الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: صلاة الصحيح خلف المريض
ش: أي هذا باب في بيان حكم صلاة الرجل الصحيح خلف الإِمام الضعيف.
وجه المناسبة بين البابين: أن كلاًّ منهما مشتمل على حكم صلاة فاسدة، أما الأول فلأن فيه حكم الصلاة وقت طلوع الشمس، وأما هذا فلأن فيه حكم صلاة القائم خلف القاعد، وهي فاسدة عند الأكثرين على ما يجيء إن شاء الله تعالى.
ص: حدثنا على بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى (ح).
وحدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قالا: ثنا حميد بن عبد الرحمن بن حميد الرُّؤَاسي، عن أبيه، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال:"صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر وأبو بكر رضي الله عنه خلفه، فإذا كبَّر رسول الله عليه السلام كبّر أبو بكر رضي الله عنه ليُسْمِعَنا، فبَصُر بنا قيامًا، فقال: اجلسوا أومأ بذلك إليهم، فلما قضى الصلاة قال: كدتم أن تفعلوا فِعْل فارس والروم بعظمائهم، ائتموا بأئمتكم، فإن صلوا قيامًا فصلوا قيامًا، وإن صلوا جلوسًا فصلوا جلوسًا".
ش: إسناده صحيح وأخرجه من طريقين:
الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ البخاري ومسلم، عن حميد بن عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي -بضم الراء وتخفيف الواو، وبالسين المهملة- نسبة إلى رُؤَاس بن كلاب، وأصله بالهمزة، روى له الجماعة، عن أبيه عبد الرحمن بن حميد وثقه يحيى وروى له مسلم وأبو داود والنسائي، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره.
وأخرجه مسلم (1): ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا حميد بن عبد الرحمن
…
إلى آخره نحوه.
الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن حميد بن عبد الرحمن
…
إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (2): عن قتيبة ويزيد بن خالد، أن الليث حدثهم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "اشتكى النبي- عليه السلام فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُكبّر يُسمع الناس تكبيره
…
" ثم ساق الحديث.
وأخرجه النسائي (3) وابن ماجه (4) أيضًا.
قوله: "فبَصُر بنا" من بَصُر بَصارةً من باب كَرُمَ يَكْرُم، قال الجوهري: البَصر: العلم، وبَصُرت بالشيء: عَلِمْته، قال تعالى:{بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} (5)، والبصير: العالم، والتبصر: التأمل.
قوله: "قيامًا" حال من المجرور في قوله: "بنا" وهو جمع قائم كالصيام جمع صائم.
قوله: "أومأ بذلك" أي أشار بالجلوس إليهم.
قوله: "كدتم" أي قاربتم من فعل (الفارس)(6) والروم بعظمائهم وهو جمع عظيم، وأراد أكابرهم وساداتهم.
قوله: "قيامًا" و"جلوسًا" في الموضعين نَصْب على الحال، والجلوس جمع جالس.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 309 رقم 413).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 165 رقم 606).
(3)
"المجتبى"(3/ 9 رقم 1200).
(4)
"سنن ابن ماجه"(1/ 393 رقم 1240).
(5)
سورة طه، آية:[96].
(6)
كذا في "الأصل، ك".
ومما يستفاد منه:
جواز تبليغ أحد من القوم إلى مَن خلفه بالناس.
وأن الإشارة في الصلاة لا تفسدها.
وأن الإِمام إذا صلى قاعدًا يجب على القوم أن يصلوا قعودًا نحوه، وإليه ذهبت طائفة من أهل العلم؛ على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى.
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أن رسول الله عليه السلام ركب فرسًا فصُرع عنه، فجحش شقه الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعدٌ، وصلينا وراءه قعودًا، فلما انصرف قال: إنما جُعِل الإِمام ليؤتمّ به، فإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعين".
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني الليث ويونس، عن ابن شهاب
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حُميد، قال: ثنا أنس بن مالك، عن رسول الله عليه السلام
…
فذكر بإسناده مثله.
ش: هذه ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أنس
…
إلى آخره.
وأخرجه الجماعة، فقال البخاري (1): ثنا أبو نعيم، قال: ثنا ابن عُيَيْنة، عن الزهري، عن أنس قال: "سقط رسول الله عليه السلام من فرس، فخدش -أو فجحش- شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة، فصلى قاعدًا فصلينا قعودًا، وقال: إنما جعل الإِمام ليْؤتمَّ به، فإذا كبرّ فكبروا، إذا ركع
(1)"صحيح البخاري"(1/ 375 رقم 1063).
فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا" وفي رواية له:"وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا".
وقال مسلم (1): حدثني حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أنس بن مالك: "أن رسول الله عليه السلام صُرع عن فرسٍ فجحش شقه الأيمن
…
" إلى آخره نحوه.
وقال أبو داود (2): ثنا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك:"أن رسول الله عليه السلام ركب فرسًا فصرع عنده؛ فجحش شقه الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد، وصلينا وراءه قعودًا، فلما انصرف قال: إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون".
وقال الترمذي (3): حدثنا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن ابن كتاب، عن أنس بن مالك قال:"خرّ رسول الله عليه السلام، عن فرس، فجحش، فصلى بنا قاعدًا فصلينا معه، ثم انصرف، فقال: إنما الإِمام أو إنما جعل الإمامُ ليؤتم به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعون".
وقال النسائي (4): أنا قتيبة، عن مالك
…
إلى آخره نحو رواية أبي داود.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 308 رقم 411).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 164 رقم 601).
(3)
"جامع الترمذي"(2/ 194 رقم 361).
(4)
"المجتبى"(2/ 98 رقم 832).
وقال ابن ماجه (1): ثنا هشام بن عمار، ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس بن مالك: "أن النبي- عليه السلام صُرع عن فرس فجحش شقه الأيمن فدخلنا نعوده، فحضرت الصلاة فصل بنا قاعدًا، وصلينا وراءه قعودًا
…
" إلى آخره نحو رواية البخاري.
قوله: "فصرع عنه" أي سقط.
قوله: "فجحش" بضم الجيم وكسر الحاء المهملة وبالشين المعجمة، من الجَحْش وهو مثل الخدش، وقيل: فوقه، وقال الخطابي: معناه: قد انسحج جلده، وقد يكون ما أصاب رسول الله عليه السلام من ذلك السقوط مع الخدش رَضّ في الأعضاء وتوجع فلذلك منعه القيام للصلاة.
وقال ابن الأثير: فجحش، أي: انخدش جلده وانسحج.
فإن قيل: وقع في رواية أبي داود من حديث جابر رضي الله عنه: "ركب رسول الله عليه السلام فرسًا بالمدينة، فصرعه على جذم نخلة فانفكت قدمه
…
" الحديث، فإنه يقتضي انفكاك قدمه عليه السلام، وحديث أنس يقتضي قشر الجلد.
قلت: لا مانع من حصول فك القدم وقشر الجلد معًا، ويحتمل أنهما واقعتان، والله أعلم.
قوله: "وهو قاعد" جملة اسمية وقعت حالًا من الضمير الذي في "فصلى".
