المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الرجل يدخل في صلاة الغداة فيصلي منها ركعة ثم تطلع الشمس - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٦

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: الرجل يدخل في صلاة الغداة فيصلي منها ركعة ثم تطلع الشمس

‌ص: باب: الرجل يدخل في صلاة الغداة فيصلي منها ركعة ثم تطلع الشمسُ

ش: أي هذا باب في بيان حكم صلاة الرجل الذي يصلي من صلاة الصبح ركعةً ثم تطلع الشمس، هل تبطل صلاته أم لا؟ أم كيف يكون الحكم في ذلك؟

وجه المناسبة بين البابين: أن الأول مشتمل على فساد صلاة المنفرد خلف الصف عند البعض، وهذا أيضًا مشتمل على فساد صلاة من تطلع عليه الشمس وهو في الصلاة عند البعض.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: روى عطاء بن يسار وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله عليه السلام قال:"من أدرك من صلاة الصبح ركعةً قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة".

وقد ذكرنا ذلك بأسانيده في باب: "مواقيت الصلاة".

ش: أخرجه في باب: "مواقيت الصلاة" من حديث عطاء بن يسار وبُسْر بن سعيد وعبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، ومن حديث أبي صالح عن أبي هريرة، ومن حديث أبي سلمة عن أبي هريرة.

وهذا الحديث أخرجه الجماعة، وقد ذكرناه هناك (1).

ص: فذهب قوم إلى أن مَنْ صلّى [من](2) صلاة الصبح ركعةً قبل طلوع الشمس ثم طلعت عليه الشمس صلّى إليها أخرى، واحتجوا في ذلك بهذا الأثر.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشافعي ومالكًا وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: مَنْ صلى مِنْ صلاة الصبح ركعةً ثم طلعت الشمس فصلى إليها أخرى فلا تفسد صلاته بطلوع الشمس في أثنائها، واحتجوا في ذلك بحديث أبي هريرة المذكور.

(1) تقدم.

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 218

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إذا طلعت عليه الشمس وهو في صلاته فسدت عليه.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا رحمهم الله، فإنهم قالوا: إذا طلعت على المصلي الشمسُ وهو في صلاته فسدت صلاته؛ لأنه شرع فيها في الوقت الكامل، فاعتراض طلوع الشمس يفسد؛ لأن ما وجب كاملًا لا يتأدى بالناقص، كالصوم المنذور المطلق أو صوم القضاء لا يتأدى في أيام النحر والتشريق بخلاف صلاة العصر فإنها لا تفسد باعتراض غروب الشمس عليها؛ لأن ما بعد الغروب وقت كامل وقد كان شرع في الوقت الناقص فيتأدى بالكامل.

فإن قيل: يلزم أن يفسد العصر إذا شرع فيه في الجزء الصحيح ومدّها إلى أن غربت.

قلت: لما كان الوقت متسعًا جاز له شغل كل الوقت فيُعفى للفساد الذي يتصل فيه بالبناءة؛ لأن الاحتراز عنه مع الإقبال على الصلاة متعذر.

ص: وقالوا: ليس في هذا الأثر دلالة على ما ذهب إليه أهل المقالة الأصل؛ لأن قول النبي عليه السلام: "مَنْ أدرك من صلاة الصبح ركعةً قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك" قد يحتمل ما قال أهل المقالة الأولى، ويحتمل أن يكون عَنى به الصبيان الذي يبلغون قبل طلوع الشمس، والحُيَّض اللاتي يَطْهرن، والنصارى الذين يسلمون؛ لأنه لما ذكر في هذا الإدراك ولم يذكر الصلاة، فيكون هؤلاء الذي سميناهم ومن أشبههم مدركين لهذه الصلاة ويجب عليهم قضاؤها، وإن كان الذي بقي عليهم من وقتها أقل من المقدار الذي يصلونها فيه.

قالوا: وهذا الحديث هو الذي ذهبنا فيه إلى أن المجانين إذا أفاقوا والصبيان إذا بلغوا والنصارى إذا أسلموا والحيض إذا طهرن وقد بقي عليهم من وقت الصبح

ص: 219

مقدار ركعة أنهم لها مدركين فلم نخالف هذا الحديث، وإنما خالفنا تأويل أهل المقالة الأولى.

ش: أي قال الآخرون: ليس في هذا الحديث دلالة على ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى؛ لأنه محتمل للمعنيين المذكورين، وبالاحتمال لا يتم الاحتجاج.

فإن قيل: ما الدليل على الاحتمال الثاني؟

قلت: ذكر لفظة الإدراك وهو قوله: "أدرك" بدون أن يقول: أدرك الصلاة، فيكون المعنى حينئذٍ: فقد أدرك وجوب الصلاة، فيكون الصبيان والحيض والكفار ومن شابههم مدركين لهذه الصلاة ويجب عليهم قضاؤها، وإن كان الباقي من الوقت أقل من وقت أداء الصلاة فيه.

وقال أبو عمر (1): اختلف العلماء في معنى قوله: "فقد أدرك"، فقالت طائفة من أهل العلم: أراد بقوله ذلك: أدرك وقتها، حُكي ذلك عن داود بن علي وأصحابه قالوا: إذا أدرك الرجل من الظهر أو العصر ركعة وقام فصلى الثلاث ركعات فقد أدرك الوقت في جماعة وثوابه على الله عز وجل.

وقال الآخرون: من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك فضل الجماعة؛ لأن صلاته صلاة جماعة في فضلها وحكمها، واستدلوا على ذلك من أصولهم بأنه لا يُعتدُّ في جماعة من أدرك ركعةً من صلاة الجماعة.

وقال آخرون: معنى هذا الحديث أن مدرك ركعة من الصلاة مدرك لحكمها وهو كمن أدرك جميعها فيما يفوته من سهو الإِمام وسجوده لسهوه، ولو أدرك الركعة مسافر من صلاة مقيم لزمه حكم صلاة المقيم، وكان عليه الإتمام، ونحو من هذا في حكم الصلاة.

قال أبو عمر رحمه الله (1): ظاهر قوله عليه السلام: "من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة" يوجب الإدراك للوقت والحكم والفضل إن شاء الله تعالى إذا صلى

(1)"التمهيد"(7/ 66).

ص: 220

تمام الصلاة، ألا ترى أن من أدرك الإِمام راكعًا فدخل معه وركع قبل أن يرفع الإِمام رأسه من الركعة أنه يدرك عند الجمهور حكم تلك الركعة، وأنه كمن ركعها من أول الإحرام مع إمامه، وكذلك مدرك ركعة من الصلاة مدرك لها، وقد أجمع علماء المسلمين أن مدرك ركعة من صلاته لا تُجزئه ولا تغنيه عن إتمامها، ودلّ أن قوله:"فقد أدرك الصلاة" ليس عك ظاهره وأن فيه مضمرًا بَيَّنَهُ الإجماع والتوقيف، وهو إتمام الصلاة، والذي عليه مدار هذا الحديث وفقهه: أن مدرك ركعةً من الصلاة مدرك لحكمها في السهو وغيره، وأما الفضل فلا يدرك بقياس ولا نظر؛ لأن الفضائل لا تقاس. انتهى.

