الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: صلاة المسافر
ش: أي هذا باب في بيان صلاة المسافر، وهو على وزن مفاعل ولكنه بمعنى فاعل؛ لأن مسافر بمعنى سفَر وليْس هذا الباب على أصله؛ لعدم المعنى المقتضي لمشاركة اثنين كما هو وضع باب المفاعلة، ولما كان للمكلّف حالتان: حالة الإقامة، وحالة السفر، وبيّن أحكام صلاته في حالة الإقامة، شرع يُبين أحكام صلاته في حالة السفر.
ص: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا الحسن بن بشر، قال: ثنا المُعافى بن عمران، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء بن أبي رياح، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"قصر النبي عليه السلام في السفر وأتمّ".
ش: الحَسنُ بن بشر بن سلم البجلي الكوفي شيخ البخاري، والمُعافى بن عمران الأزدي أبو مسعود الموصلي، قال يحيى والعجلي وأبو حاتم: ثقة. روى له البخاري وأبو داود والنسائي، ومغيرة بن زياد البجلي أبو هشام الموصلي قال وكيع: كان ثقة. وعن أحمد: مضطرب الحديث. وعن يحيى: ثقة. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: شيخ لا يحتج بحديثه. وروى له الأربعة.
وأخرجه الدارقطني في "سننه"(1): نا المحاملي، نا سعيدُ بن محمد بن ثواب، ثنا أبو عاصم، ثنا عمر بن سعيد، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة رضي الله عنها:"أن النبي عليه السلام كان يَقصر في السفر ويُتم، ويفطر ويصوم".
وقال الدارقطني: إسناده صحيح.
وقال البيهقي بعد أن أخرجه في "سننه"(2): وله شاهد من حديث دلهم بن صالح والمغيرة بن زياد وطلحة بن عمرو، وكلهم ضعيف.
(1)"سنن الدارقطني"(2/ 189 رقم 44).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 141 رقم 5206).
ثم أخرج (1) من حديث عبيد الله بن موسى، نا دلهم بن صالح الكندي، عن عطاء، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كنا نصلي مع النبي عليه السلام إذا خرجنا إلى مكة أربعًا حتى نرجع".
ومن حديث الكديمي (2)، عن الخُرَيبي، عن المغيرة بن زياد عن عطاء، عن عائشة:"أن النبي عليه السلام كان يقصر في السفر ويتم" وقال: وكذا رواه وكيع وغيرُه عن المغيرة.
قلت: وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3) بأتمّ منه: ثنا وكيع، قال: ثنا المغيرة بن زياد، عن عطاء، عن عائشة رضي الله عنها:"أن النبي عليه السلام كان يُتم الصلاة في السفر ويقصر ويصوم ويفطر ويؤخر الظهر ويعجل العصر ويؤخر المغرب ويُعجل العشاء".
ص: فذهب قوم إلى أن المسافر بالخيار إن شاء أتم صلاته وإن شاء قصرها واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وبما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار يحدث، عن عبد الله بن باباه، عن يعلى بن مُنيَّة قال:"قلت: لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما قال الله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (4) فقد أمِن الناس. فقال: إني عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت رسول الله عليه السلام، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته".
ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا قلابة عبد الله بن زيد الجرْميَّ وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب والشافعي ومالكًا وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: القصر رخصة والمسافر مخيّر بين الإتمام، واحتجوا في ذلك بحديث عائشة المذكور.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 141 رقم 5207).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 141 رقم 5207).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 206 رقم 8187).
(4)
سورة النساء: آية [101].
وقال ابن قدامة في "المغني": المشهور عن أحمد أن المسافر إن شاء صلى ركعتين وإن شاء أتم.
وروى عنه أنه توقف وقال: أنا أحب العافية من هذه المسألة.
وممن رُوي عنه الإتمام في السفر: عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال الأوزاعي والشافعي، وهو المشهور عن مالك.
وقال حماد بن أبي سليمان: ليس له الإتمام في السفر.
وهو قول الثوري وأبي حنيفة، وأوجب حماد الإعادة على من أتمّ.
قوله: "وبما حدثنا أبو بكرة" أي واحتجوا أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث أبي بكرة بكار الذي رواه عن رَوْح بن عبادة بن العلاء البصري روى له الجماعة، عن عبد الملك بن جريج المكي روى له الجماعة، عن عبد الرحمن، بن عبد الله بن أبي عمار القرشي المكي، وكان يُلقّب بالقس؛ لعبادته، روى له الجماعة سوى البخاري، عن عبد الله بن باباه -ويقال بَابَيْ، ويقال: بابَيْه- المكي روى له الجماعة سوى البخاري، عن يَعْلى بن مُنَيّة وهي أمه، وهو يعلى بن أُميّة بن أبي عبيده أبو صفوان المكي أسلم يوم الفتح وشهد الطائف وحنينًا وتبوك مع رسول الله عليه السلام، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم- قال إسحاق: أنا وقال الآخرون: ثنا- عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، عن ابن أبي عمّار، عن عبد الله بن بابَيْه، عن يعلى بن أُميّة قال: قلت لعمر بن الخطاب
…
إلى آخره نحوه.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 478 رقم 686).
أخرجه الأربعة (1) وابن حبان أيضًا في "صحيحه"(2) ولفظه: "فاقبلوا رخصته".
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} (3) أي إثم وخطيئة، وقال الزمخشري: لما كانوا ألفوا الإتمامَ فكانوا مظنة لأن يخطروا ببالهم أن عليهم نقصانًا في القصر، فنفى الله عنهم الجناح؛ لتطيب أنفسهم بالقَصْر ويطمئنوا إليه وقرئ:"تقصروا" من أقصر، وقرأ الزهري: تقصّروا بالتشديد.
والقصر ثابت بنص الكتاب في حال الخوف خاصةً وهو قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (3) وأما في حال الأمن فبالسنّة، وسيجيء مزيد كلام في هذه الآية الكريمة عن قريب إن شاء الله تعالى.
قوله: "صدقة" قال الجوهري: الصدقة ما تصدق به على الفقراء.
ويستفاد منه أحكام:
احتج به القوم المذكورين أن القصر رخصة وليس بعزيمة.
قلنا: الحديث دليل لنا؛ لأنه أمر بالقبول فلا يبقى له خيار الردّ شرعًا؛ إذ الأمر للوجوب.
فإن قيل: المتصدق عليه يكون مختارًا في قبول الصدقة كما في المتصدق عليه من العباد.
قلنا: معنى قوله: "تصدق الله بها عليكم" حكم عليكم؛ لأن التصدق من الله فيما لا يحتمل التمليك يكون عبارة عن الإسقاط كالعفو من الله.
وفيه: جواز قول الرجل: تصدق الله علينا، واللهم تصدق علينا، وهذه النعمة صدقة الله تعالى، وقد كره ذلك بعض السلف وهو غلط ظاهر.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 3 رقم 1199)، و"جامع الترمذي"(5/ 242 رقم 3034)، و"المجتبى"(3/ 116 رقم 1433)، و "سنن ابن ماجه"(1/ 339 رقم 1065).
(2)
"صحيح ابن حبان"(6/ 449 رقم 2740).
(3)
سورة النساء، آية:[101].
وفيه: جواز القصر في غير الخوف وأن المفضول إذا رأى الفاضل يعمل عملًا يُشْكِل عليه دليله يَسأله عنه، فافهم.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا ينبغي له أن يزيد على اثنتين، وإن زاد تكون نفلًا، فإن أتم الصلاة فإن كان قعد في الثنتين من الظهر والعصر والعشاء قدر التشهد فصلاته تامّة، وإن كان لم يقعد منهما قدر التشهد فصلاته باطلةً.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: حماد بن أبي سليمان وسفيان الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد في رواية ومالكًا في قولٍ؛ فإنهم قالوا: القصر عزيمة وليس برخصة حتلى لو أتمها ولم يقعد على آخر الثانية من ذوات الأربع مقدار التشهد تكون صلاته باطلة.
وقال الجصاص في "أحكامه": فرض المسافر ركعتان إلا صلاة المغرب فإنها ثلاث، فإن صلى المسافر أربعًا ولم يقعد في الاثنتين فسدت صلاته وإن قعد فيها مقدار التشهد تمت صلاته، بمنزلة من صلى الفجر أربعًا بتسليمة، وهو قول الثوري.
وقال حماد بن أبي سليمان: إذا صلى أربعًا أعاد.
وقال الحسن: إذا صلى أربعًا متعمدًا أعاد إذا كان ذلك منه الشيء اليسير، فإذا طال في سفره لم يُعِدْ.
قال: فإذا افتتح الصلاة على أنه يصلي أربعًا استقبل الصلاة حتى يبتدئها بالنية على الركعتين، وإن صلى ركعتين وتشهد ثم قام بَدا له أن يُتم فيصلي أربعًا أعاد، وإن نوى أن يصلي أربعًا بعد ما افتتح الصلاة على ركعتين ثم بدا له فسلم في الركعتين أجزأته
وقال مالك: إذا صلى المسافر أربعًا فإنه يعيد ما دام في الوقت، فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه.
وقال الأوزاعي: يصلي المسافر ركعتين، فإن قام إلى الثالثة وصلاّها فإنه يُلغيها ويسجد سجدتي السهو.
وقال أبو عمر بن عبد البر: ذكر أبو الفرج عن مالك قال: ومن أتم في السفر أعادها مقصورة ما دام في وقتها إلا أن ينوي مقامًا فيعيدها كاملة ما دام في وقتها.
قال: ولو صلى مسافر بمسافرين فسها فقام ليُتمها، فليجلسْ من وراءه حتى يسلموا بسلامه وعليه إعادة الصلاة ما دام في الوقت.
قال القاضي أبو الفرج: أحسب أنه ألزم هذه الإعادة لأنه سبّح به فتمادى في صلاته عامدًا عالمًا بذلك، وأما إن كان ساهيا فلا وجه بالأمر بإعادته؛ لأنه بمنزلة مقيم صلى الظهر خمسا ساهيًا فلم يكن عليه إعادة، وذكر ابن خوازمنداد أن مالكًا قال: إن القصر في السفر مسنون غير واجب وهذا قول الشافعي.
قال أبو عمر: في قول مالك: إن من أتم في السفر لم تلزمه الإعادة إلا في الوقت. دليل على أن القصر عنده ليس بفرض.
وقد حكى أبو الفرج في كتابه عن أبي المصعب، عن مالك قال: القصر في السفر للرجال والنساء سنة.
وقال أبو عمر: وهذا أصح ما في هذه المسألة عن مالك، وذلك أصح الأقاويل فيها من جهة النظر والأثر، وبالله التوفيق. انتهى.
قلت: ذهب أكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار إلى، أن القصر واجب وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس رضي الله عنهم، ورُوي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وقتادة والحسن، وقال الخطابي: والأولى أن يقصر المسافر الصلاة؛ لأنهم أجمعوا على جوازها إذا قصروا، واختلفوا فيها إذا أتم، والإجماع مقدم على الاختلاف.
ص: وكان من الحجة لهم في ذلك على أهل المقالة الأولى فيما احتجوا به عليهم من الحديثين اللذين ذكرناهما في أول هذا الباب: أن ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا أبو عمر الحوضيّ، قال: ثنا مُرجّى بن رجاء، قال: ثنا داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنه قالت:"أولُ ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله عليه السلام إلى المدينة صلى إلى كل صلاةٍ مثلها إلا المغرب فإنها وتر النهار، وصلاة الصبح لطول قراءتها، وكان إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى".
فهذه عائشة رضي الله عنها تخبر أن رسول الله عليه السلام كان يصلي ركعتين ركعتين حتى قدم المدينة فصلى إلى كل صلاة مثلها، وقد كان إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى، فأخبرت أنه كان يصلي في سفره كما كان يصلي قبل أن يؤمر بتمام الصلاة وذلك ركعتان، فذلك خلاف حديث فهدٍ الذي ذكرناه في الفَصْلِ الأول "أن رسول الله عليه السلام أتمّ اصلاة في السفر وقصر".
ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين فيما ذهبوا إليه على أهل المقالة الأولى في الذي احتجوا به على الآخرين من حديث عائشة وحديث يَعْلى بن منيّة: أن إبراهيم بن أبي داود البرلسي قد حدثنا، قال: ثنا أبو عمر حفص بن عمر الحوضيّ شيخ البخاري وأبي داود، ونسبته إلى حوض محلة بالبصرة، عن مُرجَّى بن رجاء اليشكري أبي رجاء البصري، فعن يحيى: ضعيف. وعن أبي زرعة: ثقة. واستشهد له البخاري بحديث واحد في أكل التمر يوم العيد.
عن داود بن أبي هند أبي محمد البصري روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن عامر بن شراحيل الشعبي، عن مسروق بن الأجدع، عن عائشة رضي الله عنها
وأخرجه البيهقي (1): من حديث داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 363 رقم 1579).
قالت: "إن أول ما فرضت الصلاة ركعتين، فلما قدم نبيُّ الله عليه السلام المدينة واطمأنَّ زاد ركعتين غير المغرب؛ لأنها وتر النهار وصلاة الغداة لطول قراءتها، وكان إذا سافر صلى صلاته الأولى".
وقال الذهبي في "مختصر سنن البيهقي": هو من رواية بكار بن عبد الله السَّيريني، وهو واهٍ. انتهى.
قلت: طريق الطحاوي جيّد حسن.
فإن قيل: كيف يكون جيدًا وقد ضعف يحيى مُرجّى بن رجاء.
قلنا: فقد وثقه أبو زرعة، وقال أبو داود: صالح. واستشهد له البخاري وبهذا تثبت الجودة والحسن لحديثه، وهذا القدر كافٍ في الاحتجاج به.
على أنه يُؤيده ما رواه البخاري (1) ومسلم (2) وأبو داود (3) والنسائي (4) بأسانيدهم، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر".
قوله: "أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين" قيل: معناه أي أول ما قُدِّرت قُدِّرت ركعتين، ثم تُركت صلاة السفر على هيئتها في المقدار لا في الإيجاب، والفرض في اللغة بمعنى التقدير.
وقال أبو إسحاق الحربيُّ: إن الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس وصلاةً قبل طلوعها، ويشهد له قوله سبحانه:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (5). وقال يحيى بن سلام مثله.
(1)"صحيح البخاري"(3/ 1431 رقم 3720).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 478 رقم 685).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 3 رقم 1198).
(4)
"المجتبى"(1/ 225 رقم 455).
(5)
سورة غافر، آية:[55].
وقد كان الإسراء وفرض الصلوات الخمس قبل الهجرة بعام، فعلى هذا يُحمل قول عائشة رضي الله عنها في رواية البخاري ومن معه:"وزيد في صلاة الحضر" أي زيد فيها حتى تكملت خمسًا، فتكون الزيادة في الركعات وفي عدد الصلوات، ويكون قولها:"فرضت الصلاة ركعتين" أي قبل الإسراء.
وقد قال بهذا طائفة من السلف منهم ابن عباس، وقال بعضهم: لم يُوجَد هذا في أثر صحيح.
وقال بعضهم: يجوز أن يكون معنى "فرضت الصلاة" أي ليلة الإسراء حين فرضت الصلوات الخمس فرضت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر بعد ذلك كما تشير إليه رواية الطحاوي هذه، وممن قاله هكذا: الحسن والشعبي فقالا: إن الزيادة في صلاة الحضر كانت بعد الهجرة بعام أو نحوه. وقد قيل: فرضت الصلاة ركعتين يعني إن اختار المسافر أن يكون فرضه ركعتين فله ذلك، وإن اختار أربعًا فله ذلك.
وقال الخطابي: هذا قول عائشة عن نفسها وليست برواية عن رسول الله عليه السلام ولا حكايته عن قوله عليه السلام وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك عن قوله، فيحتمل أن يكون الأمر في ذلك كما قالاه؛ لأنهما عالمان فقيهان قد شهدا زمان رسول الله عليه السلام وصحباه، وإن لم يكونا شهدا أول زمان الشريعة وقت فرض الصلاة على النبي عليه السلام فإن الصلاة فرضت علية بمكة، ولم تلق عائشة رضي الله عنها رسول الله عليه السلام إلا بالمدينة، ولم يكن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك الزمان مَنْ يعقل الأمور ويعرف حقائقها، ولا يَبْعد أن يكون قد أخذ هذا الكلام عن عائشة فإنه قد يفعل ذلك كثيرًا في حديثه، وإذا فتّشت عن أكثر ما يَرْويه كان ذلك سماعًا من الصحابة رضي الله عنهم، وإذا كان كذلك فإن عائشة نفسها قد ثبت عنها أنها كانت تُتم في السفر فتصلي أربعًا.
وقال النووي رحمه الله: معنى فرضت الصلاة ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما، فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتيم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار وثبتت دلائل جواز الإتمام فوجب المصير إليها والجمع بين دلائل الشرع، ثم ذكر تتميم عائشة الصلاة في السفر، وكذلك عثمان، وقول عروة: إنها تأولت كما تأول عثمان رضي الله عنه.
وقال: اختلف العلماء في تأويلهما، فالصحيح الذي عليه المحققون أنهما رأيا القصر جائزًا والإتمام جائزًا فأخذا بأحد الجائزين وهو الإتمام.
وقيل: لأن عثمان رضي الله عنه إمام المؤمنين وعائشة أمّهم فكأنهما في منازلهما.
وأبطله المحققون بأن النبي عليه السلام كان أولى بذلك منهما وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقيل: لأن عثمان تأهل مكة، وأُبطل بأن النبي عليه السلام سافر بأزواجه وقصر، وفيه نظر.
وقيل: فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه لئلا يظنون أن فرض الصلاة ركعتان ابتداءًا حضرًا وسفرًا.
وأبطلوه بأن هذا المعنى كان موجودًا في زمن النبي عليه السلام بل اشتهر أمر الصلاة في زمن عثمان أكثر مما كان.
وقيل: لأن عثمان نوى الإقامة بمكة بعد الحج.
وأبطلوه بأن الإقامة بمكة حرام على المهاجر فوق ثلاث.
وقيل: كان لعثمان أرض بمنى.
وأبطلوه بأن ذلك لا يقتضي الإتمام والإقامة.
وقال أبو عمر: قول عائشة رضي الله عنها: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين" قولٌ ظاهر العموم والمراد به الخصوص، ألا ترَى أن المغرب غير داخلة في قوله:
"فرضت الصلاة ركعتين ركعتين"، وكذلك الصبح؛ لأنه معلوم أن الصبح لم يَزد فيها ولم ينقص منها وأنها في الحضر والسفر سواء
قوله: "فهذه عائشة تخبر
…
" إلى آخره، أراد أن الذي يفهم من كلام عائشة أن الأصل في الصلاة هو ركعتان وأنه هو كان عزيمةَ، وأن الرجل إذا سافر يأخذ بتلك العزيمة ويرى القصر عزيمة كما كان في الأصل، ألا ترى كيف تقول عائشة: "وقد كان عليه السلام إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى" يعني عاد إلى تلك العزيمة، فأخبرت أنه عليه السلام كان يُصلّي في حالة السفر كما كان يصلي قبل أن يؤمر بإتمام الصلاة وهي ركعتان.
قوله: "فذلك خلاف حديث فهد" أي ما روته عائشة خلاف ما رواه فهد، عن الحسن بن بشر، عن المعافى بن عمران، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء، عن عائشة، أراد أن بين حديثي عائشة تخالف وتضادّ، ولم يذكر الطحاوي وجه التوفيق بينهما ولا وجه ترجيح أحدهما على الآخر، فنقول: إن حديث فهد لا يساوي حديث ابن أبي داود هذا؛ لأن في حديث فهد المغيرة بن زياد؛ وقد قال
أبو زرعة وأبو حاتم: شيخ لا يحتج بحديثه. وقال أحمد: مضطرب الحديث.
فإن قيل: ففي حديث ابن أبي داود مُرجّى بن رجاء وهو أيضًا ضعيف عند قوم.
قلت: هو فوق المغيرة بن زياد ولهذا استشهد به البخاري كما ذكرناه، ولئن سلمنا أنهما متساويان أو أن المغيرة فوق مُرجَّى بن رجاء، أو أن حديث فهد أصح من حديث ابن أبي داود، ولكن معناه قصر في الفعل وأتم في الحكم، كقول عمر- رضي الله عنه في صلاة السفر:"ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم عليه السلام" فافهم.
ص: وأما حديث يَعْلى بن مُنْيَة فإن أهل المقالة الأولى احتجوا بالآية المذكورة فيه، وهى قول الله عز وجل: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا
مِنَ الصَّلَاةِ} (1)، قالوا: فذلك على الرخصة من الله عز وجل لهم في التقصير لا على الحَتْم عليهم بذلك، وهي كما في قوله:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} (2) فذلك على التوسعة منه لهم في المراجعة لا على إيجاب ذلك عليهم، فكان من حجتنا عليهم لأهل المقالة الأخرى أن هذا اللفظ قد يكون على ما ذكروا وقد يكون على غير ذلك، قال الله عز وجل:{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (3) وذلك على الحتم عند جميع العلماء؛ لأنه ليس حجَّ أو اعتمر مَنْ لا يطوف بهما، فلما كان نفي الجناح قد يكون على التخيير وقد يكون على الإيجاب؛ لم يكن لأحد أن يَحْمل ذلك على أحد المعنيين دون الآخر إلا بدليلٍ عليه من كتاب الله أو سنة أو إجماع.
ش: بيان احتجاج أهل المقالة الأولى بالآية الكريمة المذكورة في حديث يعلى بن منية هو أن قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (1) دليل الرخصة؛ لأن لفظة: "لا جناح" تستعمل في المباحات والرُّخص دون الفرائض والعزائم، وذلك كما في قوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} (4) فإن ذلك أيضًا على التوسعة والإباحة في المراجعة لا على الإيجاب واللزوم.
وأشار إلى الجواب عن ذلك بقوله: "فكان من حجتنا عليهم" أي على أهل المقالة الأولى لأهل المقالة الثانية، وتقريره أن يقال: لا نُسلِّم أن لفظة: "لا جناح" تستعمل في المباحات دائمًا، وإنما هي تستعمل في الإباحة، وتستعمل في الإيجاب أيضًا كما في قوله تعالى:{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (3)، فإن ذلك على الحتم والإيجاب عند جميع العلماء؛ لأنه ليس
(1) سورة النساء، آية:[101].
(2)
سورة البقرة، آية:[230].
(3)
سورة البقرة، آية [158].
(4)
سورة البقرة، آية:[230].
لأحد ممن يحج أو يعتمر أن يترك الطواف بهما، فإذا كان قوله:"لا جناح" دائرًا بين الإيجاب ونفيه؛ لم يكن لأحد أن يحمل معناه على الوجوب أو على عدم الوجوب إلا بدليل يدل عليه من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فنظرنا في ذلك؛ فوجدنا الآثار والأحاديث قد تواترت وتكاثرت بأنه عليه السلام قد قصر الصلاة في أسفاره؛ فباتت قرينةً على أن نفي الجناح في الآية المذكورة على الإيجاب.
ص: وقد جاءت الآثار المتواترة عن رسول الله بتقصيره في أسفاره كلها، فمما رُوي عنه في ذلك: ما حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن يزيد بن خُمَير، قال: سمعت حبيبَ بن عبيد يُحدِّث عن جبير بن نفير، عن ابن السمط قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "رأيتُ رسول الله عليه السلام صلى بذي الحليفة ركعتين".