قوله: "إنما جعل الإمام" لفظة "إنما" تدل على الحصر عند الإِمام فخر الدين وأتباعه، ومعنى الحصر: إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه، واختار الآمدي أنها لا تفيد الحصر وإنما تفيد تأكيد الإثبات فقط، ونقله أبو حيان عن البَصْريين ونقل بعضهم أن الاتفاق على أنها تفيد الحصر، وقد استدل به من يقول: لا تتوقف صحة صلاة المأموم على صحة صلاة الإِمام إذا ظهر جنبًا أو
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 392 رقم 1238).
محدثًا أو عليه نجاسة، وهذا استدلال فاسد لكونه غير مطرد حتى أنه لو ظهر كافرًا أو امرأةً أو خنثى أو مجنونًا، قالوا: يجب الإعادة.
قوله: "قعودًا" جمع قاعد، وانتصابه على الحال من الضمير الذي في "وصلينا".
قوله: "قائمًا"، و "قيامًا"، و"جالسا"، و"جلوسا" كلها أحوال.
قوله: "أجمعون" تأكيد للضمير المرفوع الذي في قوله: "فصلوا"، فافهم.
الطريق الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن عبد الله بن وهب أيضًا، عن الليث بن سعد، ويونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري
…
إلى آخره.
الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن حميد الطويل، عن أنس.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا يزيد بن هارون، أنا حميد، عن أنس:"أن رسول الله عليه السلام انفكت قدمه فقعد في مشربة له درجها من جذوع، وآلى مِن نسائه شهرًا، فأتاه أصحابه يعودونه، فصلى بهم قاعدًا وهم قيام، فلما حضرت الصلاة الأخرى قال لهم: ائتموا بإمامكم فإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا معه قعودًا، قال: ونزل في تسع وعشرون، فقالوا: يا رسول الله عليه السلام، إنك آليت شهرًا؟ قال: الشهر تسع وعشرون".
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدّثه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنه قالت: صلى رسول الله عليه السلام في بيته وهو شاكٍ، فصلى جالسًا وصلى خلفه قومٌ قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا
…
" ثم ذكر مثله.
(1)"مسند أحمد"(3/ 200 رقم 13093).
حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنه، عن النبي- عليه السلام مثله.
ش: هذان إسنادان صحيحان:
أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب
…
إلى آخره.
وأخرجه البخاري (1): ثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت:"صلى رسول الله عليه السلام في بيته وهو شاكٍ، فصلى جالسًا وصلى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: إنما جُعل الإِمام ليُؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا".
قوله: "وهو شاك" أي مريض، من شكى شكوًا وشكوى وشكاةً وشكايةً.
والآخر: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن علي بن مُسهر الكوفي قاضي الموصل واحد أصحاب أبي حنيفة، الثقة الكبير العالم، عن هشام بن عروة
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: "اشتكى رسول الله عليه السلام، فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه، فصلى رسول الله عليه السلام جالسًا فصلوا بصلاته قيامًا، فأشار
إليهم أن اجلسوا، فجلسوا، فلما انصرف قال: إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صل جالسًا فصلوا جلوسًا".
وأخرجه أبو داود (3) أيضًا.
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، قال: سمعت أبا علقمة يحدث، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)"صحيح البخاري"(1/ 374 رقم 1062).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 309 رقم 412).
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 165 رقم 605).
"مَنْ أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأميرَ فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني، فإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا".
حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخَصِيبُ بن ناصح، قال: ثنا وُهَيبٌ، عن مصعب بن محمد القرشي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعين".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيدُ بن عامر، قال: ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي- عليه السلام مثله.
ش: هذه ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء العامري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن أبي علقمة المصري مولي بني هاشم، ويقال: مولى عبد الله بن عباس روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح".
وأخرجه الطيالسي في "مسنده"(1): ثنا شعبة، ثنا يعلى بن عطاء، قال: سمعت أبا علقمة يحدث، عن أبي هريرة
…
إلى آخره نحوه.
وبعد قوله: "فصلوا قعودًا": "فإذا قال: سمع الله لمن حمده. فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد. وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (2) فقولوا: آمين؛ فإنه إذا وافق قول أهل السماء قول أهل الأرض غفر للعبد ما مضى من ذنوبه".
الثاني: عن نصر بن مرزوق، عن الخَصيب -بفتح الخاء المعجمة- بن ناصح، عن وهيب بن خالد البصري، عن مصعب بن محمد القرشي، عن أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة.
(1)"مسند الطيالسي"(1/ 336 رقم 2577).
(2)
سورة الفاتحة، آية:[7].
وأخرجه أبو داود (1): ثنا سليمان بن حرب ومسلم بن إبراهيم -المعنى- عن وُهَيب، عن مصعب بن محمد، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال النبي عليه السلام: "إنما جعل الإِمام ليُؤتم به، فإذا كبَّر فكبروا، ولا تُكبِّروا حتى يُكبّر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد -قال مسلم: ولك الحمد- وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعين".
قوله: "أجمعين" بالنصب، وكذا في رواية أبي داود، ووقع في بعض رواية أبي داود:"أجمعون" بالرفع، وجه النصب: أن يكون تأكيدًا لقوله: "قعودًا"، ووجه الرفع: أن يكون تأكيدًا للضمير الذي في قوله: "فصلوا"، فافهم.
الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عن النبي- عليه السلام.
وأخرجه العدنيَّ في "مسنده": ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله عليه السلام قال:"إنما الإِمام ليؤتَم به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون".
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبد الله بن حُمْران (ح).
وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قالا: ثنا عقبة بن أبي الصهباء الباهلي، قال: سمعت سالمًا يقول: حدثني عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أنه كان يومًا من الأيام عند النبي عليه السلام وهو في نفر من أصحابه، فقال لهم: ألستم تعلمون أني رسول الله إليكم؟ قالوا: بلى نشهد أنك رسول الله. قال:
(1)"سنن أبي داود"(1/ 164 رقم 603).
أفلستم تعلمون أن الله قد أنزل في كتابه أن من أطاعني، فقد أطاع الله؟ قالوا: بلى نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله. قال: فإن من طاعة الله أن تطيعوني، وإن من طاعتي أن تُطيعوا أئمتكم، فإن صلُّوا قعودا فصلوا قعودًا".
ش: هذان طريقان صحيحان:
أحدهما: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عبد الله بن حمران بن عبد الله بن حمران بن أبان القرشي الأموي مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن يحيى بن معين: صدوق صالح. وقال ابن حبان: ثقة يخطئ، روى له مسلم وأبو داود والنسائي، عن عقبة بن صهيب بن أبي الصبهاء النافطي، وثقه ابن حبان، عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، عن أبيه عبد الله بن عمر.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا عمر بن حفص السدوسي، ثنا عاصم ابن علي، ثنا عقبة بن أبي الصهباء قال: سمعت سالمًا، قال: حدثني ابن عمر رضي الله عنهما: "أنه كان عند النبي عليه السلام جالسًا في نفرٍ من أصحابه، فقال النبي- عليه السلام: يا هؤلاء، أليس تعلمون أني رسول الله عليه السلام
…
" إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "أليس" في كل المواضع موضع "ألستم".
الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء، عن عقبة بن أبي الصهباء
…
إلى آخره.
ص: فذهب قومٌ إلى هذا فقالوا: من صلى بقوم قاعدًا من علة صلوا خلفه قعودًا وإن كانوا يطيقون القيام.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي، وحماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وابن المنذر، وداود الظاهري؛ فإنهم قالوا: إذا صلى الإِمام قاعدًا من أجل علة صلى القوم خلفه قعودًا وإن كانوا يطيقون القيام، فذهبوا في ذلك إلى الأحاديث المذكورة.
(1)"المعجم الكبير"(12/ 321 رقم 13238).
وقال أبو عمر: ذهب إلى ذلك داود في رواية عنه.
قال أحمد: وفعله أربعة من الصحابة بعده: أُسَيدُ بن حُضَير، وقيس بن فهد، وجابر، وأبو هريرة رضي الله عنهم.
وفي "المغني": إذا صلى إمام الحيّ جالسًا صلى من وراءه جلوسًا، فإن صلوا وراءه قياما ففيه وجهان:
أحدهما: لا تصح صلاتهم، أومأ إليه أحمد؛ فإنه قال: إن صلى الإِمام جالسًا والذين خلفه قيامًا لم يقتدوا بالإمام، إنما اتباعهم له إذا صلى جالسًا أن يصلوا جلوسًا.
والثاني: تصح، والله أعلم.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: يصلون خلفه قيامًا ولا يسقط عنهم فرض القيام لسقوطه عن إمامهم.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري، وأبا حنيفة، والشافعي، وأبا ثور، وجمهور السلف؛ فإنهم قالوا: لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائمًا.
وقال المرغيناني: الفرض والنفل سواء.
وقال أبو عمر (1): قال جمهور أهل العلم: لا يجوز لأحد أن يصلي في شيء من الصلوات المكتوبات جالسًا وهو صحيح قادر على القيام لا إمامًا ولا منفردًا ولا خلف إمام، ثم اختلفوا، فمنهم من أجاز صلاة القائم خلف المريض؛ لأن كلًا يؤدي فرضه على قدر طاقته تأسيًّا برسول الله عليه السلام إذ صلى في مرضه الذي توفي فيه قاعدًا وأبو بكر إلى جنبه قائمًا يُصلي بصلاته والناس قيام خلفه، ولم يشُر إلى أبي بكر رضي الله عنه ولا إليهم بالجلوس، وأكمل صلاته جالسًا
(1)"التمهيد" لابن عبد البر (6/ 141 - 144).
وهم خلفه قيام، وممن ذهب إلى هذا المذهب واحتج بهذه الحجة: الشافعي وداود بن علي وهي رواية الوليد بن مسلم، عن مالك أنه أجاز للإمام المريض أن يصلي بالناس جالسًا وهم قيام، قال: وأحبُّ إليّ أن يقوم إلى جَنْبه مَنْ يعلم الناسَ بصلاته.
وهذه الرواية غريبة عن مالك، ومذهبه عند أصحابه على خلاف ذلك، ذكره أبو المصعب في "مختصره" عن مالك، قال: لا يؤم الناس أحدٌ قاعدًا، فإن أمهم قاعدًا فسدت صلاتهم وصلاته، فإن كان الإِمام عليلًا تمت صلاته وفسدت صلاة من خلفه. قال: ومن صلى قاعدًا من غير علة أعاد الصلاة.
قال أبو عمر: فعلى رواية أبي مصعب يجب عليهم الإعادة في الوقت وبعده.
وقد روي عن مالك في هذا أنهم يعيدون في الوقت خاصة.
وقال الحسن: إذا صلى الإِمام المريض جالسا بقومٍ أصحاء ومرض جلوسًا فصلاته وصلاة من خلفه ممن لا يستطيع القيام جائزة، وصلاة من صلى خلفه ممن كان حكمه القيام باطلة.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: صلاته وصلاتهم جائزة، وقالوا: لو صلى وهو يومئ بقوم يركعون ويسجدون لم يجزهم في قولهم جميعًا، وأجزأت الإِمام صلاته.
وقال ابن القاسم: لا يأتم القائم بالجالس لا في فريضة ولا في نافلة، ولا بأس أن يأتم الجالس بالقائم.
واختلف أصحاب مالك في إمامة المريض بالمرضى جلوسًا، فأجازها بعضهم وكرهها أكثرهم.
ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بشر الرَّقي، قال: ثنا الفريابي (ح).
وحدثنا ربيعٌ المؤذن، قال: ثنا أسدٌ، قا لا: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أرقم بن شرحبيل قال: "سافرتُ مع ابن عباس رضي الله عنهما من المدينة إلى الشام
فقال: إن رسول الله عليه السلام لما مرض مرضه الذي مات فيه كان في بيت عائشة رضي الله عنها فقال: ادعوا لي عليًّا. فقالت: ألا نَدعو لك أبا بكر؟ قال: ادعوه، فقالت حفصة: ألا ندعو لك عمر؟ قال: ادعوه، فقالت: أم الفضل: ألا ندعو لك العباس عمَّك؟ قال: ادعوه، فلما حضروا رفع رأسه ثم قال: ليُصلّ للناس أبو بكر، فتقدم أبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس، ووجد رسول الله عليه السلام من نفسه خفة فخرج يهادَى بين رجلين، فلما أحسه أبو بكر رضي الله عنه سَبّحوا، فذهب أبو بكر يتأخر، فأشار إليه النبي عليه السلام مكانك، فاستتم رسول الله عليه السلام من حيث انتهى أبو بكر من القراءة، وأبو بكر قائم ورسول الله عليه السلام جالس، فائتم أبو بكر بالنبي، وائتم الناس بأبي بكر، فما قضى النبي عليه السلام الصلاة حتى ثقل، فخرج يُهادَى بين رجلين وإن رجليه لتخطان بالأرض، فمات رسول الله عليه السلام ولم يوص".
ففي هذا الحديث أن أبا بكر ائتم بالنبي عليه السلام قائمًا والنبي عليه السلام قاعدٌ، وهذا من فعل النبي- عليه السلام بعد قوله ما قال في الأحاديث في الباب الأول.
ش: أي احتج الجماعة الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإن فيه أن أبا بكر رضي الله عنه اقتدى بالنبي عليه السلام وهو قائم والنبي قاعد، وفعله عليه السلام هذا متأخر عن قوله:"فإن صلوا قيامًا فصلوا قيامًا، وإن صلوا جلوسًا فصلوا جلوسًا" ونحو ذلك مما ذكر في أول الباب، فدل ذلك أن هذه الأحاديث المذكورة في أول الباب منسوخة؛ لأن المتقدم يرفعه المتأخر.
فإن قيل: كيف وجه هذا النسخ وقد وقع في ذلك خلاف، وذلك أن هذا الحديث الذي ذكره ابن عباس فيه أنه عليه السلام كان إمامًا وأبو بكر مأموم، وقد ورد فيه العكس كما أخرجه الترمذي والنسائي والطحاوي أيضًا -على ما يأتي- عن نعيم بن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة قالت:"صلى رسول الله عليه السلام في مرضه الذي توفي فيه خلف أبي بكر قاعدًا" وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرج النسائي والطحاوي أيضًا -على ما يأتي- عن حميدٍ، عن أنس قال:"آخر صلاة صلاها رسول الله عليه السلام مع القوم صلى في ثوب واحد متوشحًا خلف أبي بكر رضي الله عنه".