ثم اعلم أن قوله: "لأنه لما ذكر في هذا الإدراك ولم يذكر الصلاة" إشارة إلى أن هذا الحديث قد روي على وجهين، في وجه روي:"فقد أدرك الصلاة"، وفي وجه روي:"فقد أدرك" فقط بدون لفظة الصلاة.

وقال أبو عمر في "التمهيد": لا أعلم اختلافًا في إسناد هذا الحديث ولا في لفظه عند رواة "الموطأ" عن مالك، وكذلك رواه سائر أصحاب ابن شهاب، إلا ابن عُيَيْنة رواه عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك" لم يقل الصلاة.

قوله: "قالوا: وهذا الحديث

" إلى آخره، أي قال الآخرون: هذا الحديث -أعني حديث أبي هريرة- هو الذي ذهبنا فيه إلى أن المجانين إذا أفاقوا والصبيان إذا بلغوا والكفار إذا أسلموا والحيض -بضم الحاء جمع حائض- إذا طهرن، والحال أنه قد بقي عليهم من وقت الصبح مقدار ركعة أنهم يكونون لها مدركين، وأشار بهذا الكلام إلى أنهم عملوا بهذا الحديث في هذه الصورة وما تركوه، وهو معنى قوله: "فلم نخالف هذا الحديث" وإنما خالفوا تأويل أهل المقالة الأولى في قولهم: إن المدرك من صلاة الصبح ركعة قبل طلوع الشمس يضم إليها ركعة ولا يضره طلوع الشمس في أثنائها.

ص: 221

ص: فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأولى: ما قد حدثنا علي بن مَعْبد، عن أبي هريرة، عن النبي- عليه السلام أنه قال:"مَنْ أدرك من صلاة الغداة ركعةً قبل طلوع الشمس فليصل إليها أخرى".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا علي بن المبارك، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ أدرك ركعةً من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد تمت صلاته، فإذا أدرك ركعةً من صلاة الصبح فقد تمت صلاته".

ففيما روينا ذكر البناء بعد طلوع الشمس على ما قد دخل فيه قبل طلوعها، فكان من الحجة على أهل هذه المقالة أن هذا قد يجوز أن يكون كان من النبي- عليه السلام قبل نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس؛ فإنه قد نهى عن ذلك، وتواترت عنه الآثار بِنَهيْه عن ذلك وقد ذكرنا تلك الآثار أيضًا في باب مواقيت الصلاة، فيحتمل أن يكون ما كان فيه الإباحة هو منسوخ بما فيه النهي.

ش: هذا إيراد من أهل المقالة الأولى على ما قاله أهل المقالة الثانية.

بيانه: أن يقال: إنكم حَمْلتم قوله عليه السلام: "من أدرك من صلاة الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك" على مَنْ لم يكن أهلًا إذا صاروا أهلًا قبل طلوع الشمس كما ذكرناه، فما تقولون فيما رواه أبو رافع، عن أبي هريرة. وأبو سلمة عنه أيضًا؛ فإنه صريح على ذكر البناء بعد طلوع الشمس على ما قد دخل فيه قبل الطلوع؟

وتقرير الجواب أن يقال: إن الآثار قد تواترت عن النبي عليه السلام بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس ما لم يتواتر بإباحة الصلاة عند ذلك، فدل ذلك أن ما كان فيه الإباحة كان منسوخًا بما كان فيه التواتر بالنهي.

ص: 222

فإن قيل: ما حقيقة النسخ في هذا؟ والذي ذكره الطحاوي نسخ بالاحتمال، وهل يثبت النسخ بطريق الاحتمال؟

قلت: حقيقة النسخ ها هنا أنه اجتمع في هذا الموضع محرِّم ومبيح، وقد تواترت الآثار والأخبار في باب المحرِّم ما لم تتواتر في باب المبيح، وقد عرف من القاعدة أن المحرِّم والمبُيح إذا اجتمعا يكون العمل للمُحَرِّم، ويكون المبُيح منسوخًا؛ وذلك لأن الناسخ هو المتأخر، ولا شك أن الحرمة متأخرة عن الإباحة؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة والتحريم عارض، ولا يجوز العكس؛ لأنه يلزم النسخ مرتين؛ فافهم فإنه كلام دقيق قد لاح لي من الأنوار الربانية.

وقد يجاب عن الأول بأنه محمول على أنه إذا طلعت الشمس بعد صلاته ركعةً واحدة يتوقف إلى أن تطلع الشمس ثم يصلي إليها ركعة أخرى.

وإليه ذهب أبو يوسف في هذا الباب على ما عرف في الفروع، ووجه ذلك: أنه يكون في هذه الصورة مؤديًا بعض الصلاة في وقتها، ولو أفسدنا صلاته في هذه الحالة يكون مؤديًا جميع صلاته خارج الوقت، فحينئذٍ أداء بعض الصلاة في الوقت أولى من أداء الكل خارج الوقت.

وعن الثاني: بأن معنى قوله: "فقد تمت صلاته" يعني تم وجوبها في ذمته بإدراك ذلك القدر في الوقت، فالكلام ليس على ظاهره، ألا ترى أنه لا تتم صلاته حقيقة بإدراك ركعة واحدة، وإنما تمامها بالركعتين جميعًا؟ فعلمنا أن قوله:"فقد تمت صلاته" معناه: تم وجوبها لا حقيقة الصلاة.

ثم إنه أخرج الحديثين المذكورين بإسناد صحيح:

أحدهما: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف أبي نصر العجلي البصري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن سعيد بن أبي عروبة مهران العدوي البصري روى له الجماعة، عن قتادة بن

ص: 223

دعامة، عن خلاس -بكسر الخاء- بن عمرو الهجري البصري روى له الجماعة، عن أبي رافع الصائغ واسمه نفيع المدني روى له الجماعة.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن خلاس، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال:"مَنْ صلّى من صلاة الصبح ركعةً قبل أن تطلع الشمس فطلعت؛ فليصل إليها أخرى".

والثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر العقدي -واسمه عبد الملك ابن عمرو، وقد تكرر ذكره- عن علي بن المبارك الهنائي البصري روى له الجماعة، عن يحيى بن أبي كثير الطائي روى له الجماعة، عن أبي سلمة عبد الله ابن عبد الرحمن بن عوف روى له الجماعة.