ش: أي: قد جاءت الأحاديث المتكاثرة عن النبي عليه السلام بأنه كان يقصر في الصلاة في جميع أسفاره.
فمما روي عن النبي عليه السلام في ذلك حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
أخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن يزيد بن حميد بن يزيد الرحبي، أبي عمر الشامي الحمصي، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن حبيب بن عبيد الرحبي، أبي حفص الشامي الحمصي، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن جبير بن نفير -كلاهما بالتصغير- الحضرمي أبي عبد الله الشامي الحمصي، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن شرحبيل بن السمط الكندي، أبي السمط الشامي، مختلف في صحبته، ذكره في "الكمال" من التابعين، وكذا ذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين، روى له الجماعة سوى البخاري.
وأخرجه مسلم (1): ثنا زهير بن حرب ومحمد بن بشار جميعًا، عن ابن مهدي- قال زهير: ثنا عبد الرحمن بن مهدي- قال: ثنا شعبة، عن يزيد بن خُمَير، عن حبيب بن عبيد، عن جُبير بن نفير قال:"خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلًا، فصلى ركعتين، فقلت له، فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله عليه السلام يفعل".
وحدثنيه (2) محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة بهذا الإسناد وقال: عن ابن السمط ولم يُسمّ شرحبيل وقال: "إنه أتى أرضًا يقال لها دومين، من حمص على رأس ثمانية عشر ميلًا"
وأخرجه النسائيُّ (3) أيضًا.
قوله: "بذي الحليفة" هي ميقات أهل المدينة وأهل الشام اليوم، بينها وبين المدينة ستة أميال، ويقال سبعة.
وقد احتج به بعض الظاهرية أنه يجوز التقصير في السفر الطويل وقصيره.
وقال ابن حزم: ومن خرج عن بيوت مدينته أو قريته أو موضع سكناه، فمشى ميلًا فصاعدًا صلى ركعتين، فإن مشى أقل من ميل صلى أربعًا.
وقال القاضي عياض: ولا حجة لهم فيه؛ لأن هذا إنما كان في عليه السلام، وهو مفسر في الأحاديث الصحيحة في تمام هذا الحديث عن أنسٍ وغيره، فإنما قصر في سفرٍ طويل، والله أعلم.
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني سليمان، عن عمارة بن عمير أو إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله قال: "صلينا مع رسول الله عليه السلام بمنى ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين،
(1)"صحيح مسلم"(1/ 481 رقم 692).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 481 رقم 692).
(3)
"المجتبى"(3/ 118 رقم 1437).
ومع عمر ركعتين، فليتَ حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان"
حدثنا فهدٌ، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله مثله، غير أنه لم يذكر قول عبد الله: "فليت حظي
…
" إلى آخر الحديث.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن عبد السلام، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود:"أن رسول الله عليه السلام كان يصوم في السفر ويُفطِر ويصلي الركعتين لا يَدعهما" يعني لا يزيد عليهما.
ش: هذه ثلاث أسانيد وهي صحاح:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة، عن سليمان الأعمش، عن عُمارة بن عمير التَّيمي الكوفي روى له الجماعة.
أو عن إبراهيم النخعي، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وأخرجه البخاري (1): ثنا قتيبة، قال: ثنا عبد الواحد، عن الأعمش، قال: ثنا إبراهيم، قال: سمعمت عبد الرحمن بن يزيد يقول: "صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فاسترجع، ثم قال: صليت مع رسول الله عليه السلام بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمنى ركعتين، فليتَ حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان".
وأخرجه مسلم (2) وأبو داود (3) أيضًا.
(1)"صحيح البخاري"(1/ 368 رقم 1034).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 483 رقم 695).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 199 رقم 1960).
قوله: "بمنى" وهي قرية تذبح بها الضحايا وترمى بها الجمرات.
وقال أبو بكر الحازمي: هي تقع قرب مكة.
وقال أبو نصر: موضع بمكة مقصور مذكر يُصرف، وقد امتنى القوم إذا أتوا منى. وقال ابن الأعرابي: أمنى القوم.
وقال ابن خزيمة: ليست مني ولا عرفات من مكة بل هما خارجان من مكة.
قلت: إذا وقع اسم مكة على جميع الحرم تكون مني من مكة؛ لأن مني داخل في الحرم، وإذا وقع على نفس البنيان المتصل بعضه ببعض خاصةً يكون منى خارجًا عنها؛ ولكن الأول أظهر، ولهذا الحرم كله قبلة لأهل الآفاق.
وقال الكلبي: سميت مني لأنه مني بها الكبش الذي فُديَ به إسماعيل عليه السلام فيكون من المنية، ويقال: سميت مني لما يمنى فيها من الشعر والدم.
ويقال: إن جبريل عليه السلام لما أتى آدم عليه السلام بمنى قال له: تَمَنَّ.
وقال أبو علي الفارض: لامه "ياء" من منيت الشيء إذا قدرته، وهي تذكر وتؤنث، فمن أنّثَ لم يجره ويقول هذه مني، وقال الفراء: الأغلب عليه التذكير.
وذكره القزاز وصاحب الوافي وصاحب "الصحاح" في المعتل بالألف.
وبين مني ومكة ثلاثة أميال، وبين مني والمزدلفة فرسخ وبين المزدلفة وبين عرفات فرسخ فتكون المزدلفة متوسطة بين مني وعرفات، وبين عرفات وبين مكة أربعة فراسخ، ويقال: الأصح ثلاثة فراسخ.
الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني، عن حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي
…
إلى آخره.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال:"صلى عثمان بمنى أربعًا، فقال عبد الله: صليتُ مع النبي عليه السلام ركعتين ومع أبي بكر رضي الله عنه ركعتين ومع عمر- رضي الله عنه ركعتين".
الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن عبد السلام بن حرب روى له الجماعة، عن حماد بن أبي سليمان أحد مشايخ أبي حنيفة، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس النخعي، عن عبد الله.
وأخرجه البزار في "مسنده"(2): عن محمد بن عبد الرحيم ومحمد بن سعيد كلاهما، عن روح بن عبادة
…
إلى آخره، ولكنه اقتصر على حكم الصوم، وقال: هذا الحديث لا نعلم رواه عن عبد السلام هذا إلا ابن أبي عروبة ولا نعلم يُرْوَى عن عبد الله إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
ص: حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"سافرت مع رسول الله عليه السلام فأقام تسعة عشر يومًا يصلي ركعتين".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهبٌ، قال: ثنا شعبة (ح).
وحدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن شُفَيِّ قال:"جعل الناسُ يسألون ابن عباس عن الصلاة، فقال: كان رسول الله عليه السلام إذا خرج من أهله لم يصل إلا ركعتين حتى يَرْجع إليهم".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام أقام حيث فتح مكة خمسَ عشرةَ يقصر الصلاة".
(1)"مسند أحمد"(1/ 378 رقم 3593).
(2)
"مسند البزار"(4/ 350 رقم 1549).
ش: هذه أربعة أسانيد صحاح:
الأول: عن محمد بن عمرو، عن أبي معاوية محمد بن خازم الضرير، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وأخرجه الجماعة غير مسلم.
فقال البخاري (1): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا أبو عوانة، عن عاصم، وحُصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"أقام النبي عليه السلام تسعة عشر يومًا يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدْنا أتممنا".
وقال أبو داود (2): نا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة -المعنى واحد- قالا: نا حفص، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام أقام سبع عشرة بمكة يقصر الصلاة، قال ابن عباس: ومن أقام سبع عشرة قصرَ ومن أقام أكثر أتمّ".
قال أبو داود (1): قال عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"أقام تسع عشرة".
وقال الترمذي (3): وقد روي عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام:"أنه أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلّي ركعتين، قال ابن عباس: فنحن إذا أقمنا ما بيننا وبين تسع عشرة صلينا ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا الصلاة".
وقال النسائي (4): أنا عبد الرحمن بن الأسود البصري، قال: ثنا محمد بن ربيعة، عن عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن حبيب، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام أقام بمكة خمس عشرة يصلي ركعتين ركعتين".
(1)"صحيح البخاري"(1/ 367 رقم 1030).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 10 رقم 1230).
(3)
"جامع الترمذي"(2/ 431 رقم 548).
(4)
"المجتبى"(3/ 121 رقم 1453).
وقال ابن ماجه (1): نا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، نا عبد الواحد ابن زياد، نا عاصم الأحول، عن عكرمة عن ابن عباس قال:"أقام رسول الله عليه السلام[سبعة] (2) عشر يومًا يصلي ركعتين ركعتين، فنحن إذا أقمنا [سبعة] (3) عشر نصلي ركعتين ركعتين، فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعًا".
قوله: "فأقام تسعة عشر يومًا" أراد أنه أقام بمكة زمن الفتح كما هو مصرح في رواية أبي داود وقد جاء في رواية لأبي داود: "سبع عشرة" كما ذكرنا، وفي أخرى له "خمس عشرة" (4) وفي أخرى له (5) عن عمران بن حصين:"شهدت مع النبي عليه السلام يوم الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين" وقال أبو داود: وأكثر الروايات "تسع عشرة".
فإن قيل: ما التوفيق بين هذه الروايات؟
قلت: التوفيق بينها أن يكون من قال: "سبعة عشر يومًا" لم يعد يوم الدخول ويوم الخروج، ومن قال "تسعة عشر" عدّهما، ومن قال:"ثمانية عشر" عدّ أحدهما.
ثم اعلم أن العلماء اختلفوا في المدة التي إذا نوى المسافر الإقامة فيها لزمه الإتمام على أقوال:
الأول: ما ذكره ابن حزم، عن سعيد بن جبير أنه قال: إذا وضعت رحلك بأرض فأتم.
وكذا أخرج ابن أبي شيبة "مصنفه"(6) بسند صحيح عن عائشة وطاوس،
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 341 رقم 1075).
(2)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "سنن ابن ماجة":"تسعة".
(3)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "سنن ابن ماجة":"تسعة".
(4)
"سنن أبي داود"(1/ 342 رقم 1076).
(5)
ليس عند أبي داود، وإنما هو عند الترمذي (4/ 100 رقم 1512).
(6)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 209 رقم 8221 - 8223).
وقال أيضًا: ثنا داود، عن عبد الأعلى، عن أبي العالية قال:"إذ اطمأن صلى أربعًا" يعني نزل.
وعن ابن عباس (1) بسند صحيح مثله.
الثاني: إقامة يوم وليلة حكاه ابن عبد البر عن ربيعة.
الثالث: ثلاثة أيام، قاله ابن المسيب في قول.
الرابع: أربعة أيام، روي ذلك عن الشافعي وأحمد، وروى مالك (2)، عن عطاء الخراساني أنه سمع سعيد بن المسيب قال:"من أجمع إقامة أربع ليال وهو مسافر أتم الصلاة، قال مالك: وذلك أحب ما سمعتُ إليَّ"
قال أبو عمر: وإلى هذا ذهب الشافعي وهو قوله وقول أصحابه، وبه قال أبو ثور.
وقال الشافعي: ولا يُحسب يوم ظعنه ولا يوم نزوله، وحكى إمام الحرمين عن الشافعي: أربعة أيام ولحظة.
الخامس: أكثر من أربعة أيام، ذكره ابن رشد في "القواعد" عن أحمد وداود.
السادس: (3) إقامة اثنين وعشرين صلاةً، قاله ابن قدامة في "المغني" وهو مذهب أحمد.
السابع: عشرة أيام، رُوي ذلك عن علي بن أبي طالب والحسن بن صالح ومحمد بن علي بن حسين.
الثامن: اثني عشر يومًا، قال أبو عمر: روى مالك (4) عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه أنه كان يقول:"أقل صلاة المسافر ما لم يجمع مكثًا اثنتي عشرة ليلة".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 209 رقم 8224).
(2)
الموطأ مالك" (1/ 149 رقم 345).
(3)
علامة حاشية.
(4)
"موطأ مالك"(1/ 148 رقم 343).
قال: وروي عن الأوزاعي مثله. ذكره الترمذي في "جامعه".
التاسع: ثلاثة عشر يومًا، قال أبو عمر: روي ذلك عن الأوزاعي.
العاشر: خمسة عشر يومًا، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والليث ابن سَعْد.
وحكاه ابن أبي شيبة (1) عن سعيد بن المسيب بسندٍ صحيح.
وقال أيضًا (2): ثنا وكيع، عن عمر بن ذر، عن مجاهد:"كان ابن عمر إذا أجمع على إقامة خمس عشرة صلى أربعًا".
الحادي عشر: ستة عشر يومًا، روي ذلك عن الليث أيضًا.
الثاني عشر: سبعة عشر يومًا، وهو قول الشافعي في قول.
الثالث عشر: ثمانية عشر يومًا، وهو قول للشافعي أيضًا.
الرابع عشر: تسعة عشر يومًا، قاله إسحاق بن إبراهيم فيما ذكره الطوسي عنه.
الخامس عشر: عشرون يومًا، وبه قال ابن حزم.
السادس عشر: يقصر حتى يأتي مصرًا من الأمصار، قال أبو عمر: قاله الحسن بن أبي الحسن، قال: ولا أعلم أحدًا قاله غيرُه.
السابع عشر: إحدى وعشرون صلاة، ذكره ابن المنذر عن الإِمام أحمد.
الثامن عشر: يقصر مطلقًا، ذكره أبو محمد النصري.
التاسع عشر: قال ابن أبي شيبة (3): ثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك بن سلمة، عن ابن عباس قال:"إذا أقمتَ في بلد خمسة أشهر فقصر الصلاة".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 208 رقم 8212).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 208 رقم 8217).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 207 رقم 8199).
العشرون: قال أبو بكر (1): ثنا وكيع، قال: ثنا مسعر وسفيان، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن عبد الرحمن قال:"أقمنا مع سعد بن مالك شهرين بعمان يَقْصر الصلاة ونحن نتم، فقلنا له، فقال: نحن أعلمُ".
الحادي والعشرون: قال أبو بكر (2): ثنا وكيع، ثنا شعبة، ثنا أبو التياح، عن أبي المنهال رجل من عنزة قلت لابن عباس: إني أقيم بالمدينة حولًا لا أشد على سَيْر، قال: صلِّ ركعتين".
الثاني والعشرون: روى أبو بكر (3) بسند صحيح، عن سعيد بن جبير:"إذا أراد أن يقيم أكثر من خمسة عشر يومًا أتم الصلاة".
الإسناد الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن سعيد بن شفيٍّ ذكره ابن حبان في "الثقات".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4): ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن شفيٍّ قال: قلت لابن عباس: "إنا قومٌ كنا إذا سافرنا كان معنا من يكفينا الخدمة من غلماننا فكيف نصلّي؟ فقال: كان رسول الله عليه السلام إذا سافر صلى ركعتين حتى يرجع، قال: ثم عدتُ فسألته، فقال مثل ذلك، ثم عدتُ، فقال لي بعض القوم: أما تعقل؟ أما تسمع ما يقول لك؟! ".
الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن إسرائيل ابن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق
…
إلى آخره.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 207 رقم 8200).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 207 رقم 8201).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 209 رقم 8218).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 203 رقم 8157).
الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه، عن محمد بن إدريس بن يزيد الكوفي روى له الجماعة، عن محمد بن إسحاق المدني روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، ومسلم في المتابعات، عن محمد بن مسلم الزهري عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود المدني أحد الفقهاء السبعة روى له الجماعة.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا النُّفَيْلي، نا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال:"أقام رسول الله عليه السلام عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة".
وابن ماجه (2): عن أبي يوسف بن الصيدلاني محمد بن أحمد، نا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عبّاس:"أن رسول الله عليه السلام أقام بمكة عام الفتح خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة".
وأخرجه النسائي (3) أيضًا.
وقال أبو داود (1): روى عبدة بن سليمان، وأحمد بن خالد الوهبي، وسلمة ابن الفضل، عن ابن إسحاق هذا الحديث؛ لم يذكروا فيه ابن عباس.
قلت: أشار بهذا إلى أن هذا الحديث اختلف عن ابن إسحاق، فروي عنه مسنذا وروي عنه مرسلًا، وقال البيهقي: الصحيح مرسل.
قلت: الصحيح أنه مسند كما أخرجه الطحاوي والنسائي وابن ماجه، والله أعلم.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 10 رقم 1231).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 342 رقم 1076).
(3)
"المجتبى"(3/ 121 رقم 1453).
ص: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وأبو بكر رضي الله عنه ركعتين، وعثمان ركعتين صدرًا من خلافته، ثم إن عثمان صلاها بعد أربعًا، فكان ابن عمر إذا صلى مع الإِمام صلّى أربعً ا، وإذا صلى وحده صلى ركعتين".
حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن خُبَيْب بن عبد الرحمن قال: سمعت حفص بن عاصم يُحدّث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "صليتُ مع رسول الله بمنى ركعتين ومع أبي بكر رضي الله عنه ركعتين، ومع عمر رضي الله عنه ركعتين، ومع عثمان رضي الله عنه ركعتين ست سنين -أو ثمان- ثم أتمها بعد ذلك".
ش: هذان طريقان صحيحان:
أحدهما: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة شيخ الشيخين، عن أبي أسامة حماد بن أسامة بن زيد القرشي الكوفي روى له الجماعة، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب روى له الجماعة، عن نافع، عن عبد الله بن عمر
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا أبو أسامة، نا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال:"صلى رسول الله عليه السلام بمنى ركعتين، وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدرًا من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعد أربعًا، فكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلى مع الإِمام صلى أربعًا، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين".
(1)"صحيح مسلم"(1/ 482 رقم 694).
وأخرجه البخاري (1) والنسائي (2) أيضًا.
الثاني: عن سليمان بن شُعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي وثقه ابن حبان، عن شعبة، عن خُبَيبْ -بضم الخاء المعجمة- بن عبد الرحمن بن خُبَيبْ بن يساف الأنصاري المدني، روى له الجماعة، عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، روى له الجماعة، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وأخرجه مسلم (3): نا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن خُبيب بن عبد الرحمن، سمع حفص بن عاصم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"صلى النبي عليه السلام بمنى صلاة المسافر، وأبو بكر وعمر وعثمان ثمان سنين، أو قال: ست سنين".
قوله: "صدرًا" نصب على الظروف، وأراد به في أول خلافته، قال الجوهري: صدر كل شيء: أوله.
قوله: "بعدُ" مبني على الضم، وأصله: بعد ذلك، فلما قطع عن الإضافة بني على الضم.
ثم اعلم أن صلاة عثمان رضي الله عنه بعد ذلك أربعًا كان اجتهادًا منه، وأخذ بالأفضل في زعمه؛ لأنه اعتقد واجبًا وفرضًا.
وقال عمران بن حُصَين: "حججتُ مع عثمان سبعًا من إمارته لا يصلي إلا ركعتين، ثم صلى بمنى أربعًا، ولا خلاف أن هذا حكم الحاج من غير أهل مكة بمنى وعرفة يقصرون".
وكذلك عند مالك حكم الحاج من أهل مكة يقصرون بعرفة ومنى كتقصيرهم مع النبي عليه السلام، وكذلك أهل عرفة ومنى بمكة، ولخطبة عمر- رضي الله عنه أهل مكة بالتمام دونهم.
(1)"صحيح البخاري"(1/ 367 رقم 1032).
(2)
"المجتبى"(3/ 121 رقم 1451).
(3)
"صحيح مسلم"(1/ 483 رقم 694).
وذهب أبو حنيفة والشافعي وجماعة من العلماء إلى أن أهل مكة بمنى وعرفة، وأهل عرفة ومنى بمكة يتمون كغير الحاج منهم؛ إذْ ليس في المسافة مدة قصر الصلاة.
وقال ابن بطال: اتفق العلماء على أن الحاج القادم مكة شرفها الله تعالى يقصر الصلاة بها وبمنى وسائر المشاهدة لأنه عندهم في سفر؛ لأن مكة ليست دار الإقامة إلا لأهلها أو لمن أراد الإقامة بها، وكان المهاجرون قد فرض عليهم ترك المقام بها، فلذلك لم ينوِ رسول الله عليه السلام الإقامة بها ولا بمنى.
قال: واختلف العلماء في صلاة المكيّ بمنى.
فقال مالك: يتم بمكة، ويقصر بمنى، وكذلك أهل مني يتمون بمنى ويقصرون بمكة وعرفات.
قال: وهذه المواضع مخصوصة بذلك؛ لأن النبي عليه السلام لما قصر بعرفة لم يميز مَنْ وَرَاءَهُ ولا قال: يا أهل مكة، أتموا وهذا موضع بيان؛ ولذلك قال عمر رضي الله عنه بعده لأهل مكة: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سَفْرٌ.
قال: وممن روى عنه أن المكي يقصر بمنى طاوس والأوزاعي وإسحاق، قالوا: القصر سنة المواضع، وأتم بمنى ومكة مَنْ كان مقيمًا بهما.
وقال أكثر أهل العلم -منهم عطاء والزهري، وهو قول الثوري، والكوفين، وأبي حنيفة، وأصحابه، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور-: لا يقصر الصلاة أهل مكة بمنى وعرفات؛ لأنه ليس بينهما مسافة القصر.
قالوا: وفي قول عمر بن الخطاب لأهل مكة: "أتموا صلاتكم" ما أغني أن يقول ذلك بمنى.
واختلفوا في المسافة التي تُقصر فيها الصلاة، فقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون: المسافة التي تُقصر فيها الصلاة ثلاثة أيام ولياليهن بسَيْر الإبل ومشي الأقدام، وقال أبو يوسف: يومان وأكثر.
الثالث: وهي رواية الحسن، عن أبي حنيفة، ورواية أبي سماعة عن محمد، ولم يريدوا به السَيْر ليلًا ونهارًا؛ لأنهم جعلوا النهار للسَيْر والليل للاستراحة، فلو سلك طريقًا هي مسيرة ثلاثة أيام وأمكنه أن يصل إليها في يومٍ من طريق آخر قصر، ثم قَدَّروا ذلك بالفراسخ.
فقيل: إحدى وعشرون فرسخًا.
وقيل: ثمانية عشر وعليه الفتوى.
وقيل: خمسة عشر فرسخًا إلى ثلاثة أيام، وعلى هذا عثمان بن عفان، وابن مسعود، وسويد بن غفلة، والشعبي، والنخعي، والثوري، والحسن بن حيّ، وأبو قلابة، وشريك بن عبد الله، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، وهو رواية عن عبد الله بن عمر.
وعن مالك: لا يقصر في أقل من ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي وذلك ستة عشر فرسخًا، وهو قول أحمد، والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل: ستة آلاف ذراع، والذراع: أربع وعشرون إصبعًا معترضة معتدلة، والإصبع: ست شعيرَات معترضات معتدلات.
وذلك يومان وهو أربعة برد، هذا هو المشهور عنه، وعنه أيضًا: خمسة وأربعون ميلًا، وعنه: اثنان وأربعون ميلًا، وعنه: أربعون ميلًا، وعنه: ستة وثلاثون ميلًا.
وقال ابن حزم: ذكر هذه الروايات عنه إسماعيل القاضي، قال: ورأى لأهل مكة خاصةً القصر إلى مني، فما فوقها وهي أربعة أميال.
وللشافعي سبعة نصوص في المسافة التي تقصر فيها الصلاة: ثمانية وأربعون ميلًا، ستة وأربعون، أكثر من أربعين، أربعون يومان، ليلتان، يوم وليلة.