قلت: مثل هذا لا يعارض ما وقع في "الصحيح"، مع أن العلماء جمعوا بينهما، فقال البيهقي في "المعرفة": ولا تعارض بين الخبرين؛ فإن الصلاة التي كان فيها النبي- عليه السلام إمامًا هي صلاة الظهر يوم السبت أو الأحد، والتي كان فيها مأمومًا هي صلاة الصبح من يوم الإثنين، وهي آخر صلاة صلاها النبي عليه السلام حتى خرج من الدنيا.
قال: وهذا لا يخالف ما ثبت عن الزهري، عن أنس في صلاتهم يوم الاثنين، وكشفه عليه السلام الستر ثم إرخائه، فإن ذلك إنما كان في الركعة الأولى، ثم إنه وجد في نفسه خفة، فخرج فأدرك معه في الركعة الثانية.
وقال القاضي عياض: نسخ إمامة القاعد جملة بقوله عليه السلام: "لا يَؤمنّ أحد بعدي جالسًا"، وبفعل الخلفاء بعده، وأنه لم يؤم أحد منهم قاعدًا وإن كان النسخ لا يمكن بعد النبي- عليه السلام فمثابرتهم على ذلك تشهد بصحة نهيه عليه السلام عن إمامة القاعد بعده.
قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني (1) ثم البيهقي (2) في "سننهما": عن جابر الجعفي، عن الشعبي.
وقال الدارقطني: لم يروه عن الشعبي غير جابر الجُعْفي وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم به حجة.
وقال عبد الحق في "أحكامه": ورواه عن الجعفي مجالد وهو أيضًا ضعيف، وقد يجاب عن الأحاديث الأُوَل بأنه كان مخصوصًا بالنبي عليه السلام، وفيه نظر؛ لأن
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 398 رقم 6).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 80 رقم 4854).
الأصل عدم التخصيص حتى يدل عليه دليل كما عرف في الأصول، وقد قالوا: إن قوله: "فإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا" محمول على أنه إذا كان في حالة الجلوس فاجلسوا ولا تخالفوه في القيام، وكذلك "إذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا" أي إذا كان في حالة القيام فقوموا ولا تخالفوه بالقعود، وكذلك في قوله:"فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا".
ثم إنه أخرج حديث ابن عباس رضي الله عنهما من طريقين حسنين جيدين:
الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن محمد بن يوسف الفِرْيابي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أرقم بن شرحبيل الأَوْدي الكوفي وثقه أبو زرعة، وروى له الترمذي وابن ماجه.
وأخرجه ابن ماجه (1): ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأرقم بن شرحبيل، عن ابن عباس قال: "لما مرض رسول الله عليه السلام مرضه الذي مات فيه كان في بيت عائشة فقال: ادعوا لي عليًّا. قالت عائشة: يا رسول الله عليه السلام، نَدْعُو لك أبا بكر؟ فقال: ادْعُوه. قالت حفصة: يا رسول الله، ندْعُو لك عمر؟ قال: نعم. فلما اجتمعوا رفع رأسه فنظر، فسكت فقال عمر رضي الله عنه: قوموا عن رسول الله عليه السلام، ثم جاء بلال رضي الله عنه يؤذن بالصلاة، فقال: مروا أبا بكر فلْيصلِّ بالناس. فقالت عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر رجل رقيق حَصِرٌ، ومتى لا يراك يبكي والناس يبكون، فلو أمَرْتَ عمر يُصلي بالناس، فخرج أبو بكر فصلى بالناس، فوجد رسولُ الله عليه السلام من نفسه خفةً فخرج يُهادَى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض، فلما رآه الناسُ سبَّحوا بأبي بكر، فذهب ليتأخر، فأومى إليه النبي عليه السلام أيْ مكانك، فجاء رسول الله عليه السلام فجلس عن يمينه، وقام أبو بكر، فكان أبو بكر يأتم بالنبي عليه السلام والناس يأتمون بأبي بكر. قال ابن عباس: وأخذ رسول الله عليه السلام من
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 391 رقم 1235).
القراءة من حيث كان بلغ أبو بكر -قال وكيع: وكذا السنة- فمات رسول الله عليه السلام في مرضه ذلك".
الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن إسرائيل
…
إلى آخره.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث عبد الله بن رجاء، أنا إسرائيل، عن أبي إسحاق
…
إلى آخره نحو رواية الطحاوي.
قوله: "مَرَضَه الذي مات فيه" منصوب بقوله: "مَرِضَ" وقد عُرِفَ أن المصدر ينتصب بفعله سواء كان مُنَكَّرًا أو معرّفا.
قولى: "ادعوا لي عليًّا" أي اطلبوا لي عليًّا رضي الله عنه.
قوله: "عمك" بالنصب؛ لأنه بدل من قوله: "العباس" أو عطف بيان.
قوله: "يهادى بين رجلين" أي يمشي بينهما معتمدًا عليهما من ضعفه وتمايله، من تهادت المرأة في مشيها إذا تمايلت، وكل من فعل ذلك بأحدٍ فهو يهاديه، وأراد بالرجلين العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقد جاء مصرحًا بهما في رواية مسلم.
قوله: "يتأخر" جملة فعلية مضارعة وقعت حالًا من أبي بكر.
قوله: "مكانك" منصوب بفعل محذوف تقديره: الزم مكانك ولا تفارقه.
قوله: "وإن رجليه لتخطان بالأرض" إخبار عن مبلغ ضعف قواه، وأن رجليه لم تُقِلاّه، بل كان يجرّهما بالأرض ولا يعتمد عليهما.
ويستفاد منه:
جواز تسبيح المُصلي في صلاته لأمر يحدث.
وفيه: دليل لمن ائتم في الصلاة بمأموم على القول أن النبي عليه السلام كان الإِمام.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 81 رقم 4857).
قال عياض: وفي المذهب عندنا فيها قولان: الصحة، والفساد.
وعلي هذا أيضًا فيه جواز الائتمام في صلاة واحدة بإمامين واحدًا بعد آخر، وهو أصل في الاستخلاف وجوازه، وحجة على داود والشافعي في منعه.
وعلي أن الصلاة لا تصح بإمامين لغير عذر مذهب الجمهور والطبري والبخاري وبعض الشافعية؛ استدلالًا بهذا الحديث.
وعندنا العذر في هذا المتقدم بين يدي النبي عليه السلام المنهي عنه، وأن هذا خصوصٌ له.
وقد وقع لابن قاسم من أئمتنا في إمام أحدث فاستخلف ثم انصرف أنه يجوز للمستخلف أن يتأخر له ويتم الأول بهم الصلاة، كأنه أخذ بظاهر هذا الحديث وهو غير جار على أصولنا. انتهى.
