، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس قال:"جمع رسول الله عليه السلام بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المدينة في غير خوف ولا مطر، فقيل لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: أراد التوسعة على أمته".
وأخرجه عبد الرزاق (3) أيضًا: عن داود بن قيس
…
إلى آخره نحوه، ولفظه:"قال: قلت لابن عباس: لم تراه فعل ذلك؟ " والباقي مثله.
السابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن المنهال، عن حماد ابن سلمة، عن عمران بن حُدير السدوسي، عن عبد الله بن شقيق العقيلي أبي عبد الرحمن البصري، أن ابن عباس
…
إلى آخره.
(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 555 رقم 4435).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 210 رقم 8230).
(3)
"مصنف عبد الرزاق"(2/ 555 رقم 4434).
وأخرجه مسلم (1): ثنا ابن أبي عمر، ثنا وكيع، ثنا عمران بن حُدَير، عن عبد الله بن شقيق العقيلي، قال:"قال رجل لابن عباس: الصلاة. فسكت، ثم قال: الصلاة. فسكت، ثم قال: الصلاة. فسكت، ثم قال: لا أمَّ لك أتُعلمنا بالصلاة؟! كنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله عليه السلام".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن وكيع
…
إلى آخره نحوه، وفي آخره:"يعني في السفر".
قوله: "لا أم لك" ذم وسب أي أنه لقيط لا تعرف له أم، وقيل: قد تقع مدحًا بمعنى التعجب منه وفيه بعد، وخبر "لا" محذوف، تقديره: لا أم معروفة لك.
قوله: "أتعلمنا" والهمزة فيه للاستفهام، وهو من الإعلام ومراده من هذا: نسبته إلى جهله عن سبب تأخيره الصلاة، و"الواو" في قوله:"وقد كان النبي عليه السلام" للحال.
وهذا أيضًا محمول على تأخير الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وتقديم الصلاة الأخرى في أول وقتها، فيكون الجمع بينهما فعلًا لا وقتًا.
ص: حدثنا يزيد بن سنان وفهد قالا: ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث بن سعد، قال: حدثني نافع: "أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عجّل السيرَ ذات ليلة، وكان قد اسْتُصْرخ على بعض أهله ابنة أبي عبيد فسار حتى هم الشفق أن يغيب، وأصحابه ينادونه بالصلاة فأبى عليهم، حتى إذا أكثروا عليه قال: إني رأيت رسول الله عليه السلام يجمع بين هاتين الصلاتين: المغرب والعشاء، وأنا أجمع بينهما".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر قال:"كان رسول الله عليه السلام إذا عجل به السفر يجمع بين المغرب والعشاء".
(1)"صحيح مسلم"(1/ 492 رقم 705).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 210 رقم 8231) ولفظه: "لا أبا لك".
حدثنا فهدٌ، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه:"أن رسول الله عليه السلام كان يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السيرُ".
حدثنا فهدٌ، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا أبي عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن إسماعيل بن أبي ذؤيب قال:"كنت مع ابن عمر، فلما غربت الشمس هِبنا أن نقول: الصلاة، فسار حتى ذهبت فحمة العشاء، ورأينا بياض الأفق، فنزل وصلى ثلاثا المغرب، واثنتين العشاء، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله عليه السلام يفعل".
ش: هذه أربع طرق رجالها كلهم ثقات:
الأول: عن يزيد بن سنان القزاز وفهد بن سليمان النحاس، كلاهما عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن نافع مولى ابن عمر، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (1): عن سليمان بن داود العتكي، عن حماد، عن أيوب، عن نافع:"أن ابن عمر استصرخ على صفية وهو بمكة، فسار حتى غربت الشمس وبدت النجوم، فقال: إن النبي عليه السلام كان إذا عجّل به أمر في سفر جمع بين هاتين الصلاتين، فسار حتى غاب الشفق، فنزل فجمع بينهما".
وأخرجه الترمذي (2): من حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، وقال: حسن صحيح.
وأخرجه النسائي (3): من حديث سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، بمعناه أتم منه.
وكذا أخرجه البخاري (4): عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 5 رقم 1207).
(2)
"جامع الترمذي"(2/ 441 رقم 555).
(3)
"المجتبى"(1/ 289 رقم 600).
(4)
"البخاري"(1/ 370 رقم 1041).
قوله: "استصرخ" على بناء المجهول يقال: أستصرخ الإنسان إذا أتاه الصارخ، وهو المُصَوِّت يُعْلمه بأمر حادث يستعين به عليه أو ينعي له ميتًا والاستصراخ: الاستغاثة.
قوله: "ابنة أبي عبيد" بيان لقوله: "على بعض أهله" واسمها صفية بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفية، أخت المختار بن أبي عبيد الكذاب، رأت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وروت عن عائشة رضي الله عنها، روى عنها نافع مولى ابن عمر، وعبد الله ابن دينار، قال أحمد: هي مدنية ثقفية ثقة، روى لها مسلم وأبو داود وابن ماجه وعمرت أزيد من ستين عامًا.
قوله: "حتى همَّ الشفق أن يغيب" أي حتى قصد الغيبوبة، أراد به كاد أن يغيب الشفق.
وهو أيضًا محمول على أنه أخّر الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وقدم الصلاة الأخرى في أول وقتها ة فيكون جامعًا بينهما فعلًا لا وقتًا.
فإن قيل: كيف تقول: يكون جامعًا بينهما فعلًا لا وقتًا؛ ورواية أبي داود تصرح أنه جمع بينهما بعد غياب الشمس، حيث قال:"فسار حتى غاب الشفق، فنزل" وهذا صريح على أنه جمع بينهما وقتًا لا فعلًا؟!
قلت: قد فتح لي جواب من الفيض الإلاهي، وهو أن الشفق لونه أحمر وأبيض كما اختلف الفقهاء فيه والعلماء من الصحابة رضي الله عنهم ويحتمل أنه جمع بينهما بعد غياب الشفق الأحمر، فتكون المغرب في وقتها على قول من يقول: الشفق هو الأبيض، وكذلك العشاء تكون في وقتها على قول من يقول: الشفق هو الأحمر، فيطلق عليه أنه جمع بينهما بعد غياب الشفق.
فإن قيل: قد ذكر البيهقي (1) في باب الجمع بين الصلاتين في السفر: عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه سار حتى غاب
(1)"السنن الكبرى"(3/ 159 رقم 5303).
الشفق". ثم قال: ورواه معمر، عن أيوب وموسى بن عقبة، عن نافع، وقال في الحديث: "أخّر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هَوِيّ من الليل، ثم نزل وصلى المغرب والعشاء
…
" الحديث.
قلت: لم يذكر سنده لينظر فيه، وقد أخرجه النسائي (1) بخلاف هذا، فقال: أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا عبد الرزاق، نا معمر، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر:"كان عليه السلام إذا جد به أمر -أو جد به السير- جمع بين المغرب والعشاء".
وأخرج الدارقطني في "سننه"(2): من حديث الثوري، عن عبيد الله بن عمر وموسى بن عقبة ويحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر:"كان عليه السلام إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء".
فإن قيل: قد قال البيهقي: ورواه يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، فذكر أنه سار قريبًا من ربع الليل ثم نزل وصلى.
قلت: أسنده في "الخلافيات" من حديث يزيد بن هارون بسنده المذكور، ولفظه:"فسرنا أميالًا ثم نزل فصلى قال يحيى: فحدثني نافع مرة أخرى فقال: "سرنا حتى إذا كان قريبًا من ربع الليل نزل فصلى". فلفظه مضطرب كما ترى، قد روي على وجهين، فاقتصر البيهقي في "السنن" على ما يوافق مقصوده فأفهم.
الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر.
وأخرجه مسلم (3): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال:"كان رسول الله عليه السلام إذا عجّل به السير جمع بين المغرب والعشاء".
(1)"المجتبى"(1/ 289 رقم 599).
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 391 رقم 11).
(3)
"صحيح مسلم"(1/ 488 رقم 703).
وأخرجه النسائي (1): عن قتيبة، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله عليه السلام كان إذا جَدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء".
الثالث: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني -بكسر الحاء المهملة وتشديد اللام- وقد تكرر ذكره، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر.
وأخرجه النسائي (2): أنا محمد بن منصور، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت الزهري، قال: أخبرني سالم، عن أبيه قال:"رأيت النبي عليه السلام إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء".
الرابع: عن فهد بن سليمان أيضًا، عن يحيى بن عبد الحميد أيضًا، عن سفيان ابن عيينة أيضًا، عن عبد الله بن أبي نجيح واسمه يسار المكي، عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي ذئب وقيل: ذؤيب
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (3): أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن إسماعيل بن عبد الرحمن شيخ من قريش قال:"صحبت ابن عمر إلى الحمى، فلما غربت الشمس هِبْتُ أن أقول له: الصلاة، فسار حتى ذهب بياض الأفق وفحمة العشاء، ثم نزل فصلى المغرب ثلاث ركعات، ثم صلى ركعتين على إثرهما، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله عليه السلام يفعل".
قوله: "هبنا" من هاب يَهِيبُ هَيْبَةً.
قوله: "فَحْمَة العشاء" أي إقباله وأول سواده، يقال للظلمة التي بين صلاتي العشاء: الفحمة، وللظلمة التي بين العتمة والغداة: العسعسة.
قوله: "بياض الأفق" يدل على ما قلنا أنه أخر المغرب إلى آخر وقته، وقدم العشاء في أول وقته، فجمع بينهما فعلًا لا وقتًا.
(1)"المجتبى"(1/ 289 رقم 598).
(2)
"المجتبى"(1/ 289 رقم 600).
(3)
"المجتبى"(1/ 286 رقم 591).
ص: حدثنا محمد بن خزيمة وابن أبي داود وعمران بن موسى، قالوا: نا الربيع بن يحيى الأُشْنَاني، قال: ثنا سفيان الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:"جمع النبي عليه السلام بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة للرُّخص في غير خوف ولا علّة".
ش: إسناده صحيح. والربيع بن يحيى أبو الفضل البصري أحد مشايخ البخاري رحمه الله.
والأُشْناني نسبته إلى بيع الأُشْنان وشرائه، قيل: نسبته إلى قرية أُشنة على غير [القياس](1).
وأخرجه ابن جُميع في "معجمه"(2): عن أحمد بن زكريا، ثنا هشام بن علي، ثنا الربيع بن يحيى، ثنا سفيان، عن ابن المنكدر، عن جابر:"أن النبي عليه السلام جمع بين صلاة الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، جمع بينهم في غير علّة ولا سفر للرُّخَص".
واحتج به قوم على جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر، وأولوه على أنه كان في غير فصلى الظهر، ثم انكشف الغيم وبأن أن أول وقت العصر دخل فصلاها وهذا باطل؛ لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء، والصواب أنه محمول على أنه أخَّر الأولى إلى آخر وقتها فصلاها فيه، فلما فرغ منها دخلت الثانية فصلاها، فصارت صورة جمع، ولا وجه له غير ذلك.