وأخرجه البخاري (2): ثنا أبو نعيم، قال: ثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته".

قلت: أراد بالسجدة الركعة، من قَبِيل ذكر الشيء باسم جزئه.

ص: فقالوا: إنما النهي على التطوع خاصّة لا على قضاء الفرائض، ألا ترون أن النبي- عليه السلام قد نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس، فلم يكن ذلك عندنا وعندكم بمانع أن تقضى صلاة فائتة في هذين الوقتين، فكذلك ما رويتم عنه من النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لا يكون مانعًا عندنا؛ لأن تُقضى حينئذٍ صلاة فائتة، إنما هو مانع من صلاة التطوع خاصة.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 379 رقم 1652).

(2)

"صحيح البخاري"(1/ 204 رقم 531).

ص: 224

وكان من الحجة للآخرين عليهم: أنه قد روي عن النبي- عليه السلام ما يدل على أن الصلوات المفروضات الفائتات قد دخلت فيما نهى عنه رسول الله عليه السلام من الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها.

وذلك أن علي بن شيبة حدثنا، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا هشام، عن الحسن، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال:"سَرْينا مع رسول الله عليه السلام في غزوة -أو قال: في سرية- فلما كان آخر السحَر عَرَّسنا، فما استيقظنا حتى أيقظنا حرُّ الشمس، فجعل الرجل منا يَثبُ فزعًا دهشًا، واستيقظ رسول الله عليه السلام، فأمرنا فارتحلنا من مسيرنا حتى ارتفعت الشمس، ثم نزلنا فقضى القوم حوائجهم، وأمر بلالًا رضي الله عنه فأذن، فصلينا ركعتين، فأقام فصلى الغداة، فقلنا: يا نبي الله، ألا نَقْضيها لوقتها من الغد؟ فقال النبي عليه السلام: أينْهاكم الله عن الربا ويَقْبله منكم؟! ".

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أنا يونس بن عبيد، عن الحسن، عن عمران بن حصين رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنه كان في سفرٍ فنام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، فأمر مؤذنًا فأذن، ثم انتظر حتى استعلت الشمس، ثم أمر فأقام، فصلى الصبح".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا عباد بن ميسرة المنقري، قال: سمعت أبا رجاء العُطارديَّ، قال: ثنا عمران بن حصين قال: "أَسْرَى بنا رسول الله عليه السلام وعَرَّسْنا معه، فلم نَستَيقظ إلا بِحَرِّ الشمس، فلما استيقظ رسول الله عليه السلام قالوا: يا رسول الله، ذهبت صلاتُنا. فقال النبي عليه السلام: لم تذهب صلاتكم، ارتحلوا من هذا المكان، فارتحلنا قريبًا، ثم نزل فصلى".

حدثنا علي بن مَعْبد، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا عوفٌ، عن أبي رجاء، عن عمران، عن النبي عليه السلام نحوه.

ص: 225

ش: هذا اعتراض من جهة أهل المقالة الأولى، تقريره أن يقال: إن ما ورد من النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها إنما هو عن التطوع خاصة، وليس ذلك بنهي عن قضاء الفرائض، والدليل على ذلك: ما ورد من النهي عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، فإن هذا النهي لا يمنع عندنا وعندكم عن قضاء الصلوات الفائتة في هذين الوقتين، وإنما يمنع عن التطوع فيهما خاصة، فإذا كان كذلك؛ لا تفسد صلاة الصبح بطلوع الشمس في أثنائها، حتى إذا طلعت بعد أداء ركعة يضم إليها ركعة أخرى ويجزئ ذلك عنه.

وتقرير الجواب: ما أشار إليه بقوله: "وكان من الحجة للآخرين عليهم" أي على أهل المقالة الأولى أنه قد روي عن النبي عليه السلام على أن الصلوات الفائتة قد دخلت في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وذلك في حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه؛ لأن فيه أنه عليه السلام أخَّر صلاة الصبح حين فاتت عنهم إلى أن ارتفعت الشمس ولم يصلها قبل الارتفاع، فدل ذلك أن نهيه عليه السلام عن الصلاة عند طلوع الشمس عَامٌّ، فشمل الفرائض والنوافل، وتخصيص ذلك بالتطوع ترجيح بلا مرجح، ودَلّ ذلك أيضًا على أن الوقت الذي استيقظ فيه ليس بوقت للصلاة التي نام عنها مع قوله عليه السلام:"من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها".

ثم إنه أخرج حديث عمران رضي الله عنه من أربع طرق صحاح:

الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن روح بن عبادة بن العلاء البصري، عن هشام بن حسان الأزدي البصري، عن الحسن البصري.

وكلهم رجال الجماعة ما خلا شيخ الطحاوي.

فإن قيل: كيف تقول: طرق صحاح. وقد ذكر علي بن المديني وأبو حاتم الرازي وغيرهما أن الحسن البصري لم يسمع من عمران بن حصين.

ص: 226

قلت: الحديث أخرجه الحاكم في "مستدركه"(1)، وقال: حديث صحيح.

وأخرجه أيضًا ابن حبان في "صحيحه"(2).

وقد قدمنا من صحة سماع الحسن عن عمران بن حصين، على أن الطحاوي ما اكتفى في تخريجه عن الحسن عن عمران حتى أخرجه من طريقين عن أبي رجاء العطاردي عن عمران؛ على ما يجيء عن قريب إن شاء الله.

وبهذا الطريق أخرجه أحمد في "مسنده"(3): ثنا يزيد، أنا هشام.

وثنا روح، نا هشام، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال:"سِرْينا مع رسول الله عليه السلام، فلما كان من آخر الليل عرّسنا، فلم نستيقظ حتى أيقظتنا الشمسُ، فجعل الرجل يقوم منا دَهشًا إلى طهوره، قال: فأمرهم النبي عليه السلام أن يَسكنوا، ثم ارتحلنا، فسرْنا حتى إذا ارتفعت الشمس توضأ، ثم أمر بلالًا فأذن، ثم صلى الركعتين قبل الفجر، ثم أقام فصلينا، فقالوا: يا رسول الله، ألا نعيدها في وقتها من الغد؟ قال: أينهاكم ربكم تبارك وتعالى عن الربا ويقبله منكم؟! ".

وأخرجه أبو داود (4) مختصرًا: من حديث يونس، عن الحسن، عن عمران ابن حصين.

الطريق الثالث: عن علي بن معبد بن نوح

إلى آخره.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(5): ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل والحسن بن إسحاق التستري، أنا وهب بن بقية، ثنا خالد، عن يونس، عن الحسن، عن

(1)"المستدرك على الصحيحين"(1/ 408 رقم 1016).