قلت: استدل أصحابنا أيضًا بهذا الحديث على جواز الاستخلاف في الصلاة، وقالوا: هذا أصل في حق كل إمام عجز عن الإتمام أن يتأخر ويسخلف غيره، ويتم الخليفة صلاته، فإن حضر المستخلف قبل إتمام الخليفة الصلاة لا يتأخر لأجله، بل يمضي على إتمامه؛ لأنه لا عذر له في ذلك، بخلاف تأخر أبي بكر رضي الله عنه، فإنه كان معذورًا لعدم جواز المتقدم على النبي عليه السلام بخلاف غيره، فافهم.
وفيه: عظيم قدر أمر صلاة الجماعة وتأكيدها لتكلّف النبي عليه السلام الخروج إليها بتلك الحال.
وفيه: أنه عليه السلام صلى وهو جالس والقوم وراءه قيام، وأن هذا آخر الآمرين.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زائدة، قال: ثنا موسى بن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله قال: "دخلتُ على عائشة رضي الله عنها فقلتُ: ألا تحدثيني عن مرض النبي عليه السلام فقالت: بلى، كان الناس عكوفًا في المسجد يَنْتظرون رسول الله عليه السلام لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل رسول الله عليه السلام إلى
أبي بكر رضي الله عنه أن يصلّي بالناس، فكان يُصلّي لهم تلك الأيام، ثم إن رسول الله عليه السلام وجد في نفسه خفّةً فخرج يُهادى بين رجلين لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي للناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه أن لا يتأخر، وقال لهما: أَجْلِسَاني إلى جَنْبه. فأَجْلساه إلى جَنْب أبي بكر، فجعل أبو بكر يُصلّي وهو قائم بصلاة النبي- عليه السلام، والناسُ يُصَلّون بصلاة أبي بكر والنبي عليه السلام قاعدٌ. قال عبيد الله: فدخلت على ابن عباس، فعرضت حديثها عليه، فما أنكَر من ذلك شيئًا".
حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو معاوية، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"لما ثَقُل رسول الله عليه السلام جاءه بلالٌ رضي الله عنه يُؤذنه للصلاة، فقال: ائتوا أبا بكر فليُصَلّ للناس. قالت: فقلت: يا رسول الله لو أمرت عُمر أن يُصلّي بهم، فإن أبا بكر رجل أَسيفٌ ومتى يَقوم مقامك لا يُسْمِع النَّاسَ. قال: مُرُوا أبا بكر فليُصل بالناس. فأمروا أبا بكر فصلّى بالناس، فلما دخل في الصلاة وَجد رسول الله عليه السلام خفة فقام يُهادى بين رجلين ورجلاه تخطان الأرض، فلما سمع أبو بكر حسَّه ذهبَ ليتأخر، فأومأ إليه أنْ صَلَّ كما أَنْتَ، فجاء رسول الله عليه السلام حتى جَلَس على يسار أبي بكر، فكان رسول الله عليه السلام يُصلّي بالناس، وأبو بكر يقتدي بالنبي عليه السلام وهو قائم، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر رضي الله عنه".
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس الكوفي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، وكثيرًا ما يُنسبُ إلى جدّه.
عن زائدة بن قدامة الكوفي روى له الجماعة، عن موسى بن أبي عائشة الهمداني أبي الحسن الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة روى له الجماعة، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود المدني الفقيه الأعمى، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، روى له الجماعة.
وأخرجه مسلم (1): ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا زائدة، قال: نا موسى بن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله قال:"دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت لها: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله عليه السلام؟ قالت: بلى، ثقل رسولُ الله عليه السلام فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم يَنْتظرونك يا رسول الله عليه السلام. قال: ضعوا لي ماءً في المخضب. ففعلنا، فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا، وهم ينتظرونك، قالت: والناس عكوفٌ في المسجد ينتظرون رسول الله عليه السلام لصلاة العشاء الآخرة، قالت: فأرسل رسول الله عليه السلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن يصلي بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله عليه السلام يأمرك أن تصلي بالناس. فقال أبو بكر -وكان رجلًا رقيقًا-: يا عمر، صلَّ بالناس. فقال عمر: أنت أحقُ بذلك. قالت: فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام، ثم إن رسول الله عليه السلام وجد من نفسه خفةً فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي عليه السلام أن لا تتأخر وقال لهما: أجْلساني إلى جَنْبه، فأجلساه إلى جَنْب أبي بكر رضي الله عنه، وكان أبو بكر يُصلي وهو قائم بصلاة النبي عليه السلام، والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي عليه السلام قاعدٌ، قال عبيد الله: فدخلتُ على عبد الله بن عباس، فقلت له: ألا أعْرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض النبي عليه السلام؟ قال: هات. فعَرضْتُ حديثها عليه، فما أنكر منه شيئًا غير أنه قال: أسمَّت لك الرجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا. قال: هو علي رضي الله عنه".
وأخرجه البخاري (2) والنسائي (3) أيضًا.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 311 رقم 418).
(2)
"صحيح البخاري"(1/ 243 رقم 655).
(3)
"المجتبى"(2/ 101 رقم 834).
قوله: "عكوفًا" أي عاكفين ومعناه ملتزمن ومجتمعين، من عكف يعكِف ويعكُف من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ ونَصَرَ يَنْصُرُ، والعكوف: الإقامة على الشيء وبالمكان ولزومهما، ومنه المعتكف في المسجد.
قوله: "ينتظرون" جملة حالية.
قوله: "يُهادى" على صيغة المجهول، وقد فسرناه عن قريب.
قوله: "في المخضب" في رواية مسلم بكسر الميم هو مثل الأجّانة والمِرْكن.
قوله: "ذهب لينوء" أي ليقوم وينهض.
قوله: "رقيقًا" أي رقيق القلب كثير الخشية سريع الدمعة.
الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم -بالمعجمتين- عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه البخاري (1): ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: حدثني أبي، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، قال: الأسود قال: "كنا عند عائشة رضي الله عنها فذكرنا المواظبة على الصلاة والتعظيم لها، قالت: لما مرض رسول الله عليه السلام مرضه الذي مات فيه، فحضرت الصلاةُ فأذّن فقال: مُرُوا أبا بكر فليصل بالناس. فقيل له: إن أبا بكر رجل أسِيفٌ إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلّي بالناس. وأعاد، فأعادوا له، فأعاد الثالثة، فقال: إنكن صواحبُ يوسف؛ مُرُوا أبا بكر فليصلَّ بالناس، فخرج أبو بكر فصلى، فوجد النبي عليه السلام من نفسه خفّةً فخرج يُهادى بين رجلين، فكأني انظر رجليه يخطان من الوجع، فأراد أبو بكر
أن يتأخر، فأومأ إليه النبي عليه السلام أنْ مكانك، ثم أُتيَ به حتى جلَس إلى جَنْبه. قيل للأعمش: وكان النبي- عليه السلام يُصلّي وأبو بكر يُصلّي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر؟ فقال برأسه: نعم".
(1)"صحيح البخاري"(1/ 236 رقم 633).
رواه أبو داود (1): عن شعبة، عن الأعمش بعضه، وزاد أبو معاوية:"جلس عن يسار أبي بكر رضي الله عنه فكان أبو بكر يصلي قائمًا".