على أن الحديث قد ضعفه قوم؛ قال الحاكم: سألت الدارقطني عن الربيع بن يحيى الأشناني، قال: ليس بالقوي يروي عن الثوري عن ابن المنكدر عن جابر الجمع بين الصلاتين، هذا يسقط مائة ألف حديث.
(1) حيث إن القياس أن تكون النسبة إلى أُشْنة: أُشْنِي.
(2)
معجم شيوخ ابن جميع (1/ 295 رقم 143).
ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة، قال: ثنا نُعيم بن حماد، قال: ثنا عبد العزيز بق محمد الدراوردي، عن مالك بن أنس، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غربت له الشمس بمكة، فجمع بينهما بسرف، يعني الصلاة".
ش: إسناده صحيح، وعلي بن عبد الرحمن المعروف بعلان، قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه بمصر وهو صدوق.
ونعيم بن حماد بن معاوية الفارض الأعور المروزي روى عنه البخاري مقرونًا بغيره، وروى له مسلم في مقدمة كتابه.
والدراوردي- بفتح الدال نسبة إلى دراورد قرية بخراسان.
وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا أحمد بن صالح، ثنا يحيى بن محمد البخاري، نا عبد العزيز بن محمد، عن مالك، عن أبي الزبير، عن جابر:"أن رسول الله عليه السلام غابت له الشمس بمكة، فجمع بينهما بسَرِف".
وأخرجه النسائي (2): أنا المؤمل بن إهاب قال: حدثني يحيى بن محمد الجاري، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن مالك بن أنس، عن أبي الزبير، عن جابر قال:"غابت الشمس ورسول الله عليه السلام بمكة، فجمع بين الصلاتين بسَرِف".
قوله: "بسرف" بفتح السين وكسر الراء المهملتين وبعدها فاء لا تنصرف؛ للعلمية والتأنيث. وهي موضع من مكة على عشرة أميال وقيل: أقل وأكثر، ووقع في بعض النسخ الصحيحة للنسائي:"بسرق" بالقاف، قال الجوهري: سرق اسم للموضع.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 7 رقم 1215).
(2)
"المجتبى"(1/ 287 رقم 593).
قوله: "فجمع بينهما" أي بين المغرب والعشاء، دلّ عليه قوله:"غابت الشمس" وهو أيضًا محمول على أنه أخّر الأولى إلى آخر وقتها، وقدم الأخرى في أول وقتها.
ص: حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، عن حفص بن عبيد الله، عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين المغرب والعشاء في السفر".
ش: إسناده صحيح، ومسلم بن إبراهيم القصاب البصري أحد مشايخ البخاري وأبي داود.
وحفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك.
وأخرجه البخاري (1): عن حسين، عن يحيى بن أبي كثير، عن حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك، عن أنس بن مالك قال:"كان النبي عليه السلام يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السفر". ثم قال البخاري: وتابعه علي بن المبارك وحربٌ، عن يحيى، عن حفص، عن أنس:"جمع النبي عليه السلام".
قلت: أما حديث علي بن المبارك فأخرجه الإسماعيلي في "صحيحه": أخبرني الحسن بن سفيان، نا محمد بن مثنى، نا عثمان بن عمر، ثنا عليّ يعني -ابن المبارك- عن يحيى، عن حفص، عن أنس:"أن النبي عليه السلام كان يجمع بين المغرب والعشاء في سفره".
وقال أبو نعيم في "المستخرج": ثنا أبو أحمد، ثنا الحسن بن سفيان
…
فذكره.
وأما حديث حرب فأخرجه البخاري (1) في كتابه مسندًا، وأخرجه أبو يعلى أيضًا في "مسنده" من حديث معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن حفص بن عبد الله، عن أنس:"كان رسول الله عليه السلام يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في السفر".
(1)"صحيح البخاري"(1/ 373 رقم 1057).
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الظهر والعصر وقتهما واحد، قالوا: ولذلك جمع النبي عليه السلام بينهما في وقت إحداهما، وكذلك المغرب والعشاء في قولهم، وقتهما وقت واحد، لا يفوت إحداهما حتى يفوت وقت الأخرى منهما.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح وطاوسًا ومجاهدًا وسالم بن عبد الله وإسحاق بن راهويه والشافعي ومالكًا وأحمد وداود وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: وقت الظهر والعصر وقت واحد ولأجل ذلك جمع النبي عليه السلام بينهما في وقت إحداهما، وكذلك المغرب والعشاء.
وقال أبو عمر (1): اختلف الفقهاء في هذا الباب، فروى ابن القاسم عن مالك -وهو رأيه-: لا يجمع المسافر في حج أو عمرة إلا أن يجد به السير أو يخاف فوات أمر فيجمع في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، وكذلك في المغرب والعشاء إلا أن يرتحل عند الزوال فليجمع حينئذ في الرحلة بين الظهر والعصر، ولم يذكر في العشائين الجمع عند الرحيل أول الوقت، وقال سحنون: وهما كالظهر والعصر يجمع بينهما عند الرحيل، قال أبو الفرج: وأصل هذا الباب الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، والمغرب والعشاء بمزدلفة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر وقصر وجمع بينهما كذلك، والجمع أيسر من التقصير، فوجب الجمع بينهما في الوقت الذي جمع بينهما رسول الله عليه السلام، وهو قول الشافعي وأصحابه وعطاء بن أبي رباح وسالم بن عبد الله بن عمر وجمهور علماء أهل المدينة وأبي ثور وأحمد وإسحاق وداود في أن يجمع المسافر بين الصلاتين إن شاء في وقت الأولى، وإن شاء في وقت الآخرة، وقال الشافعي وداود وأصحابهما: ليس للمسافر أن يجمع بين الصلاتين ولا يؤخر صلاة عن وقتها إلا بنية الجمع. وقال الطبري: للمسافر أن يجمع بين الظهر والعصر ما بين الزوال إلى أن تغيب الشمس، وبين المغرب والعشاء ما بين مغيب الشمس إلى طلوع الفجر، وقال أحمد بن حنبل: وجه الجمع أن يؤخر الظهر حتى يدخل وقت العصر
(1)"التمهيد"(12/ 196 - 201).
ثم ينزل فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يغيب الشفق ثم يجمع بين المغرب والعشاء، قال: فإن قدّم العصر إلى الظهر والعشاء إلى المغرب فأرجو أن لا يكون به بأس. وقال إسحاق: لا بأس بذلك بلا رجاء.
وقال عياض: الجمع بين الصلوات المشتركة في الأوقات يكون تارة سنة وتارة رخصة، فالسنة الجمع بعرفة والمزدلفة، وأما الرخصة فالجمع في المرض والسفر والمطر، فمن تمسك بحديث صلاة النبي عليه السلام مع جبريل عليه السلام[وقدَّمه](1) ولم ير الجمع في ذلك، ومن خصَّه أثبت جواز الجمع في السفر بالأحاديث الواردة فيه وقاس المرض عليه، فنقول: إذا أُبيح للمسافر الجمع لمشقة السفر فأخرى أن يباح للمريض، وقد قرن الله -تعالى- المريض بالمسافر في الترخيص له في الفطر والتيمم، وأما الجمع في المطر فالمشهور من مذهب مالك إثباته في المغرب والعشاء، وعنه مقولة شاذة: أنه لا يجمع إلا في مسجد رسول الله عليه السلام ومذهب المخالف: جواز الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في المطر.
وقال أيضًا: وقد اختلف العلماء في الجمع للمسافر مع اتفاقهم على الجمع بعرفة والمزدلفة واتفاقهم على منع الجمع بين الصلوات التي لا اشتراك فيها من العصر والمغرب، والعشاء والصبح والظهر، فرأى الجمع للمسافر بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء جماعة السلف والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث، وهو معروف مذهب مالك، واختلف عنه مع القول هل ذلك لمجرد السفر أو حتى يجد به السير أو يخاف فوات أمر، وباشتراط جدّ السير قال الليث والثوري، وباشتراط العدو قال الأوزاعي، وبمجرد السفر قال جمهور السلف وعلماء الحجاز وفقهاء أصحاب الحديث وأهل الظاهر، وأنه يجمع أي وقت شاء من الأولى والآخرة، وأما في غير السفر فقال مالك بالجمع في المطر بين العشائين ولم يَرَ ذلك مالك في الظهر والعصر، وقال الشافعي بالجمع بينهما في المطر الوابل، وبه قال أبو ثور والطبري،
(1) كذا في "الأصل، ك" وهو الأصح، وفي "عمدة القاري":(5/ 54): وقد أَمَّه.
وهو ظاهر قول مالك في "الموطإ"، والطين والظلمة عند مالك كالمطر، وقد جاء عنه ذكر الطين مجردًا.
والمرض عند مالك كالسفر وقال ابن قانع: لا يجمع المريض. وقال مالك أيضًا: يجوز الجمع لأجل الخوف، وعن ابن القاسم فيه روايتان، وفي "الحاوي" في فروع الحنابلة: ويجوز الجمع ليلًا لأجل المطر الذي يبل الثياب أو نعله أو بدنه، ولثلج بَرَدٍ وفي الجمع نهارًا روايتان: فإن قدمه لعذر اعتبر وجوده في طرفي الأولى وأول الثانية، وقيل: بل في أولها فقط، وإن أخرّ جمع، ولو انقطع في وقت للثانية صح، وإن زال قبله فلا، وهل يجوز الجمع لِوَحْلٍ وريحٍ شديدة باردة مع ظلمة؟ وقيل بدونهما، ولمن يُصلي وحده أو في المسجد يخرج إليه تحت ساباط أو في كنّ على وجهين، ولمن لا يناله مطر ولا وَحْل الجمع؛ خوف فوت الجماعة.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل كل واحدة من هذه الصلوات وقتها مفرد من وقت غيرها.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي والحسن البصري ومكحولًا ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد وعمرو بن دينار والثوري والأسود وعمر بن عبد العزيز وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل والليث بن سعد ومالكًا -في رواية المدونة قاله ابن بطال- فإنهم قالوا: كل صلاة لها وقت مخصوص لا يشترك بالأخرى، فلا يجوز الجمع إلا في موضعين: عرفة، ومزدلفة وهو قول ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص فيما ذكره ابن شداد في كتابه "دلائل الأحكام" وقول ابن عمر في رواية أبي داود، وأما قول النووي: إن أبا يوسف ومحمدًا خالفا شيخيهما، وأن قولهما كقول الشافعي وأحمد؛ فقد ردّه عليه صاحب "الغاية في شرح الهداية" بأن هذا لا أصل له عنهما وقال عياض: أَبَى أبو حنيفة وحده الجمع للمسافر وحكى كراهته عن ابن سيرين والحسن البصري، وروي عن مالك مثله، وروي عنه كراهيته للرجال دون النساء.
قلت: يرد قوله: "أَبَى أبو حنيفة وحده" مَنْ ذكرنا من الصحابة والتابعين وغيرهم، أن قولهم مثل قوله.