وهذا الآخر قال به الأوزاعي.
وقال أبو عمر: قال الأوزاعي: عامة العلماء يقولون به.
وعن داود: يقصر في طويل السفر وقصيره.
زاد ابن حامد: حتى لو خرج إلى بستان له خارج البلد قصّر.
وزعم أبو محمد أنه لا يقصر عندهم في أقل من ميل، قال: ولا يجوز لنا أن نوقع اسم سفر وحكم سفر إلا على ما سمّاه به مَنْ هو حجة في اللغة سفرًا، فلم نجد ذلك في أقل من ميل.
وروينا الميل أيضًا عن ابن عمر، رُوي عنه أنه قال:"لو خرجت ميلًا لقصرت". قال: وعنه: "إني لأسافر الساعة من النهار فأقصّر"، وعنه:"ثلاثة أميال".
وعن ابن مسعود: "أربعة"، وعنه:"ثلاثة أميال".
وفي "المحلى": عن أبي حذيفة: "لا يقصّر في نيف وستين ميلًا"، وعن شقيق ابن سلمة وسئل عن قصر الصلاة من الكوفة إلى واسط فقال:"لا تُقْصَر الصلاة في ذلك" وبينهما مائة وخمسون ميلًا.
وعن الحسن بن حيّ: "لا يقصّر في أقل من اثنين وثمانين ميلًا".
وعن ابن عمر: "اثنان وسبعون ميلًا".
وعن الثوري: نحو نيفٍ وستين ميلًا، يتجاوز ثلاثة وستين ولا ينتقص عن أحد وستين. وعن أبي الشعثاء: ستة أميال.
وعن ابن المسيب: بريدٌ.
وقال ابن حزم: صحّ عن كلثوم بن هانئ وقبيصة بن ذؤيب وابن مُحيريز القصر في بضعة عشر ميلًا.
وقال أبو بكر بن في شيبة في "مصنفه"(1): ثنا هشيم، عن أبي هارون، عن أبي سعيد:"أن النبي عليه السلام كان إذا سافر فرسخًا قصّر الصلاة".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 200 رقم 8113).
ثنا (1) هشيم، عن جُويبر، عن الضحاك، عن النزّال:"أن عليًّا رضي الله عنه خرج إلى النخيلة فصلى بها الظهر والعصر ركعتين، ثم رجع من يومه وقال: أردتُ أن أعلمكم سنة نبيّكم".
وكان حذيفة يصلي ركعتين فيما بين الكوفة والمدائن.
وعن ابن عباس: يقصّر الصلاة في مسيرة يومٍ وليلةٍ.
وعن ابن عمر وسُويد بن غفلة وعمر بن الخطاب: ثلاثة أميال.
وعن أنس: "كان النبي عليه السلام إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ -شعبةُ الشاكّ- قصر" رواه مسلم (2).
وعن الحسن: يقصّر في مسيرة ليلتين.
وعن أبي الشعثاء: ستة أميال.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي نَضْرة:"أن فتًى سأل عمران بن حصين عن صلاة رسول الله عليه السلام في السفر، فعدل إلى مجلس العَوَقة فقال: إن هذا الفتى سألني عن صلاة رسول الله عليه السلام في السفر فاحفظوها عني، ما سافر رسول الله عليه السلام سفرًا إلا صلى ركعتين حتى يرجع، وإنه أقام بمكة زمن الفتح ثمان عشرة يصلي ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة، قوموا فصلوا ركعتين أخراوين؛ فإنّا قومٌ سفرٌ. ثم غزا حُنين والطائف فصلى ركعتين ركعتين، ثم رجع إلى الجعْرانَة فاعتمر منها في ذي القعدة، ثم غزوت مع أبي بكر- رضي الله عنه وحججتُ واعتمرتُ، فصلى ركعتين ركعتين، ومع عمر رضي الله عنه فصلى ركعتين ركعتين، ومع عثمان رضي الله عنه صدرًا من إمارته فصلى ركعتين ركعتين، ثم إن عثمان رضي الله عنه بعد ذلك صلى أربعًا بمنى".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 200 رقم 8114).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 691 رقم 691).
ش: رجاله ثقات، غير أن علي بن زيد بن جدعان البصري المكفوف فيه مقال؛ فعن أحمد: ليس بالقوى. وعن يحيى: ضعيف، وعنه: ليس بحجة. وقال العجلي: كان يتشيع، لا بأس به. وقال الجوزجاني: واهي الحديث، ضعيف، فيه ميل عن القصد، لا يحتج بحديثه. روى له مسلم -مقرونًا بثابت البناني- والأربعة.
وأبو نضرة بفتح النون وسكون الضاد المعجمة اسمه المنُذر بن مالك العَبدي ثم العَوقي البصري روى له الجماعة البخاري مستشهدًا.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عفان، نا حماد بن سلمة، أنا علي بن زيد، عن أبي نضرة
…
إلى آخره نحوه.
ثم قال (2): وحدثنا يونس بن محمد بهذا الحديث وزاد فيه: "إلا المغرب، ثم يقول: يا أهل مكة قوموا
…
" إلى آخره نحوه.
وأخرجه أبو داود (3) مختصرًا: نا موسى بن إسماعيل، نا حماد.
وحدثنا إبراهيم بن موسى، أنا ابن علية -وهذا لفظه- أنا علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين قال:"غزوتُ مع رسول الله عليه السلام، وشهدتُ معه الفتح، فأقام بمكة ثمان عشرة ليلةً لا يُصلي إلا ركعتين، يقول: يا أهل البلد، صلوا أربعًا فإنا سَفْر"
وأخرجه الترمدي (4): نا أحمد بن مَنيع، قال: نا هشيم، قال: أنا علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة قال: "سُئل عمران بن حصين عن صلاة المسافر، فقال: حججتُ مع رسول الله عليه السلام فصلى ركعتين، وحججت مع
(1)"مسند أحمد"(4/ 430 رقم 19878).
(2)
"مسند أحمد"(4/ 430 رقم 19878).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 9 رقم 1229).
(4)
"جامع الترمذي"(2/ 430 رقم 545).
أبي بكر رضي الله عنه فصل ركعتين، ومع عمر رضي الله عنه فصلى ركعتين، ومع عثمان رضي الله عنه -ستَّ سنين من خلافته أو ثمان سنين- فصلى ركعتين".
قال: أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه الطبرانيُّ في "معجمه"(1)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(2)، وإسحاق بن راهويه، والطيالسي (3)، والبزار (4) في "مسانيدهم".
قوله: "إلي مجلس العَوَقَة" أي إلى مجلس فيه عوَقةٌ وهم بطن من عبد القيس، وهو بفتح العين المهملة والواو والقاف.
قوله: "فإنا قومٌ سَفْرٌ " بفتح السين وسكون الفاء جمع سافر كصحب جمع صاحب ويجمع على أسفار أيضًا، والسَفْر والمسافرون بمعنى واحدٍ.
قوله: "ثم غزا حنين" وهو موضع يُذَكَّر ويؤنث، فإن قصدت به البلد والموضع ذكّرتَه وصرفته كقوله تعالى:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} (5)، وإن قصدت به البلدة أو البُقْعَة أنّثْته ولم تصرّفه، وقال أهل السيرة: حنين وادٍ بينه وبين مكة ثلاثة أميال.
وغزوة حنين هي غزوة هوازن، وكانت بعد الفتح في خامس شوال سنة ثمان من الهجرة، وكان الفتح لعشر بقين من شهر رمضان قبل خروجه عليه السلام إليهم بخمس عشرة ليلة، وكانت غزوة الطائف بعد فراغه عليه السلام من حنين.
قوله: "إلي الجعرانة" عمرة الجعرانة: كانت في ذي القعدة بعد غزوة الطائف، وقسّم غنائم حنين في السنة الثامنة من الهجرة، والجعرانة: موضع قريب من
(1)"المعجم الكبير"(18/ 209 رقم 515).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 205 رقم 8174).
(3)
"مسند الطيالسي"(1/ 115 رقم 858).
(4)
"مسند البزار"(9/ 77 رقم 3608).
(5)
سورة التوبة، آية:[25].
مكة، وهي من الحل، وميقات للإحرام، وهي بتسكين العين والتخفيف في الراء، وقد تكسر العين وتشدد الراء.
وبهذا الحديث أستدل أصحابنا أن المسافر لا يزال على حكم السفر حتى ينوي الإقامة في بلد أو قرية خمسة عشر يومًا أو أكثر، وإن نوى أقل من ذلك قصّر، فإن قيل: استدلالكم بهذا لا يتم.
قلت: استدلالنا بهذا أن المسافر إفا دخل بلدًا أو قويةً لا يزال على حكم السفر ما لم ينو الإقامة.
وأما تعيين المدة بخمسة عشر يومًا، فلما روى الطحاوي عن ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم قالا:"إذا اقدمت بلدةً وأنت مسافر، وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر ليلةً فأكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فأقصرها".
وبما روى ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن وكيع، عن عمر بن ذر، عن مجاهد:"أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا أجمع على إقامة خمسة عشر يومًا؛ أتم الصلاة".
وبما رواه محمد بن الحسن في كتابه "الآثار"(2): عن أبي حنيفة، عن موسى ابن مسلم، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر قال:"إذا كنت مسافرًا فوطنت نفسك على إقامة خمسة عشر يومًا فأتمم الصلاة، وإن كنت لا تدري فأقصر".
ص: حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخَصيبُ بن ناصح، قال: ثنا وُهَيْبٌ، عن ابن جريج (ح).
وحدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وَهْب، قال: ثنا عمّي، قال: حدثني عمرو بن الحارث، وأسامة بن زيد، وابن جريج أن محمد بن المنكدر حدثهم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"صلّى رسول الله عليه السلام الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 208 رقم 8217).
(2)
"الآثار" لمحمد بن الحسن (1/ 241 رقم 187).
حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا حبان بن هلال، قال: ثنا وُهَيْب، قال: ثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن إبراهيم بن مَيْسرة، عن أنس، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا مُبَشّر بن الحسن، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا شعبة، عن يحيى بن أبي إسحاق، قال: سمعتُ أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله عليه السلام فجعل يصلي ركعتين ركعتين ركعتين، حتى رجع، قلت: كم أقمتم؟ قال: عشرًا".
حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو نُعَيْم، قال: ثنا سفيان، عن يحيى بن أبي إسحاق
…
فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يذكر سؤاله لأنس رضي الله عنه.
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكَيرْ، قال: ثنا اللَّيْثُ: أن بكُيْرًا حدثه، عن محمد بن عبد الله بن أبي سليمان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"صلينا مع رسول الله عليه السلام بمنى ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ومع عثمان ركعتين شطر إمارته ثم أتمها بعد ذلك".
ش: هذه سبع طرق صحاح:
الأول: عن نصر بن مرزوق أبي الفتح العُتْقي، عن الخصِيب بن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، عن وهيب بن خالد البصري، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن محمد بن المنكدر، عن أنس.
وأخرجه الجماعة غير ابن ماجة.
فقال البخاري (1): ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر وإبراهيم بن مَيسرة، عن أنس قال:"صليت الظهر مع النبي عليه السلام بالمدينة أربعًا، وبذي الحليفة ركعتين".
(1)"صحيح البخاري"(1/ 369 رقم 1039).
وقال مسلم (1): ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا سفيان، قال: نا محمد بن المنكدر إبراهيم بن مَيْسرة، سمعا أنس بن مالك يَقولُ:"صليتُ مع رسول الله عليه السلام الظهر بالمدينة أربعًا، وصليتُ معه العصر بذي الحليفة ركعتين".
وقال أبو داود (2): ثنا زهير بن حرب، نا ابن عُيَيْنة، عن محمد بن المنكدر، إبراهيم بن مَيْسرة، سمعا أنس بن مالك
…
إلى آخره نحو رواية مسلم.
وقال الترمذي (3): ثنا قتيبة، قال: نا ابن عيينة
…
إلى آخره نحوه.
وكذا أخرجه النسائي (4).
قوله: "بذي الحليفة" قد ذكرنا أنها ميقات أهل المدينة والشام اليوم، بينها وبين المدينة ستة أميال ويقال: سبعة.
وهذا مما احتج به أهل الظاهر في جواز القصر في طويل السفر وقصيره، ولا حجة لهم في ذلك؛ لأن المراد به حين سافر عليه السلام إلى مكة في حجة الوداع صلى الظهر بالمدينة أربعًا ثم سافر، فأدركته العصر وهو مسافر بذي الحليفة فصلاها ركعتين، وليس المراد أن ذا الحليفة عامّة سفره، فلا دلالة فيه قطعًا.
وأما ابتداء القصر فيجوز من حين يفارق بنيان بلده أو خيام قومه إن كان من أهل الخيام، هذا مذهب العلماء كافة إلا رواية ضعيفة عن مالك أنه لا يقصر حتى يجاوز ثلاثة أميال، وحكي عن عطاء وجماعة من أصحاب ابن مسعود أنه إذا أراد السفر قصر قبل خروجه.
وعن مجاهد أنه لا يقصر في يوم خروجه حتى يدخل الليل.
الثالث: عن أحمد بن عبد الرحمن بَحْشَلْ، عن عمه عبد الله بن وهب، عن
(1)"صحيح مسلم"(1/ 480 رقم 690).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 4 رقم 1202).
(3)
"جامع الترمذي"(2/ 431 رقم 546).
(4)
"المجتبى"(1/ 235 رقم 469).
عمرو بن الحارث المصري وأسامة بن زيد وعبد الملك بن جريج، ثلاثتهم عن محمد بن المنكدر، عن أنس رضي الله عنه.
وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن معمر، نا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أُخبرت عن محمد بن المنكدر، عن أنس قال:"صلى رسول الله عليه السلام صلاة الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بذي الحليفة حتى أصبح، فلما أصبح ركب ناقته واستوت راحلته قائمة أَهَلّ".
وثنا محمد بن معمر، نا روح بن عبادة، نا أساعة بن زيد، عن محمد بن المنكدر، عن أنس قال:"صلى رسول الله عليه السلام الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى العصر بالعقيق ركعتين".
الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن حَبَّان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- بن هلال البصري روى له الجماعة، عن وُهَيب بن خالد البصري، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عفان، نا وهيب بن خالد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال:"صلى النبي عليه السلام الظهر بالمدينة أربعًا وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين وبات بها حتى أصبح فلما صلى الصبح، ركب راحلته، فلما انبعثت به سبَّح وكبّر حتى استوت به البيداء، ثم جمع بينهما، فلما قدمنا مكة أمرهم رسول الله عليه السلام أن يحلوا، فلما كان يوم التروية أهلوا بالحج، ونحر رسول الله عليه السلام سبع بدنات بيده قائمًا، وضحى رسول الله عليه السلام بالمدينة بكبشين أقَرنيْن أملحين".
وأخرجه مسلم (2) أيضًا: ثنا خلف بن هشام، وأبو الربيع الزَهراني وقتيبة بن سعيد، قالوا: نا حماد -وهو ابن زيد-.
(1)"مسند أحمد"(3/ 268 رقم 13858).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 480 رقم 690).
وحدثني زهير بن حرب ويعقوب بن إبراهيم، قالا: نا إسماعيل كلاهما عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أن رسول الله عليه السلام صلى الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين".
الرابع: عن علي بن شيبة، عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري، عن إبراهيم ابن مَيْسرة، عن أنس، عن النبي عليه السلام.
وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة، عن أنس بن مالك قال:"صليت مع النبي عليه السلام الظهر بالمدينة أربعًا، وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين".
وأخرجه البخاري (1) نحوه وقد ذكرناه.
الخامس: عن مُبشر بن الحسن بن مُبَشّر بن مُكسّر القَيْسي أبي بشر البصري، وثقه ابن يونس، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي -وقد تكرر ذكره- عن شعبة، عن يحيى بن أبي إسحاق الحَضْرمي البصري روى له الجماعة، عن أنس رضي الله عنه.
وأخرجه الجماعة:
فقال البخاري (2): ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث، قال: نا يحيى بن أبي إسحاق، قال: سمعت أنسًا يقول: "خرجنا مع النبي عليه السلام عن المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمتم بمكة شيئًا؟ قال: أقمنا بها عشرًا".
وقال مسلم (3): ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا هشيم، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس بن مالك قال: "خرجنا مع رسول الله عليه السلام من المدينة
(1)"صحيح البخاري"(9/ 369 رقم 1039).
(2)
"صحيح البخاري"(9/ 367 رقم 1031).
(3)
"صحيح مسلم"(1/ 481 رقم 693).
إلى مكة، فصلى ركعتين ركعتين حتى رجع، قلت: كم أقام بمكة؟ قال: عشرًا".
وقال أبو داود (1): ثنا موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم -المعنى- قالا: أنا وُهَيْب، نا يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس بن مالك قال:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام من المدينة إلى مكة، فكان يُصلّي ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة. فقلنا: هل أقمتم بها شيئًا؟ قال: أقَمْنا بها عشرًا".
وقال الترمذي (2): ثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا هشيم، قال: أنا يحيى بن أبي إسحاق، قال: أنا أنس بن مالك قال: "خرجنا مع النبي عليه السلام من المدينة إلى مكة، فصل ركعتين. قال: قلت لأنس: كم أقام رسول الله عليه السلام بمكة؟ قال: عشرًا".
قال أبو عيسى: حديث أنس حديث حسن صحيح.
وقال النسائي (3): أنا حُمَيد بن مسعدة، قال: أبنا يزيد، قال: أبنا يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس بن مالك قال:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام من المدينة إلى مكة، فكان يصلّي بنا ركعتين حتى رجعنا. قلت: هل أقام بمكة؟ قال: نعم، أقمنا بها عشرًا".
وقال ابن ماجه (4): ثنا نصر بن علي الجهضمي، نا يزيد بن زريع وعبد الأعلى، نا يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس قال:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام من المدينة إلى مكة نصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا. قلت: كم أقام بمكة؟ قال: عشْرًا".
قوله: "خرجنا مع رسول الله عليه السلام" أي من المدينة إلى مكة كما هو مفسر في رواية غيره.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 10 رقم 1233).
(2)
"جامع الترمذي"(2/ 431 رقم 548).
(3)
"المجتبى"(3/ 121 رقم 1452).
(4)
"سنن ابن ماجه"(1/ 342 رقم 1077).
قوله: "فجعل يصلي" أي فجعل رسول الله عليه السلام يصلي الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، والعشاء ركعتين، فوقع قوله:"ركعتين" في رواية الطحاوي مكررًا ثلاث مرات، وفي رواية غيره مرتين، وفي رواية النسائي مرة واحدة.
قوله: "قلت: كم أقمتم؟ " القائل هو يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي، أي كم يوم أقمتم بمكة.
قوله: "قال: عشرًا" أي عشر ليال، وهذا الحديث حجة على الشافعي في تقديره مدة الإقامة بأربعة أيام؛ لأنه يخبر عن مدة مقامه عليه السلام بمكة في حجة الوداع فإنه دخل مكة في صبح رابعة من ذي الحجة وهو يوم الأحد، وخرج صبح يوم الأربعاء الرابع عشر.
ولا يقال: يحتمل أنهم عزموا على السفر في اليوم الثاني أو الثالث، واستمر بهم ذلك إلى عشر؛ لأن الحديث إنما هو في حجة الوداع، فتعين أنهم نووا الإقامة أكثر من أربعة أيام لأجل قضاء النسك، نعم كان يَسْتقيم هذا أن لو كان الحديث في قصة الفتح.
والحاصل: أن ها هنا حديثان:
أحدهما: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله عليه السلام أقام بمكة تسع عشرة يقصر الصلاة".
رواه البخاري (1)، وكان في الفتح، صرح بذلك في بعض طرقه "أقام بمكة عام الفتح".
والآخر: حديث أنس هذا وكان في حجة الوداع.
وقال الحافظ المنذري في "حواشيه": حديث أنس يُخْبر عن مدة مقامه عليه السلام بمكة شرفها الله تعالى في حجة الوداع، فإنه دخل مكة في صبح رابعة من ذي
(1) تقدم.
الحجة وهو يوم الأحد، وبات بالمحصب ليلة الأربعاء، وفي تلك الليلة اعتمرت عائشة رضي الله عنها من التنعيم، ثم طاف النبي عليه السلام طواف الوداع سَحَرًا قبل صلاة الصبح من يوم الأربعاء، وخرج صبيحته وهو الرابع عشر، فأما حديث ابن
عباس وغيره فهو إخبار عن مدة مقامه عليه السلام بمكة زمن الفتح. انتهى.
وقال النووي في شرح هذا الحديث: معناه أنه أقام بمكة وما حواليها لا في نفس مكة فقط، قدم مكة في اليوم الرابع فأقام بها الخامس والسادس والسابع، وخرج منها في الثامن إلى مني وذهب إلى عرفات في التاسع، وعاد إلى مني في العاشر فأقام بها الحادي عشر والثاني عشر، ونفر في الثالث عشر إلى مكة، وخرج منها إلى المدينة في الرابع عشر، فمدة إقامته في مكة وحواليها عشرة أيام، وكان يقصر الصلاة فيها كلها، ففيه دليل على أن المسافر إذا نوى إقامته دون أربعة أيام سوى يومي الدخول والخروج يقصر، وأن الثلاثة ليست مدة إقامة.
قلت: هذا الكلام الذي، قرره لا ينهض حجةً لمذهبهم بل في نفس الأمر حجة عليهم، سلمنا أنه إذا نوى إقامةً دون الأربعة أيام لا تصح نيته فمقصّر، ولكن لا تسلم صحتها أيضًا إذا نوى أربعةً أو خمسة أو ستةً فمن أين يفهم من الحديث أنه إذا نوى أربعة أيام أو خمسة أن نيته صحيحة، وكذلك استثناء يومي الدخول والخروج لا يفهم من الحديث بل هو مجرد كلام من الخارج، بل صريح الحديث يردُّ صحة نية الإقامة بأربعة أيام.
وقال الحسن بن صالح: إذا نوى إقامة عشرة أيام يُتم. واستدل بهذا الحديث، وهذا أنسب من غيره مِنْ وجه تأمل.
السادس: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري
…
إلى آخره.
وأخرجه الدارمي في "سننه"(1): ثنا محمد بن يوسف، نا سفيان، عن يحيى -هو ابن أبي إسحاق- عن أنس بن مالك قال:"خرجنا مع النبي عليه السلام، فجعل يُقصّر حتى قدمنا مكة، فأقام بها عشرة أيام يُقصّر حتى رجع، وذلك في حجّه".
السابع: عن محمد بن خزيمة، عن يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر، عن الليث بن سَعْد، عن بُكَيْر بن عبد الله بن الأشج، عن محمد بن عبد الله بن أبي سليمان، وثقه ابن حبان وروى له النسائي، وفي بعض نسخ الطحاوي: محمد بن عبد الله ابن أبي سُلَيْم، وهكذا وقع في بعض نسخ النسائي.
وذكر في "التكميل": محمد بن عبد الله بن أبي سُلَيْم المدني، عن أنس: "صليت مع رسول الله عليه السلام بمنى
…
" الحديث. وعنه: بكير بن عبد الله بن الأشج، قال النسائي: ثقة.