(2)

"صحيح ابن حبان"(4/ 319 رقم 1461).

(3)

"مسند أحمد"(4/ 441 رقم 19978).

(4)

"سنن أبي داود"(1/ 121 رقم 443).

(5)

"المعجم "الكبير" (18/ 152 رقم 332).

ص: 227

عمران بن حصين: "أن رسول الله عليه السلام كان في مسير فناموا عن صلاة الصبح، فاستيقظوا بحرّ الشمس، فارتفعوا قليلًا حتى استقلت الشمس ثم أمر مؤذنًا فأذن، فصل ركعتين قبل الفجر، ثم أقام، فصلى الفجر".

قوله: "استقلت" أي ارتفعت واشتدت.

الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عباد بن ميسرة المِنْقري، عن أبي رجاء العطاردي واسمه عمران بن ملحان.

وأخرجه البخاري (1) ومسلم (2) مطولًا من رواية أبي رجاء العطاردي، عن عمران رضي الله عنه.

قوله: "ارتحلوا من هذا المكان" وفي رواية: "تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة" وفي رواية مسلم: "فإن هذا منزل حَضَرَنَا فيه الشيطان".

الرابع: عن علي بن معبد، عن عبد الوهاب بن عطاء، عن عوف بن أبي جميلة الأعرابي، عن عمران بن حصين.

وأخرجه مسلم (3): ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: نا النضر بن شميل، قال: ثنا عوف بن أبي جميلة، عن أبي رجاء العطاردي، عن عمران بن الحصين قال: "كنا مع رسول الله عليه السلام في سفر، فسرنا ليلةً حتى إذا كان من آخر الليل قبيل الصبح وقعنا تلك الوقعة التي لا وقعة عند المسافر أحلى منها، فما أيقظنا إلا حرُّ الشمس

" الحديث بطوله.

قوله: "سَرَيْنا" من سرى يسري سُرًى وهو السير بالليل، وكذلك أسرى يسْري إسراء.

(1)"صحيح البخاري"(1/ 130 رقم 337).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 474 رقم 682).

(3)

"صحيح مسلم"(1/ 476 رقم 682).

ص: 228

قوله: "أو سرية" وهي طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تُبعث إلى العَدوّ، وجمعها: السرايا؛ سُمّوا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السَرِيّ: النفيس، وقيل: سموا بذلك لأنهم ينفذون سِرًّا وخفيةً وليس بالوجه؛ لأن "لام" السر "راء" وهذا "ياء".

قوله: "عرَّسنا" من التعريس وهو نزول المسافرين آخر الليل للنوم والاستراحة، هكذا قال الخليل والجمهور.

وقال أبو زيد: وهو النزول أيّ وقت كان من ليل أو نهار، وفي الحديث:"يعرسون في نحو الظهيرة"(1).

قوله: "يَثِبُ" من الوثبة، أصله: يَوْثب.

قوله: "فزعًا دهشًا" حالان مترادفان أو متداخلان من الضمير الذي في "يثب"، وفزعًا -بفتح الفاء وكسر الزاي- بمعنى قائمًا من نومه على خوف، وهو من فَرعَ يَفْزَعُ من باب عَلِمَ يَعْلَمُ، يقال: فزع من نومه وأفزعته أنا، وكأنه من الفزع وهو الخوف؛ لأن الذي يُنَبَّه لا يخلو من فزعٍ ما.

وقوله: "دهشًا" بفتح الدال وكسر الهاء معناه متحيرًا، من الدهشة.

قوله: "أينهاكم الله" الهمزة فيه للاستفهام، والمعنى: أن الله تعالى أمركم

بصلاة واحدة، فإذا فأتت عنكم بنومٍ أو نسيان أو غير ذلك فائتوا ببدلها ومثلها ولا تصلوها مرتين، فإن ذلك يكون زيادة، والزيادة على الجنس ربًا، فالله تعالى قد نهاكم عن الربا ثم هو كيف يقبله منكم، وهذا يدل على أن الفائتة تقضى مرة واحدة ليس إلا؛ خلافًا لمن ذهب أنه يقضيها مرةً ثم يصليها من الغد في الوقت الذي فاتت فيه، على ما يجيء بيانه في باب "الرجل ينام عن الصلاة أو ينسى كيف يقضيها" إن شاء الله تعالى.

(1) أخرجه البخاري في "صحيحه"(2/ 943 رقم 2518) من حديث عائشة رضي الله عنها ولفظه: "أتينا الجيش بعد ما نزلوا معرسين في نحر الظهيرة". وانظر "شرح النووي لمسلم"(5/ 182).

ص: 229

ويستنبط منه أحكام:

ففيه دليل على أن الفائتة يؤذن لها، وأنها يُقام لها، وعلى أن ركعتى الفجر تُقضيان بعد طلوع الشمس إذا فاتتا مع الفرض، وكذا عند محمد إذا فاتتا بدونه، وأن الجماعة مستحبة فيها.

وأن قضاء الفائتة بعذر ليس على الفور -على الصحيح- ولكن يستحب قضاؤها على الفور، وقيل: إنه على الفور. حكاه البغوي وجهًا عن الشافعي.

وأما الفائتة بلا عذر فالأصح قضاؤها على الفور، وقيل: له التأخير كما في الأول.

وفيه دليل أيضًا على أن قضاء الفائتة يمنع عند طلوع الشمس كما ذكرناه، ثم اختلف أصحابنا في قدر الوقت الذي تباح فيه الصلاة بعد الطلوع.

قال في الأصل: حتى ترتفع قدر رمح أو رمحين.

وقال أبو بكر محمد بن الفضل: ما دام الإنسان يقدر على النظر إلى قرص الشمس فالشمس في الطلوع لا تباح فيه الصلاة، فإذا عجز عن النظر تُباح.

وقال الفقيه أبو حفص السفكردري: يُؤتي بطَسْتٍ ويوضع في أرض مستوية، فما دامت الشمس تقع في حيطانه فهي في الطلوع، فلا تحل الصلاة، وإذا وقعت في وسطه فقد طلعت وحلت الصلاة.

فإن قيل: قد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "تنام عيناي ولا ينام قلبي" فكيف ذهب عنه الوقت ولم يشعر به؟

قلنا: إن ذلك خاص في أمر الحدث؛ لأن النائم قد يكون منه الحدث وهو لا يشعر به، وليس كذلك رسول الله- عليه السلام فإن قلبه لا ينام حتى يشعر بالحدث إذا كان منه، ويقال: إن ذلك من أجل أنه يوحى إليه في منامه فلا ينبغي لقلبه أن ينام، فأما معرفة الوقت وإثبات رؤية الشمس طالعةً فإن ذلك إنما يكون دركه ببصر العين دون القلب، فليس فيه مخالفة للحديث الآخر، فافهم.