ص: وقالوا أمَّا ما رويتموه عن النبي عليه السلام من جمعه بين الصلاتين فقد روي عنه كما ذكرتم وليس في ذلك دليل أنه جمع بينهما في وقت إحداهما، فقد يحتمل أن يكون جمعه بينهما كان كما ذكرتم، ويحتمل أن يكون صلى كل واحدة منهما في وقتها كما ظنَّ جابر بن زيد، وقد روي ذلك عن ابن عباس وعمرو بن دينار من بعده.
ش: هذا جواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى من الآثار التي فيها الجمع بين الصلاتين، تحريره: أن أهل المقالة الثانية قالوا: أما ما رويتموه عن النبي عليه السلام من جمعه بين الصلاتين فإنا نسلم أنه روي عنه عليه السلام كما ذكرتم، ولكن ليس فيها دليل قاطع على أنه جمع بينهما في وقت واحدة منهما؛ لأنه يحتمل أن يكون جمعه بينهما كما ذكرتم، ويحتمل أن يكون أخّر الأولى إلى آخر وقتها، وقدم الأخرى في أول وقتها، فيكون الجمع بينهما فعلًا لا وقتًا، ويُرَجِّحُ الاحتمال الثاني ظن جابر بن زيد الأزدي أبي الشعثاء حيث ذكره في حديث ابن عباس الذي أخرجه مسلم (1) والطحاوي (2) أيضًا:"قلت لأبي الشعثاء: أظنه أخّر الظهر وعجّل العصر، وأخّر المغرب وعجّل العشاء، قال: وأنا أظن ذلك" وكل واحد من جابر بن زيد وعمرو بن دينار قد سبق ظنه إلى ما ذكرنا؛ لأن القائل في هذا الحديث لأبي الشعثاء هو عمرو بن دينار كما مضى بيانه فيما قبل، وإليه أشار الطحاوي بقوله:"وقد روي ذلك عن ابن عباس وعمرو بن دينار من بعده". أي: وقد روى عمرو بن دينار من بعد جابر بن زيد مثلما روى جابر بالظن المذكور.
وقد روى النسائي (3): عن قتيبة، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: "صليت مع النبي عليه السلام بالمدينة ثمانيًا جميعًا
(1)"صحيح مسلم"(1/ 491 رقم 705).
(2)
"شرح معاني الآثار"(1/ 160).
(3)
"المجتبى"(1/ 286 رقم 589).
وسبعًا جميعًا؛ أخّر الظهر وعجّل العصر، وأخّر المغرب وعجّل العشاء". فهذا ابن عباس صرح بما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه من أن المراد من جمعه عليه السلام بين الصلاتين: أنه أخّر الأول وقدم الثانية، وهذا مما يُؤيد ويُرجح الاحتمال الثاني الذي ذكرناه؛ فحينئذ لم تبق لهم حجة في الآثار المذكورة إلا إذا التزموا بمثل ما التزمنا.
وأما الذي رواه أبو داود أنه جمع بينهما بعد غياب الشمس، والذي رواه البيهقي أنه أخّر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هُوِيّ من الليل، ونحو ذلك فقد مر الجواب عن ذلك مستقصى عن قريب.
ص: فقال أهل المقالة الأولى: قد وجدنا في بعض الآثار ما يدل على أن صفة الجمع الذي فعله النبي عليه السلام كما قلنا. فذكروا في ذلك ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارم بن الفضل، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع:"أن ابن عمر رضي الله عنهما استُصرخ على صفية ابنة أبي عبيد وهو بمكة فانسل إلى المدينة، فسار حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وكان رجل يصحبه يقول: الصلاة الصلاة. قال: وقال له سالم: الصلاة. فقال: إن رسول الله عليه السلام كان إذا عجل به السير في سفر جمع بين هاتين الصلاتين، وإني أريد أن أجمع بينهما، فسار حتى غاب الشفق، ثم نزل فجمع بينهما".
وما حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان إذا جدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد ما يغيب الشفق، ويقول: إن رسول الله عليه السلام كان إذا جدّ به السير جمع بينهما".
قالوا: ففي هذا دليل على صفة جمعه عليه السلام كيف كان.
ش: هذه إشارة إلى معارضه من جهة أهل المقالة الأولى، بيانها: أنكم وإن رجحتم صفة جمع النبي عليه السلام بين الصلاتين بما ذكرتم، فعندنا أثار تبين صفة الجمع على ما ذكرنا وتمنع ما ذكرتم من الهيئة المذكورة، وهي الآثار التي رويت عن ابن عمر حيث يذكر فيها: فسار حتى غاب الشفق، أو بعد ما يغيب الشفق، أو بعد
غيوب الشفق كما في رواية أبي داود، ففي هذه كلها دليل على أن صفة الجمع على ما قلنا، وأنه جمع فعلًا ووقتًا.
ثم إسناد حديث ابن عمر صحيح من الوجهين كليهما، ورجالهما رجال الصحيح ما خلا شيخي الطحاوي، والعارم لقب، واسمه محمد بن الفضل السدوسي، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري، وعبيد الله هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
وقد أخرج الطحاوي الحديث عن قريب من غير هذا الوجه.
وأخرجه أبو داود (1): عن سليمان بن داود العتكي، عن حماد، عن أيوب، عن نافع
…
إلى آخره، وقد ذكرناه هناك.
وأخرجه الترمذي (2): عن هناد، عن عبدة بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه استغيث على بعض أهله فجد به السير، فأخّر المغرب حتى غاب الشفق، ثم نزل فجمع بينهما، ثم أخبرهم أن رسول الله عليه السلام كان يفعل ذلك إذا جدّ به السير". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
ص: فكان من الحجة عليهم لمخالفيهم أن حديث أيوب الذي قال فيه: "فسار حتى غاب الشفق ثم نزل" كل أصحاب نافع لم يذكروا ذلك لا عبيد الله ولا مالك ولا الليث ولا من قد روينا عنه حديث ابن عمر في هذا الباب، وإنما أخبر بذلك من فعل ابن عمر، وذكر عن النبي عليه السلام الجمع ولم يذكر كيف جمع، فأما حديث عبيد الله:"أن رسول الله عليه السلام جمع بينهما". ثم ذكر جمع ابن عمر كيف كان وأنه كان بعد ما غاب الشفق، فقد يجوز أن يكون أراد أن صلاة العشاء الآخرة التي بها كان جامعًا بين الصلاتين بعد ما غاب الشفق، وإن كان قد صلى المغرب قبل غييوبة الشفق؛ لأنه لم يكن قط جامعًا بينهما، حتى صلى العشاء الآخرة، فصار بذلك جامعًا بين المغرب والعشاء، وقد روى ذلك غير أيوب مفسرًا على ما قلنا.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 5 رقم 1207).
(2)
"جامع الترمذي"(2/ 441 رقم 555).
كما حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن أسامة بن زيد، قال: أخبرني نافع: "أن ابن عمر رضي الله عنهما جدّ به السير، فلا روحةً لم ينزل إلا لظهر أو لعصر، وأخّر المغرب حتى صرخ به سالم فقال: الصلاة، وصمت ابن عمر حتى إذا كان عند غيبوبة الشفق نزل فجمع بينهما، وقال: رأيت النبي عليه السلام يصنع هكذا إذا جدّ به السير".
قال أبو جعفر رحمه الله: ففي هذا الحديث أن نزوله للمغرب كان قبل أن يغيب الشفق فاحتمل أن يكون قول نافع: "بعد ما غاب الشفق" في حديث أيوب إنما أراد به قربه من غيبوبة الشفق لئلا يتضاد ما روى عنه في ذلك.
ش: هذا جواب عن المعارضة المذكورة أي فكان من الحجة على أهل المقالة الأولى للذين خالفوهم فيما ذهبوا إليه؛ وهم أهل المقالة الثانية، بيان ذلك: أن أصحاب نافع مثل عبيد الله بن عمر ومالك بن أنس والليث بن سعد الذين رووا هذا الحديث عنه لم يذكروا في حديثهم ما ذكره أيوب السختياني عنه من قوله: "فسار حتى غاب الشفق" ولا ذكر ذلك أيضًا من روى هنا غير نافع عن ابن عمر في هذا الباب مثل سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله، ومثل إسماعيل بن أبي ذئب عن عبد الله، وهو معنى قوله: ولا من قد روينا عنه حديث ابن عمر في هذا الباب، وإنما أخبر نافع بذلك عن فعل ابن عمر لا عن فعل النبي عليه السلام، وإنما الذي ذكر عن النبي عليه السلام أنه جمع بينهما، ولم يذكر كيف جمع، ولو كان ما فعله ابن عمر منقولًا عن فعله النبي عليه السلام لكان يتم استدلال الخصم به، فحيث لم يكن منقولًا عن فعله عليه السلام لم يتم استدلالهم به، على أن غير أيوب قد روى ذلك مفسرًا، وهو رواية أسامة بن زيد، عن نافع: "أن ابن عمر جد به السير
…
" الحديث، وفيه أن نزوله للمغرب كان قبل أن يغيب الشفق، وهو يخالف رواية أيوب عنه.
وبينهما تضاد ظاهرًا، فيتعين التوفيق بينهما؛ دفعًا للتضاد، ووجهه أن تحمل رواية أيوب عن نافع:"بعد ما غاب الشفق" على أن المراد به قربه من غيبوبة
الشفق، ومثل هذا يقع في الكلام كثيرًا حتى في كلام الله عز وجل كما في قوله تعالى:{فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (1) فبعد بلوغ الأجل الذي هو العدّة لا يتصور الإمساك؛ لأنها تبين من زوجها حينئذ، وإنما معناه: فإذا شارفن على بلوغ الأجل وقربت منه، وها هنا كذلك بعد ما قرب غياب الشفق، هذا الذي قاله الطحاوي، والذي قلته أنا أيضًا له وجه حسن، وهو أن المراد من قوله:"بعد ما غاب الشفق" هو الشفق الأحمر الذي يكون قبل الأبيض؛ وذلك لأن الشفق نوعان: أحمر، وأبيض، كما هو معروف بين أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وكان نزول ابن عمر رضي الله عنهما بعد غياب الشفق الأحمر، ووقت المغرب حينئذ باقٍ، على قول من يقول: الشفق هو الأبيض، فيكون قد صلى المغرب في وقتها، ثم صلى العشاء في أول وقتها على قول من يقول: الشفق هو الأحمر، فيكون جامعًا بين الصلاتين فعلًا لا وقتًا؛ فافهم.
فبهذين الجوابين يسقط جميع ما وجَّهه البيهقي في كتبه من أن الجمع بينهما كان بعد غياب الشفق؛ لأن الروايات متعارضة ظاهرًا، فلا يرتفع التعارض إلا بما ذكرنا، ومن جملة ما أورد: حديث جابر، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه مضى حتى إذا كان من آخر الشفق نزل فصلى المغرب ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق". ثم قال: وبمعناه رواه فضيل بن غزوان وعطاف بن خالد، عن نافع، وهذا لا يتم به مُدَّعَاه؛ لأنه قال:"حتى إذا كان من آخر الشفق".