وأخرجه النسائي (2): أنا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن بُكير، عن محمد بن عبد الله بن أبي سليمان، عن أنس رضي الله عنه أنه قال:"صليتُ مع رسول الله عليه السلام بمنى ومع أبي بكر ومع عمر ركعتين، ومع عثمان ركعتين صدرًا من إمارته".
وأخرجة أحمد أيضًا في "مسنده"(3): عن حجاج، عن ليث
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "شطر إمارته" أي نصف أيام خلافته.
ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو شهاب، عن ابن أبي ليلى، عن العَوْفي، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "صليت مع رسول الله عليه السلام العصر أربعًا وليس بعدها شيء، وصلى المغرب ثلاثًا وبعدها ركعتين، وقال: هي وتر صلاة النهار ولا تنقص في سفر ولا حضر، وصلى العشاء أربعًا وصلى
(1)"سنن الدارمي"(1/ 425 رقم 1510).
(2)
"المجتبى"(3/ 120 رقم 1447).
(3)
"مسند أحمد"(3/ 168 رقم 12741).
بعدها ركعتين، قال: وصلى في السفر الظهر ركعتين وصلى بعدها ركعتين، وصلى العصر ركعتين وليس بعدها شيء، وصلى المغرب ثلاثا وبعدها ركعتين، وصلى العشاء ركعتين وبعدها ركعتين".
ش: أحمد بن يونس هو أحمد بن عبد الله بن يونس وغالبًا يُنْسب إلى جدّه، وهو شيخ البخاري.
وأبو شهاب الحناط -بالنون- الصغير الكناني الكوفي نزيل المدائن، واسمه عبد الله بن نافع روى له الجماعة سوى الترمذي.
وابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي الفقيه قاضي الكوفة، فيه مقال، فعن يحيى: ليس بذاك. وعن العجلي: كان فقيهًا صاحب سنة صدوقًا جائز الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوي. وروى له الأربعة.
والعَوْفي -بفتح العين المهملة وسكون الواو وبالفاء- هو عطية بن سعد بن جنادة الجدلي القَيْسي العَوْفي أبو الحسن الكوفي، فيه مقال، فعن أحمد: ضعيف الحديث. وعن يحيى: صالح. وعن النسائي: ضعيف. وقال أبو زرعة: لين. وروى له أبو داود والترمذي والنسائي.
والحديث أخرجه الترمذي (1): ثنا محمد بن عبيد المحاربي الكوفي، قال: ثنا علي بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن عطية ونافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"صليتُ مع النبي عليه السلام في الحضر والسفر، فصليتُ معه في الحضر الظُهْر أربعًا وبعدها ركعتين، وصليتُ معه في السفر الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين ولم يُصلّ بعدها شيئًا، والمغرب في الحضر والسفر، سواء ثلاث ركعات لا تنقص في حضر ولا سفر، وهي وتر النهار وبعدها ركعتين".
(1)"جامع الترمذي"(2/ 437 رقم 552).
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، سمعت البخاري يقول: ما روى ابن أبي ليلى حديثًا أعجب إليّ من هذا ولا أروي عنه شيئًا.
ومما يستفاد منه: أن السنن المؤكدة لا تترك في السفر.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عون ابين أبي جُحَيْفة، قال: سمعتُ أبي يُحدّث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم بالبَطْحاء -وبين يَديْه عَنزةٌ- الظهرَ ركعتين والعَصْر ركعتين، تمرُّ بين يديه المرأةُ والحمارُ"
حدثنا محمد بن علي بن داود، قال: ثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، قال: حدثني أبي قال، حدثني ابن أبي ليلى، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه:"أن النبي عليه السلام خرج مسافرًا فلم يزل يُصلّي ركعتين ركعتين حتى رجع".
ش: هذان إسنادان:
أوّلهما: صَحيحٌ، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شعبة، عن عون بن أبي حجيفة الكوفي روى له الجماعة، عن أبيه أبي جُحَيفة -بضم الجيم وفتح الحاء المهملة- وَهْب بن عبد السُوَائي الصحابيّ.
وأخرجه البخاري (1): ثنا آدم، ثنا شعبة، قال: ثنا عون بن أبي جحيفة، قال: سمعتُ أبي قال: "خرج علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فأُتي بوضوء فتوضأ، فصلى بنا الظهر والعصر، وبن يَدْيه عَنزةٌ، والمرأة والحمار يمران من ورائها".
ثنا (2) سليمان بن حرب، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن أبي جُحَيفة قال:"خرج رسول الله عليه السلام بالهاجرة، فصلى بالبطحاء الظهر والعصرَ ركعتين، ونصبَ بين يديه عنزةً وتوضأ، فجعل الناسُ يتوضئون بوضوئه".
(1)"صحيح البخاري"(1/ 188 رقم 477).
(2)
"صحيح البخاري"(1/ 188 رقم 479).
وأخرجه مسلم (1): ثنا محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، قال ابن مثنى: نا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت أبا جُحَيفة قال: "خرج رسول الله عليه السلام بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضأ، فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين وبين يَديْه عنزةٌ".
قال شعبة: وزاد عون، عن أبيه أبي جحيفة:"وكان يمرُّ من ورائها المرأة والحمار".
وأخرجه أبو داود (2) والنسائي (3) أيضًا.
وهذا الحديث له طرق عدّة.
قوله: "بالبطحاء" بالمدّ وهي الحصى الصغار، وبطحاء الوادي وأبطحه: حصاه الليّن في بطن المَسِيل، ومنه سمّوا بطحاء مكة وأبطحها، وهو مسيل واديها، من قبيل ذكر الشيء باسم ما يحله ويُجاوره، ويجمع على البطاح والأباطح.
قوله: "عَنَزَة" بفتح العين والنون والزاي، وهي مثل نصف الرمح أو أكبر شيئًا، وفيها سنان مثل سنان الرمح، والعكّازة قريب منها، والهاجرة وقت اشتداد حر النهار وأراد بها وقت الظهر.
ويستفاد منه: جواز إمامة المسافر للمسافرين ولغيرهم.
واستحباب اتخاذ العنزة للإمام.
وأن الإِمام إذا صلى بقوم في الصحراء ينبغي أن ينصب بين يديه عنزة أو نحوها ليصلي إليها، وكذلك المنفرد.
وأن مرور المرأة والحمار بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة، وفيه دليل قاطع على أنه عليه السلام قصّر الظهر والعصر في سفره.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 361 رقم 503).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 183 رقم 688).
(3)
"المجتبى"(1/ 235 رقم 470).
والطريق الثاني: حسن، عن محمد بن علي بن داود البغدادي نزيل مصر، عن محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي شيخ البخاري في كتاب "الأدب"، قال أبو حاتم: كوفي صدوق. ووثقه ابن حبان، وروى له الترمذي.
عن أبيه عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الأزدي: ليس بذاك. وروى له الترمذي وابن ماجه، وهو يروي عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي القاضي، عن عون
…
إلى آخره.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا سفيان وابن أبي ليلى، عن عون بن أبي جُحَيفة السُّوائي، عن أبيه قال:"صليت مع النبي عليه السلام بمنى الظهر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة".
ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب (ح).
وحدثنا حُسين بن نَصْر، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قالا: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن وَهْب قال:"صلى بنا رسول الله عليه السلام بمنى ركعتين ونحن أكثر ما كنا وآمُنُه".
ش: هذان طريقان صحيحان:
أحدهما: عن ابن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن حارثة بن وهب الخزاعي الصحابي أخي عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأمه، وفي "التهذيب": أخو عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وأمهما أم كلثوم بنت جَرْول الخزاعي.
وأخرجه البخاري (2): ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، أنبأنا أبو إسحاق،
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 204 رقم 8165).
(2)
"صحيح البخاري"(1/ 367 رقم 1033).
قال: سمعت حارثة بن وهب قال: "صلى بنا النبي عليه السلام -آمنُ ما كان- بمنى ركعتين".
والآخر: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن شعبة
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم (1): ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، قال: حدثني حارثة بن وهب الخزاعي قال: "صليتُ خلف رسول الله عليه السلام بمنزل والناسُ أكثر ما كانوا، فصل ركعتين في حجة الوداع".
وأخرجه أبو داود (2) والترمذي (3) والنسائي (4) أيضًا.
قوله: "وآمُنُهُ" أي آمن ما كنا، وأراد بذلك دفع خلاف مَنْ يقول: إنما تقصر الصلاة في خوف أو حرب، وتحقيق معنى هذا الكلام: أنا كنا أكثر ما كنا قبل ذلك وكنا آمن ما كنا قبل ذلك.
وآمن أفعل للتفضيل من الأَمْن ضد الخوف.
ص: فهؤلاء أصحاب رسول الله عليه السلام يخبرون عن رسول الله عليه السلام أنه كان في سفره يَقصر الصلاة حتى يَرجعَ إلى أهلِه.
ش: أشار بهؤلاء إلى الصحابة الذين روى عنهم أنهم رووا عن النبي عليه السلام أنه كان يقصر صلاته في السفر، وهم: عائشة، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعمران بن حصين، وأنس ابن مالك، وأبو جُحَيفة، وحارثة بن وهب رضي الله عنهم.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 484 رقم 696).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 200 رقم 1965).
(3)
"جامع الترمذي"(3/ 228 رقم 882).
(4)
"المجتبى"(3/ 119 رقم 1445).
ص: ثم قد روي عن أصحابه من بعده أنهم كانوا في أسفارهم يَفْعلون ذلك أيضًا، فمن ذلك: ما قد ذكرنا في هذا الفصل عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
ومنه أيضًا: ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا شعبة، قال، ثنا سليمان، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث:"أن عمر- رضي الله عنه صلى بمكة ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة، أتموا صلاتكم؛ فإنا قومٌ سَفْرٌ".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق وروح ووهب، قالوا: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر .... مثله.
حدثنا يونس، قال: أنا ابنُ وهب، أن مالكًا حدّثه، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله ومالك، عن زيد بن أسلم، عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه: "أن عمر كان إذا قدم مكة
…
" ثم ذكر مثله.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روحٌ، قال: ثنا مالك بن أنس وصالح بن الأخضر، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن عمر .... مثله.
ش: أي: ثم قد روي عن أصحاب النبي عليه السلام (1) من بعده أنهم كانوا في أسفارهم يفعلون ذلك. أي قصر الصلاة.
ثم أخرج عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من خمس طرق صحاح:
الأول: ما ذكره فيما مضى مع أبي بكر- رضي الله عنه.
الثانى: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن رَوْح بن عبادة، عن شعبة، عن سُلَيمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن همام بن الحارث.
وأخرجه محمد في "آثاره"(2) منقطعًا: عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"أنه صلى بالناس بمكة الظهر ثم انصرف، فقال: يا أهل مكة إنا سَفْرٌ؛ فمن كان من أهل البلد فليُكمل. فأكمل أهل البلد"
(1) وقع خلط في ترتيب المخطوط هنا.
(2)
كتاب "الآثار"(1/ 30 رقم 145).
قال محمد: وبه نأخذ، إذا دخل المقيم في صلاة المسافر فقضى المسافر صلاته قام المقيم فأتم صلاته. وهو قول أبي حنيفة.
قوله: "سَفر" أي مسافرون، وهو جمع كصحب جمع صاحب، وقد مرّ مرةً.
الثالث: عن أبي بكرة أيضًا، عن يعقوب بن إسحاق الحضرمي المقرئ، وروح بن عبادة، ووهب بن خالد، ثلاثتهم عن شعبة، عن الحكم بن عُتَيْبة، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عمر.
الرابع: عن يُونُس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وَهْب، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن عمر.
وروى مالك (1) أيضًا: عن زيد بن أسلم، عن أسلم مولى عمر:"أن عمر رضي الله عنه كان إذا قدم مكة صلى ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سَفْرٌ".
وأخرجه مالك في "موطئه"(2).
وعبد الرزاق في "مصنفه"(3): عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن عمر، مثله.
الخامس: عن أبي بكرة بكار، عن رَوْح بن عبادة، عن مالك بن أنس وصالح بن أبي الأخضر، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله، عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
وأخرج عبد الرزاق (3): عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال:"صلى عمر رضي الله عنه بأهل مكة الظهر أو العصر، فسلم في ركعتين، ثم قال: أتموا صلاتكم يا أهل مكة؛ فإنا قوم سَفْرٌ".
(1)"موطأ مالك"(1/ 149 رقم 347).
(2)
"موطأ مالك"(1/ 149 رقم 346).
(3)
"مصنف عبد الرزاق"(2/ 540 رقم 4370).
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن زَيْد قال:"خرجنا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى صِفّين، فصلى بنا ركعتين بين الجسر والقنطرة".
ش: ابن مرزوق هو إبراهيم، وأبو عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، وسفيان هو الثوري، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السّبيعي، وعبد الرحمن بن زَيْد الفائشي -بالفاء- الكوفي. قال ابن المديني: مجهول.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن زيد الفائشي قال:"خرجنا مع علي رضي الله عنه إلى صِفين، فصلى بين الجسْر والقنطرة ركعتين".
قوله: "إلى صِفّين" بكسر الصاد المهملة وتشديد الفاء، وهو موضع كانت به وقعةٌ بين علي ومعاوية رضي الله عنهما بالقرب من الفرات شرقي بلاد الشام، وكانت وقعة صِفين في سنة سبع وثلاثين من الهجرة.
و"الجسر": وإحد الجسور معروف، وهو ما يكون من الحجر والخشب ونحوهما.
و"القنطرة" لا تكون إلا من الحجر فكل قنطرة جسر وليس كل جسر قنطرة.
وقال الجوهري: القنطرة الجسر. ولم يفرق بينهما، والصحيح ما ذكرناه.
وأراد بالجسر: جسر المدينة التي خرج منها عليٌّ رضي الله عنه، والظاهر أنها الكوفة، وكذلك قنطرة المدينة التي خرج منها عليٌّ رضي الله عنه إلى صفّين.
ويستفادُ منه حكمان:
أحدهما: أن عليًّا كان ممن يقصر الصلاة في السفر.
والآخر: أن ابتداء القصر من حين مفارقة بيوت المصر؛ وذلك لأن جسر المدينة وقنطرتها لا يكونان إلا في آخر عمارتها.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 202 رقم 8145).
ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عديّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن أبي ليلى الكنْدي قال:"خرج سلمان رضي الله عنه في ثلاثة عشر رجلًا من أصحاب النبي عليه السلام في غزاة، وكان سلمان أسنّهم، فحضرت الصلاةُ، فقالوا: تقدّمْ يا أبا عبد الله. فقال: ما أنا بالذي أَتَقدّم، أنْتم العَربُ ومنكم النبي صلى الله عليه وسلم فليتقدم بعضكم. فتقدّم بعضُ القوم، فصلى أربع ركعات، فلما قضى الصلاة قال سلمان: ما لنا وللمُرّبعة؟! إنما يكفينا نصف المربعة".
ش: يوسف بن عديّ بن زريق شيخ البخاري، وأبو الأحوص سَلاّم بن سُلَيم الكوفي، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السّبيعي، وأبو ليلى الكندي مشهور بكنيته وقد اختُلف في اسمه، قال ابن معين: ثقة مشهور.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ليلى الكنْدي قال:"أقبل سلمان رضي الله عنه في اثني عشر راكبًا -أو ثلاثة عشر راكبًا- من أصحاب رسول الله عليه السلام، فلما حضرت الصلاة قالوا: تقدَّمْ يا أبا عبد الله، قال: إنا لا نؤمكم ولا ننكح نساءكم، إن الله هدانا بكم. قال: فتقدم رجل من القوم، فصل أربع ركعات، فلما سلّم قال سلمان: ما لنا وللمربعة؟! إنما كان يكفينا ركعتان نصف المربعة، ونحن إلى الرخصة أحوجُ ".
قال عبد الرزاق: يعني في السفر.
وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه"(2): عن أبي الأحوص
…
إلى آخره نحو رواية الطحاوي.
قوله: "ما لنا وللمربّعة" إنكارٌ من سلمان على إتمام الصلاة في السفر، وعدم إنكار بقية الصحابة على سلمان دليل على أنهم مجمعون على القصر.
(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 520 رقم 4283).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 204 رقم 8160).
ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن عبد الرحمن بن المِسْورُ قال:"كنا مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في قرية من قرى الشام، فكان يصلّي ركعتين فنصلي نحن أربعًا، فنسأله عن ذلك فيَقولُ سَعدٌ: نحن أعلم".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، قال: ثنا جويرية، عن مالك، عن الزهريّ، أن رجلًا أخبره، عن عبد الرحمن بن المِسْور بن مَخْرمة:"أن سَعْد ابن أبي وقاص، والمِسْور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن عبد يغوث كانوا جميعًا في سفرٍ، فكان سعد يقصر الصلاة ويفطر، وكانا يُتمّان الصلاة ويَصوُمان، فقيل لِسَعْدٍ: نراك تَقْصر الصلاة وتُفْطر ويُتمّان؟ فقال سَعْد: نحن أعلم".
ش: هذان طريقان:
الأول: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن خالد، عن شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن المسْور بن مخرمة بن نوفل بن أُهَيْب بن عبد مناف بن زهرة القرشي الزهري المدني روى له مسلم.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الرحمن بن المسور، عن سعد رضي الله عنه قال:"كنا معه بالشام شهرين، فكنَّا نُتمّ وكان يقصر، فقلنا له، فقال: إنا نحن أعلم".
الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن عبد الله بن محمد بن أسماء بن عبيد بن مخارق أبي عبد الرحمن البصري ابن أخي جويرية بن أسماء، شيخ الشيخين وأبي داود.
(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 535 رقم 4350).
عن جويرية بن أسماء بن عبيد أبي أسماء البصري روى له الجماعة سوى الترمذي، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم الزهري، عن رجل مجهول، عن عبد الرحمن بن المسور وقد مرّ ذكرهُ الآن، والمسور بن مخرمة بن نوفل القرشي له ولأبيه صحبة، وعبد الرحمن بن عبد يغوث هو عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة القرشي الزهريّ، وأمه آمنة بنت نوفل أُهَيب بن عبد مناف بن زهرة، وهو ابن خال النبي عليه السلام، وابن عم عبد الله بن أرقم، أدرك النبي عليه السلام ولا تصح له رؤية ولا صحبة، قاله ابن الأثير، وذكره ابن حبان في الثقات من التابعين، ثم قال: وهو يُعدُّ في الصحابة أيضًا.
وهذا يدلّ على أن القصر عزيمة، ألا ترى أن سَعْدًا رضي الله عنه لم يعذر المِسْور وعبد الرحمن بن عبد يغوث في إتمامهما، ولو كان رخصة لأعذرهما.
ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان أنه قال:"جاء عبد الله بن عمر يَعودُ عبد الله بن صَفْوان فصلى بنا ركعتين ثم انصرف، فأتممنا لأنفسنا".
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع، عن ابن عمر:"كان يُصلّي وراء الإِمام بمنًى أربعًا وإذا صلى لنفسه صلى ركعتين".
حدثنا يونسُ، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال:"أصلي صلاة سفرٍ ما لم أُجْمِع إقامةً وإن مكثت اثنتي عشرة ليلةً".
حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح قال:"أتيت سالمًا أسألهُ وهو عند باب المسجد، فقلت: كيف كان أبوك يصنع؟ قال: كان إذا صدر الظهر، وقال: نحن ماكثون. أتم الصلاة، وإذا قال: اليوم وغدًا. قصر وإن مكث عشرين ليلةً".
ش: هذه أربع طرق صحاح كلها، عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم أيضًا، وابن وهب هو عبد الله، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وسفيان هو ابن عُيَيْنة، وابن أبي نجيح هو عبد الله بن أبي نجيح، وأبو نجيح اسمه يسار روى له الجماعة.
وصفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف القرشي الجُمحي المكي، قال العجلي: تابعيّ ثقة. روى له مسلم والنسائي وابن ماجه. وعبد الله بن صفوان بن أمية صحابيّ، ولأبيه أيضًا صحبة.
وأخرجه مالك في "موطئه"(1).
وإنما كان عبد الله يصلي أربعًا وراء الإِمام لكون الإِمام مقيمًا، والمسافر يجب عليه الإتمام إذا اقتدى بالمقيم، وكان يصلي ركعتين إذا كان وحده لأخذه بالعزيمة.
والأثر الثالث: أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه عيد الله قال:"لو قدمتَ أرضًا لصليت ركعتين ما لم أجمع مَكْثًا وإن أقمت أثنى عشر ليلةً".
قوله: "ما لم أُجمع" بضم الهمزة من الإجماع وهو إحكام النية والعزيمة، يقال: أجمعتُ الرأي وأزمعته وعزمت عليه؛ بمعنًى.
قوله: "وإن مكثت" واصل بما قبله، أي: وإن أقمت اثنى عشر ليلة، وهذا يدل على أنه إذا نوى إقامة أثنى عشر ليلةً يُتمّ؛ لأنه يصير مقيمًا.
وجاء عنه أيضًا: أنه لا يتم حتى ينوي خمسة عشر يومًا وهو الذي ذهب إليه أصحابنا.
(1)"موطأ مالك"(1/ 150 رقم 349).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(2/ 533 رقم 4340).
قال ابن أبي شيبة (1): ثنا وكيع، قال: ثنا عمر بن ذر، عن مجاهد قال:"كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أجمع على إقامة خمس عشرة سرّح ظهره وصلى أربعًا".
والأثر الرابع: أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن ابن عُيَيْنَة، عن ابن أبي نجيح قال:"سألت سالم بن عبد الله كيف ما كان ابن عمر يَصنعُ؟ قال: كان إذا صدر الظهر وقال: نحن ماكثون، أتم الصلاة، وإذا قال: اليوم وغدًا قصر الصلاة وإن مكث عشرين ليلةً".
قوله: "إذا صدر" من الصَدَر -بالتحريك- وهو رجوع المسافر من مقصده.
قوله: "الظهرَ" منصوب على الظرفية.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح، قال: ثنا أبو عامر الخزاز، قال: ثنا ابن أبي مليكه قال: "صحبت ابن عباس رضي الله عنهما من مكة إلى المدينة، فكان يصلي الفريضة ركعتين".
ش: إسناده صحيح، ورَوْح هو ابن عبادة، وأبو عامر الخزاز اسمه صالح بن رستم المزني البصري، روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، والخزاز -بالخاء والزائين المعجمات-.
وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة واسمه زهير بن عبد الله المكي الأحول، كان قاضيًا لعبد الله بن الزبير، روى له الجماعة.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح، قال: ثنا شعبة، عن أنس بن سيرين قال:"خرجنا مع أنس بن مالك رضي الله عنه بثق شيرين فامّنا في السفينة على بساط فصلى الظهر ركعتين، ثم صلى بعدها ركعتين".
ش: إسناده صحيح.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 208 رقم 8217).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(2/ 539 رقم 4365).
وأخرجه ابن حزم في "المحلى"(1): من طريق حماد بن زيد، ثنا أنس بن سيرين قال:"خرجت مع أنس بن مالك إلى أرضه ببثق شيرين وهي رأس خمسة فراسخ، فصلى بنا العصر في سفينة وهي تجر بنا في دجلة قاعدًا على بساطٍ ركعتين، ثم سلم، ثم صلى بنا ركعتين ثم سلم" انتهى.