ص: 230

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا إبراهيم بن الجراح، قال: ثنا أبو يوسف، عن حصين بن عبد الرحمن، عن ابن أبي قتادة الأنصاري، عن أبيه قال:"أَسْرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة من غزواته ونحن معه، فقال بعض القوم: لو عرستَ، فقال: إني أخاف أن تناموا عن الصلاة، قال بلالٌ: أنا أوقظكم، فنزل القوم فاضطجعوا، وأسند بلال ظهره إلى راحلته وألقى عليهم النوم، فاستيقظ القوم وقد طلع حاجب الشمس، فقال: أين ما قلت يا بلال؟ قال: يا رسول الله عليه السلام، ما ثَقُلَتْ عليَّ نومة مثلها قط. قال رسول الله عليه السلام: إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردّها إليكم حيث شاء، فأذن الناس بالصلاة، فآذنهم فتوضئوا، فلما ارتفعت الشمس صلى رسول الله عليه السلام ركعتي الفجر، ثم صلى الفجر".

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا حُصَين

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الله بن رَبَاحٍ، عن أبي قتادة، عن النبي عليه السلام فذكر مثل حديثه عن روح الذي ذكرنا في أول هذا الباب غير أنه لم يذكر سؤالهم النبي- عليه السلام.

قال عبد الله: فسمعني عمران بن حصين وأنا أحدث هذا الحديث في المسجد الجامع، فقال: من الرجل؟ فقلت: عبد الله بن رباح الأنصاري. فقال: القوم أعلم بحديثهم، انظر كيف تحدِّث؟ فإني أحد السَّبْعة تلك الليلة. فلما فرغتُ قال: ما كنت أحْسب أن أحدًا يحفظ هذا غيري.

قال حمادٌ: وحدثنا حميد الطويل، عن بكر، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، عن النبي- عليه السلام مثله.

ش: أخرج حديث أي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري فارس رسول الله عليه السلام من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن إبراهيم بن جراح مولى بني مازن، أحد أصحاب أبي حنيفة واحد قضاة مصر، أثنى عليه يونس بن عبد الأعلى.

ص: 231

عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري أكبر أصحاب أبي حنيفة، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي روى له الجماعة، عن عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري روى له الجماعة، عن أبيه أبي قتادة.

وأخرجه النسائي (1): أنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو زُبَيْد -واسمه عَبْثر بن القاسم- عن حُصَين، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال:"كنا مع رسول الله عليه السلام إذ قال بعض القوم: لو عرست بنا يا رسول الله عليه السلام؟ قال: إني أخاف أن تناموا عن الصلاة. قال بلال: أنا أحفظكم، فاضطجعوا فناموا، وأسند بلال ظهره إلى راحلته، فاستيقظ رسول الله عليه السلام وقد طلع حاجب الشمس، فقال: يا بلال أين ما قلت؟ قال: ما ثقلت عليَّ نومة مثلها قط. قال رسول الله عليه السلام: إن الله عز وجل قبض أرواحكم حين شاء وردها حين شاء، قم يا بلال فآذن الناس بالصلاة، فقام بلال فأذن فتوضئوا -يعني: حين ارتفعت الشمس- ثم قام فصلى".

وأخرجه مسلم (2) بأتم منه.

قوله: "ما ثقلت عليّ"، وفي رواية:"ما ألقيت عليّ" من الإلقاء.

الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني، عن هشيم بن بشير، عن حُصين بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه أبي قتادة.

وأخرجه أبو داود (3): عن عمرو بن عون، عن خالد، عن حُصَين، عن ابن أبي قتادة، عن أبي قتادة نحوه.

الثالث: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن

(1)"المجتبى"(2/ 105 رقم 846).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 474 رقم 681).

(3)

"سنن أبي داود"(1/ 120 رقم 439).

ص: 232

حماد بن سلمة، عن ثابت البُناني عن عبد الله بن رباح الأنصاري، روى له الجماعة سوى البخاري، عن أبي قتادة.

وأخرجه أحمد (1): ثنا يزيد بن هارون، أنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة قال: "كنا مع رسول الله عليه السلام في سفر فقال: إنكم إن لا تدركوا الماء غدًا تَعْطشوا. وانطلق الناسُ سراعًا يريدون الماء، ولزمتُ رسول الله عليه السلام فمالَتْ برسول الله عليه السلام راحلته، فنعس رسول الله عليه السلام فدعمْته فادّعم، ثم مال فدعَمْتُه فادّعم ثم مال حتى كاد أن ينجفل عن راحلته، فدعَمْته فانتبه فقال: من الرجلُ؟ قلت: أبو قتادة. قال: منذ كم كان سيُرك؟ قلتُ: منذ الليلة. قال: حفظك الله كما حفظت رسوله، ثم قال: لو عرّسْنا. فمال إلى شجرة، فنزل، فقال: انظر هل ترى أحدًا؟ قلت: هذا راكبٌ، هذان راكبان، حتى بلغ سبعةً، فقال: احفظوا علينا صلاتنا، فنمنا، فما أيقظنا إلا حرُّ الشمس، فانتبهنا، فركب رسول الله عليه السلام فسار وسرنا هنية، ثم نزل فقال: أمعكم ماء؟ قال: قلت: نعم، في ميضأةٍ فيها شيء من ماء. قال: ائت بها. فأتيتُه بها، فقال: مسُّوا منها، مسُّوا منها. فتوضأ القوم وبقيت جرعة، فقال: لا تهرقها يا أبا قتادة، فإنه سيكون لها نبأ. ثم أذن بلال، فصلوا الركعتين قبل الفجر، ثم صلوا الفجر، ثم ركب وركبنا، فقال بعضهم لبعض: فرطنا في صلاتنا، فقال رسول الله عليه السلام: ما تقولون؟ إن كان أمر دنياكم فشأنكم وإن كان أمر دينكم فإليّ. قلنا: يا رسول الله، فرَّطنا في صلاتنا. قال: لا تفريط في النوم، إنما التفريط في اليقطة، فإذا كان ذلك فصلوها ومن الغد وقتها، ثم قال: ظنُوا بالقوم. قالوا: إنك قلت بالأمس: إن لا تدركوا الماء غدًا فتعطشوا والناس بالماء، فلما أصبح الناس وقد فقدوا نبيهم صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض: إن رسول الله عليه السلام بالماء، وفي القوم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فقالا: يا أيها

(1)"مسند أحمد"(5/ 298 رقم 22599).