فالمفهوم منه أنه صلى المغرب قبل غياب الشفق، ثم صلى العشاء وقد توارى الشفق، وهذا بعينه ما ذهبنا إليه من أنه أخّر الأولى إلى آخر وقتها، وقدم الآخرة في أول وقتها.
والذي يؤيد هذا ما رواه أبو داود في "سننه"(2): من حديث محمد بن فضيل، عن
(1) سورة البقرة، آية:[231].
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 6 رقم 1212).
أبيه، عن نافع وعبد الله بن واقد، وفيه أنه قبل غروب الشفق صلى المغرب، ثم انتظر حتى غاب الشفق وصلى العشاء، وهذا من مما نحتج به عليهم.
وقال أبو داود (1): حدثنا قتيبة، ثنا عبد الله بن نافع، عن أبي مودود، عن سليمان ابن أبي يحيى، عن ابن عمر قال:"ما جمع رسول الله عليه السلام بين المغرب والعشاء قط في سفر إلا مرةً". قال أبو داود: وهذا يروى عن أيوب عن نافع موقوفًا على ابن عمر أنه لم ير ابن عمر جمع بينهما قط إلا بتلك الليلة، يعني ليلة استصرخ على صفية، وروى من حديث مكحول عن نافع:"أنه رأى ابن عمر قبل ذلك مرةً أو مرتين".
ومن جملة ما أورد أيضًا: أن عاصم بن محمد رواه عن أخيه عمر بن محمد، عن سالم، عن ابن عمر كرواية الذين رووا عن نافع عن ابن عمر:"أن الجمع بينهما كان بعد غياب الشفق". وهذا أيضًا لا يتم به مُدّعاه؛ لما ذكرنا.
على أن النسائي (2) روى هذا الحديث: عن سالم، عن ابن عمر، من وجه آخر بخلاف هذا، وقال: أنا عبدة بن عبد الرحيم، قال: أنا ابن شميل، قال: ثنا كثير بن قاروندا قال: "سألنا سالم بن عبد الله عن الصلاة في السفر، فقلنا: أكان عبد الله يجمع بين شيء من الصلوات في السفر؟ قال: لا إلا بجمع، ثم أتيته فقال: كانت عنده صفية، فأرسلت إليه: إني في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، فركب وأنا معه، فأسرع السير، حتى حانت الصلاة فقال له المؤذن: الصلاة، يا أبا عبد الرحمن، فسار حتى إذا كان بين (الصلاتين)(3) فزل، فقال للمؤذن: أقم، فإذا سلمت من الظهر، فأقم مكانك، فأقام فصلى الظهر ركعتين، ثم سلّم، ثم أقام مكانه فصلى العصر ركعتين، ثم ركب فأسرع السير حتى غابت الشمس، فقال له المؤذن: الصلاة يا أبا عبد الرحمن، فقال: كفعلك الأول، فسار حتى إذا اشتبكت
(1)"سنن أبي داود"(2/ 5 رقم 1209).
(2)
"المجتبى"(1/ 288 رقم 597).
(3)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "المجتبى": الوقوف.
النجوم نزل، فقال: أقم، فإذا سلمتُ فأقم، فصلى المغرب ثلاثًا، ثم أقام مكانه فصلى العشاء الآخرة، ثم سلم واحدة تلقاء وجه ثم قال: قال رسول الله عليه السلام: إذا حضر أحدكم أمر يخشى فوته فليصل هذه الصلاة".
وهذا سند جيد ورجاله ثقات، وإسناد حديث فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني صحيح، ورجاله قد ذكروا غير مرة.
ص: وقد روى هذا الحديث غير أسامة عن نافع كما رواه أسامة، كما حدثنا الربيع المؤذن، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: حدثني ابن جابر، قال: ثنا نافع، قال:"خرجت مع عبد الله بن عمر وهو يريد أرضًا له، قال: فنزلنا منزلًا، فأتاه رجل فقال له: إن صفية ابنة أبي عبيد لما بها ولا أظن أن تدركها، فخرج مسرعًا ومعه رجل من قريش، فسرنا حتى إذا غابت الشمس لم نصل الصلاة، وكان عهدي بصاحبي وهو محافظ على الصلاة، فلما أبطأ قلت: الصلاة رحمك الله فما التفت إليَّ ومضى كما هو، حتى إذا كان في آخر الشفق نزل فصلى المغرب ثم العشاء وقد توارت، ثم أقبل علينا فقال: كان رسول الله عليه السلام إذا عجل به أمر صنع هكذا".
أو كما حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا العطاف بن خالد المخزومي، عن نافع قال:"أقبلنا مع ابن عمر حتى إذا كنا ببعض الطرق استصرخ على زوجته ابنة أبي عبيد، فراح مسرعًا حتى غابت الشمس فنودي بالصلاة، فلم ينزل، حتى إذا أمسى ظننت أنه قد نسي فقلت: الصلاة، فسكت حتى إذا كاد الشفق أن يغيب نزل، فصلى المغرب، وغاب الشفق وصلى العشاء، وقال: هكذا كنا نفعل مع النبي عليه السلام إذا جدّ بنا السير".
ش: أشار بهذا إلى أن اثنان من الثقات تابعا أسامة فيما رواه عن نافع:
أحدهما: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي أبو عتبة الشامي الدمشقي الداراني ممن روى لهم الجماعة، أخرج الطحاوي حديثه بإسناد صحيح.
وأخرجه النسائي (1) أخبرني محمود بن خالد، قال: ثنا الوليد، قال: ثنا ابن جابر، قال: حدثني نافع، قال:"خرجت مع عبد الله بن عمر في سفر نريد أرضًا له، فأتاه آت فقال: إن صفية بنت أبي عبيد لما بها فانظر أن تدركها، فخرج مسرعًا ومعه رجل من قريش يسايره، وغابت الشمس فلم يصل الصلاة، وكان عهدي به وهو محافظ على الصلاة، فلما أبطأ قلت: الصلاة يرحمك الله، فالتفت إليَّ ومضى، حتى إذا كان في آخر الشفق نزل فصلى المغرب، ثم أقام العشاء وقد توارى الشفق فصلى بنا، ثم أقبل علينا فقال: إن رسول الله عليه السلام كان إذا عجّل به السير صنع هكذا".
قوله: "وهو يريد" جملة حالية.
قوله: "لِمَا بِهَا" بكسر اللام وتخفيف الميم، في محل الرفع على أنها خبر لـ"إن" في قوله:"إن صفية ابنة أبي عبيد" والمعنى أن صفية هالكة؛ لما بها من الضعف الشديد، ولا أظن أن تدركها وهي بالحياة.
قوله: "وقد توارت" أي غاب الشفق.
والآخر: العطاف بن خالد بن عبد الله القرشي أبو صفوان المدني، قال يحيى بن معين: ليس به بأس ثقة صالح الحديث. وعن أبي داود: ثقة. روى له الترمذي والنسائي.
أخرج الطحاوي حديثه عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي البصري، عنه.
وأخرجه الدارقطني في "سننه"(2): ثنا الحسن بن إسماعيل، ثنا أحمد بن منصور، ثنا ابن أبي مريم، ثنا عطاف بن خالد، حدثني نافع قال: "أقبلنا مع ابن عمر صادرين من مكة، حتى إذا كنا ببعض الطريق استصرخ على زوجته صفية، فأسرع
(1)"المجتبى"(1/ 287 رقم 595).
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 393 رقم 21).
السير، فكان إذا غابت الشمس نزل فصلى المغرب، فلما كان تلك الليلة ظننا أنه نسي الصلاة، فقلنا له: الصلاة، فسار حتى إذا كاد أن يغيب الشفق نزل فصلى، وغاب الشفق ثم قام فصلى العتمة، ثم أقبل علينا فقال: هكذا كنا نصنع مع رسول الله عليه السلام".
قوله: "استصرخ" على بناء المجهول، وقد فسرناه.
قوله: "إذا جدّ بنا السير" من جدّ يَجِدُّ ويَجُدّ بالضم والكسر، وجدّ به الشيء وأجد، والمعنى: إذا أسرع بنا السير، يقال: جدّ في السير إذا اهتم به وأسرع.
والمفهوم من الحديثين: أنه صلى المغرب في آخر وقتها، وصلى العشاء في أول وقتها، فيكون الجمع بينهما فعلًا لا وقتًا.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فكل هؤلاء يروي عن نافع أن نزول ابن عمر كان قبل أن يغيب الشفق، فقد ذكرنا احتمال قول أيوب عن نافع:"حتى إذا غاب الشفق" أنه يحتمل قرب غيبوبة الشفق، فأولى الأشياء بنا أن نحمل هذه الروايات كلها على الاتفاق لا على التضاد، فنجعل ما روي عن ابن عمر أن نزوله للمغرب كان بعد ما غاب الشفق، على قرب غيبوبة الشفق إذْ كان قد روي عنه أن نزوله ذلك كان قبل غيبوبة الشفق، ولو تضاد ذلك لكان حديث ابن جابر أولاهما؛ لأن حديث أيوب إنما فيه أنّ رسول الله عليه السلام كان يجمع بين الصلاتين، ثم ذكر فعل ابن عمر كيف كان، وفي حديث ابن جابر صفة جمع رسول الله عليه السلام كيف كان؛ فهو أولى.
ش: أشار بهؤلاء إلى أسامة بن زيد وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر والعطاف بن خالد؛ فإنهم كلهم رووا عن نافع: أن نزول ابن عمر كان قبل أن يغيب الشفق، وأما أيوب السختياني فإنه روى عنه:"فسار حتى غاب الشفق" وقد قال فيما مضى آنفًا: إنه يحتمل أن يكون معناه: فسار حتى قرب غيبوبة الشفق، فبهذا التأويل يندفع التضاد بين الروايات، وهذا أولى؛ لأن حمل الروايات كلها على الاتفاق خير من أن تبقى على التضاد.
فإن قيل: قد روى عن نافع مثل ما روى أيوب عنه: عبيد الله بن عمر العمري وحماد بن زيد وموسى بن عقبة ويحيى بن سعيد الأنصاري وعمر بن محمد بن زيد؛ فإن هؤلاء حفاظ ثقات ولا يقاربهم أسامة بن زيد وابن جابر والعطاف، ورواية الحفاظ أولى بالصواب، وكذا قال البيهقي في "المعرفة" إن محمد بن فضيل عن أبيه وابن جابر وعطاف بن خالد، رووه عن نافع:"صلى قبل غروب الشفق المغرب، ثم انتظر حتى غاب الشفق فصلى العشاء" وهؤلاء خالفوا الأئمة الحفاظ من أصحاب نافع في هذه الرواية، ولا يمكن الجمع بينهما؛ فتترك روايتهم وتؤخذ رواية الحفاظ.
قلت: إن كان روى هؤلاء الحفاظ عن نافع أنه سار حتى غاب الشفق؛ فقد روى حفاظ آخرون عن نافع وعن ابن عمر نفسه بخلاف هذا فإن الليث بن سعد روى عن نافع: "فسار حتى همَّ الشفق أن يغيب" وقد مضت روايته فيما مضى.