و"بَثَق شيرين" بفتح الباء الموحدة، وسكون الثاء المثلثة بعدها قاف مضاف إلى شيرين -بكسر الشين المعجمة -وهو اسم نهر تحت نهر الديْر بستة فراسخ، ونهر الدَيْر في غربيّ دجلة، وعند فوّهته مشهد محمد بن الحنفية رضي الله عنه، وكلاهما من أنهر البصرة، والآن بثق شيرين قد خُرِبَ ودُثِرَ.
ويستفاد من هذا: أن أنسًا كان يأخذ بالعزيمة، وجواز الصلاة في السفينة، واستحباب إقامة السنن المؤكدة في السفر.
ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا شعبةُ، قال: ثنا الأزرق بن قيْس قال: "رأيت أبا بَرْزة الأسلميَّ بالأهْواز صلّى العصر، فقلت: كم صلى؟ قال: صلى ركعتين".
ش: يحيى بن سعيد القطان، والأزرق بن قيس الحارثي البصري روى له البخاري وأبو داود والنسائي، وأبو بَززة اسمه نَضْلة بن عبيد الصحابيّ رضي الله عنه.
ص: فهؤلاء أصحاب رسول الله عليه السلام كانوا يُقَصّرون الصلاة في السفر، وينكرون على من أتم.
ألا ترى أن سعدًا رضي الله عنه لما قيل له: إن المِسْورَ وعبد الرحمن بن عبد يغوث يُتمّان، قال:"نحن أعلم" ولم يعذرهما في إتمامهما، وأن الرجل الذي قدّمه سلمان رضي الله عنه ومعه ثلاثة عشر من أصحاب رسول الله عليه السلام، فصلى أربعًا قال له سلمان:"ما لنا وللمربعة؟! إنما يكفينا نصف المربع"، ولم يُنكر ذلك عليه من
(1)"المحلى"(5/ 7).
كان بحضرته من أصحاب رسول الله عليه السلام، فدل ذلك أن مذهبهم لم يكن إباحة الإتمام في السفر.
ش: أشار بهؤلاء إلى جماعة الصحابة الذين روي عنهم قصر الصلاة، وهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وسلمان الفارسي، وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأنس بن مالك وأبو برزة الأسلمي رضي الله عنهم، والباقي ظاهر.
ص: فإن قال قائل: فقد أتمّ ذلك الرجل الذي قدمه سلمان والمسور وهما صاحبان، فقد ضاد ذلك ما رواه سلمان ومَنْ تابعه على ترك الإتمام في السفر.
قيل له: في هذا دليل على ما ذكرت؛ لأنه قد يجوز أن يكون المسور وذلك الرجل أتمّا لأنهما لم يكونا يَريان في ذلك السفر قصرًا؛ لأن مذهبهما لا تقصر الصلاة إلا في حج، أو عمرة، أو غزو، فإنه قد ذهب إلى ذلك غيرهما، فلما احتمل ما روي عنهما ما ذكرنا، وقد ثبت التقصير عن أكثر أصحاب رسول الله عليه السلام لم يجعل ذلك مضادًّا لما قد روي عنهم؛ إذ كان قد يجوز أن يكون على خلاف ذلك، وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه قد صلى بمنى أربعًا، فأنكر ذلك عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ومن أنكره معه من أصحاب رسول الله عليه السلام، وإن كان عثمان رضي الله عنه إنما فعله لمعنًى رأى به إتمام الصلاة مما سنصفه في موضعه من هذا الباب إن شاء الله تعالى، فلما كان الذي ثبت لنا عن رسول الله عليه السلام، وعن أصحابه هو تقصير الصلاة في السفر لا إتمامها؛ لم يجز لنا أن نخالف ذلك إلى غيره.
ش: تقرير السؤال أن يقال: إن الرجل الذي قدمه سلمان في الصلاة قد أتمّ صلاته وهو صحابي، وكذلك المسور بن مخرمة في حديث الزهري المذكور عن قريب قد أتم صلاته، وهو أيضًا صحابي، فقد وقع بين فعلهما وبين ما روي عن سلمان ومَنْ تابعه من الصحابة على ترك الإتمام في السفر تضاد وتخالف؛ فحينئذٍ لا يتم الاستدلال بقول مَنْ يرى القصر.
وتقوير الجواب أن يقال: يحتمل أن يكون مذهب هذين الصحابيين أن لا تقصر الصلاة في حج أو عمرة أو غزوة، ولم يكونا يريان القصر في تلك السفرة التي كانا فيها؛ لأنها لم تكن سفرة الحج، ولا سفرة العمرة، ولا سفرة الغزوة، وقد ذهب إلى هذا المذهب أيضًا غيرهما من الصحابة وغيرهم، فعلى هذا يكونان ممن يرى القصر في السفر ولكن في سفر مخصوص وهو أن يكون سفرًا من هذه الثلاث، فإذا كان الأمر كذلك لم يبق فيه تضادّ ولا تخالف.
قوله: "فإنه قد ذهب" أي: فإن الشأن: قد ذهب إلى أن القصر مخصوص بسفرٍ من هذه السَّفْرات الثلاث غيرهما أي غير الرجل الذي قدمه سلمان والمسور بن مخومة.
وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن فضيل وأبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله بن مسعود: "لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد".
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه: "إنما يقصر الصلاة مَن كان حاجّا أو بحضرة عدو".
ورُوي ذلك أيضًا عن أبي قلابة وعن إبراهيم اليتمي.
وفي "الاستذكار" عن عطاء: "ما أرى أن تقصر الصلاة إلا في سبيل من سُبُل الله تعالى"
وكان طاوس يسأله الرجل فيقولُ: "أسافر لبعض حاجتي أفأقصر الصلاة؟ فيسكت، ويقولُ: حُجّاجًا أو عُمّارًا صلينا ركعتين".
وقال أبو عمر: ذهب داود في هذا إلى قول ابن مسعود رضي الله عنه، وهو نقض لأصله في ترك ظاهر الكتاب إذ لم يخصّ ضربًا من ضرب، واختلف أهل الظاهر
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 202 رقم 8149).
في هذه المسألة، فطائفة تقول بقول داود، وقال أكثرهم بقصر كل مسافر العاصي والمطيع كمذهب أبي حنيفة، وسيجيء مزيد الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
قوله: "وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه ...... " إلى آخره، ذكر هذا تأكيدًا لما ذكره من أمر القصر، بيانه: أن القصر في السفر لو لم يكن عزيمةً لما أنكر عبد الله بن مسعود على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حين صلى بمنى أربعًا، ومن عامة إنكاره عليه استرجع فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ وذلك لكراهيته خلاف ما عهد من النبي عليه السلام وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وخلاف ما عهد من عثمان أيضًا قبل ذلك، ولكن إنكار ابن مسعود عليه ليس على أنه رآه خالف الفرضَ وإنما خالف النفل؛ إذ لو اعتقد أن فرضه ركعتان لم يستبح أن يصليهما خلفه.
وقوله: "فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان" يدلُّ على هذا؛ لأن الأربع لو لم تكن مشروعةً ولا مباحةً في السفر لم يكن فيها حظ جملةً ولا تبعيض، وإنما أشار إلى التخفيف والأخذ بالعزيمة واتباع سنة النبي عليه السلام بذلك.
وقال الداودي: خشي ألا تجزئه الأربع. قال القاضي عياض: وفيه بعد، والله أعلم.
قوله: "وإن كان عثمان إنما قبله لمعنًى" واصل بما قبله، وسيذكر معنى هذا إن شاء الله تعالى.
ص: فإن قال قائل: فهل رويتم عن رسول الله عليه السلام شيئًا يدلكم على أن فرض الصلاة ركعتين في السفر فيكون ذلك قاطعًا لما ذهب إليه مُخالفكَم؟
قلنا: نعم، حدثنا ربيعٌ المؤذنُ، قال: ثنا أسدٌ (ح).
وحدثنا عبد العزيز بن معاوية، قال: ثنا يحيى بن حماد (ح).
وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو إسحاق الضرير، قالوا: ثنا معاوية، عن بُكير بن الأَخْنس، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"فرض الله على لسان نبيكم عليه السلام في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين".
ش: السؤال والجواب ظاهران:
والحديث أخرجه من ثلاث طرق؛ الأول والثاني صحيحان:
فالأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي وشيخ أبي داود والنسائي وابن ماجه، عن أسد بن موسى صاحب "المسند"، عن معاوية بن صالح الحمصي قاضي الأندلس، عن بُكير بن الأخنس السَّدُوسي الكوفي، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وأخرجه مسلم (1): ثنا يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور وأبو الربيع وقتيبة بن سعيد -قال يحيى: أنا، وقال الآخرون-: ثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة".
الثاني: عن عبد العزيز بن معاوية القرشي البصري، عن يحيى بن حماد بن أبي زياد الشيْباني أبي محمد البصري، عن معاوية بن صالح
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (2): أنا يعقوب بن ماهان، قال: ثنا القاسم بن مالك، عن أيوب بن عائذ، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"إن الله عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة".
الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي إسحاق إبراهيم بن زكرياء الضرير -فيه مقال كثير- عن معاوية بن صالح.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 479 رقم 687).
(2)
"المجتبى"(3/ 119 رقم 1442).
وأخرجه ابن ماجه (1): ثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وجُبَارَة بن المُغلّس، قالا: نا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"افترض الله الصلاة على لسان نبيكم عليه السلام في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين"، انتهى.
وهذا دليل قاطع على أن فرض الصلاة ركعتان في السفر.
وقد تقدم ما ذكرنا عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزَيدَ في صلاة الحضر"، وقد بسطنا الكلام فيه.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو معاوية ورَوحٌ، قالا: ثنا الثوريّ، عن زُبيْدٍ اليامي.
وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو المطرف بن أبي الوزير، قال: ثنا محمد بن طلحة، عن زُبيْد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر رضي الله عنه قال:"صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، والجمعة ركعتان، وصلاة السفر ركعتان؛ تمامٌ ليس بقَصْرٍ، على لسان النبي عليه السلام".
حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عامر ومسلم بن إبراهيم، قالا: ثنا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "خطبنا عمر رضي الله عنه
…
" فدكر مثله.
حدثنا يزيد بن سنان وإبراهيم بن مرزوق، جميعًا قالا: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن زُبَيْد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: قال عمر رضي الله عنه
…
فذكر مثله.
حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو إسحاق الضرير، قال: ثنا محمد بن طلحة، عن زُبَيْد
…
فذكر مثله بإسناده.
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 339 رقم 1068).
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا القواريريّ، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، قال: ثنا زُبَيْد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الثقة، عن عمر
…
فذكر مثله.
حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو غسّان، قال: ثنا شريك، عن زُبَيْد
…
فذكر مثله، غير أنه لم يذكر: عن الثقة.
ش: هذه سبعُ طُرق:
الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم ورَوْح بن عبادة، كلاهما عن سفيان الثوري، عن زُبَيْد بن الحارث اليامي- ويقال: الأيامي روى له الجماعة، وزُبَيد بضم الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره قال مهملة، واليامي بالياء آخر الحروف نسبة إلى يام بن أَصْبَى من همدان، وهو يَرْوي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وهذا إسناد صحيح.
فإن قيل: هو منقطع؛ لأن ابن أبي ليلى لم يَسْمع من عمر رضي الله عنه على ما زعمه النسائي.
قلت: حَكَمَ مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى من عمر- رضي الله عنه، وصرّح في بعض طرقه فقال: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكره.
يؤيد ذلك ما أخرجه أبو يَعلى المَوْصلي في "مسنده"(1): عن الحُسين بن واقد، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه قال:"خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه".
وأخرجه أيضًا ابن حبان في "صحيحه"(2): ولم يَقْدحه بشيء، وقال: أنا
(1)"مسند أبي يعلى"(1/ 186 رقم 211).
(2)
"صحيح ابن حبان"(7/ 22 رقم 2783).
أبو يعلى، قال: نا أبو خيثمة، قال: نا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن زُبَيْد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر رضي الله عنه قال:"صلاة السفر وصلاة الفطر وصلاة الأضحى وصلاة الجمعة ركعتان تمامٌ غير قصر على لسان نبيكم".
ولئن سلمنا ما زعمه النسائي، فهذا البيهقي قد أخرجه (1) بسندٍ لا غبار فيه ولا طعن، من حديث محمد بن بشر، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن زبيد اليامي، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: قال عمر رضي الله عنه: "صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر".
ثم قال: رواه الثوري، عن زُبَيد، فأسقط من سنده كعبًا، إلا أنه رفعه بآخره.
الثاني: عن أبي بكرة أيضًا، عن أبي المطرف بن أبي الوزير محمد بن عمر بن مطرف، عن محمد بن طلحة، عن زبيد اليامي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر رضي الله عنه.
وهذا أيضًا إسناد صحيح.
وأخرجه النسائي (2): أنا حميد بن مَسْعدة، عن سفيان -وهو ابن حبيب- عن شعبة، عن زُبَيْد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر رضي الله عنه قال:"صلاة الجمعة ركعتان، والفطر ركعتان، والنحر ركعتان، والسفر ركعتان؛ تمامٌ غير قصر على لسان النبي عليه السلام".
الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، ومسلم بن إبراهيم الأزدي القصاب شيخ البخاري وأبي داود، كلاهما عن محمد بن طلحة، عن زُبَيْد
…
إلى آخره.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 199 رقم 5509).
(2)
"المجتبى"(3/ 118 رقم 1440).
وهذا أيضًا إسناد صحيح، وفيه تصريح بسماع ابن أبي ليلى، عن عمر- رضي الله عنه.
الرابع: عن يزيد أيضًا، وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سفيان الثوري، عن زُبَيْد، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، قال: قال عمر- رضي الله عنه.
وهذا أيضًا صحيح.
وأخرجه العدني في "مسنده": عن وكيع، عن سفيان عن زُبَيْد الأيامي، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، قال: قال عمر رضي الله عنه: "صلاة المسافر ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد عليه السلام".
الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي إسحاق إبراهيم بن زكرياء الضرير المعلم الواسطي، فيه مقال كثير حتى كذبه بعضهم، عن محمد بن طلحة، عن زُبَيْد بن الحارث
…
إلى آخره.
السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البُرلسّي، عن عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريرى شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن زُبَيْد بن الحارث اليامي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الثقة، عن عمر رضي الله عنه.
ورواه البيهقي هكذا مُعلقًا (1)، فقال: ورواه يحيى القطان، عن سفيان، عن زُبَيْد، عن ابن أبي ليلى، عن الثقة، عن عمر رضي الله عنه.
قلت: لعل المراد من قوله: "عن الثقة" هو كعب بن عجرة؛ على ما صرّح بروايته عنه عن عمر في رواية البيهقي التي ذكرناها آنفًا.
السابع: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسّان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن زُبَيْد بن الحارث، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن عمير. ولم يذكر فيه: عن الثقة.
(1)"السنن الكبرى للبيهقي"(3/ 200 بعد رقم 5510).
وأخرجه ابن ماجه (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا شريك، عن زُبَيْد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر- رضي الله عنه قال:"صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان؛ تمام غير قصر على لسان محمد عليه السلام".
ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن موسى بن سلمة قال:"سألت ابن عباس رضي الله عنهما فقلتُ: إني أقُيم بمكة فكم أُصلّي؟ قال: ركعتان؛ سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم".
ش: إسناده صحيح، وعبد الصمد هو ابن عبد الوارث روى له الجماعة، وموسى بن سلمة بن المحبق، روى له مسلم وأبو داود والنسائي.
وأخرجه مسلم (2): ثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يُحدّث، عن موسى بن سلمة الهذلي قال:"سألتُ ابن عباس رضي الله عنهما كيف أُصلّي إذا كنت بمكة إذا لم أُصلّ مع الإِمام؟ قال: ركعتين؛ سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم".
قوله: "إني أقيم بمكة" أراد به الإقامة من غير نية الإقامة فإنه يصلّي ركعتين وإن أقام سنين، أو نيته الإقامة ولكن أقل من خمسة عشر يومًا فإنه يصلي ركعتين أيضًا.
قوله: "ركعتان" خبر مبتدأ محذوف أي: صلاتك ركعتان، أو فرضك ركعتان، ويجوز ركعتين بالنصب كما في رواية مسلم، على تقدير: صلَّ ركعتين.
قوله: "سنةُ أبي القاسم" بالرفع؛ خبر مبتدأ محذوف، أي: صلاتك ركعتان هي سنة أبي القاسم، ويجوز أن يكون مبتدأ وركعتان مقدمًا خبره، ويجوز النصْب في "السنة" على معنى خُذْ سُنّةَ أبي القاسم، ونحو ذلك.
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 338 رقم 1063).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 479 رقم 688).
ص: حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور، قال: ثنا الهيثم بن جميل، قال: ثنا شريك، عن جابر، عن عامر، عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا:"سَنَّ رسولُ الله عليه السلام صلاةَ المسافر ركعتين، وهي تمامٌ".
ش: الحسن بن عبد الله بن منصور بن حبيب بن إبراهيم أبو علي الأنطاكي المعروف بالبالِسي شيخ محمد بن إسحاق بن خزيمة، والهيثم بن جميل البغدادي أبو سهل الحافظ نزيل أنطاكية، قال الدارقطني: ثقة حافظ. روى له ابن ماجه.
وشريك وهو ابن عبد الله النخعي.
وجابر هو ابن يزيد بن الحارث الجُعفي فيه مقال كثير.
وعامر هو ابن شراحيل الشعبي.
والحديث أخرجه الحافظ الإسماعيلي: ثنا محمد بن الفضل، ثنا عبد الله بن مسلم الدمشقي، ثنا شريك، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم قالا:"سنّ رسول الله عليه السلام الصلاة في السفر ركعتين، وهي تمام".
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح، قال: ثنا شعبة، عن جابر، قال: ثنا قتادة، عن صفوان بن مُحرّز:"أنه سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن الصلاة في السفر، فقال: أخشى أن يُكذَب عليّ، ركعتان، من خالف السّنة كفر".
ش: جابر هو الجُعْفيّ فيه مقال، وصفوان بن مُحْرز المازني البصري روى له الجماعة سوى أبي داود.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث أبي التيّاح، عن مورق العجلي، عن صفوان بن مُحْرز قال:"سألتُ ابن عمر رضي الله عنهما عن صلاة السفر، قال: ركعتان، من خالف السنة كفر".
قوله: "ركعتان" خبر مبتدأ محذوف، أي: صلاة المسافر ركعتان.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 140 رقم 5202).
قوله: "مَنْ خالف السنة" أي سنة الرسول، وهي تعمّ قوله وفعله، وإنما يكفر إذا خالفها معتقدًا، وأما إذا خالفها بأن تركها تهاونًا وكسلًا فإنه يطلق عليه بأنه كفر بالنعمة، فافهم.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو التياح، عن مُوَرّق قال: سأل صفوان بن محرز ابن عمر رضي الله عنهما
…
فذكر مثله.
ش: هذا طريق آخر وهو صحيح، وأبو التيّاح يزيد بن حُمَيد الضُّبَعي، ومُوَرِّق -بتشديد الراء المكسورة- العجلي.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن معمر، عن قتادة، عن مورّق العجلي قال:"سُئل ابن عمر عن الصلاة في السفر، فقال: ركعتين ركعتين، من خالف السنة كفر".
ص: حدثنا ربيعٌ المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا أسامة بن زيد قال: "سألت طاوسًا عن التطوع في السفر، فقال: وما يمنعك؟ فقال الحَسن بن مُسْلم: أنا حدثتك، أنا سألت طاوسًا عن هذا فقال: قال ابن عباس: فرضَ رسول الله عليه السلام الصلاة في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين، فكما يتطوع ها هنا قبلها ومن بعدها، فكذلك يُصلّي في السفر قبلها وبعدها".
ش: إسناده صحيح، والحسن بن مسلم بن يناق المكي روى له الجماعة.
وأخرجه البيهقي في "سننه" في باب: "تطوع السفر"(2): من حديث أسامة ابن زيد الليثي، حدثني حسن بن مسلم، حدثني طاوس، حدثني ابن عباس قال:"سنّ رسول الله عليه السلام -يعني صلاة السفر- ركعتين، وسنّ صلاة الحضر أربعًا، فكما الصلاة قبل صلاة الحضر وبعدها حسن، فكذلك الصلاة في السفر قبلها وبعدها".
(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 519 رقم 4281).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 158 رقم 5294).
واستفيد منه:
أن فرض المسافر ركعتان.
وأن إقامة السنن المؤكدة في السفر مستحبة، فكما أنها لا تترك في الحضر فكذلك في السفر.
وفي "المغني" لابن قدامة: ولا بأس بالتطوع نازلًا وسائرًا على الراحلة، فأما سائر السنن والتطوعات قبل الفرائض وبعدها فقال أحمد: أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس.
ورُوي عن الحسن قال: كان أصحاب رسول الله عليه السلام يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وجابر وأنس وابن عباس وأبي ذر وجماعة من التابعين كثير، وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر، وكان ابن عمر لا يتطوع مع الفريضة قبلها ولا بعدها إلا من جوف الليل، ونقل ذلك عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير
وعلي بن الحسن رضي الله عنهم.
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدّثه، عن صالح بن كيسان، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزِيدَ في صلاة الحضر".
حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا القعنبيُّ، قال: ثنا مالك
…
فدكر بإسناده مثله.
ش: هذان إسنادان صحيحان، ويونس هو ابن عبد الأعلى، وابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري، والقعنبي هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وغيره.
وأخرجه مسلم (1): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن صالح بن كيسان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي عليه السلام أنها قالت:"فرضت الصلاة ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر"
وأخرجه البخاري (2): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك
…
إلى آخره.
وأبو داود (3): عن القعنبي، عن مالك، وقد بسطنا الكلام فيه في أول الباب.
ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا حمّادٌ، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر:"أنه أتى النبي عليه السلام وهو يَطْعَمُ، فقال: هلمّ فكُلْ. فقال: إني صائم. فقال: ادْن حتى أخبرك عن الصوم، فإن الله وضع شطر الصلاة عن المسافر والصومَ عن الحُبْلى والمُرضِع".
حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا روحٌ، قال: ثنا حمادٌ، عن الجُرَيْريّ، عن أبي العلاء عن رجل من قومه: "أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم
…
" فذكر مثله.
حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا نُعَيْم بن حماد، قال: ثنا ابن المبارك، قال: ثنا خالد الحذّاء، عن أبي قلابة، عن رجلٍ قال:"أتيتُ النبي عليه السلام لحاجةٍ فإذا هو يتغدى، فقال: هَلُمّ إلى الغداء. فقلتُ: إني صائم، فقال: إن الله وضع عن المسافر نصف فريضة الصلاة والصوم".
حدثنا نَصْرُ، قال: ثنا نُعَيمٌ، قال: ثنا ابن المبارك، قال: ثنا ابن عُليَّة، عن أيوب، قال: حدثني أبو قلابة، عن شيخ من بني قشُيْر، عن عمّه "ثم لقيناه يومًا فقال له أبو قلابة: حَدَّثْهُ -يعني أيّوب- فقال الشيخ: حدثني عمي: أنه ذهب إلى إبل له فانتهى إلى النبي عليه السلام
…
" ثم ذكر مثله وزاد: "عن الحامل والمرضع".
(1)"صحيح مسلم"(1/ 478 رقم 685).
(2)
"صحيح البخاري"(1/ 137 رقم 343).
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 225 رقم 455).