ص: 233

الناس، إن رسول الله عليه السلام لم يكن ليسبقكم إلى الماء ويخلفكم؛ وإن يُطِع الناسُ أبا بكر وعمر يرْشدوا قالها ثلاثًا، فلما اشتدت الظهيرة رفع لهم رسول الله عليه السلام، فقالوا: يا رسول الله عليه السلام، هلكنا عطشًا، انقطعت الأعناق. فقال: لا يهلك عليكم، ثم قال: يا أبا قتادة، أئت بالميضأة فأتيته بها، فقال: أحلل لي غَمَري -يعني قدحه- فحللته، فأتيته به، فجعل يصبّ فيه ويسقي الناس، فازدحم الناس عليه، فقال رسول الله عليه السلام يا أيها الناس، أحسنوا الملء فكلكم سَيَصْدُر عن الريّ. فشرب القوم حتى لم يبق غيري وغير رسول الله عليه السلام، فصبّ لي، فقال: اشرب يا أبا قتادة. قال: قلت: اشرب أنت يا رسول الله. فقال إن ساقي القوم آخرهم شربًا. فشربتُ، وشرب بعدي، وبقي في الميضأة نحوٌ مما كان فيها، وهم يومئذٍ ثلاثمائة".

قال عبد الله: فسمعني عمران بن حصين وأنا أُحدّث هذا الحديث في المسجد الجامع، فقال: من الرجل؟ قلت: أنا عبد الله بن رباح الأنصاري. قال: القوم أعلم بحديثهم، انظر كيف تحدث؛ فإني أحد السَّبْعة تلك الليلة، فلما فرغت قال: ما كنت أحسب أن أحذا يحفظ هذا الحديث غيري (1).

قال حماد: ونا حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، عن النبي- عليه السلام مثله، وزاد: قال: كان رسول الله عليه السلام إذا عرس وعليه ليل توسّد يمينه، وإذا عرّس الصبح وضع رأسه على كفه اليمنى وأقام ساعده".

وأخرجه مسلم (2) أيضًا مطولًا: عن شيبان بن فروخ، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة قال: "خطبنا رسول الله عليه السلام فقال: إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم وتأتون الماء إن شاء الله غدًا

" الحديث.

(1)"مسند أحمد"(5/ 298 رقم 22599).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 474 رقم 681).

ص: 234

قوله: "فدعمته" أي أسندته.

قوله: "فادَّعم" أي استند، وأصله: اتدعم، فأدغمت التاء في الدال.

قوله: "حتى كاد أن ينجفل" أي ينقلب عنها ويسقط، يقال: ضربه فجفله أي ألقاه على الأرض.

قوله: "مِيضأة" بكسر الميم والقصر وقد يُمدّ، وهي مطهرة كبيرة يُتوضأ منها، ووزنها: مِفْعلة ومفعالة والميم زائدة.

قوله: "نبأ" أي شأن عظيم.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العَقديّ، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن نافع بن جبير، عن أبيه:"أن النبي عليه السلام كان في سفر، فقال: مَنْ يكلأ لنا الليلة لا ينام حتى الصبح؟ فقال بلالٌ: أنا. فاستقبل مطلع الشمس، فَضُرِبَ على آذانهم حتى أيقظهم حرُّ الشمس، فقام النبي عليه السلام فتوضأ وتوضئوا، ثم قعدوا هنيَّةً، ثم صلوا ركعتي الفجر، ثم صلوا الفجر".

ش: إسناده صحيح، وأبو عامر عبد الملك بن عمرو العقدي قد تكرر ذكره، وجُبَيْر بن مطعم النوفلي القرشي الصحابي رضي الله عنه.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عبد الصمد وصفان، قالا: نا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار -قال عفان: ثنا عمرو بن دينار- عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال:"كان رسول الله عليه السلام في سفرٍ فقال: من يكلؤنا الليلة لا يرقد حتى صلاة الفجر؟ فقال بلال: أنا، فاستقبل مطلع الشمس، فَضُرِبَ على آذانهم، فما أيقظهم إلا حرُّ الشمس، فقاموا ثم توضئوا، فأذن بلال فصلوا الركعتين، ثم صلوا الفجر".

قوله: "من يكلأ" أي من يحرس الليلة ويحفظها من كلأته أكلأه كلاءة، فأنا كالئ وهو مكلوء، وقد تخفف همزة الكلاءة وتقلب ياء.

(1)"مسند أحمد"(4/ 81 رقم 16792).

ص: 235

قوله: "حتى الصبح" بالجر؛ لأن "حتى" ها هنا جارَّة بمعنى إلى.

قوله: "فَضُرِبَ على آذانهم" على صيغة المجهول، وهي كناية عن النوم، ومعناه: حُجِبَ الصوت والحس أن يلجا آذانهم فينتبهوا فكأنها قد ضرب عليها حجاب.

ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أبو مصعب الزهري، قال: ثنا ابن أبي حازم، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة:"أن رسول الله عليه السلام عَرَّس ذات ليلةٍ بطريق مكة، فلم يستيقظ هو ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فاستيقظ رسول الله عليه السلام فقال: هذا منزل به شيطان. فاقتاد رسول الله عليه السلام واقتاد أصحابه حتى ارتفع الضحى، فأناخ رسول الله عليه السلام وأناخ أصحابه، فأمهم، فصلى الصبح".

فلما رأينا النبي عليه السلام أخّر صلاة الصبح لما طلعت الشمس -وهي فريضة- فلم يصلها حينذٍ حتى استوت الشمس، وقال في غير هذا الحديث:"فمن نسيَ صلاةً أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها".

دلّ ذلك أن نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس قد دخل فيه الفرائض والنوافل، وأن الوقت الذي استيقظ فيه ليس بوقت للصلاة التي نام عنها.

ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وأبو مصعب أحمد بن أبي بكر بن الحارث بن زرارة الزهري المدني الفقيه قاضي مدينة الرسول الله عليه السلام، شيخ الجماعة سوى النسائي، وابن أبي حازم هو عبد العزيز، واسم أبي حازم سلمة ابن دينار المدني روى له الجماعة، والعلاء بن عبد الرحمن المدني روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، وأبوه عبد الرحمن بن يعقوب المدني روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح".

وأخرجه مسلم (1) بغير هذا الإسناد: حدثني محمد بن حاتم ويعقوب

(1)"صحيح مسلم"(1/ 471 رقم 680).

ص: 236

الدورقي، كلاهما عن يحيى، قال ابن حاتم: نا يحيى بن سعيد، قال: نا يزيد بن كيسان، قال: نا أبو حازم، عن أبي هريرة قال:"عرسنا مع نبي الله عليه السلام، فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس، فقال عليه السلام: ليأخذ كل رجل برأس راحلته فإن هذا منزل حَضَرَنَا فيه الشيطان. قال: ففعلنا، ثم دعا بالماء، فتوضأ، ثم سجد سجدتين -وقال يعقوب: ثم صلى سجدتين- وأقيمت الصلاة فصلى الغداة".