وكذا روى فضيل بن غزوان، عن جرير الضبي، عن نافع:"فسار حتى إذا كاد أن يغيب الشفق".
وروايته عند الدارقطني (1).
وكذا روى إسماعيل بن أبي ذئب: "أنه كان مع ابن عمر، فسار حتى ذهبت فحمة السماء ورأينا بياض الأفق، فنزل يصلي ثلاثًا المغرب، واثنتين العشاء".
فهؤلاء حفاظ أيضًا قد رووا أن نزوله لم يكن بعد غياب الشفق، على أن جماعة أخرى من الثقات قد تابعهم في ذلك، مثل: أسامة بن زيد وعطاف بن خالد وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، على مما ذكرناهم، على أن ابن عمر رضي الله عنهما لم يُرَ جَمَعَ بين الصلاتين قط إلا ليلة استصرخ على زوجته صفية، كذا قال أبو داود، وفي رواية: فعل ذلك مرة أو مرتين، وزعم عبد الحق الإشبيلي أن فيه وهمًا.
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 393 رقم 21).
والصحيح من هذه الروايات رواية النسائي (1): عن محمود بن خالد، حدثني الوليد، ثنا ابن جابر -وهو عبد الرحمن بن يزيد- قال: حدثني نافع، قال: خرجت مع عبد الله، فذكر قوله:"حتى إذا كان في آخر الشفق".
قال: ويقوي هذه الرواية حديث أنس من عند مسلم (2): أن النبي عليه السلام إذا عجل به سفر يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء" انتهى.
قلت: حينئذ تُرجح رواية من روى أن نزوله لم يكن إلا قبل غروب الشفق، فسقط كلام البيهقي:"فتترك روايتهم" فَلِمَ تترك روايتهم مع كونها موافقة للأصول ومؤيدة بصفة جمع النبي عليه السلام؟! والعمل بروايتهم ورواية وغيرهم بالتأويل المذكور أولى من أن تترك رواية بعضهم ويعمل برواية بعضهم.
فإن قيل: تأويل الطحاوي يمشي في رواية من يقول: "فسار حتى نزل بعد غياب الشفق" وكيف يمشي ذلك في رواية من قال: "فسار قريبًا من ربع الليل" وهو رواية يحيى بن سعيد، عن نافع، ورواية موسى بن عقبة عنه:"حتى ذهب هُوِيٌّ من الليل" ورواية عمر بن محمد بن زيد: "فسار حتى إذا كان بعد ما غاب الشفق بساعة نزل" وكذا رواية عبيد الله العمري عن نافع، كل هذه عند البيهقي، وعند ابن خزيمة:"فسرنا حتى كان نصف الليل أو قريبًا من نصفه نزل فصلى".
قلت: وإن لم يمش ذلك التأويل في هذه الروايات؛ فالعمل برواية [ابن](3) جابر أولى؛ لأن فيه صفة جمع رسول الله عليه السلام كيف كان، وفي رواية هؤلاء صفة جمع ابن عمر غير منقول عن النبي عليه السلام فيكون هذا أولى، على أن فيما ذكرتم وهما كما قاله عبد الحق الإشبيلي وأنه نَصَّ على أن الصحيح من الروايات رواية النسائي، وهي
(1)"المجتبى"(1/ 287 رقم 595).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 489 رقم 704).
(3)
ليست في "الأصل، ك". وما أثبتناه هو الصواب.
رواية ابن جابر، وإلى ذلك أشار الطحاوي بقوله:"ولو تضاد ذلك لكان حديث ابن جابر أولى". والله أعلم.
ص: فإن قالوا: فقد روي عن أنس بن مالك ما قد فسر الجمع كيف كان، فذكروا في ذلك ما قد حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني جابر بن إسماعيل، عن عُقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه
…
مثله.
يعني "أن رسول الله عليه السلام كان إذا عجل به السير يومًا جمع بين الظهر والعصر، وإذا أراد السفر ليلة؛ جمع بين المغرب والعشاء، يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق". قالوا: ففي هذا الحديث أنه صلى الظهر والعصر في وقت العصر، وأنَّ جمعه بينهما كان كذلك.
ش: هذا إيراد من أهل المقالة الأولى على أهل المقالة الثانية، بيانه أن يقال: إنكم قلتم: إن صفة الجمع كانت من فعل ابن عمر، وأن صفة جمع النبي عليه السلام كانت بتأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الأخرى في أول وقتها، وأنكم أولتم ما روي:"حين غاب الشفق" بالقرب من غيابه.
فهذا حديث أنس يبطل تأويلكم، ويبين أن جمع النبي عليه السلام بين الظهر والعصر كان في وقت العصر، وأن جمعه بين المغرب والعشاء كان حين يغيب الشفق.
وإسناد حديث أنس صحيح على شرط مسلم، وعُقيل -بضم العين وفتح الألف- ابن خالد بن عَقِيل -بالفتح- الأيلي أبو خالد الأموي.
وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري.
وأخرجه مسلم (1): حدثني أبو الطاهر وعمرو بن سوَّاد، قالا: أنا ابن وهب، قال: حدثني جابر بن إسماعيل، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس، عن
(1)"صحيح مسلم"(1/ 489 رقم 704).
النبي عليه السلام: "إذا عجل عليه السير يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق".
وأخرجه أبو داود (1): ثنا قتيبة وابن موهب -المعنى- قالا: ثنا المفضل، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس؛ أخّر الصلاة إول وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب".
نا (2) سليمان بن داود المهري، نا ابن وهب، أخبرني جابر بن إسماعيل، عن عقيل
…
بهذا الحديث بإسناده، قال:"ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق".
ص: فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأصل: أن هذا الحديث قد يحتمل ما ذكروا، وقد يحتمل أن تكون صفة الجمع من كلام الزهري لا عن أنس فإنه قد كان كثيرًا ما يفعل هذا؛ يصل الحديث بكلامه حتى يتوهم أن ذلك في الحديث، وقد يحتمل أن يكون قوله:"إلى أول وقت العصر". إلى قرب أول وقت العصر، فإن كان معناه يقتضي ما صرفناه إليه مما لا يجب أن يكون في وقت العصر، فلا حجة في هذا الحديث للذي تقول: إنه صلاهما في وقت العصر، وإن كان أصل الحديث على أنه صلاهما في وقت العصر، فكان ذلك هو جمعه بينهما، فإنه قد خالفه في ذلك عبد الله بن عمر فيما رويناه عنه عن النبي عليه السلام.
وخالفته في ذلك عائشة رضي الله عنها كما حدثنا فهد، قال: ثنا الحسن بن بشر، قال: ثنا المعافى بن عمران، عن مغيرة بن زياد الموصلي، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان النبي عليه السلام في السفر يؤخر الظهر ويقدم العصر، ويؤخر المغرب ويقدم العشاء".
(1)"سنن أبي داود"(2/ 7 رقم 1218).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 7 رقم 219).
ش: هذا جواب عن الإيراد المذكور، تقريره: أن حديث أنس يحتمل ثلاث وجوه:
الأول: أنه يحتمل المعنى الذي ذكره الخصم؛ لأن باب الاحتمال مفتوح.
الثاني: يحتمل أن تكون صفة الجمع التي ذكرت فيه من كلام محمد بن مسلم الزهري وليس من كلام أنس؛ فإن من عادة الزهري أنه كثيرًا ما كان يصل الحديث بكلامه حتى يتوهم المتوهم أنه من الحديث، والحال أنه من كلام نفسه.
الثالث: أنه يحتمل أن يكون معنى قوله: "إلى أول وقت العصر". إلى قرب أول وقت العصر؛ لأن مثل هذا كثير في الكلام شائع ذائع كما قد ذكرناه.
ثم إنا إذا سلمنا أنه من كلام أنس وليس هو من كلام الزهري؛ يبقى معنا الاحتمالان المذكوران، فإن كان المعنى في نفس الأمر على الاحتمال الذي ذكرناه، وهو أن يكون المراد منه قرب أول وقت العصر فلم يبق حينئذ حجة للخصم، ولا اعتراض به على غيره، وإن كان المعنى في نفس الأمر على ما ذكره الخصم، وهو أن يكون عليه السلام صلاها في وقت العصر، وأن هذا هو جمعه عليه السلام فيعارضه حينئذ حديث عبد الله بن عمر الذي رواه الطحاوي فيما مضى، عن فهد، عن الحماني، عن ابن المبارك، عن أسامة بن زيد، عن نافع
…
فذكر الحديث، وفيه:"حتى إذا كان عند غيبوبة الشفق نزل فجمع بينهما، وقال: رأيت النبي عليه السلام يصنع هكذا". فإنه يدل على أنه عليه السلام أخّر المغرب إلى آخر وقته، وقدم العشاء في أول وقتها.
وكذلك يعارضه حديث عائشة، فإنه أيضًا يدل على أنه عليه السلام أخّر الظهر إلى آخر وقته، وقدم العصر في أول وقته، وأخّر المغرب إلى آخر وقته، وقدم العشاء في أول وقته، فإذا تعارض الخبران فالمصير إلى خبر ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أولى؛ لموافقة الأصول، ولاحتمال حديث أنس ما ذكرنا من الوجهين.
وإسناد حديث عائشة حسن جيد، والحسن بن بشر البجلي الكوفي أحد مشايخ البخاري، والمعافى بن عمران الأزدي الفهمي أبو مسعود الموصلي، روى له البخاري وأبو داود والنسائي.
والمغيرة بن زياد أبو هشام البجلي الموصلي، قال وكيع: كان ثقة. وعن أحمد: مضطرب الحديث. وعن ابن معين: ليس به بأس، وعنه: ثقة. وروى له الأربعة.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا مغيرة بن زياد، عن عطاء، عن عائشة:"أن النبي عليه السلام كان يؤخر الظهر ويعجل العصر، ويؤخر المغرب ويعجّل العشاء". وأخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده"(2): أنا وكيع، أنا المغيرة بن زياد
…
إلى آخره نحوه، وفي آخره:"في السفر".
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: ثم هذا عبد الله بن مسعود أيضًا قد روينا عنه، عن رسول الله عليه السلام أنه كان يجمع بين الصلاتين في السفر، ثم قد روي عنه عن النبي عليه السلام ما قد حدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا قييصة بن عقبة والفريابي، قالا: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله قال:"ما رأيت رسول الله عليه السلام صلى صلاة قط في غير وقتها إلاأنه جمع بين الصلاتين بِجَمْعٍ، وصلى الفجر يومئذ لغير ميقاتها".
فثبت بما ذكرنا أن ما عاين من جمع رسول الله عليه السلام بين الصلاتين هو بخلاف ما تأوله المخالف لنا؛ فهذا حكم هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار المروية في جمع رسول الله عليه السلام.