وأخرجه مسلم (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو معاوية ووكيع، ونا يحيى بن يحيى -واللفظ له- قال: أنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت:"لما ثقل رسول الله عليه السلام جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: مُرُوا أبا بكر فليصلِّ بالناس. قالت: فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أَسِيف، وإنه متى يقوم مقامك لا يُسمع الناس، فلو أمرت عمر. فقال: مروا أبا بكر فليصلَّ بالناس. قالت: فقلت قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يُسمع الناسَ، فلو أمرت عمر (3) فقالت له، فقال رسول الله عليه السلام: إنكن لأَنتُنّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت: فأمروا أبا بكر رضي الله عنه فصلى بالناس، قالت: فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله عليه السلام من نفسه خفة، فقام يُهادَى بين رجلين ورجلاه يخطان في الأرض، قالت: فلما دخل المسجدَ سمع أبو بكر حسَّه ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله عليه السلام: أَقِمْ مكانك. فجاء رسول الله عليه السلام حتى جلس عن يسار أبي بكر، قالت: فكان رسول الله عليه السلام يصلّي بالناس جالسًا وأبو بكر قائمًا، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي عليه السلام ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر رضي الله عنه".
قوله: "يؤذنه" أي يُعْلمه، من الإيذان وهو الإعلام.
قوله: "رجل أسيف" أي سريع الحزن والبكاء وهو الأسوف أيضًا، والأسيف في غير هذا الموضوع: العبد، والآسِفُ الغضبان، ومنه قوله تعالى:
(1) هذا باقي كلام البخاري في "صحيحه"، وأبو داود هذا هو الطيالسي.
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 313 رقم 418).
(3)
حدث خلط في أوراق المخطوط فكان [ق 179 - أ] مع [ق 199 - ب] و [ق 199 - أ] مع [ق 179 - ب].
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} (1) وفيه دليل على فضيلة أبي بكر وتقدمه، وتَنْبيةٌ على أنه أولى بخلافته كما قال الصحابة رضي الله عنهم:"رضينا لدنيانا مَنْ رَضِيَه رسول الله عليه السلام لديننا".
ص: فقال قائلون: لا حجة لكم في هذا الحديث؛ لأن النبي- عليه السلام كان في تلك الصلاة مأمومًا، واحتجوا في ذلك بما حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا شعبة، عن نعيم بن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"صلى رسول الله عليه السلام في مرضه الذي تُوفيَ فيه خلف أبي بكر قاعدًا".
حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا يحيى بن أيوب، قال: أخبرني حميد، قال: حدثني ثابت البناني، عن أنس بن مالك: أن النبي عليه السلام صلى خلف أبي بكر في ثوب واحد بُرْدٍ يخالف بين طرفَيْه، فكانت آخر صلاة صلاها".
حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا معاوية بن عمرو الأزدي، قال: ثنا زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال:"مرض النبي عليه السلام فقال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس. فقالت عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر رجل رقيق. فقال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس، فإنكن صواحب يوسف. قال: فقام أبو بكر في حياة النبي- عليه السلام".
وكان من الحجة عليهم في ذلك أنه قد روي هذا الذي قد ذكروه، ولكن أفعال النبي عليه السلام في صلاته تلك تَدلّ على أنه كان إمامًا، وذلك أن عائشة رضي الله عنها قالت في حديث الأسود عنها:"فقعد رسول الله عليه السلام عن يسار أبي بكر" وذلك قعود الإمام لا قعود المأموم؛ ولأنه لو كان أبو بكر إمامًا له لكان النبي عليه السلام يقعد عن
(1) سورة الأعراف، آية:[150].
يمينه، فلما قعدَ عن يساره وكان أبو بكر عن يمينه، دل ذلك على أن النبي- عليه السلام كان هو الإِمام، وأن أبا بكر هو المأموم.
ش: أي فقال جماعة قائلون من أهل المقالة الأولى: لا حجة لكم في حديثي ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، وهذا منع يصعب الاستدلال به.
تقريره: أن يُقال: إنكم تحتجون بحديثي ابن عباس وعائشة أن الإِمام إذا صلى قاعدًا لعذرٍ به يجب على القوم أن يصلوا وراءه قيامًا، وليس لكم حجة في هذا الحديث، لأن النبي عليه السلام لم يكن في تلك الصلاة إمامًا وإنما كان مأمومًا، والدليل علي رواية مسروق عن عائشة، ورواية أنس بن مالك، ورواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنهم.
وتقرير الجواب ما أشار إليه بقوله: "وكان من الحجة عليهم في ذلك" أي وكان من الدليل والبرهان وهو الجواب على هؤلاء القائلين فيما ذهبوا إليه: أنا سلمنا هذه الأحاديث قد جاءت هكذا ولكن أفعال النبي عليه السلام في صلاته التي ذكرت في حديث عائشة الذي رواه عنها الأسود تدل على أنه عليه السلام كان إمامًا؛ لأنه ذكر فيه: "فقعد رسول الله عليه السلام عن يسار أبي بكر"، فهذا يدل على أنه عليه السلام كان إمامًا؛ إذ لو كان أبو بكر إمامًا لكان النبي عليه السلام يقعد عن يمينه؛ لأن هذا وظيفة المأموم، فلما كان قعود النبي عليه السلام عن يسار أبي بكر وكان أبو بكر عن يمينه؛ دل ذلك على أنه عليه السلام كان هو الإِمام وأن أبا بكر هو المأموم.
وأيضًا قولها في الحديث: "ويقتدي أبو بكر بصلاة النبي عليه السلام ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر" يدل على أنه عليه السلام كان إمامًا، وكذا قولها:"فجلس رسول الله عليه السلام يصلي بالناس وأبو بكر يُسْمع الناس".
وقال القاضي عياض: وقد رُوي عنها خلافه، وذكر الآخرون أن ذكر صلاته عن يسار أبي بكر رضي الله عنه لم يَقُله غير أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، وسائر رواة هذا الحديث ممن هو أحفظ من أبي معاوية من أصحاب
الأعمش وأصحاب الزهري وهشام لم يذكروا: "عن يساره" وقالوا: قد روى ابن إسحاق عن الزهري هذا الحديث وفيه: "فصل عن يمين أبي بكر".
وقال المهلّب: إن صححنا الروايتين فقد يحتمل أن جلوسه أولًا عن يساره كما قال في رواية أبي معاوية؛ لأنه أقرب إلى خروج النبي عليه السلام من بيته من الجهة اليُسْرى من المسجد وأرفق به لمرضه، ثم يحتمل أن النبي عليه السلام أدار بأبي بكر إلى
يمينه كما فعل بابن عباس إما قبل إحرامه من أمامه أو بعده من خلفه لا سيما ولم يذكر أبو معاوية غير جلوسه أول صلاته عن يساره، وابن شهاب قد بَيّن فقال:"فصلى يومئذٍ عن يمين أبي بكر"، فأخبر عن الصلاة كلها في ظاهر قوله، فتجمع الروايتان على هذا ولا تطرح إحداهما للأخرى.