حدثنا نَصْر، قال: ثنا نُعَيم، قال: ثنا ابن المُبارك، قال: ثنا محمدُ بن سُلَيْم، عن عبد الله بن سوادة، عن أنس بن مالك من بني عبد الله بن كعب بن مالك قال: "أغارت علينا خيل رسول الله عليه السلام
…
" ثم ذكر مثله.
حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو داود، عن أبي عوانة، عن أبي بشْر، عن هانئ بن عبد الله بن الشخّير، عن رجل من بَلْحريش، عن أبيه قال:"كنا نُسافر، فأتَيْنا رسول الله عليه السلام وهو يَطْعَمُ، فقال: هَلُمّ. فقلت: إني صائم، فقال: هَلُمّ أحدثك عن الصوم، إنّ الله وضع عن المسافر الصيام وشَطْرَ الصلاة".
حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليدُ، عن الأوزاعيّ، عن يحيى، قال: ثنا أبو قلابة، قال: حدثني أبو أُميّة رضي الله عنه قال: "قدمتُ على رسول الله عليه السلام من سفرٍ فقال: ألا تنتظر الغداء يا أبا أمية؟ فقلت: إني صائم
…
" ثم ذكر مثله.
ش: هذه سبع طرق عن أنس بن مالك القشيري -وقيل: الكعبي- من بني قشير بن كعب بن ربيعة بن صعصعة، وذكر في "التكميل": أنس بن مالك الكعبي القُشَيْري، أبو أمية ويقال: أبو أُمَيمَة، ويقال: أبو ميّة، صحابي كان ينزل بالبصرة، روى عن رسول الله عليه السلام حديثًا واحدًا:"إن الله وضع عن المسافر الصيام وشطر الصلاة"، وفيه قصة. وعنه عبد الله بن سوادة القشيري، وأبو قلابة الجرمي، وقيل: عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر، عن أبيه أو عمه، وقيل غير ذلك في إسناده، انتهى.
وفي "الكمال": أنس بن مالك الكعبي، ويقال: القشيري، وقيل: إنه من بني عُقيل بن كعب، وقيل: إنه من بني عبد الله بن كعب، يُكنّى أبا أمية، روى له الأربعة، انتهى.
قلت: فلوجود الاختلاف المذكور أخرجه الطحاوي بالاختلاف، فقال في الطريق الأول: عن رجل من بني عامر، وفي الثاني: عن رجل من قومه، وفي الثالث: عن رجل، عن النبي عليه السلام، وفي الرابع: عن شيخ من بني قشير، عن عمّه، وفي الخامس: عن أنس بن مالك من بني عبد الله بن كعب بن مالك، وفي السادس: عن رجل من بني بَلْحريش، عن أبيه، وفي السابع: حدثني أبو أمية.
أما الأول: فإسناده صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن رَوْح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجزمي، عن رجل من بني عامر
…
إلى آخره.
وأخرجه الطبراني (1): ثنا موسى بن هارون والحسن بن إسحاق التُّسْري، قالا: ثنا أبو الربيع الزهراني، ثنا حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر يقال له: أيوب، قال لي أبو قلابة: هو حي فالقَه واسمع. قال أيوب: فلقيتُ العامري فحدثني: "أن رسول الله عليه السلام بعث خيلًا فأغارت على إبل جارٍ لنا فذهبت بها، فانطلق في ذلك -إما قال أبي، وإما قال عمّي، أو قال قرابةٌ قريبةٌ منه- فأتى رسول الله عليه السلام في ذلك، قال: فأتيته وهو يأكل، فقال: هلم للغداء. فقلت: إني صائم. قال: هَلُمّ أحدثك عن ذلك؛ إن الله عز وجل وضع عن المسافر الصيام وشطر الصلاة، وعن الحبلى -أو قال: المرضع- وأمر بالإبل فرُدّت، فكان إذا حدّث بهذا الحديث تَلهَّف ويقول: ألا كنتُ أكلتُ من طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "وهو يَطعم" جملة حالية من طَعِم يَطْعَمُ طُعْمًا فهو طَاعم إذا أكل أو ذاق، مثل غَنِمَ يَغْنَمُ غُنْمًا فهو غانم، قال الله تعالى {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} (2)، وقوله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} (3) أي من لم يذقه.
(1)"المعجم الكبير"(1/ 262 رقم 764).
(2)
سورة الأحزاب، آية:[53].
(3)
سورة البقرة، آية:[249].
قوله: "هَلُمَّ" بفتح الميم، معناه: تعال، قال الخليل: أصله لُمَّ من قولهم لمَّ الله شعثه أي جمعه، كأنه أراد لم نفسك إلينا، وأهل نجد يصرفونها فيقولون للاثنين: هَلمّا، وللجمع: هَلمّوا، وللمرأة: هلمِّي، وللنساء هلممن، والأول أفصح، وقد توصل بالكلام فيقال: هلم لك وهلم لكما.
قوله: "ادن" أي تقرَّب من دنا يدنو.
قوله: "فإن الله وضع شطر الصلاة" أي أسقط نصف الصلاة الرباعية عن المسافر تخفيفًا، وأسقط الصوم عن الحبُلى والمرضع خوفًا على ولدهما، ولكن أسقط عن المسافر لا إلى خلف بخلاف الحبلى والمرضع، فإن الصوم يسقط عنهما عند الخوف على ولدهما إلى خلفٍ وهو القضاء.
و"المرضع" من أرضعت المرأة ولدها.
قال الجوهري: وامرأة مرضع أي لها ولدٌ ترضعه، فإن وصفتها بإرضاع الولد قلتَ: مُرضعة، وهو من رَضِعَ الصبيُّ أمّه يَرضَعُها رِضَاعًا مثل سَمِع يَسْمع سَمَاعًا، وأهل نجد يقولون: رَضَعَ يَرْضِعُ مثل ضَرَبَ يَضْرِبُ ضَرْبًا.
وأما الثاني: فإسنادة صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن سعيد بن إياس الجُريري -بضم الجيم- البصري، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير العامري البصري، عن رجل من قومه وهو أنس بن مالك القشيري، وأراد بقومه: بني عامر.
وأخرجه النسائي (1): أنا سُويدٌ، قال: أنا عبد الله، عن خالد الحذاء، عن أبي العلاء بن الشخير، عن رجلٍ نحوه.
وأما الثالث: فإسناده جيد حسن، عن نصر بن مرزوق، عن نعيم بن حماد ابن معاوية المروزي الفارض الأعور، عن عبد الله بن المبارك أحد الأئمة الأعلام،
(1)"المجتبى"(4/ 181 رقم 2278).
عن خالد بن مهران الحذاء البصري، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد التابعين الأعلام، عن رجل
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (1): أنا سُوَيد بن نصر، أنا عبد الله، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن رجلٍ قال:"أتيت النبي عليه السلام لحاجة، فإذا هو يتغدى، قال: هلمّ إلى الغداء. فقلت: إني صائم. قال: هلمّ أخبرك عن الصوم؛ إنه وضع عن المسافر نصف الصلاة والصوم، ورخص للحبلى والمرضع".
قوله: "فريضة الصلاة" أراد به الفريضة التي قررت في الحضر وهي الركعتان في ذوات الأربع، وليس المراد منه أنه وضع أصل الفريضة.
قوله: "والصومَ" بالنصب عطفًا على المضاف في قوله: "فريضة الصلاة"، والمعنى: وضع الصوم في السفر تخفيفًا، بمعنى أسْقَط إمساكه إلي خلف لا أنه أسقط أصل الصوم.
وأما الرابع: ففيه مجهول، عن نصر بن مرزوق، عن نُعَيْم بن حماد، عن عبد الله بن المبارك، عن إسماعيل بن علية، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن شيخ من بني قشير، عن عمه وهو أنس بن مالك.
وأخرجه النسائي (2): أنا محمد بن حاتم، قال: أنا حبان، قال: أنا عبد الله، عن ابن علية، عن أيوب، عن شيخ من قشير، عن عمه، حدثنا ثم ألفيناه في إبل، فقال له أبو قلابة: حدثه. فقال الشيخ: حدثني عمي: "أنه ذهب في إبل له فانتهى إلى النبي عليه السلام وهو يأكل -أو قال: يطعم- فقال: ادن فَكُلْ -أو قال: ادن فاطعم- فقلت: إني صائم. فقال: إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصيام، وعن الحامل والمرضع".
(1)"المجتبى"(4/ 181 رقم 2277).
(2)
"المجتبى"(4/ 180 رقم 2275).
قوله: "ثم لقيناه" الضمير المنصوب فيه يرجع إلى "شيخ" وكذلك في "له"، فافهم.
وأما الخامس: فإسنادُه حسن لا بأس به، عن نصر بن مرزوق، عن نعيم بن حماد، عن عبد الله بن المبارك، عن محمد بن سليم الراسبي، ضعفه البخاري، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: ليس كذلك. وقال النسائي: ليس بالقوي، وعن يحيى: صدوق. عن عبد الله بن سوادة القشيري روى له الجماعة سوى البخاري، عن أنس بن مالك
…
إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا شيبان بن فروخ، قال: ثنا أبو هلال الراسبي، قال: نا ابن سوادة القشيري، عن أنس بن مالك رجل من بني عبد الله بن كعب إخوة بني قشُير قال:"أغارت علينا خيل رسول الله عليه السلام فأنتهيت -أو قال: فانطلقت- إلى رسول الله عليه السلام وهو يأكل، فقال: اجلس، فأصب من طعامنا هذا. فقلت: إني صائم. فقال: اجلس أحدثك عن الصلاة وعن الصيام، إن الله عز وجل وضع شطر الصلاة -أو نصف الصلاة- والصوم عن المسافر، وعن المرضع أو الحبلى. والله لقد قالهما جميعًا أو إحداهما، قال: فتلهفت نفسي ألا أكون أكلت من طعام رسول الله عليه السلام".
وأخرجه الترمذي (2): نا أبو كريب ويوسف بن عيسى، قالا: ثنا وكيع، قال: نا أبو هلال، عن عبد الله بن سوادة، عن أنس بن مالك رجل من بني عبد الله بن كعب قال:"أغارت علينا خيل رسول الله عليه السلام، فأتيتُ رسول الله عليه السلام فوجدته يتغدى، فقال: ادْن فَكُلْ. فقلتُ: إني صائم. فقال: ادْن أحدثك عن الصوم أو الصيام، إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن الحامل أو المرضع الصوم أو الصيام. والله لقد قالهما النبي عليه السلام كليهما أو إحداهما، فيا لهف نفسي أن لا أكون طعمت من طعام النبي عليه السلام".
(1)"سنن أبي داود"(2/ 317 رقم 2408).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 94 رقم 715).
وأخرجه ابن ماجه (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد، قالا: نا وكيع، عن أبي هلال، عن عبد الله بن سوادة، عن أنس بن مالك رجل من بني عبد الأشهل وقال على بن محمد: من بني عبد الله بن كعب، قال: "أغارت علينا خيلُ رسول الله عليه السلام
…
" إلى آخره نحوه.
قوله: "من بني عبد الله بن كعب" وقيل: من بني عقيل بن كعب، وقيل: من بني عبد الأشهل كما في رواية ابن ماجه، وقيل: من بني عبد الله بن كعب إخوة بني قشير كما في رواية أبي داود.
قال ابن الأثير: قولهم: إن كعبًا أخو قشير ليس كذلك، فكعب هو أبو قشير، فإنه قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، فكيف يقولون: إن كعبًا أخو قشير، والذي جاء في إسناد أبي داود أنه من بني عبد الله بن كعب إخوة قشير فصحيح؛ لأن قشيرًا وعبد الله أَخَوَانِ، وكعب أبو قشير، فقولهم: قشيري وكعبي كقولهم: عباسيّ وهاشمي، وكقولهم: سَعْدي وتميمى، فهاشم جد للعباس وتميم جد لسعد، والله أعلم.
قوله: "أغارت" من أَغَارَ يُغِيرُ إذا أَسْرع في العدو.
و"الخيل": الفرسان، ومنه قوله تعالى:{وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} (2) أي بفرسانك ورَجّالتك.
وأما السادس: ففيه مجهول، عن أبي بكرة بكار القاضي، وإبراهيم بن مرزوق كلاهما، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن هانئ بن عبد الله بن الشخير بن عوف بن كعب بن وقدان بن الحريش العامري الجَرشي البصري، وثقه ابن حبان، عن رجل من بَلْحريش، عن أبيه قال: "كنا نسافر
…
" إلى آخره.
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 533 رقم 1667).
(2)
سورة الإسراء، آية:[64].
وأخرجه النسائي (1): أنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام، قال: نا أبو داود، قال: ثنا أبو عوانة
…
إلى آخره نحوه سواء.
قوله: "من بلحريش" أصله من بني الحريش كما يقال في بني الحارث: بلحارث؛ وذلك لأن "النون" و"اللام" قريبا المخرج، فلما لم يمكنهم الإدغام لسكون "اللام" حذفوا "النون" كما قالوا: ظلَّت، وكذلك يفعلون بكل قبيلة تظهر فيها "لام" المعرفة نحو بلْعَنْبر وبَلْهُجيم، فأما إذا لم تظهر "اللام" فلا يكون ذلك، وأراد بالرجل المذكور: ابن أنس بن مالك الكعبي المذكور في الروايات السابقة، وذكر ها هنا أنه من بني الحريش؛ لأن بني الحريش قبيلة من بني عامر.
وقال ابن الأثير: أنس بن مالك الكعبي، ويقال له: القُشَيري، والعقيلي، والحرشي، والعامري.
قلت: فلذلك وقع الاختلاف في نسبته والله أعلم، ولذا أيضًا قال ها هنا: عن رجل من بلحريش، عن أبيه، وفي رواية: عن شيخ من بني قشير، عن عمه كما ذكرت فيما مضى، وقد أشار إليه صاحب "التكميل" بقوله: عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر، عن أبيه أو عن عمه، والله أعلم.
وأما السابع: فإسناده صحيح، عن محمد بن عبد الله بن ميمون، عن الوليد بن مسلم الدمشقي روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي روى له الجماعة، عن يحيى بن أبي كثير الطائي روَى له الجماعة، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد، عن أبي أمَية هو أنس بن مالك الكعبي المذكور، وقد قلنا: إنه يكنى بأبي أمية، وأبي أميمة وأبي مَيَّة.
وأخرجه البغوي في "معجم الصحابة"(2): ثنا شيبان، نا أبان العطار، عن
(1)"المجتبى"(4/ 180 رقم 2280).
(2)
"معجم الصحابة"(1/ 273).
يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي أمية:"أنه قدم على رسول الله عليه السلام من سفر، فلما أراد أن يرجع قال له رسول الله عليه السلام: ألا تنتظر الغداء؟ قال: إني صائم. ثم قال: ألا أخبرك عن المسافر، إن الله وضع عنه الصيام ونصف الصلاة"
وقال البغوي في باب "الكنى" منه: أبو ميّة، ويقال: أبو أمية، ويقال: إنه عمر بن أمية، والله أعلم.
وقال البيهقي (1) بعد أن أخرج الحديث المذكور: أبو أمية هو أنس بن مالك القشيري الكعبي.
وقيل: الظاهر أن هذا وهمٌ من البيهقي؛ لأن النسائي (2) صرّح في روايته بأبي أمية عمرو بن أمية الضمري حيث قال: أخبرني عَبْدَة بن عبد الرحيم، عن محمد بن شعيب، قال: ثنا الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، قال: أخبرني عمرو بن أمية الضمري قال: "قدمتُ على رسول الله عليه السلام من سفر، فقال: انتظر الغداء يا أبا أمية. فقلت: إني صائم. فقال: تعال، ادْن مني حتى أخبرك عن المسافر، إن الله عز وجل وضع عنه الصيام ونصف الصلاة".
أخبرني عمرو بن عثمان (3)، قال: ثنا الوليد، عن الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو قلابة، قال: حدثني جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، عن أبيه قال:"قدمتُ على رسول الله عليه السلام، فقال لي رسول الله عليه السلام: ألا تنتظر الغداء يا أبا أمية؟ قلت: إني صائم. قال: تعال، أخبرك عن المسافر؛ إن الله وضع عنه -يعني- الصيام ونصف الصلاة".
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 231 رقم 7871).
(2)
"المجتبى"(4/ 178 رقم 2267).
(3)
"المجتبى"(4/ 178 رقم 2268).
أنا إسحاق بن منصور (1)، قال: أنا المغيرة، قال: نا الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن أبي أمية الضمري قال:"قدمتُ على رسول الله عليه السلام من سفر، فسلمتُ عليه، فلما ذهبتُ لأخرج قال: انتظر الغداء يا أبا أمية. قلتُ: إني صائم يا نبي الله. قال: تعال أخبرك عن المسافر؛ إن الله تعالى وضع عنه الصيام ونصف الصلاة".
أنا أحمد بن سليمان (2)، قال: أنا موسى بن مروان، قال: ثنا محمد بن حرب، عن الأوزاعي قال: أخبرني يحيى، قال: حدثني أبو قلابة، قال: حدثني أبو المهاجر، قال: حدثني أبو أمية -يعني الضمرى-: "أنه قدم على النبي عليه السلام
…
" فذكر نحوه.
أخبرني شعيب بن شعيب بن إسحاق (3)، قال: حدثني الأوزاعي، قال: حدثني يحيى، قال: حدثني أبو قلابة الجرمي، أن أبا أُميّة الضمري حدثهم:"أنه قدم على رسول الله عليه السلام من سفر فقال: انتظر الغداء يا أبا أمية. قلت: إني صائم. قال: إذًا أخبرك عن المسافر؛ إن الله وضع عنه الصيام ونصف الصلاة".
قلت: ليس هذا بِوَهْمٍ من البيهقي لأنه يجوز أن يكون الحديث مرويًّا عن كليهما، أعني أبا أميّة أنس بن مالك القشيري، وأبا أمية عمرو بن أمية الضمري، على أنه قد قيل: إن أبا أمية -فيما رواه الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة- قد يحتملُ الوجهين؛ يحتمل أن يكون أنس بن مالك القشيري، ويحتمل أن يكون عمرو بن أمية الضمري على ما أشار إليه أبو القاسم البغوي، فافهم، والله أعلم.
(1)"المجتبى"(4/ 179 رقم 2269).
(2)
"المجتبى"(4/ 179 رقم 2270).
(3)
"المجتبى"(4/ 179 رقم 2271).
ص: فهذه الآثار التي رويناها عن رسول عليه السلام تدلّ على أن فرض المسافر ركعتان، وأنه في ركعتّيْه كالمقيم في أربعته، فكما ليس للمقيم أن يزيد في صلاته على أربعته شيئًا فكذلك ليس للمسافر أن يزيد في صلاته على ركعتيه شيئًا.
ش: أشار بهذه الآثار إلى الأحاديث التي رواها عن عبد الله بن عباس، وعمر ابن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وعائشة الصِّديقة، وأنس بن مالك القشيري وعمرو بن أمية الضمري على احتمال، فإن أحاديث هؤلاء تدلّ صريحًا على أن فرض المسافر ركعتان، وأن الركعتين في حقه كالأربع في حق المقيم، فكما لا يجوز للمقيم أن يزيد على الأربع فكذلك لا يجوز للمسافر أن يزيد على الركعتين إلا تطوعًا، فافهم، فإذا كان فرضه ركعتين؛ تفسد صلاته بترك القعدة على رأس الركعتين، كما تفسد صلاة المقيم بتركه القعدة الأخيرة.
فعلم من ذلك أن القصر عزيمة، والإكمال رخصة، وقد قال بعض أصحابنا: هذا التلقيب على أصلنا خطأ؛ لأن الركعتين من ذوات الأربع في حق المسافر ليستا قصرًا حقيقة عندنا، بل هما تمام فرض، والإكمال ليس برخصة في حقه بل هو إساءة ومخالفة للسنة.
كذا رُوي عن أبي حنيفة أنه قال: مَنْ أتم الصلاة في السفر؛ فقد أَثِمَ وأساء وخالف السنة؛ وهذا لأن الرخصة اسم لما تغيّر عن الحكم الأصلي بعارض إلى تخفيف ويُسْر -ما عرف في الأصول- ولم يوجد معنى التغيير في حق المسافر رأسًا؛ إذ الصلاة في الأصل فرضت ركعتين في حق المسافر والمقيم جميعًا، ثم زيدت في حق المقيم ركعتان وأقرت الركعتان على حالهما في حق المسافر كما كانتا في الأصل، فعدم معنى التغيير في حقه أصلًا، وفي حق المقيم وُجد التغيير لكن إلى الغلظ والشدة لا إلى السهولة واليسر، فلم يكن ذلك أيضًا رخصةً في حقه حقيقة، فإن سمّي فإنما سمي مجازًا لوجود بعض معاني الحقيقة، وهو التغيير.
ص: وكان النظر عندنا في ذلك أنَّا رأينا الفروض المجتمع عليها لابد لمن هي عليه من أن يأتي بها ولا يكون له خيارٌ في أن لا يأتي بما عليه منها، وكان ما أُجْمِع عليه: أن للرجل أن يأتي به إن شاء، وإن شاء لم يأت به، فهو التطوع، إن شاء فعله، وإن شاء تركه، فهذه هي صفة التطوع، وما لا بد من الاتيان به فهو الفرض، وكانت الركعتان لابد من المجيء بهما وما بعدهما ففيه اختلاف، فقوم يقولون: لا ينبغي أن يؤتى به، وقومٌ يقولون: للمسافر أن يجيء به إن شاء وله أن لا يجيء، فالركعتان موصوفتان بصفة التطوع، فهو تطوع، فثبت بذلك أن المسافر فرضه ركعتان، وكان الفرض على المقيم أربعًا فيما يكون فرضه على المسافر ركعتين، فكما لا ينبغي للمقيم أن يصلي بعد الأربع شيئًا بغير تسليم، فكذلك لا ينبغي للمسافر أن يُصلّي بعد الركعتين شيئًا من غير تسليم.
فهذا هو النظر عندنا في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: ملخص هذا: أن ما كان فرضًا بالإجماع لا بد من إتيانه كله وليس له خيار في تركه، وما كان تطوعًا بالإجماع فله الخيار فيه إن شاء أتى به وإن شاء تركه، والركعتان من الرباعية لابد للمسافر من الإتيان بهما بالإجماع وما بعدهما من الآخريين فيه خلاف:
فقدم يقولون: لا ينبغي أن يؤتى به -وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة وأصحابه- فإن أتى به يكون نفلًا.
وقوم يقولون: له أن يجيء به إن شاء وإن شاء لا يجيء به، وأراد بهم: عطاء، والشافعي، ومالكًا، وأحمد؛ على ما ذكرناه في صدر الباب، فإذا كان الأمر كذلك تكون تلكما الركعتان موصوفتين بصفة التطوع، وما كان موصوفًا بصفة التطوع فهو تطوع، فالركعتان الأخيرتان من الرباعية للمسافر تطوع، فإذا كان كذلك كان ينبغي أن لا يصلي بعد الركعتين الأولين شيئًا من غير تسليم، كما كان لا ينبغي
للمقيم أن يصلّي بعد الأربع شيئًا بغير تسليم، فهذا هو وجه النظر والقياس، والله أعلم.
ص: فإن قال قائلٌ: فقد روي عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يُتمّون، وذكروا في ذلك ما قد فعله عثمان رضي الله عنه بمنًى، وما قد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا يونس بن بُكير، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"أول ما فرضت الصلاة ركعتين، ثم أكملت أربعًا وأُثبتت للمسافر".