ش: أشار بهذا الكلام إلى تأكيد ما قال أهل المقالة الثانية من أن المراد من الجمع بين الصلاتين: أن يؤخر الأولى إلى آخر وقتها، ويقدم الثانية في أول وقتها، ويجمع بينهما فعلًا لا وقتًا، ألا ترى أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قد روى عن النبي عليه السلام أنه كان يجمع بين الصلاتين، ثم روى أنه ما رأى أنه عليه السلام قط صلى صلاة في غير وقتها، إلا في موضعين؛ فعلم من ذلك أن معنى قوله: إنه كان يجمع بين الصلاتين؛ مثل ما قال أهل المقالة الثانية، وهو أنه كان يؤخر الأولى إلى آخر وقتها ويقدم الثانية في أول
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 210 رقم 8238).
(2)
"مسند إسحاق بن راهويه"(1 - 3)(3/ 632 رقم 1213).
وقتها إذ لو كان معنى كلامه مثل ما قال أهل المقالة الأولى لكان كلامه متناقضًا؛ لأن بين قوله: كان يجمع بين الصلاتين، وبين قوله: ما رأيت رسول الله عليه السلام صلى صلاة قط في غير وقتها؛ منافاة ظاهرة وهنا حوار آخر ذكرناه في أول الباب عند الحديث المذكور.
وإسناد حديث ابن مسعود هذا صحيح على شرط البخاري ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا الحسن بن نصر، والفريابي هو محمد بن يوسف شيخ البخاري ونسبته إلى فارياب بليدة بنواحي بلخ ينسب إليها الفريابي والفاريابي، والفيريابي بزيادة الياء.
وسفيان هو الثوري، والأعمش هو سليمان.
وأخرجه مسلم والبخاري وأبو داود والنسائي.
فلفظ البخاري (1)، "ما رأيت رسول الله عليه السلام صلى صلاة إلا لميقاتها إلا صلاتين، صلاة المغرب والعشاء بجَمْع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها".
ولفظ مسلم (2) نحوه.
ولفظ أبي داود (3): "ما رأيت رسول الله عليه السلام صلى صلاة إلا لميقاتها إلا بجَمْع، فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجَمْع، وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها".
ولفظ النسائي (4): "كان رسول الله عليه السلام يصلي الصلاة لوقتها إلا بجَمْع وعرفات".
قوله: "بجَمْع" بفتح الجيم وسكون الميم، علم للمزدلفة، سميت به؛ لأن آدم وحواء عليهما السلام لما أُهبطا من الجنة اجتمعا بها.
(1)"صحيح البخاري"(2/ 604 رقم 1598). ولفظه: "بغير ميقياتها إلا صلاتين جمع بين".
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 938 رقم 1289).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 193 رقم 1934).
(4)
"المجتبى"(5/ 254 رقم 3010). وأخرجه أيضًا بلفظ مسلم (5/ 262 - رقم 3038).
قوله: "لغير ميقاتها" أي في غير وقتها، وأراد أنه صلى الفجر بغلس، أول طلوع الفجر؛ لأجل الوقوف بمزدلفة.
والدليل عليه ما رواه مسلم (1): من حديث جابر رضي الله عنه: "أنه عليه السلام أتى المزدلفة فصل بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يصل بينهما شيئًا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فرقى عليه، فحمد الله وكبره وهلله، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا، ثم وقع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل".
ص: وقد ذكر فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في الحضر في غير خوف كما جمع بينهما في السفر أفيجوز لأحد في الحضر لا في حال خوف ولا علّة أن يؤخر الظهر إلى قرب تغير الشمس ثم يصلي؟ وقد قال رسول الله عليه السلام في التفريط في الصلاة ما قد حدثنا أبو بكرة قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة، بأن يؤخر الصلاة إلى وقت أخرى".
قال أبو جعفر: فأخبر صلى الله عليه وسلم أن تأخير الصلاة إلى وقت التي بعدها تفريط، وقد كان قوله ذلك وهو مسافر، فدل ذلك أنه أراد به المسافر والمقيم، فلما كان مُؤَخِّر الصلاة إلى وقت التي بعدها مفرطًا؛ استحال أن يكون النبي عليه السلام جمع بين الصلاتين بما كان به مفرطًا، ولكنه جمع بينهما بخلاف ذلك، فصلى كل واحدة منهما في وقتها.
ش: هذا أيضًا إشارة إلى تأييد صحّة تأويل أهل المقالة الثانية في صورة الجمع، أي قد ذكر في الآثار المذكورة أنه عليه السلام جمع بين الصلاتين في الحضر وليس في خوف ولا علة، كما مرّ في حديث جابر رضي الله عنه، ثم إنه هل يجوز لأحد في الحضر وليس في خوف ولا علة أن يؤخر الظهر إلى آخر وقت العصر ثم يجمع بينهما عند تغير الشمس؟ فهذا لم يقل به الخصم أيضًا، فدل ذلك على أن المراد
(1) تقدم.
من جمع رسول الله عليه السلام بين الصلاتين هو الذي ذكره أهل المقالة الثانية، وكيف وقد أطلق صلى الله عليه وسلم على من يؤخر صلاة إلى وقت صلاة أخرى مفرّطًا ومقصرًا وإذا كان هذا مفرطًا فمن المحال أن يكون النبي عليه السلام جمع بين الصلاتين بصورة يكون فيها مفرطًا، لزم من ذلك أنه عليه السلام جمع بينهما بصورة ليس فيها تفريط، وهي الصورة التي ذكرها أهل المقالة الثانية، وهي أن يكون قد صلى كل واحدة منهما في وقتها، غير أنه أخّر الأولى إلى آخر وقتها، وقدّم الثانية في أول وقتها، فيكون جامعًا بين الصلاتين فعلًا لا وقتًا، من غير تفريط ولا تقصير.
قوله: "أفيجوز لأحد" الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإنكار.
قوله: "وقد قال" جملة وقعت حالًا.
وإسناد حديث أبي قتادة صحيح على شرط مسلم، وأبو بكرة: بكار القاضي، وأبو داود: سليمان بن داود الطيالسي، وثابت: هو البناني أبو محمد البصري، وأبو قتادة: الأنصاري، اسمه الحارث بن ربعي.
وأخرجه مسلم (1) مطولًا: ثنا شيبان بن فروخ، حدثنا سليمان -يعني ابن المغيرة- قال: نا ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة قال: "خطبنا رسول الله عليه السلام فقال: إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم وتأتون الماء إن شاء الله غدًا، فانطلق الناس لا يلوي أحدٌ على أحدٍ، قال أبو قتادة: فبينما رسول الله عليه السلام يسير حتى إبهار الليل وأنا إلى جانبه، قال: فنعس رسول الله عليه السلام، فمال عن راحلته، فأتيته فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته، قال: ثم سار حتى تهور الليل مال عن راحلته، فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته، قال: ثم سار حتى إذا كان في آخر الليل مال ميلة هي أشد من الميلتين الأولتين حتى كاد ينجفل، فأتيته فدعمته، فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة، قال: متى كان هذا مسيرك مني؟ قال: قلت: مازال هذا مسيري منذ الليلة، قال: حفظك الله بما حفظت به
(1)"صحيح مسلم"(1/ 472 رقم 681).
نبيه، ثم قال: هل ترانا نخفي عن الناس؟ ثم قال: هل ترى من أحدٍ؟ قلت: هذا ركب، ثم قلت: هذا ركب آخر، حتى اجتمعنا فكنا سبعة ركب، قال: فمال رسول الله عليه السلام عن الطريق، فوضع رأسه ثم قال: احفظوا علينا صلاتنا، فكان أول من استيقظ رسول الله عليه السلام والشمس في ظهره، قال: فقمنا فزعين، ثم قال: اركبوا، فركبنا فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس نزل، ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء، قال: فتتوضأ ووضوء دون وضوء قال: وبقي فيها شيء من ماء، ثم قال لأبي قتادة: احفظ علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ، ثم أذن بلال بالصلاة، وصلى رسول الله عليه السلام ركعتين، ثم صلى الغداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم، وركب رسول الله عليه السلام وركبنا معه، قال: فجعل بعضنا يهمس إلى بعض: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ ثم قال: أما لكم فيّ أسوةٌ؟ ثم قال: ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصليها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها، ثم قال: ما ترون الناس صنعوا؟ قال: ثم قال: أصبح الناس فقدوا نبيهم، فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدكم لم يكن ليخَلِّفكم، وقال الناس: إن رسول الله عليه السلام بين أيديكم، فإن تطيعوا أبا بكر وعمر ترشدوا، قال: فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمي كل شيء، وهم يقولون: يا رسول الله، هلكنا عطشًا، فقال: لا هلك عليكم، ثم قال: اطلقوا لي غمري، قال: ودعا بالميضأة، فجعل رسول الله عليه السلام يصب وأبو قتادة يسقيهم، فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة تكابوا عليها، فقال رسول الله عليه السلام: أحسنوا الملأ، كلكم سيروى. قال: ففعلوا، فجعل رسول الله عليه السلام يصب وأبو قتادة يسقيهم، حتى ما بقى غيري وغير رسول الله عليه السلام، قال: ثم صَبّ رسول الله عليه السلام، فقال لي: اشرب، قلت: لا أشرب حتى! تشرب أنت يا رسول الله. قال: إن ساقي القوم آخرهم شربًا، قال: فشربت وشرب رسول الله عليه السلام. قال: فأتى الناس الماء جامين رواء، قال: فقال عبد الله ابن أبي رباح: إني لأحدث هذا الحديث في مسجد الجامع؛ إذ قال عمران بن
حصين رضي الله عنه: انظر أيها الفتى كيف تحدث، فإني أحد الركب تلك الليلة، قال: فقلت: فأنت أعلم بالحديث. فقال: ممن أنت؟ قلت: من الأنصار، قال: حدث [فأنتم](1) أعلم بحديثكم. قال: فحدثت القوم، فقال عمران: لقد شهدت تلك الليلة وما شعرت أن أحدًا حفظه كما حفظته".
وأخرجه أبو داود (2): نا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، عن ثابت البناني، عن عبد الله بن أبي رباح الأنصاري، قال: نا أبو قتادة: "أن النبي عليه السلام كان في سفر له، فمال رسول الله عليه السلام فملت معه، فقال: انظر، قلت: هذا راكب، هذان راكبان، هؤلاء ثلاثة، حتى صرنا سبعة، فقال: احفظوا علينا صلاتنا -يعني صلاة الفجر- فضرب على آذانهم فما أيقظهم إلا حَرُّ الشمس، فقاموا فساروا هنية، ثم نزلوا فتوضئوا، وأذن بلال، فصلوا ركعتي الفجر، ثم صلوا الفجر، وركبوا، [فقال] (3) بعضهم لبعض: قد فرطنا في صلاتنا فقال: رسول الله عليه السلام: إنه لا تفريط في النوم، إنما التفريط في اليقظة، فإذا سها أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها، ومن الغد للوقت".
وأخرجه النسائي (4): أنا سويد بن نصر، قال: أنا عبد الله، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط فيمن لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى حين ينتبه لها".