وقال بعضهم: كان النبي عليه السلام قد استخلف أبا بكر على الصلاة مدة مرضه وصلى بالناس صلوات كثيرة، وقد قال أنس في "البخاريّ": "إن أبا بكر كان يصلي بهم في وجع النبي عليه السلام حتى كان يوم الاثنين
…
" وذكر الحديث، وقالت عائشة: "فصلى أبو بكر تلك الأيام".
فهذا يدل على أنها لم تكن صلاة واحدة.
قيل: صلى اثني عشر يومًا إلا أن يجد النبي عليه السلام خفةً في بعضها ويطيق الصلاة قائمًا فيخرج ويصلي على ما جاء في بعض الروايات عن عائشة.
وقد جاء في حديث أنس في "الأم": "أنه خرج عليهم آخر يوم، وأنه لم يصل معهم، وقال: أتموا صلاتكم. ثم أرخى الستر".
وهذا حديث آخر وخروج ثانٍ غير حديث عائشة وقصتها فلا يَبْعد أن يكون في إحداها إمامًا وفي بعضها مأمومًا لنجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك، وإلا فالصحيح والأشهر والأكثر أنه كان هو الإِمام، والله أعلم. وقد مرّ الكلام فيه مرة عن قريب.
أما إسناد حديث عائشة فصحيح، وشبابة بن سوار الفزاري قيل اسمه مروان، وإنما غلب عليه شبابة روى له الجماعة، ونعيم بن أبي هند روى له مسلم، واسم أبي هند النعمان بن أشيم الأشجعي، وأبو وائل اسمه شقيق ابن سلمة.
والحديث أخرجه الترمذي (1): ثنا محمود بن غيلان، قال: ثنا شبابة
…
إلى آخره نحوه.
وقال: حديث حسن غريب صحيح.
وأخرجه النسائي (2): أنا محمد بن المثنى، قال: ثنا بكر بن عيسى صاحب البصري، قال: سمعته يذكر عن أبي نعيم بن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة:"أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله عليه السلام في الصف".
وأما إسناد حديث أنس فكذلك صحيح
وابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم المصري شيخ البخاري، وحميد هو الطويل.
وأخرجه الترمذي (3): ثنا عبد الله بن أبي زياد، قال: نا شبابة بن سوار، قال: ثنا محمد بن طلحه، عن حميد، عن ثابت، عن أنس قال:"صلى رسول الله عليه السلام في مرضه خلف أبي بكر قاعدًا في ثوب متوشحًا به".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
قال أبو عيسى: وهكذا رواه يحيى بن أيوب، عن حميد، عن ثابت، عن أنس، وقد روى غير واحد عن حميد، عن أنس ولم يذكروا فيه: عن ثابت. ومن ذكر فيه: عن ثابت. فهو أصح.
(1)"جامع الترمذي"(2/ 196 رقم 362).
(2)
"المجتبى"(2/ 79 رقم 786).
(3)
"جامع الترمذي"(2/ 197 رقم 363).
وأخرجه النسائي (1): أنا علي بن حجر، قال: ثنا إسماعيل، قال: ثنا حميد، عن أنس قال:"آخر صلاة صلاها رسول الله عليه السلام مع القوم؛ صلى في ثوب واحد متوشحًا خلف أبي بكر رضي الله عنه".
وأما إسناد حديث أبي موسى الأشعري -واسمه عبد الله بن قيس- فصحيح أيضًا، ومعاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي المَعْنِي أبو عمرو البغدادي شيخ البخاري، وزائدة هو ابن قدامة، وعبد الملك بن عمير بن سُوَيْد اللخمي أبو عمرو الكوفي المعروف بالقبطي روى له الجماعة، وأبو بودة اسمه الحارث، ويقال: عامر بن أبي موسى الأشعري، ويقال: اسمه كنيته، له الجماعة.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن عبد الملك ابن عمير
…
إلى آخره نحوه سواء.
قوله: "فإنكن صواحب يوسف" أراد من هذا الكلام: أني أريد أمرًا وتُردْن خلافه كما كان صواحب يوسف عليه السلام، ومن المعلوم أن صواحب يوسف أردن منه ما عصمه الله منه بفضله، وليس كذلك ها هنا، وقيل: إنما كرهت عائشة رضي الله عنها تقدم أبيها لئلا يتشاءم الصحابة بموقفه بعد رسول الله عليه السلام، فأبى الله سبحانه إلا ذلك.
ص: وحجة أخرى أن عبد الله بن عباس رضي الله عنها قال في حديثه: "فأخذ النبي عليه السلام في القراءة من حيث انتهى أبو بكر رضي الله عنه".
ففي ذلك ما يدل أن أبا بكر قطع القراءة وقرأ النبي عليه السلام، فذلك دليل أنه كان الإِمام ولولا ذلك لم يقرأ. لأن تلك الصلاة كانت صلاة يُجهرُ فيها بالقراءة، ولولا ذلك لَمَا عَلِمَ النبي عليه السلام الموضع الدي انتهى إليه أبو بكر من القراءة ولا علمَه مَنْ خلف أبي بكر، فلما ثبت بما وصفنا أن تلك الصلاة كانت مما يُجْهَرُ
(1)"المجتبى"(2/ 79 رقم 785).
(2)
"مسند أحمد"(4/ 212 رقم 19715).
فيها بالقراءة وقرأ النبي عليه السلام فيها، وكان الناس جميعًا لا يختلفون أن المأموم لا يقرأُ خلفَ الإِمام، كما يقرأُ الإمامُ ثبت بذلك أن النبي عليه السلام كان في تلك الصلاة إمامًا، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.
ش: أراد بها دليلًا آخر يقع جوابا أيضًا عمّا قاله القائلون المذكورون، وهو ظاهر.
وقال أبو عمر: أكثر الآثار الصحاح المسندة في هذا الباب أن رسول الله عليه السلام كان المقدم وأن أبا بكر كان يصلي بصلاة رسول الله عليه السلام قائمًا. انتهى
قلت: فلذلك لم يلتفت الطحاوي إلى الرواية التي فيها كان النبي عليه السلام مأمومًا، ولا إلى الرواية التي فيها جلس رسول الله عليه السلام عن يمين أبي بكر، فافهم.
ص: وأما وجهه من طريق النظر؛ فإنا رأينا الأصل المجمع عليه: أن دخول المأموم في صلاة الإِمام قد يُوجب فرضًا على المأموم لم يكن عليه قبل دخوله ولم نَرَه يُسْقِطُ عنه فرضًا كان عليه قبل دخوله؛ فمن ذلك أنّا رأينا المسافر يدخل في صلاة المقيم فيجب عليه أن يُصلّي صلاة المقيم أربعًا ولم يكن ذلك واجبًا عليه قبل دخوله معه، وإنما أَوجبَه عليه دخُوله مع الإِمام، ورأينا مقيمًا لو دخل في صلاة مسافرٍ صلى بصلاته حتى إذا فرغ أتى بتمام صلاة المقيم فلم يسقط عن المقيم فرضًا بدخوله مع المسافر وكان فرضه على حاله غير ساقطٍ منه شيء.