وأخرج مسلم (1) أيضًا بأطول منه: عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة: "أن رسول الله عليه السلام حين قفل من غزوة خيبر سار ليلة حتى إذا أدركه الكرى عرَّس

" الحديث.

وأخرجه أبو داود (2) أيضًا بهذا الإسناد والمتن.

وقد قال بعضهم: "حين قفل من غزوة حنين" موضع "خيبر"، وهذه الرواية مناسبة لرواية الطحاوي؛ لأن في روايته:"عرس ذات ليلة بطريق مكة" فالظاهر أن هذا إنما كان حي قفل عليه السلام من غزوة حنين، وكانت غزوة حنين بعد الفتح في السنة الثامنة من الهجرة، وغزوة خيبر كانت في السنة السادسة من الهجرة.

قوله: "عرّس" من التعريس وقد فسرناه.

قوله: "هذا منزل به شيطان" وفي رواية مسلم: "هذا منزل حضرنا فيه شيطان"، وإنما قال ذلك لكون صلاة الفجر قد فأتت عنهم، فكأن الشيطان هو الذي تسبب في ذلك؛ لأنه لا يَسْعى إلا في الشر.

قوله: "فاقتاد رسول الله عليه السلام" أي اقتاد راحلته واقتاد أصحابه أيضًا رواحلهم إلى أن ارتفع الضحى.

(1)"صحيح مسلم"(1/ 471 رقم 680).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 118 رقم 435).

ص: 237

ويستفاد منه أحكام:

استدل به أصحابنا على وجوب الترتيب بين الصلوات الفائتة؛ لأن النبي عليه السلام جعل وقت التذكير وقتًا للفائتة فمن ضرورته أن لا يكون وقتًا للوقتية، واستدل به بعضهم على أن تأخير قضاء الفائتة بعذر لا يجوز، والصحيح أنه يجوز، وأن الأمر محمول على الاستحباب وقد مَرَّ مرّةً.

واستدل بقوله عليه السلام: "من نسي صلاةً أو نام عنها

" الحديث بعضُهم على قضاء السنن الراتبة.

قلت: استدلال غير صحيح؛ لأن قوله: "من نسي صلاة" صلاة الفرض بدلالة القرينة.

وفيه دليل على أن الناسي يقضي، وقد شذّ بعض الناس فقال: من زاد على خمس صلوات لم يلزم قضاؤها.

وأما من ترك الصلاة متعمدًا حتى خرجت أوقاتها فالمعروف من مذاهب الفقهاء أنه يقضي، وشذّ بعض الناس فقال: لا يقضي.

قال القاضي عياض: ويحتج له بدليل الخطاب في قوله: "مَن نسي صلاةً أو نام عنها فليصلها"، ودليله أن العامد بخلاف ذلك، فإن لم نقل بدليل الخطاب سقط احتجاجه، وإن قلنا بإثباته قلنا: ليس هذا ها هنا في الحديث من دليل الخطاب بل هو من التنبيه بالأدنى على الأعلى لأنه إذا وجب القضاء على الناسي مع سقوط الإثم فأحرى أن يجب على العامد.

وقال القاضي: سمعت بعض شيوخنا يحكي أنه بلغه عن مالك قولةٌ شاذة في المفرِّط كقول داود، ولا تصح عنه ولا عن أحدٍ من الأئمة ولا مَنْ يُعْتَزَى إلى علم سوى داود وأبي عبد الرحمن الشافعي، وقد اختلف الأصوليون في الأمر بالشيء المؤقت هل يتناول قضاءه إذا خرج وقته أو يحتاج إلى أمرٍ ثانٍ؟.

ص: 238

وقال بعض المشايخ: إن قضاء العامد مستفاد من قوله: "فليصلها إذا ذكرها" لأنه تَغَفَّل عنها بجهله وعمده كالناسي، ومتى ذكر تركه لها لزمه قضاؤها، والله أعلم.

قوله: "فلما رأينا النبي عليه السلام أخَّر صلاة الصبح لما طلعت الشمس" أي حين طلعت الشمس ليلة التعريس، والحال أنها فريضة "فلم يصلها حينئذٍ" أي حين استيقظوا في حالة طلوع الشمس "حتى استوت الشمس" أي ارتفعت وعلت، "وقال في غير هذا الحديث"، أي والحال أنه عليه السلام قد قال في غير حديث ليلة التعريس: "من نسي صلاة

" الحديث "دَلّ ذلك" أي فعله عليه السلام هذا وهو جوابٌ لما رأينا.

فإن قيل: كيف التوفيق بين الحديثين؟ فالحديث الأول يدل على أن وقت طلوع الشمس لا يصلح للفائتة، وهذا الحديث يدل على أنه إذا ذكر الفائتة في وقت الطلوع فإنه يصليها في ذلك الوقت، وكذا إذا ذكرها وقت الغروب أو وقت الاستواء؟

قلت: تواترت الآثار بالنهي عن الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة، وهي عامة في جنس الصلوات، وبها يثبت تخصيص هذه الأوقات من هذا الحديث، أعني قوله عليه السلام: "من نسي صلاة

" إلى آخره، وقد أخرج هذا الحديث ها هنا معلقًا، وعقد له بابًا فيما بعد على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

ص: فإن قال قائل: فلم قلت ببَعْض ذلك الحديث وتركت بعضه؟ فقلت: من صلى من العصر ركعةً ثم غربت له الشمس أنه يصلي بقيتها؟

قيل له: لم نقل ببعض هذا الحديث ولا بشيء منه، بل جعلناه كله منسوخًا بما روي عن رسول الله عليه السلام من نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس، ومما قد دل عليه: ما ذكرنا من حديث جُبَيْر وعمران وأبي قتادة وأبى هريرة رضي الله عنهم أن الفريضة قد دخلت في ذلك وأنها لا تُصلّى حينئذٍ كما لا تُصلّى النافلة، وأما الصلاة عند غروب الشمس لعصر يومه فإنا قد ذكرنا الكلام في ذلك في باب المواقيت.

ص: 239

ش: تقرير السؤال أن يقال: حديث أبي هريرة المذكور في أول الباب يدل على شيئين:

الأول: من أدرك من صلاة الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فعليه أن يتم صلاته.

الثاني: مَن أدرك من صلاة العصر ركعةً قبل أن تغرب الشمس فعليه أن يتم صلاته أيضًا، فكيف أنتم عملتم ببعض هذا الحديث حيث جوَّزتم لمن صلى من العصر ركعة ثم غربت الشمس أن يصلي بقيتها، وتركتم العمل ببعضه حيث لم تجوّزوا لمن صلى من الصبح ركعةً ثم طلعت الشمس أن يصلي بقيتها، بل حكمتم بفساد صلاته، وهذا تحكم والتحكم باطل؟.

وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلم ما ذكرتم؛ لأنا لم نقل بهذا الحديث كله فضلًا عن بعضه؛ لأن هذا الحديث عندنا منسوخ بحديث النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وبما روي في هذا الباب أيضًا من حديث جبير بن مطعم وعمران بن حصين وأبي قتادة وأبي هريرة رضي الله عنهم، وقد بيّنا حقيقة النسخ في ذلك في هذا الباب.

قوله: "وأما الصلاة عند غروب الشمس" جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: إذا كان الحديث المذكور منسوخًا كله عندكم، فكيف جوزتم لمن يصلي ركعةً من العصر ثم غربت الشمس أن يصلي بقية صلاته؟

وجوابه ما ذكره في باب "مواقيت الصلاة" وهو أنه عليه السلام نهى عن الصلاة عند غروب الشمس، وروي عنه أنه قال:"من أدرك من العصر ركعةً قبل أن تغيب الشمس فقد أدرك العصر"، فكان في ذلك إباحة الدخول في العصر في ذلك الوقت، فجعل النهي في الحديث الأول عن غير الذي أبيح في الحديث الآخر؛ حتى لا يتضاد الحديثان.

ص: 240

قلت: هذا الجواب لا يخلو عن مناقشة؛ لأنه قد ذكر أن هذا الحديث كله منسوخ، فإذا كان كله منسوخًا لا يعارض حديث النهي فلا يحتاج إلى التوفيق لأجل انقطاع التضاد، والجواب القاطع ها هنا أن الجزء الذي يتصل به طلوع الشمس من الوقت سبب صحيح تام، فيثبت به الوجوب بصفة الكمال، فإذا طلعت الشمس وهو في خلال الفجر يفسد الفرض؛ لأن الكامل لا يتأدى مع النقصان، وأما الجزء الذي يتصل به الغروب من الوقت في معنى سبب فاسدة للنهي الوارد عن الصلاة بعد ما تحمرّ الشمس فيثبت الوجوب مع النقصان بحسب السبب، فإذا غربت الشمس وهو في خلال صلاة العصر يُتم عصره؛ لأنه يوجد الأداء بتلك الصفة المذكورة، ولا يلزم إذا أداها في اليوم الثاني بعد ما احمرت الشمس حيث لا يجوز؛ لأن ضعف السبب ما لم يصر دَيْنًا في الذمة فإذا تحقق التفويت بمضي الوقت صار دينًا في ذمته، فثبت بصفة الكمال فلا يتأدى بالنقصان، فافهم.

ص: فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار.

وأما وجهه من طريق النظر: فإنا قد رأينا وقت طلوع الشمس إلى أن ترتفع قد نُهي فيه عن الصلاة، فاردنا أن ننظر في حكم الأوقات التي يُنْهى فيها عن الأشياء هل يكون على التطوع منها دون الفرائض أو على ذلك كله؟

فرأينا يوم الفطر ويوم النحر قد نهى النبي عليه السلام عن صيامهما وقامت الحجة عنه بذلك، فكان ذلك النهي عند جميع العلماء على أن لا يُصام فيهما فريضة ولا تطوع، فكان النظر على ذلك في وقت طلوع الشمس الذي قد نهي عن الصلاة فيه أن يكون كذلك أن لا يُصلّى فيه فريضة ولا تطوع، وكذلك يجيء النظر عند غروب الشمس، وأما نهي النبي- عليه السلام عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وبعد الصبح حتى تطلع الشمس فإن هذين الوقتين لم يُنْه عن الصلاة فيهما للوقت، وإنما نهي عن الصلاة فيهما لأجل الصلاة لا للوقت، وقد رأينا

ص: 241

ذلك الوقت يجوز لمن لم يصلّ عصر يومه أن يصلي فيه الفرائض والصلوات الفائتة، ولما كان النهي لأجل الصلاة كان إنما ينهى عن غيرهما مما لا يشاكلهما من النوافل لا من الفرائض، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله، وقد قال بذلك الحكم وحمّاد.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، قال:"سألت الحكم وحمادًا عن الرجل ينام عن الصلاة فيستيقظ وقد طلع من الشمس شيء، قالا: لا يصلي حتى تَنْبَسط" والله أعلم.

ش: أي هذا الذي ذكرناه وجه هذا الباب من طريق التوفيق بين الأحاديث والأخبار.

وأما وجهه من طريق النظر والقياس، فإنا قد رأينا

إلى آخره.

تقريره: أن الأوقات التي ورد النهي فيها عن الأشياء تارةً تكون على سبيل العموم وتارةً تكون على سبيل الخصوص.

فالأول: كيومي العيدين؛ فإنه ورد النهي عن صيامهما، وأجمع العلماء على أن ذلك عامّ سواء كان صوم الفرض كالمنذور وقضاء رمضان أو صوم التطوع؛ فإن كل ذلك يكره؛ فكان النظر والقياس على ذلك أن يكون معنى النهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها عامًّا شاملًا للصلاة الفرض والصلاة التطوع.

والثاني: أن يقتصر النهي على النوافل كالنهي عن الصلاة بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس وبعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، فإن النهي عن ذلك ليس بعام؛ لأن النهي ليس لمعنى في الوقت بل لأجل الصلاة تعظيمًا لها، فحينئذٍ يمنع عن الصلاة التي ليست بمشاكلة لها كالنوافل لا الفرائض بخلاف القسم الأول، فإن النهي فيه لأجل معنىً في الوقت وهو كون وقت الطلوع ووقت الغروب منسوبًا إلى الشيطان حيث قال في الحديث:"فإنها تطلع بين قرني الشيطان" وقد ذكرنا تحقيق ذلك في باب المواقيت.

ص: 242

قوله: "وقد قال بذلك الحكم وحماد" أي: قد قال بما ذكرنا من ترك الصلاة وقت طلوع الشمس إلى حين ارتفاعها سواء كانت فرضا أو نفلًا: الحكم بن عُتَيْبَة وحماد بن أبي سليمان أحد مشايخ أبي حنيفة.

أخرج ذلك عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة بن الحجاج، عنهما.

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن الثوري، عن سَعْد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن رجل من ولد كعب بن عجرة:"أنه نام عن الفجر حتى طلعت الشمس قال: فقمت أُصلِّي. قال: فدعاني فأجلسني -يعني كعبًا- حتى ارتفعت الشمس وابيضت ثم قال: قم فصَلِّ".

(1)"مصنف عبد الرزاق"(2/ 4 رقم 2251).

ص: 243