وأخرجه ابن ماجه (5): ثنا أحمد بن عبدة، أنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة قال: "ذكروا تفريطهم في النوم، فقال: ناموا حتى
(1) في "الأصل، ك": فأنت، والمثبت من "صحيح مسلم".
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 119 رقم 437).
(3)
في "الأصل، ك": قال. والمثبت من "سنن أبي داود".
(4)
"المجتبى"(1/ 294 رقم 616).
(5)
ابن ماجه (1/ 228 رقم 698).
طلعت الشمس، فقال رسول الله عليه السلام: ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسى أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، ولوقتها من الغد، قال عبد الله بن رباح: فسمعني عمران بن الحصين وأنا أُحّدث بالحديث، فقال: يا فتى انظر كيف تحدث، فإني شاهد هذا الحديث مع رسول الله عليه السلام، قال: فما أنكر من حديثه شيئًا".
قوله: "ليس في النوم تفريط" أي تقصير؛ لأن النوم سبب من أسباب العجز، ورُفِعَ القلم عن النائم حتى يستيقظ.
فإن قيل: إذا أتلف النائم برجله أو بيده أو غير ذلك من أعضائه شيئًا يجب ضمانه، فكيف لا يكون مكلفًا؟
قلت: غرامة المتلفات لا يشترط لها التكليف بالإجماع حتى لو أتلف الصبي أو المجنون شيئًا يجب ضمانه في حالهما.
قوله: "إنما التفريط في اليقظة" لوجود التقصير من غير عذر، ثم لنشرح مشكلات ما في رواية مسلم لكثير الفائدة:
فقوله: "لا يلوي أحد على أحد" أي لا يعطف عليه ولا بقطرة.
قوله: "حتى ابهار الليل" أي انتصف، وبهرة كل شيء وسطه، وقيل: ابهار الليل إذا طلعت نجومه واستنارات، والأول أكثر.
قوله: "فدعمته" أي أقمت ميله من النوم بأن صرت تحته كالدعامة لما فوقها، حتى اعتدل.
قوله: "حتى تهور الليل" يعني ذهب أكثره، قاله الهروي، يقال: تهور الليل وتَوَهَّر إذا ذهب أكثره، كما يتهور البناء.
قوله: "حتى كاد ينجفل" أي ينقلب عن دابته ويسقط، يقال: ضربه فجفله، أي ألقاه على الأرض.
قوله: "بميضأة" بكسر الميم، وهي المطهرة الكبيرة يتوضأ فيها، قال ابن الأثير: هي بالقصر، وكسر الميم، وقد تمد، ووزنها مِفْعلة ومِفْعالة، والميم زائدة.
قوله: "وضوءًا دون وضوء" أراد به: تخفيف الوضوء، وقيل: معناه وضوءًا دون استنجاء.
قوله: "نبأ" أي خبرٌ وشأنٌ.
قوله: "يهمس" من الهمس، وهو الكلام الخفي.
قوله: "فإذا كان الغد فليصلِّها عند وقتها" وفي رواية أبي داود: "فليصلها حين يذكرها، ومن الغد للوقت" قال الخطابي: لا أعلم أحدًا قال بهذه اللفظة وجوبًا أي قوله: "من الغد للوقت"، ويشبه أن يكون الأمر به استحبابًا ليحوز فضيلة الوقت في القضاء.
قوله: "اطلقوا لي غُمَري" قال أبو عبيد: يقال للقعب الصغير: غمر وتَغَمَّرت: أي شربت قليلًا قليلًا، وقال ابن الأثير:"الغمر" بضم الغين المعجمة، وفتح الميم: القدح الصغير "ومعنى" أطلقوا لي غمري": ائتوني به.
قوله: "تكابُّوا" أي ازدحموا عليها، وهي تفاعلوا من الكُبَّة بالضم، وهي الجماعة من الناس وغيرهم.
قوله: "أحسنوا الملأ" بفتح الميم واللام والهمزة، أي: أحسنوا الخلق، وقال ابن الأثير: وأكثر قراء الحديث يقرءونها: أحسنوا المِلْء: بكسر الميم وسكون اللام، من مَلْءِ الإناء، وليس بشيء.
قوله: "جامين" بالجيم، نصب على الحال من الناس، ومعناه مجتمعين، وأصله من الجموم والجمة، هو الاجتماع والكثرة.
قوله: "رواء" نصب على الحال أيضًا، ومعناه: ضد العطش، وهو جمع ريان، كما أن العطاش جمع عطشان.
قوله: "فَضُرب على آذانهم" كلمة فصيحة من كلام العرب، معناه أنه حجب الصوت والحسّ عن أن يلجأ آذانهم فينتبهوا، ومن هذا قوله تعالى:{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} (1). فكأنها قد ضرب عليها حجاب.
قوله: "هُنَيَّة" أي قليلًا من الزمان، وهي تصغير هنة.
قوله: "فرطنا" أي قصرنا.
ص: وهذا ابن عباس رضي الله عنهما مقد روي عنه، عن رسول الله عليه السلام أنه جمع بين الصلاتين، ثم قال ما حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو داود، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال:"لا تفوت صلاة حتى يجيء وقت الأخرى".
فأخبر ابن عباس أن مجيء وقت الصلاة بعد الصلاة التي قبلها فوتٌ لها، فثبت بذلك أن ما علمه من جمع النبي عليه السلام بين الصلاتين كان بخلاف صلاته إحداهما في وقت الأخرى.
ش: هذا أيضًا إشارة إلى تأييد صحة تأويل أهل المقالة الثانية من صورة جمع المسافر بين الصلاتين، بيانه: أن عبد الله بن عباس روى عن النبي عليه السلام أنه جمع بين الصلاتين -كما مرَّ في أول الباب- ثم قال هو: "لا تفوت صلاة حتى يجيء وقت الأخرى". فأخبر أن مجيء وقت الصلاة بعد الصلاة التي قبلها فوت للصلاة الأولى، فدل ذلك أن ما علمه من جمع النبي عليه السلام بين الصلاتين كان بخلاف صلاته إحداهما في وقت الأخرى، إذْ لو لم يكن كذلك لكان بين روايته عنه عليه السلام وبين قوله تضادًّا، فعلمنا أن معنى جمعه عليه السلام بين الصلاتين هو: أن يؤخر الأولى إلى آخر وقتها، ويقدم الثانية في أول وقتها، فيكون جمعه بين الصلاتين فعلًا لا وقتًا.
وإسناد أثر ابن عباس صحيح، ورجاله أئمة كبار ثقات، وأبو بكرة بكار القاضي، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وليث هو ابن أبي سليم.
(1) سورة الكهف، آية:[11].
قوله: "لا تفوت صلاة حتى يجيء وقت الأخرى" قيل: معناه أن بين الصلاتين وقتًا، فإذا لم يخرج ذلك الوقت لا يجيء وقت الصلاة الأخرى، ولا يخرج وقت الصلاة الأولى إلا بخروج ذلك اوقت.
وقد صُرِّح بذلك في رواية أخرجها ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن حفص، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال:"بين كل صلاتن وقت".
ص: وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه مثل ذلك، كما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا قيس وشريك، أنهما سمعا عثمان بن عبد الله بن موهب قال:"سئل أبو هريرة ما التفريط في الصلاة؟ فقال: أن تؤخر حتى يجيء وقت الأخرى".
ش: أي: مثل ما قال ابن عباس، وقال أيضًا: إن تأخير الصلاة إلى وصول وقت الأخرى تفريط. وهو أيضًا قد روى عن النبي عليه السلام أنه كان يجمع بين الظهر والعصر في سفره إلى تبوك.
أخرجه في "الموطإ"(2) فدل ذلك أنه قد علم من النبي عليه السلام أن جمعه كان على الصفة التي ذكرها أهل المقالة الثانية، إذ لو لم يكن كذلك لكان بين روايته عنه عليه السلام وبين قوله هذا تضادًا، فعلم أن جمعه عليه السلام بين الصلاتين هو أن يؤخر الأولى إلى آخر وقتها، ويقدم الثانية في أول وقتها، فيكون جمعًا بينهما فعلًا لا وقتًا، كما بيناه.
وإسناد أثر أبي هريرة صحيح.
وقيس بن الربيع الأسدي وإن كان يحيى قد ضعفه، والجوزجاني أسقطه والنسائي تركه؛ ولكنه ذُكِرَ متابعة لشريك بن عبد الله النخعي، على أن ابن عدي قال: قيس بن الربيع لا بأس به. وقال عفان: ثقة. واحتج به أبو داود والترمذي وابن ماجه.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 294 رقم 3366).
(2)
"الموطأ"(1/ 143 رقم 327).
وأخرجه ابن أبي شيية في "مصنفه"(1): عن وكيع، عن سفيان، عن عثمان بن موهب قال:"سمعت أبا هريرة يُسأل عن التفريط في الصلاة، قال: "أن تأخرها حتى يدخل وقت التي بعدها".
وأخرجه عبد الرزاق أيضًا في "مصنفه"(2): عن الثوري، عن عثمان بن موهب قال:"سمعت أبا هريرة رضي الله عنه وسأله رجل عن التفريط في الصلاة، فقال: أن تؤخرها إلى وقت التي بعدها، فمن فعل ذلك فقد فرّط".
ص: قالوا: وقد دل على ذلك أيضًا ما قد روي عن النبي عليه السلام لما سُئل عن مواقيت الصلاة، فصلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى الظهر في اليوم الثاني في ذلك الوقت بعينه، فدل ذلك على أنه وقت لهما جميعًا.
قال أبو جعفر: فيقال لهم: ما في هذا حجة توجب ما ذكرتم؛ لأن هذا قد يحتمل أن يكون أريد به أنه عليه السلام صلى الظهر في اليوم الثاني في قرب الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول، وقد ذكرنا ذلك والحجة فيه في باب مواقيت الصلاة، والدليل على ذلك: قوله عليه السلام: "الوقت فيما بين هذين الوقتين".
فلو كان كما قاله المخالف لنا إذن لما كان بينهما وقت، أو كان ما قبلهما وما بعدهما وقت كله، ولكن ذلك دليل على أن كل صلاة من تلك الصلوات منفردة بوقت غير وقت غيرها من سائر الصلوات.
ش: أي قال أهل المقالة الأولى، وهم الشافعي ومالك وأحمد ومن قال بقولهم: قد دل على ما قلنا من أن وقتي الظهر والعصر واحد ما قد روي عن النبي عليه السلام
…
إلى آخره، وهو ظاهر.
قوله: "فيقال لهم" أي: أهل المقالة الأولى "ما في ما ذكرتم حجة" وبرهان، "توجب" أي تقتضي "ما ذكرتم
…
" إلى آخره، وهو أيضًا ظاهر، وقد مرَّ تحقيقه في باب مواقيت الصلاة.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 294 رقم 3370).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 582 رقم 2216).
قوله: "الحجة فيه" بالنصب إما بفعل محذوف أي وذكرنا أيضًا الحجة فيه، وإما على أنه مفعول لقوله:"وقد ذكرنا ذلك" أي وقد ذكر ذلك مع الحجة فيه.