والنظر في ذلك أن يكون كذلك صحيح الذي عليه فرض القيام إذا دخل مع المريض الذي سقط عنه فرض القيام في صلاته أن لا يكون ذلك الدخول مُسْقطًا عنه فرضًا كان عليه قبل دخوله في الصلاة.
ش: أي: وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس، فإنا رأينا .... إلى آخره.
بيان ذلك أن ها هنا أصلًا مجمعًا عليه بَيْن الفريقين الذين اختلفوا في هذا الباب، وهو أن المأموم إذا دخل في صلاة الإِمام يجب عليه فرض لم يكن عليه قبل دخوله ولا يَسْقط عنه فرضٌ كان عليه قبل الدخول كالمسافر إذا دخل في صلاة المقيم يجب عليه أن يُتم -لأجل المتابعة- مع أنه لم يكن الإتمام واجبًا عليه قبل ذلك، والمقيم إذا دخل في صلاة المسافر يجب عليه أن يتم صلاته بعد فراغ الإِمام ولم يسقط عنه دخوله مع الإِمام المسافر الفرض الذي كان عليه قبل ذلك، والقياس يقتضي أن يكون كذلك الصحيح القادر على القيام أنه إذا دخل في صلاة المريض الذي سقط عنه القيام أن لا يَسْقط عنه القيام الذي كان فرضًا عليه قبل دخوله في الصلاة مع المريض، والله أعلم.
ص: فإن قال قائلٌ: فإنا قد رأينا العبد الذي لا جمعة عليه يدخل في الجمعة فتجزئه من الظهر، ويخرج عنه فرض قد كان عليه قبل دخوله مع الإمام فيها.
قيل له: هذا يؤيد ما قلنا؛ وذلك أن العبد لم يكن عليه جمعة قبل دخوله فيها، فلما دخل فيها مع مَنْ هي عليه كان دخوله إياها يوجب عليه ما هو واجبٌ على إمامه، فصار بذلك إذ وجب عليه ما هو واجب على إمامه في حكم مسافر لا جمعة عليه دخل في الجمعة، فقد صارت واجبةً عليه لوجوبها على إمامه، وصارت مُجْزئة عنه من الظهر؛ لأنها صارت بدلًا منها، فكللك العبد لما وجبت عليه الجمعة بدخوله فيها أجزأته من الظهر لأنها صارت بدلًا منها؛ فقد ثبت بما ذكرنا أن دخول الرجل في صلاة غيره قد يوجب عليه ما لم يكن واجبًا عليه قبل دخوله فيها، ولا يُسقط عنه ما كان واجبًا عليه قبل دخوله، فثبت بذلك أن الصحيح الذي القيام في الصلاة واجبٌ عليه إذا دخل مع مريض قد سقط عنه فرض القيام في صلاته لم يَسْقط عنه بدخوله في القيام ما كان واجبًا عليه قبل ذلك، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمة الله.
ش: تقرير السؤال: إن ما ذكرتم من قولكم: إن دخول المأموم في صلاة الإِمام يوجب فرضًا على المأموم لم يكن عليه قبل دخوله ولا يسقط عنه فرض كان عليه قبل دخوله، ومثّلتم بالمقيم والمسافر؛ ينتقض بالعبد الذي لا جمعة عليه، فإنه إذا دخل في الجمعة تجزئه من الظهر وتسقط عنه الفرض الذي قد كان عليه قبل دخوله مع الإِمام في الجمعة.
وتقرير الجواب أن يقال: هذا الذي ذكرتم لا ينقض ما قلنا، بل يُؤيدُه ويُقوّيه، وذلك أن العبد لم يكن عليه جمعة قبل دخوله مع الإِمام فيها، ولكنه لما دخل فيها وجَبتْ عليه لوجوبها على إمامه كالمسافر الذي دخل في الجمعة وجبت عليه لوجوبها على إمامه، فصارت الجمعة بدلًا من ظهرهما مجزئةً عنهما من الظهر؛ لأن الجمعة صارت بدلًا من الظهر بالشروع في صلاة من كانت تجب عليه من الأول، فثبت من ذلك أن دخول الرجل في صلاة غيره قد يوجب عليه ما لم يكن واجبًا عليه قبل دخوله ولا يسقط عنه ما كان واجبًا عليه قبل ذلك كما قد بيناه، فإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الصحيح الذي يجب عليه القيام في الصلاة إذا دخل في صلاة المريض الذي قد سقط عنه القيام لم يَسْقط عنه القيام الذي كان واجبًا عليه قبل دخوله.
قوله: "ويخرج عنه فرضٌ قد كان عليه" وفي بعض النسخ "ويسقط عنه فرض" وهو الصحيح.
قوله: "إذْ وجب عليه" أي حين وجب عليه.
قوله: "أنَّ الصحيح" بفتح "أن"؛ لأنه فاعل لقوله: "فثبت"، وقوله:"القيام" مبتدأ وخبره قوله: "واجب عليه" والجملة صلة للموصول.
قوله: "قد سقط عنه فرض القيام" جملة وقعت صفةً لقوله: "مع مريضٍ"
وقوله: "لم يسقط عنه بدخوله في القيام" في محل الرفع؛ لأنها خبر "أن".
وقوله: "ما كان واجبًا عليه" فاعل لقوله: "لم يسقط"
قوله: "وهذا" أي الذي ذكرناه من صحة اقتداء القائم بالقاعد وعدم سقوط القيام عن القادر على القيام هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف على ما مر مستوفى.
ص: وكان محمد بن الحسن رحمه الله يقول: لا يجوز لصحيح أن يأتم بمريضٍ يُصلي قاعدًا، وإن كان يركع ويَسجُد، فذهب إلى أن ما كان من صلاة النبي عليه السلام قاعدًا في مرضه بالناس وهم قيام مخصوصًا لأنه فعل فيها ما لا يجوز لأحد بعده أن يفعله من القراءة من حيث انتهى أبو بكر رضي الله عنه، وخروج أبي بكر من الإمامة إلى أن صار مأمومًا في صلاة واحدة، وهذا لا يجوز لأحد من بعده باتفاق المسلمين جميعًا، فدل ذلك أن النبي عليه السلام قد كان خُصّ في صلاته تلك بما مُنع منه غيرُه، والله أعلم.
ش: مذهب محمد بن الحسن عدم جواز اقتداء الصحيح القادر على القيام بالمريض الذي لا يقدر عليه وإن كان يقدر على الركوع والسجود، واستدل في ذلك بقوله عليه السلام:"لا يَؤمَّنَّ أحدٌ بعدي جالسًا". أخرجه الدارقطني، وإليه ذهب الشعبيّ ومالكٌ في رواية" وقالوا أيضًا: إن القيام ركن فلا يصح ائتمام القادر عليه بالعاجز عنه كسائر الأركان، وأجابوا عما كان من صلاة النبي عليه السلام قاعدًا في مرضه بالناس وهم قيام بأنه كان مخصوصًا بالنبي عليه السلام، وأشار إلى دليل الخصوص بقوله: "لأنه فعل فيها
…
" إلى آخره، أي لأن النبي عليه السلام فعل في الصلاة ما لا يجوز لأحد بعده أن يفعله، وقد أنكر بعضهم الخصوص وادّعوا فيه النسخ، وقد بسطنا الكلام فيه فيما مضى.