قال صالح: فحدثتُ بذلك عمر بن عبد العزيز فقال: عروة حدثني، عن عائشة رضي الله عنها:"أنها كانت تصلي في السفر أربعًا".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبةُ، عن الحكم، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال:"استَأْذنتُ حذيفة من الكوفة إلى المدائن، ومن المدائن إلى الكوفة في رمضان، فقال: آذن لك على أن لا تُفْطر ولا تُقصّر. فقلت: وأنا أكفل لك أن لا أُقصر ولا أفطر".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا ابن عون قال: "قدمتُ المدينة، فأدركت ركعةً من العشاء، فصنَعْتُ شيئًا برأيي، فسألت القاسم بن محمد، فقال: كنتَ ترى أن الله يعذبك لو صليت أربعًا؟ كانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تُصلّي أربعًا وتقول: المسلمون يصلون أربعًا".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روحٌ، قال: ثنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: "أيُّ أصحاب رسول الله عليه السلام كان يُوَفّي الصلاة في السفر؟ فقال: لا أعلمه إلا عن عائشة وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنها".
فهذا عطاء قد حكى عن سَعْد، وقد رُوي عنه خلاف ذلك في حديث الزهري، وحبيب بن أبي ثابت.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا شعبة، عن حيان البارقي، قال: قلت لابن عمر: "إني من بَعْث أهل العراق، فكيف أُصلي؟ قال: إن صليت أربعًا فأنت في مصْر، وإن صليتَ ركعتين فأنت مسافر".
فهذا عثمان بن عفان، وحديفة بن اليمان وعائشة وابن عمر رضي الله عنهم، قد رُوي عنهم في إتمامهم الصلاة في السفر ما قد ذكرنا.
ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم وإن رويتم أحاديث تدلّ على القصر ولكن لا نزاع لنا فيه، وإنما النزاع في الإتمام، وقد روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتمون صلاتهم في السفر.
وأخرج في ذلك عن عثمان بن عفان، وحذيفة بن اليمان وعائشة وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
أما مارُوي عن عثمان رضي الله عنه: فسيجيء إن شاء الله تعالى مع بيان معناه.
وأما ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها: فأخرجه من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي
…
إلى آخره.
ورجاله كلهم ثقات قد ذُكِرُوا غير مرة.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث عبد الله بن صالح، حدثني الليث، قال: حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد، حدثني ربيعة، عن صالح بن كيسان، عن عروة، عن عائشة:"أن الصلاة حين فرضت كانت ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر على ركعتين، وأتمت صلاة الحضر أربعًا".
قال صالح: فأخبرت عمر بن عبد العزيز فقال: إن عروة قد أخبرني: "أن عائشة كانت تصلي أربع ركعات في السفر".
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 143 رقم 5261).
قال: فوجدت عروة عنده يومًا، فقلتُ: كيف أخبرتني عن عائشة؟ فحدّث بما حدثني به، فقال عمرُ رضي الله عنه: أليس حدثتني أنها كانت تُصلّي أربعًا في السفر؟ قال: بلى".
قوله: "وأثبتت" أي قررت ركعتين للمسافر مثل ما فرضت ركعتين.
قوله: "قال صالح" هو صالح بن كيْسان الراوي.
الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن رَوْح بن عبادة، عن عبد الله بن عون البصري قال: "قدمتُ المدينة
…
" إلى آخره.
الثالث: فيه عن سَعْد أيضًا، أخرجه عن أبي بكرة أيضًا، عن روح بن عبادة أيضًا، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عطاء بن أبي رباح المكي
…
إلى آخره.
قوله: "فهذا عطاء" أي: عطاء بن أبي رباح، قد حكى عن سعد هذا، والحال أنه قد روي عنه خلاف ذلك في حديث محمد بن مسلم الزهري وحبيب بن أبي ثابت.
أما حديث الزهري فهو ما رواه أن رجلًا أخبره عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة: "أن سعد بن أبي وقاص والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد يغوث كانوا جميعًا في سفرٍ، فكان سَعْد يقصّر الصلاة ويفطر"(1).
وأما حديث حبيب بن أبي ثابت فهو ما رواه عن عبد الرحمن بن المسْور قال: "كنا مع سَعْد بن أبي وقاص في قريةٍ من قرى الشام فكان يصلي ركعتين"(1).
وأما ما روي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: فأخرجه بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن الحكم ابن عُتيبة، عن إبراهيم بن يزيد التيمي روى له الجماعة، عن أبيه يزيد بن شريك بن طارق التيمي -تيم الرباب- الكوفي روى له الجماعة.
(1) تقدم.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال:"كنت مع حذيفة بالمدائن، فاستأذنته أن آتي أهلي بالكوفة، فأذن لي وشرط عليّ أن لا أفطر ولا أصلي ركعتين حتى أرجع إليه، وبين الكوفة والمدائن سبعة وعشرون فرسخًا".
وأما ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فأخرجه بإسناد حسن جيد، عن أبي بكرة، عن رَوْح بن عبادة، عن شعبة، عن حَيّان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف- بن إياس البارقي الأزدي، ذكره بن حبان في "الثقات"، ونسبته إلى بارق جبل باليمن نزله سَعْد بن عدي بن حارثة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء.
قوله: "من بَعْث أهل العراق" أي من جيشهم، والبعوث: الجيوش، يقال: كنت في بعث فلان، أي: في جيشه الذي بُعث معه.
ص: ولكل واحدٍ منهم في مذهبه الذي ذهب إليه معنًى سنُبيّنهُ في هذا الباب ونذكر مع ذلك ما يجب له من طريق النظر وما يجب عليه أيضًا من طريق النظر إن شاء الله تعالى.
فأما عثمان بن عفان رضي الله عنه فالذي ذكرنا عنه من ذلك هو إتمامه الصلاة بمنى، فلم يكن ذلك لأنه أنكر التقصير في السفر، كيف يتُوهم ذلك عليه وقد قال الله عز وجل {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (2) الآية.
فأباح الله لهم القصر في هذه الآية إذا خافوا أن يفتنهم الذين كفروا، ثم أخبرهم رسول الله عليه السلام أن ذلك واجبٌ لهم، وإن أمنوا في حديث يعلى بن مُنية الذي روينا عنه عن عمر- رضي الله عنه في أول هذا الباب، وصلى رسول الله عليه السلام بمنى
(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 527 رقم 4308).
(2)
سورة النساء، آية:[101].
ركعتين وهم أكثر ما كانوا وآمنه وعثمان رضي الله عنه معه، فلم يكن إتمامه الصلاة بمنًى لأنه أنكر التقصير في السفر ولكن لمعنًى قد اختلف فيه.
فحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حسين بن مهدي، قال: أنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري قال:"إنما صلى عثمان بمنى أربعًا لأنه أزمع على المقام بعد الحج".
فأخبر الزهري في هذا الحديث أن إتمام عثمان رضي الله عنه إنما كان لأنه نوى الإقامة، فصار إتمامُه ذلك وهو مقيم قد خرج مما كان فيه من حكم السفر ودخل في حكم الإقامة، فليس في فعله ذلك دليل على مذهبه كيف كان في الصلاة في السفر هل هو الإتمام أو التقصير؟
وقد قال الزهري أيضًا غير ذلك.
فحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، عن حماد بن سلمة، قال: أنا أيوب، عن الزهري قال:"إنما صلى عثمان رضي الله عنه بمنى أربعًا لأن الناس كانوا أكثر في ذلك العام، فأحبّ أن يخبرهم أن الصلاة أربعٌ".
فهذا يخبر أنه فعل ما فعل ليُعلمَ الأعراب أن الصلاة أربع، فقد يحتمل أن يكون لما أراد أن يُريَهم ذلك نوى الإقامة، فصار مقيمًا فرضه أربع فصلى أربعًا وهو مقيم بالسبب الذي حكاه معمر عن الزهري في الفصل الذي قبل هذا، ويحتمل أن يكون فعل هذا وهو مسافر لتلك العلة.
والتأويل الأول أشبه عندنا، والله أعلم؛ لأن الأعراب كانوا بالصلاة وأحكامها في زمن رسول الله عليه السلام أجهل منهم منها وبحكمها في زمن عثمان رضي الله عنه، وهم بأمر الجاهلية حينئذٍ أحدث عهدًا، فهم كانوا في زمن رسول الله عليه السلام إلى العلم بفرض الصلاة أحوج منهم إلى ذلك في زمن عثمان رضي الله عنه، فلما كان رسول الله عليه السلام لم يُتمّ الصلاة لتلك العلة ولكنه قصرها ليصلّوا معه صلاة السفر على حكمها ويعلمهم صلاة الإقامة على حكمها ويُعلِّمهم كيف حكمها في
الحضر، فقد عاد حكم معنى ما صحّ من تأويل حديث أيوب عن الزهري إلى معنى حديث معمر عن الزهري.
وقد قال آخرون: إنما أتم الصلاة لأنه كان يَذهَبُ إلى أنه لا يقصرها إلا مَنْ حَلّ وارتحل، واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، قال: ثنا حمادٌ، قال: ثنا قتادة، قال: قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: "إنما يقصر الصلاة من حمل الزاد والمزاد وحل وارتحل".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عباس بن عبد الله:"أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كتب إلى عُمَّاله أن لا يُصَلّين الركعتين جابي ولا نائي ولا تاجر، وإنما يصلي الركعتين من كان معه الزاد والمزاد".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روحٌ وأبو عمر، قالا: ثنا حماد بن سلمة، أن أيوب السختياني أخبرهم، عن أبي قلابة الجرمي، عن عمه أبي المهلب قال: "كتب عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه بلغني أن قومًا يخرجون إما لتجارة واما لجباية وإما لجشر ثم يقصرون الصلاة، وإنما يَقْصر الصلاة مَنْ كان شاخصًا أو بحضرة عدو. فقالوا: فكان مذهب عثمان رضي الله عنه أن لا يقصر الصلاة إلا من كان يحتاج إلى حمل الزاد والمزاد ومن كان شاخصًا، فأما من كان في مصر مستغنٍ به عن حمل الزاد والمزاد فإنه يُتم الصلاة.
قالوا: ولهذا أتم هو الصلاة بمنًى؛ لأن أهلها في ذلك الوقت كثروا حتى صاروا مصرًا يستغنى من صلى به عن حمل الزاد والمزاد. وهذا المذهب عندنا فاسدٌ؛ لأن مني لم تصر في زمن عثمان أعمر من مكة في زمن رسول الله عليه السلام فقد كان رسول الله عليه السلام يُصلّي بها ركعتين، ثم صلى بها أبو بكر بعده كذلك، ثم صلى بها عمر بعد في بكر رضي الله عنه كذلك، فإذا كانت مكة مع عدم احتياج مَنْ حلّ بها إلى حمل الزاد والمزاد تقصر فيها الصلاة، فما دونها من المواطن أَحْرى أن يكون كذلك.
فقد اتفقت هذه المذاهب كلها لفسادها عن عثمان رضي الله عنه أن يكون من أجل شيء منها قصر الصلاة غير المذهب الأول الذي حكاه معمر عن الزهري، فإنه يحتمل أن يكون من أجله أتمها، وفي ذلك الحديث أن إتمامه كان لنية الإقامة على ما روينا فيه وعلى ما كشفنا من معناه.
ش: أي لكل واحد من الصحابة المذكورين الذين أتموا صلاتهم في السفر معنًى فيما ذهب إليه من الإتمام في السفر.
وأراد بهذا الكلام الجواب عما رُوي عن هؤلاء من الإتمام في السفر؛ فلذلك شرع فيه بكلمة "أما" التفصيلية بقوله: "فأما عثمان رضي الله عنه
…
" إلى آخره.
تقرير ذلك أن عثمان رضي الله عنه لم يتم صلاته بناءً على أنه كان ينكر التقصير في السفر، وكيف يتوهم ذلك في حقه وقد شاهدَ التنزيل يخبر أن الله تعالى قد أباح لهم القصر عند خوفهم من فتنة الكفار، وأن رسول الله عليه السلام أخبرهم أن القصر واجب لهم وإن كانوا في حالة الأمن بقوله:"صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" وذلك في حديث يعلى بن كمية الذي ذكر في أول الباب، وأيضًا لما صلى رسول الله عليه السلام بمنى ركعتين والناس أكثر ما كانوا وآمنه أي آمن ما كانوا، كان عثمان معه عليه السلام، فكيف يتوهم حينئذٍ أنه كان ينكر التقصير؟! فإذا بطل هذا؛ تعين تأويلُ إتمامه وحمله على معنًى من المعاني.
وقد اختلف العلماء فيه، فقال الزهري وجماعة: إنما أتم لأنه عزم على الإقامة بعد الحج.
أخرج ذلك بإسنادٍ رُواتها ثقات ولكنه منقطع عن أبي بكرة بكار القاضي، عن حسين بن مهدي بن مالك البصري شيخ الترمذي وابن ماجه، عن عبد الرزاق صاحب "المسند" و"المصنف"، عن معمر بن راشد الأزدي، عم محمد بن مسلم الزهري.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا ابن العلاء، قال: ثنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري:"أن عثمان رضي الله عنه إنما صلّى بمنًى أربعًا؛ لأنه أجمع على الإقامة بعد الحج".
فقد أخبر الزهري فيه أن إتمامه رضي الله عنه إنما كان لأنه أزمع على المقام، يقال: أزمَع على أمر كذا إذا ثبت عليه، وقال الفراء: يقال: أزمعته وأزمعتُ عليه بمعنًى مثل أجمعته وأجمعت عليه.
وقال ابن فارس: هذا له وجهان:
أحدهما: أن يكون مقلوبًا من عزم.
والآخر: أن تكون الزاي بدلًا من الجيم كأنه من إجماع الرأي.
وقال الكسائي: أزمعت الأمر ولا يقال أزمعت عليه. وما ورد في الأثر يردُّ عليه.
فإذا كان كذلك كان إتمام عثمان رضي الله عنه والحال أنه مقيم قد خرج بذلك عن حكم السفر ودخل في حكم الإقامة، ولكن ليس فيه دليل على مذهبه كيف كان في صلاته في السفر؟ هل هو يرى الإتمام أو يرى القصر؟
وقد رُوي عن الزهري معنى آخر في إتمام عثمان غير المعنى الذي ذكره.
أخرجه أيضًا برواةٍ ثقات ولكنه منقطع أيضًا عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن محمد بن مسلم الزهري.
وأخرجه أبو داود (2) أيضًا: عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن أيوب، عن الزهري:"أن عثمان رضي الله عنه أتم الصلاة بمنى من أجل الأعراب؛ لأنهم كثروا عامئذٍ، فصل بالناس أربعًا ليعلمهم أن الصلاة أربع".
(1)"سنن أبي داود"(2/ 199 رقم 1961).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 199 رقم 1964).
فهذا المعنى خلاف المعنى المذكور أولًا، ولكن له احتمالان:
أحدهما: أن يكون لما أراد أن يُريَهم ذلك نوى الإقامة، فصار حينئذٍ مقيمًا، فصار فرضه أربعًا، فصل أربعًا.
والآخر: يحتمل أن يكون فعل ما فعل والحال أنه مسافر لتلك العلة المذكورة.
ثم قال الطحاوي رحمه الله: والتأويل الأول أشبه عندنا، والله أعلم. [3/ ق 208 - أ](1)
ثم بيّن وجه ذلك بقوله: "لأن الأعراب
…
" إلى آخره.
فإن قيل: بل التأويل الثاني أشبه وأقرب إلى الصواب.
والدليل عليه ما قاله البيهقي في "المعرفة"(2): قد روينا بإسناد حسن، عن عبد الرحمن بن حميد، عن أبيه:"أن عثمان أتمّ بمنى، ثم خطب الناس فقال: أيها الناس، إن السنة سنة رسول الله عليه السلام وسنة صاحبيه، ولكن حدث العام من الناس فخفت أن يستنوا".
ثم قال البيهقي: وهذا يؤيد رواية أيوب عن الزهري: "أن عثمان أتم بمنى لأجل الأعراب لأنهم كثروا عامئذٍ" ويُضعّف ما رواه معمر عنه: "أن عثمان رضي الله عنه إنما صلى بمنى أربعًا لأنه أجمع الإقامة بعد الحج".
وقال أبو عمر: قال ابن جريج: "إن أعرابيًّا نادى عثمان في مني: يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام الأول صليتها ركعتين، فخشي عثمان رضي الله عنه أن يظن جهال الناس أن الصلاة ركعتان".
قلت: الذي يظهر لي أن كلاًّ من التأويلين بعيد.
(1) حدث خلط في ترتيب المخطوط. فكان [ق 208 أ] مع [ق 210 ب] و [ق 210 أ] مع [ق 209 ب] و [ق 209 أ] مع [ق 208 ب] وتم الترتيب الصحيح ولله الحمد.
(2)
"معرفة السنن والآثار"(4/ 473 رقم 1650).
أما الأول: فلأن الإقامة بمكة حرام على المهاجر فوق ثلاثة أيام، ويعارضه أيضًا ما قاله أبو عمر بن عبد البر: المعروف عن عثمان أنه ما كان يطوف للإفاضة والوداع إلا ورواحله قد رُحّلت، فهذه الحالة ليست حالة من ينو الإقامة.
وأما الثاني: فلما ذكرنا من إتمامه لو كان للعلة التي ذكرت لكان النبي عليه السلام أولى به؛ لأن جهالة الأعراب كانت أشد وأكثر في زمن النبي عليه السلام، وكانوا أحوج إلى ذلك في زمنه من زمن عثمان رضي الله عنه؛ لأن أمر الصلاة أشتهر في زمنه أكثر مما كان في زمن النبي عليه السلام ومع هذا لم يتم النبي عليه السلام.
وقال جماعة آخرون في تأويل إتمام عثمان ما أشار إليه الطحاوي بقوله: "وقد قال آخرون
…
" إلى آخره، وأراد بهم: محمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وقتادة؛ فإنهم قالوا: المعنى في إتمام عثمان الصلاة بمنى: من أجل أنه كان يذهب إلى أنه لا يقصر الصلاة إلا من حل وارتحل، وأراد به المسافر الذي يحل في أرض -أي: ينزل- ثم يرتحل ويحمل معه الزاد والمزاد فإنه هو الذي يقصر الصلاة، وأما الذي يدخل مصرًا من الأمصار ويستغني عن حمل الزاد والمزاد فإنه لا يقصر، وقد يقال: المراد من الحال المرتحل: المغازي الذي لا يقفل عن غزوٍ إلا عقّبه آخر.
قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء الآخرون فيما قالوا من المعنى في إتمام عثمان الصلاة بما رواه قتادة وعباس بن عبد الله وأبو المهلب.
أما ما رواه قتادة: فأخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص ابن عمر الضرير، عن حماد بن سلمة، عن قتادة
…
إلى آخره.
وهو منقطع.
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو الأحوص، عن عاصم، عن ابن
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 203 رقم 8153).
سيرين قال: "كانوا يقولون في السفر الذي تقصر فيه الصلاة: الذي يحمل فيه الزاد والمزاد".
قلت: "الزاد" معروف وهو الذي يتزود به المسافر أي يتقوّت.
و"المَزَاد": بفتح الميم: جمع مزادة وهي الراوية، وقال أبو عبيد: لا يكون إلا من جلدين يُقام بجلد ثالث بينهما ليتسع.
قال الجوهري: وكذلك السطيحة والشعيب، والجمع: المزاد والمزايد.
وقال ابن الأثير: المزادة الظرف الذي يحمل فيه الماء كالراوية والقربة والسطيحة، والجمع المزاود والميم زائدة.
وأما ما رواه عباس بن عبد الله: فأخرجه أيضًا عن أبي بكرة، عن روح بن عبادة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عباس بن عبد الله الجشمي، هكذا وقع في رواية الطحاوي عباس -بالباء الموحدة- وذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين وقال: يروي عن عثمان وأبي هريرة، وروى عنه قتادة، وفي "الكمال": روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
وأخرجه ابن حزم في "المحلى"(1)، وفي روايته:"عياش" بالياء آخر الحروف وبالشين المعجمة من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عياش ابن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي:"أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كتب إلى عماله لا يصلي الركعتين جابيًا ولا تانيًا، إنما يصلي الركعتين مَنْ كان معه الزاد والمزاد".
قال علي: التاني هو صاحب الضيعة.
قال علي: هكذا في كتابي، والصواب عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة.
قلت: الصواب ما قاله الطحاوي.
(1)"المحلى"(2/ 5).
وأخرجه عبد الرزاق أيضًا في "مصنفه"(1): عن معمر، عن قتادة:"أن عثمان رضي الله عنه كتب إلى بعض عماله: أنه لا يصلي الركعتين المقيم ولا التاني ولا التاجر، إنما يصلي الركعتين من معه الزاد والمزاد".
قلت: هذا منقطع وما رواه الطحاوي متصل.
قوله: "جابي" فاعل من الجباية، وهو استخراج الأموال من مظانّها.
قوله: "ولا تاني" من تَنَاءَ، ذكره الجوهري في باب المهموز، وقال: تناءت بالبلد تُنوءًا إذا أقمت به وقطنته، والتاني من ذلك، وهم تُنَاء البلد.
وأما ما رواه أبو المهلب: فأخرجه عن أبي بكرة أيضًا، عن روح بن عبادة وابن عمر حفص بن عمر الضرير كلاهما، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن أبي الملهب الجرمي عم أبي قلابة، قال النسائي: أبو المهلب عمرو بن معاوية، وقيل: عبد الرحمن بن معاوية. وقال غيره: اسمه معاوية بن عمرو، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: النضر بن عمرو، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح".
وأخرجه ابن حزم في "المحلى"(2): من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن المهلب:"أن عثمان بن عفان كتب: إنه بلغني أن رجالًا يخرجون إما لجباية وإما لتجارة وإما لجشر ثم لا يتمون الصلاة، فلا تفعلوا فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصًا أو بحضرة عدوٍّ".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): عن ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: حدثني رجل ممن قرأ كتاب عثمان رضي الله عنه أو قرئ عليه فقال: "أما بعد، فإنه بلغني أن رجالًا منكم يخرجون إلى سوادهم إما في جَشْر وإما في جباية وإما
(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 520 رقم 4284).
(2)
"المحلى"(2/ 5).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 203 رقم 8151).
في تجارة فيقصرون الصلاة -أو لا يتمون الصلاة- لا تفعلوا، فإما يقصر الصلاة من كان شاخصًا أو بحضرة عدو".
وأخرجه عبد الرزاق أيضًا في "مصنفه"(1): عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: أخبرني من قرأ كتاب عثمان أو قرئ عليه: "أن عثمان رضي الله عنه كتب إلى أهل البصرة: أما بعد، فإنه بلغني أن بعضكم يكون في جشره أو في تجارته أو يكون جابيًا فيقصر الصلاة، إنما يقصر الصلاة من كان شاخصًا أو بحضرة عدو".
قوله: "وإما لجَشْرٍ" قال ابن الأثير: الجَشَر قوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى ويبيتون مكانهم، ولا يأوون إلى البيوت، فربما رأوه سفرًا فقصروا الصلاة، فنهاهم عثمان عن ذلك؛ لأن المقام في المراعي وإن طال فليس بسفر".