قوله: "والدليل على ذلك" أي على ما ذهبنا إليه من أنه عليه السلام قد صلى الصلاتين فيما بين هذين الوقتين، بيانه: أن قوله عليه السلام: "الوقت فيما بين هذين الوقتين" يقتضي أن يكون ما بين الوقتين اللذين صلى فيهما عليه السلام في اليومين المتوالين وقتًا معلومًا متميزًا إذ لو كان كما قال هؤلاء؛ لما كان بين هذين الوقتين وقت، بل وذلك دليل على أن كل صلاة من الصلوات منفردة بوقت، مخصوصة به، لا تشارك غيرها من الصلوات، ويؤيد ذلك أيضًا حديث أبي هريرة:"إن للصلاة أولًا وآخرًا" أراد أن الصلاة محدودة بوقت معين، وأن كل واحدة من الصلوات الخمس تمتاز عن غيرها بوقتها الخاص لها، ولا تشارك صلاة أخرى في وقتها، وحديث ابن عباس أيضًا:"لا تفوت صلاة حتى يجيء وقت الأخرى".
ص: وحجة أخرى: أن عبد الله بن عباس وأبا هريرة قد رويا ذلك عن النبي عليه السلام في مواقيت الصلاة، ثم قالا هما في التفريط في الصلاة: إنه تركها حتى يدخل وقت التي بعدها.
فثبت بذلك أن وقت كل صلاة من الصلوات خلاف وقت الصلاة التي بعدها، فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار.
وأما وجه ذلك من طريق النظر فإنَّا قد رأيناهم أجمعوا أن صلاة الصبح لا ينبغي أن تقدم على وقتها ولا تؤخر عنه، وأن وقتها وقت لها خاصة دون غيرها من الصلوات، والنظر على ذلك أن يكون كذلك سائر الصلوات، كل واحدة منهن منفردة بوقتها دون غيرها؛ فلا ينبغي أن تؤخر عن وقتها، ولا تقدم قبله.
ش: أي جواب آخر عما احتجوا به آنفًا: "أن ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهم قد رويا ذلك" أي ما ذكر أنه عليه السلام صلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول، "ثم قالا هما" ابن عباس وأبو هريرة "في التفريط في الصلاة"
حين سُئلا عنه: "إنه تركها" أي أن التفريط: "ترك الصلاة حتى يدخل وقت الصلاة التي بعدها"، فدل ذلك أن المراد: أنه عليه السلام صلى الظهر في اليوم الثاني في قرب الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول، وثبت بذلك أيضًا أن وقت كل صلاة من الصلوات خلاف وقت الصلاة التي بعدها، وأن كل واحدة منهما متميزة عن غيرها بوقت محدود ومعين، وباقي كلامه غني عن الشرح.
ص: فإن اعتل معتل بالصلاة بعرفة وبِجَمْع؛ قيل له: قد رأيناهم قد أجمعوا أن الإمام بعرفة لو صلى الظهر في وقتها كما في سائر الأيام وصلى العصر في وقتها كما في سائر الأيام، وفعل مثل ذلك في المغرب والعشاء بمزدلفة، فصلى كل واحدة منهما في وقتها كما يصلي في سائر الأيام كان مسيئًا، ولو فعل ذلك وهو مقيم، أو فعله وهو مسافر في غير عرفة وجمع؛ لم يكن مسيئًا، فثبت بذلك أن عرفة وجَمْع مخصوصتان بهذا الحكم، وأن حكم ما سواهما في ذلك بخلاف حكمهما فيه، فثبت بما ذكرناه أن ما روينا عن رسول الله عليه السلام من الجمع بين الصلاتين أنه تأخير الأولى وتعجيل الآخرة.
ش: هذا اعتراض يَرِدُ على وجه النظر تقريره: أنكم قلتم: إن صلاة الصبح بالإجماع لا تتقدم على وقتها ولا تتأخر، وأن وقتها وقت مخصوص محدود الطرفين لا يشاركها غيرها فيه، والقياس عليها أن تكون سائر الصلوات كذلك، وأن تكون كل صلاة مخصوصة بوقت معين لا تشارك غيرها فيه؟ فما قولكم في الصلاة بعرفات، فإنه يجمع فيها بين الظهر والعصر وأنهما كان في وقت واحد، وكذلك الصلاة بجمع وهو المزدلفة فإنه يجمع فيها؟
وتقرير الجواب: أن الجمع بين الظهرين في عرفات والعشائين في مزدلفة ليس بناء على أن وقت الظهرين وقت واحد، ووقت العشائين وقت واحد، بحيث تشارك الأخرى في ذلك الوقت، وإنما هو مبني على أنه مأمور بالجمع بين الصلاتين في الموضعين المذكورين، وإنما يفعل ذلك امتثالًا للأمر ولأجل الوقوف بعرفة، ولأجل الاشتغال بالإفاضة منها إلى المزدلفة، والدليل على ذلك أن الإِمام بعرفة لو صلى كل واحدة من الظهر والعصر في وقتها المعهود كان جائزًا، ولكنه
مسيئًا لتركه السنة، وكذلك لو صلى كل واحدة من المغرب والعشاء بمزدلفة في وقتها كان جائزًا مع الإساءة. ولو كان الجمع بينهما للمعنى الذي ذكرته لما جازت صلاته، وكذا لو فعل ذلك المُتِمُّ أو المسافر في غير هذين الموضعن لم يكن مسيئًا، فثبت بذلك أن عرفة وجمع مخصوصتان بهذا الحكم، وأن حكم ما سواهما في هذا بخلاف حكمهما فيه.
قوله: "فثبت بما ذكرناه
…
" إلى آخره نتيجة كلامه الذي ذكره من تصحيح معاني الآثار، والذي ذكره من وجه النظر، أي ثبت بجميع ما ذكرنا في هذا الباب: أن معنى ما روينا عن النبي عليه السلام من الجمع بين الصلاتين: أنه أخر الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وقدم الثانية في أول وقتها، ثم اعلم أن النُّسَخ ها هنا مختلفة من قوله: "قيل له" إلى قوله: "فثبت بما ذكرناه"، وأحسنها وأصوبها ما أثبته وترجمته بالحمرة.
قوله: "فإن اعتل معتل" المعتل ها هنا اسم فاعل، ولكنه يشترك في مثل هذه الصيغة اسم الفاعل واسم المفعول، ويحصل الفرق بالقرينة، مثل العلة ونحوها يقال هذا معتل للفاعل، ومعتل فيه للمفعول، وإنما لم يظهر الفرق بين الفاعل والمفعول في مثل هذا لأجل الإدغام، والفرق فيه تقديري؛ لأن ما قبل آخره مكسور في الفاعل، ومفتوح في المفعول، تقول: مُعْتَلِلٌ ومُعْتَلَلٌ عند فك الإدغام وإذا أدغمت إحدى اللامين في الأخرى يزول الفرق الصوري ويبقى التقديري، فافهم.
قوله: "إن عرفة وجمع" كلاهما لا ينصرفان؛ للعلمية والتأنيث، أما عرفة فإنه علم للبقعة المشهورة وفيها تأنيث لفظًا ومعنًا.
وأما "جمع" فإنه علم للمزدلفة، وفيها تأنيث معنوي؛ لأنه علم للبقعة فلا ينصرفان، فلا يدخلهما الجرّ والتنوين.
فإن قيل: قد دخل الجر في قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} (1) فما وجهه؟
(1) سورة البقرة، آية:[198].
قلت: لأن التأنيث فيها إما أن يكون بالتاء التي في لفظها، وإما بتاء مقدرة، كما في ساعات، فالتي في لفظها ليست للتأنيث وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث، ولا يصح تقدير التاء فيها؛ لأن اختصاص هذه التاء بالجمع المؤنث مانعة من تقديرها، فحينئذ لم يبق فيها إلا العلمية فلم يمنع من دخول التنوين حينئذ، فافهم.
ص: وكذلك كان أصحاب النبي عليه السلام من بعده يجمعون بينهما.
حدثنا محمد بن النعمان السقطي، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا أبو خيثمة، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان قال:"وفدت أنا وسعد بن مالك ونحن نبادر الحج، فكان يجمع بين الظهر والعصر، يقدم من هذه ويؤخر من هذه، ويجمع بين المغرب والعشاء، يقدم من هذه ويؤخر من هذه، حتى قدِمنا مكة شرفها الله تعالى".
حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا عبد الله بن محمد النفيلي، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو إسحاق، قال سمعت عبد الرحمن بن يزيد، قال:"صحبت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في حجة، فكان يؤخر الظهر ويعجل العصر، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء، ويسفر بصلاة الغداة".
وجميع ما ذهبنا إليه في هذا الباب، وكيفية الجمع بين الصلاتين؛ قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله.
ش: أي كما ذكرنا من أن صورة الجمع بين الصلاتين: هي تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية في أول وقتها، كان أصحاب النبي عليه السلام من بعده يجمعون كذلك.
وقد أخرج عن اثنين من الصحابة:
أحدهما: سعد بن مالك، وهو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة.
أخرج عنه بإسناد صحيح، عن محمد بن النعمان السقطي، منسوب إلى السقط، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ البخاري ومسلم، عن أبي خيثمة زهير بن معاوية الجعفي من أكابر أصحاب أبي حنيفة وممن روى لهم الجماعة، عن عاصم بن سليمان الأحول البصري، عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مَلّ النهدي.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا عبدة، عن عاصم، عن أبي عثمان قال:"خرجت أنا وسعد إلي مكة، فكان يجمع بين الصلاتين، بين الظهر والعصر، يؤخر هذه ويعجل من هذه ويصليهما جميعًا، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء ثم يصليهما جميعًا، حتى قدمنا مكة".
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن معمر، عن عاصم، عن أبي عثمان النهدي، قال: اصطحبت أنا وسعد بن أبي وقاص من الكوفة إلى مكة، وخرجنا موافدين، فجعل سعدٌ يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، يقدم من هذه قليلًا ويؤخر من هذه قليلًا حتى جئنا مكة".
والآخر: عبد الله بن مسعود، أخرج عنه بإسناد صحيح، عن فهد، عن عبد الله ابن محمد بن علي بن نفيل النفيلي الحراني أحد مشايخ البخاري وأبي داود، عن زهير ابن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): عن وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق
…
إلى آخره مقتصرًا على الإسفار بالفجر.
قوله: "وفدت" من وَفِدَ يَفِدُ فهو وافدٌ، وأوفدته فَوَفَد، يقال: وَفِدَ فلان على الأمير، أي وَرَدَ رسولًا، فهو وافد، والجمع وَفْدٌ مثل صَاحب وصحْبٌ، وجمع
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 210 رقم 8234).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(2/ 549 رقم 4406).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 284 رقم 3249).
الوفد: أوفاد ووفود، والاسم الوفادة، ووافدته أنا إلى الأمير أي أرسلته، وإنما أظهر الضمير المرفوع بقوله:"أنا" ليصبح العطف على وفدت، كما عرف في موضعه.
قوله: "ونحن نبادر" من المبادرة وهي المسارعة، والله أعلم بالصواب.