وقال الجوهري: قال الأصمعي: يقال: أصبح بنو فلان جَشَرًا إذا كانوا يبيتون مكانهم في الإبل لا يرجعون إلى بيوتهم، قال: وكذلك قال: جشر: يرعى في مكانه ولا يرجع إلى أهله، قال: يقال جشرنا دوابنا: أخرجناها إلى المرعى نجشرها جشرًا بالإسكان ولا تروح، وخيل مجشرة بالحمى أي مرعيّة.
قلت: قوله: "وإما لجشر" بفتح الجيم وسكون الشين المعجمة مصدر من جشر كما أشار إليه الجوهري وقول ابن الأثير: الجَشَر قوم -بفتحتين- وكذلك قول الأصمعي: أصبح بنو فلان جَشَرًا. فافهم.
قوله: "من كان شاخصًا" أي مسافرًا، وشخوص المسافر خروجه عن منزله.
قوله: "فقالوا" أي: فقال هؤلاء الآخرون الذين قالوا: إنما أتم الصلاة لأنه كان يذهب إلى أنه لا يقصرها إلا مَن حلّ وارتحل.
قوله: "وهذا المذهب" أشار به إلى مذهب هؤلاء الآخرين، وفساده ظاهر.
(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 521 رقم 4285).
قوله: "فقد انتفت" أي: إذا كان الأمر كذلك فقد انتفت، من الانتفاء ومن النفي، والباقي ظاهر.
وقد ذكر آخرون في إتمام عثمان رضي الله عنه صلاته وجوهًا أُخَر.
مِنْها: ما قاله بعضهم: إن عثمان رضي الله عنه إنما أتم بمنى لأنه تأهل بمكة شرفها الله تعالى، وروى عبد الله بن الحارث بن أبي ذباب، عن أبيه، وقد عمل الحارث لعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"صلى بنا عثمان أربع ركعات فلما سلّم أقبل على الناس فقال: إني تأهلت بمكة وقد سمعتُ رسول الله عليه السلام يقول: من تأهل ببلدة فهو من أهلها فليُصلَّ أربعًا".
وفي مسند محمد بن سنجر بِسَندٍ ضعيف: "أن عثمان رضي الله عنه لما أنكروا عليه قال: أيها الناس إني لما قدمتُ تأهلتُ بها، إني سمعتُ رسول الله عليه السلام يقول: إذا تأهل الرجل ببلدٍ فليصلّ بهم صلاة المقيم".
ورُدَّ هذا بأنه كان يسافر بزوجاته ويُقصّر، وأيضًا المسافر إذا دخل مصرًا وتزوج بها لا يصير مقيمًا بنفس التزوج بخلاف المرأة، نصَّ عليه صاحب "الغنية" أيضًا.
ومنها: ما قاله بعضهم: كان أهله بمكة فلذلك أتمها.
ورُدَّ هذا أيضًا بما ذكرناه.
ومنها: ما قاله ابن حزم: قيل: إنه تأول أنه إمام الناس فحيث حلّ هو منزله. ورُدَّ هذا أيضًا بأن النبي عليه السلام كان أولى بذلك ولم يفعله.
ومنها: ما ذكره القرطبي: أن الوجه في أمر عثمان أنه هو وعائشة رضي الله عنهما تأولا أن القصر رخصة غير واجب فأخذ بالأكمل الأتم، ولولا ذلك ما أقروا عثمان عليه.
وفيه نظر؛ لما في "صحيح مسلم"(1) عن ابن عمر رضي الله عنهما: "صحبتُ رسول الله عليه السلام في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبُض، وصحبتُ أبا بكر رضي الله عنه فلم يزد على ركعتين حتى قبُض، وصحبتُ عمر- رضي الله عنه فلم يزد على ركعتين حتى قبض، وصحبتُ عثمان رضي الله عنه فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله".
وفي "صحيح ابن خزيمة"(2): "سافرتُ مع النبي عليه السلام ومع أبي بكر ومع عمر وعثمان رضي الله عنهم فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين لا يصلون قبلها ولا بعدها".
فإن قيل: هذا مخالف لما رواه البخاري (3): عن ابن عمر: "صحبت عثمان رضي الله عنه فكان يصلي ركعتين صدرًا من خلافته".
قلت: وجه التوفيق بين الروايتين: أن ابن عمر أخبر عن عثمان في أسفاره كلها إلا بمنى فإن عثمان رضي الله عنه إنما أتم بمنى لا في أسفاره كلها على ما فسره عمران بن حصين رضي الله عنه، على ما رواه الترمذي (4): ثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا هشيم، قال: أنا علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، قال: سئل عمران بن حصين رضي الله عنه عن صلاة المسافر فقال: "حججتُ مع رسول الله عليه السلام فصلى ركعتين، وحججتُ مع أبي بكر- رضي الله عنه فصلى ركعتين، ومع عمر رضي الله عنه فصلى ركعتين، ومع عثمان رضي الله عنه ست سنين من خلافته -أو ثماني سنين- فصل ركعتين".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
ومنها: ما قاله أبو عمر بن عبد البر: قال قوم: أخذ عثمان رضي الله عنه بالمباح في ذلك؛ إذ للمسافر أن يقصر ويتم كما له أن يصوم ويفطر.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 479 رقم 689).
(2)
"صحيح ابن خزيمة"(2/ 72 رقم 947).
(3)
"صحيح البخاري"(2/ 596 رقم 1572).
(4)
"جامع الترمذي"(2/ 430 رقم 545).
قلت: هذا عندي أقربُ وأوجه وأشبه بالصواب، والله أعلم.
ص: وأما ما رويناه عن حذيفة رضي الله عنه فليس فيه دليل أيضًا على الإتمام في السفر، كان ذلك السفر طاعةً أو غير طاعة؛ لأنه قد يجوز أن يكون من رأيه أن لا يقصر الصلاة إلا حاجٌّ أوْ معتمرٌ أو مجاهدٌ.
كما قد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه فإنه قد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شُعبةُ، قال: ثنا سليمان، عن عمارة بن عمير، عن الأسود قال:"كان عبد الله لا يرى التقصير إلا لحاج أو مجاهد".
فقد يجوز أن يكون مذهب حذيفة كذلك، فأمر التَّيْمي إذ كان يُريد سفرًا لا لحج ولا لجهاد أن لا يقصر الصلاة، فانتفى أن يكون في حديثه ذلك حجة لمِنْ يرى للمسافر إتمام الصلاة في السفر".
ش: هذا عطف على قوله: "فأما عثمان بن عفان رضي الله عنه فالذي ذكرناه عنه
…
" إلى آخره، وأراد بذلك الجواب عما رُوي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه المذكور فيما مضى، وهو ظاهر.
قوله: "كما قد روي عن ابن مسعود" أي كما ذكر روي عن عبد الله بن مسعود.
أخرجه بإسناد صحيح: عن أبي بكرة، عن رَوْح، عن شعبة، عن سليمان الأعمش، عن عمارة بن عمير التيمي روى له الجماعة، عن الأسود بن يزيد النخعي.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا محمد بن فضيل وأبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله: "لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 202 رقم 8149).
وأخرجه عبد الرزاق أيضًا في "مصنفه"(1): عن معمر، عن الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن، أن ابن مسعود قال:"لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد" انتهى.
وإليه ذهب عطاء وطاوس وإبراهيم النخعي.
وروى عبد الرزاق (2): عن ابن جريج، عن عطاء قال:"ما أرى أن تُقْصر الصلاة إلا في سبيل من سُبُل الله".
وقد كان قبل ذلك لا يقول هذا القول، كان يقول: تقصر في كل ذلك. قال: وكان طاوس يسأله الرجل فيقول: أسافر لبعض حاجتي أقصر الصلاة؟ فسكت، وقال: إذا خرجنا حجاجًا أو عمّارًا صلينا ركعتين.
وقال ابن أبي شيبة (3): ثنا هشيم، عن العوام قال:"كان إبراهيم لا يرى القصر إلا في حج أو جهاد أو عمرة".
قوله: "فأمرَ التيمي" وهو يزيد بن شريك بن طارق التيمي تيم الرباب- وقد ذكرناه.
قوله: "إذ كان يريد سفرًا" أي حين كان يريد سفرًا.
ص: وأما ما روينا عن ابن عمر رضي الله عنهما فإن حديث حيان هو على أنه سأله وهو في مصر من الأمصار فقال له: "إني من بَعْث أهل العراق فكيف أصلي؟ فأجابه ابن عمر رضي الله عنهما فقال: فإن صليت أربعًا فأنت في مصر، وإن صليت اثنتين فأنت مسافر".
فذلك أن مذهبه كان في صلاة المسافر في الأمصار هكذا، وقد روى عنه صفوان بن محرز حين سأله عن الصلاة في السفر، فكان جوابه له أن قال:"هي ركعتان، من خالف السنة فقد كفر".
(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 521 رقم 4286).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(2/ 522 رقم 4289)
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 203 رقم 8152).
فذلك على الصلاة في غير الأمصار حتى لا يتضاد ذلك وما روى حيان، فيكون حديث حيان على صلاة المسافر في الأمصار وحديث صفوان على صلاته في غير الأمصار وسنبين الحجة في هذا الباب في آخره إن شاء الله تعالى.
ش: هذا عطف على قوله: "وأما ما رويناه عن حذيفة رضي الله عنه" وأراد بذلك الجواب عما رواه حيان بن إياس البارقي المذكور فيما مضى.
تقريره: أن يقال: إن حيان البارقي إنما سأل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما والحال أنه كان في مصر من الأمصار فقال له: "كيف أصلي وأنا من جيش أهل العراق؟ فقال له عبد الله بن عمر: إن صليت أربع ركعات فأنت في مصر، وإن صليت ركعتين فأنت مسافر".
وإنما قال ذلك لأن مذهب ابن عمر أن المسافر إنما كان له أن يقصر ما دام في السفر، فإذا دخل مصرًا من الأمصار فلا يقصر وإن كان هو على سفره، وإليه ذهب جماعة أيضًا من السلف كالحسن البصري وقتادة وطاوس، فإذا كان الأمر كذلك لم يكن في هذا حجة لمن يرى الإتمام في السفر.
قوله: "وقد روى عنه صفوان بن محرز
…
" إلى آخره، إشارة إلى وجه التوفيق بين رواية حيّان البارقي ورواية صفوان بن محرز لأن بينهما تضادًّا من حيث الظاهر؛ وذلك لأن حديث حيّان يدل على أنه يُتم في مصر ويقصر في سفر، وحديث صفوان مطلق يدل على أن المسافر يقصر سواء كان في مصر أو سفر.
ووجه التوفيق: أن حديث صفوان محمول على الصلاة في غير الأمصار؛ لأنه سأله عن الصلاة في السفر فكان جوابه له: "هي ركعتان، من خالف السنة فقد كفر" وحديث حيان البارقي محمول على صلاة المسافر وهو في مصر من الأمصار، فكان جوابه له:"إن صليت أربعًا فأنت في مصر، وإن صليت ركعتين فأنت مسافر"، فافهم.
ص: وأما ما روي عن عائشة رضي الله عنها في ذلك فإن أبا بكرة حدثنا، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا ابن جريج، قال: أنا ابن شهاب، قال:"قلت لعروة: ما كان يحمل عائشة رضي الله عنها على أن تُصلّي في السفر أربعًا؟ قال: تأولت ما تأول عثمان رضي الله عنه إتمام الصلاة بمنى".
وقد ذكرنا ما تأول في إتمام عثمان الصلاة بمنى، فكان ما صحّ من ذلك هو أنه كان من أجل نيته للإقامة، فإن كان من أجل ذلك كانت عائشة تبع الصلاة؛ فإنه يجوز أن يكون كانت لا تحضرها صلاة إلا نَوَتْ إقامةً في ذلك المكان يجب عليها بها إتمام الصلاة، فتتم الصلاة لذلك، فيكون إتمامها وهي في حكم المقيمين لا في حكم المسافرين.
ش: هذا عطف على قوله: "وأما ما روينا عن ابن عمر رضي الله عنهما"، وأراد بذلك الجواب عما رُوي عن عائشة في إتمامها الصلاة في السفر.
وقوله: "فإن أبا بكر" جواب "أما"، وتقريره ما أخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن عبد الملك بن جريج، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم (1): عن علي بن خشرم، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة:"أن الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر".
قال الزهري: فقلت لعروة: "ما بال عائشة رضي الله عنها تتم في السفر؟ قال: إنها تأولت كما تأول عثمان رضي الله عنها".
وقال عياض في "شرح مسلم": وأشبه ما يقال في فعل عثمان وفعل عائشة: أنهما تأولا أن القصر رخصة غير واجبة، وأخذا بالأتم والأكمل، ومن تأول أنها اعتقدت أنها أمّ المؤمنين، وعثمان أنه إمامهم فحيث حلاّ فكأنهما في منازلهم؛ يرده
(1)"صحيح مسلم"(1/ 478 رقم 685).
أن النبي عليه السلام كان أولى بذلك ولم يتم، وما ذكر في إتمام عائشة أيضًا أنها كانت لا ترى القصر إلا في الخوف فهو بعيدة؛ لأنها أتقى لله أن تخرج في سفرٍ لا يرضاه، وإنما خرجت مجتهدةً محتسبةً في خروجها للدين أصابت أو أخطأت.
قوله: "فكان ما صح من ذلك" أي مما تأول في إتمام عثمان الصلاة بمنى هو أنه كان من أجل نيته للإقامة، وأشار بذلك إلى أنه اختار هذا الوجه من التأويلات التي أوَّلُوها في إتمام عثمان الصلاة بمنى.
فإن قيل: كيف اختار هذا وحكم بصحته، وقد ردُّوا هذا بأن الإقامة للمهاجر بمكة أكثر من ثلاثٍ حرام؟
قلت: لا يلزم من صحة نية الإقامة الإقامة، فإذا كانت النية صحيحة يكون الإتمام في حال الإقامة.
فإن قيل: كيف ينو عثمان رضي الله عنه الإقامة بمكة مع علمه بأن الإقامة فيها أكثر من ثلاثة أيام حرام للمهاجرين وهو منهم ومن خيارهم؟
قلت: يمكن أن تكون نيته للإقامة بمدة لا تنتهي إلى المدة التي يحرم على المهاجرين الإقامة فيها.
فإن قيل: هذا الذي ذكرته إنما يكون إذا كانت نيته للإقامة أقل من ثلاثة أيام، والمسافر إذا نوول الإقامة في بلده أقل من خمسة عشر يومًا لا تصح نيته، ولا يصير بذلك مقيمًا.
قلت: هذا على مذهبك، أما على مذهب غيرك فتجوز نية الإقامة في أقل من ذلك حتى عند الشافعي ومالك وأحمد، وأبي ثور يجوِّز نية الإقامة بأربعة أيام، وعن سعيد بن المسيب: تصح نية الإقامة بثلاثة أيام، وعن ربيعة: بيومٍ وليلةٍ، وعن سعيد بن جبير:"إذا وضعت رحلك بأرض فأتم" وروي ذلك عن ابن عباس وعائشة وطاوس رضي الله عنهم.
قوله: "فإن كان من أجل ذلك" أي: فإن كان إتمام عثمان الصلاة بمنى من أجل نيته للإقامة وكانت عائشة رضي الله عنها لا تحضرها صلاة إلا وهي تنوي الإقامة في ذلك المكان فتتم الصلاة لذلك، فإذا كان كذلك يكون إتمامها والحال أنها في حكم المقيمين لا في حكم المسافرين، ومَنْ كانت حالته حالة المقيمين يتم صلاته، والله أعلم.
ص: وقد قال قومٌ: كان ذلك منها لمعنًى غير هذا المعنى، وهو أني سمعت أبا بكرة يقول: قال أبو عمر: "كانتْ عائشة أمَّ المؤمنين رضي الله عنها، فكانت تقول: كل موضع أنزله فهو منزل بعض بنا، فتعتدّ ذلك منزلا لها وتتم الصلاة من أجله، وهذا عندي فاسد؛ لأن عائشة وإن كانت هي أم المؤمنين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو المؤمنين وهو أولى بهم من عائشة بهم، فقد كان ينزلُ في منازلهم فلا يخرج بذلك من حكم السفر الذي تُقصر فيه الصلاة إلى حكم الإقامة التي تكمل فيها الصلاة.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا عمر حفص بن عمر الضرير شيخ البخاري وأبي بكرة بكار القاضي وغيرهما ومن تبعه؛ فإنهم قالوا: كانت عائشة أم المؤمنين
…
إلى آخره، وهو ظاهر.
وقوله: "أمَّ المؤمنين" بنصب "أم"؛ لأنه خبر كانت وليس بصفة لعائشة ها هنا لفساد المعنى.
قوله: "وهذا عندي فاسد" أي هذا التأويل عندي فاسد، وبيّن وجه الفساد بقوله: "لأن عائشة رضي الله عنها
…
" إلى آخره، وهو ظاهر.
وقد ذكرنا أن ابن حزم نقل هذا الوجه عن طائفة من السلف، ثم رده بما ذكره الطحاوي رحمه الله.
ص: وقال قومٌ: كان مذهب عائشة رضي الله عنها في قصر الصلاة أنه يكون لمن حمل الزاد والمزاد على ما روينا عن عثمان رضي الله عنه، وكانت تسافر بعد النبي عليه السلام في كفايةٍ من ذلك؛ فتركت لهذا المعنى قصر الصلاة.
ش: أراد بالقوم: هؤلاء: عطاء بن أبي رباح ومحمد بن سيرين وقتادة وإبراهيم النخعي؛ فإنهم قالوا: كان مذهب عائشة رضي الله عنها في قصر الصلاة في السفر: أنه إنما كان يكون لمن حمل الزاد والمزاد، فلذلك كانت تتم الصلاة؛ لأنها كانت في كفاية من ذلك بعد النبي عليه السلام، وهؤلاء الجماعة ذهبوا إلى هذا المذهب أيضًا كما ذكرناه.
ص: فلما تكافأت هذه التأويلات في فعل عثمان وعائشة- رضي الله عنها لَزِمَنا أَنْ ننظر حكم قصر الصلاة ما يُوجِبُه فكان الأصل في ذلك أنا رأينا الرجل إذا كان مقيمًا في أهله فحكمه في الصلاة حكم الإقامة، وسواء كانت إقامته في طاعة أو مَعْصية لا يتغير لشيء من ذلك حكمه، فكان حكم إتمام الصلاة يجب عليه بالإقامة خاصةً لا بطاعةٍ ولا بمَعْصيةٍ، ثم إذا سافر فخرج بذلك من حكم الإقامة فقد جرى في هذا من حكم الاختلاف ما قد ذكرنا.
فقال قوم: لا يجب له حكم التقصير إلا أن يكون ذلك السفر سفر طاعةٍ.
وقال آخرون: يجب له حكم التقصير في الوجهين جميعًا، فلما كان حكم الإتمام يجب له في الإقامة بالإقامة خاصةٍ لا بطاعةٍ ولا غيرها، كان كذلك يجيء في النظر أن يكون حكم التقصير يجب له في السفر خاصةً لا بطاعةٍ ولا بغيرها؛ قياسًا على ما بيّنا وشرحنا، ولما ثبت أن التقصير إنما يجب له بحكم السفر خاصة لا بغيره، ثبت أنه يقصر ما كان مسافرًا في الأمصار وغيرها؛ لأن العلة التي لها تُقصّر هي السفر الذي لم يخرج منه بدخوله الأمصار، وجميع ما بَيّنا في هذا الباب وصححنا قولُ أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي لما تساوت التأويلات المذكورة في إتمام عثمان وعائشة الصلاة في السفر، ولم يقم دليلٌ قاطع على ترجيح أحد التأويلات على الآخَر؛ لزمنا أن ننظر حتى نعلم السبب الموجب لقصر الصلاة في السفر، ما هو؟
فنظرنا في ذلك، فرأينا حكم المقيم في أهله إتمام الصلاة بسبب الإقامة خاصةً لا بسبب كونه مطيعًا أو عاصيًا، فالنظر والقياس على ذلك أن يكون حكمه إذا خرج إلى السفر قصر صلاته بسبب السفر خاصةً لا بسبب كونه مطيعًا أو عاصيًا.
قوله: "فقد جرى في هذا من حكم الاختلاف" أي: فقد جرى فيما إذا سافر المقيم وخرج بسبب سفره عن حكم الإقامة من حكم الاختلاف ما ذكرنا، ثم بيّن ذلك بالفاء التفسيرية بقوله: "فقال قومٌ: لا يجب له حكم التقصير إلا أن يكون ذلك السفر سفر طاعة لما وأراد بهم: الشافعي ومالكًا وأحمد والطبري وأصحابهم؛ فإنهم ذهبوا إلى أن السفر المبيح للقصر هو سفر الطاعة كالسفر الواجب والمندوب، والمباح كسفر التجارة، ولا يرخص له في سفر المعصية كالإباق وقطع الطريق والتجارة في الخمر والمحرمات.
وفي "المغني": وفي سفر التنزه والتفرج روايتان: إحداهما تبيح الترخص، والثانية لا يترخص فيه.
قال أحمد: إذا خرج الرجل إلى بعض البلدان متنزهًا وليس في طلب حديث ولا حج ولا عمرة ولا تجارة فإنه لا يقصر الصلاة، فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد فقال ابن عقيل: لا يباح له الترخص؛ لأنه نُهيَ عن السفر إليها. والصحيح إباحته وجواز القصر فيه.
إذا كان السفر مباحًا فغيَّر نيته إلى المعصية انقطع الترخص لزوال سببه، ولو سافر لمعصية فغيَّر نيته إلى مباح صار سفره مباحًا وأبيح له ما يباح في السفر المباح، وتعتبر مسافة السفر من حين غير النية. انتهى.
وقال عياض: وكره مالك التقصير للمتصيّد للهوٍ، وحُكي عنه المنع فيه في سفر النزهة.
قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون؛ وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم ذهبوا إلى أن السفر هو المبيح لقصر الصلاة والإفطار مطلقًا سواء كان سفر طاعة أو سفر معصية وهو معنى قوله: "في الوجهين جميعًا" لعموم الآية، وهو رواية عن مالك، وإليه ذهب أكثر الظاهرية.
وقال ابن حزم في "المحلى": وكون الصلوات المذكورة في السفر ركعتين فرض، سواء كان سفر طاعة أو معصية أو لا طاعة ولا معصية أمْنًا كان أو خوفًا، فمن أتمها أربعًا عامدًا فإن كان عالمًا بأن ذلك لا يجوز بطلت صلاته، وإن كان ساهيًا سجد للسهو بعد السلام فقط.
وقال ابن حزم أيضًا: واحتج من خصّ بعض الأسفار بذلك بأن سفر المعصية محرم فلا حكم له.
فقلنا: أما محرم فنعم هو محرم، ولكنه سفر فله حكم السفر، وأنتم تقولون: إنه محرّم، ثم تجعلون فيه التيمم عند عدم الماء وتجيزون الصلاة فيه وترونها فرضًا، فأي فرق بين ما أجزتم من الصلاة والتيمم لها وبين ما منعتم من تأديتها ركعتين كما فرضها الله في السفر، ولا سبيل إلي فرق، وكذلك الزنا محرم وفيه من الغسل كالذي في الحلال؛ لأنه إجناب ومجاوزة ختان لختان.
قوله: "ولما ثبت أن التقصير
…
" إلى آخره، بيان للوعد الذي ذكره فيما مضى بقوله: "وسنبين الحجة في هذا الباب في آخره إن شاء الله تعالى".
قوله: "وجميع ما بيَّنَّا" كلام إضافي مبتدأ، وخبره قوله:"قول أبي حنيفة رحمه الله".