الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في الأسآر وغيرها
قوله: (وعرق كل شيء معتبر بسؤره لأنهما يتولدان من لحمه؛ فأخذ أحدهما حكم صاحبه).
السؤر: ما يبقيه الشارب في الإناء. ولا يتولد من اللحم إلا اللعاب الذي يحتمل أن يختلط منه شيء بالماء. ففي قوله: إن السؤر يتولد من اللحم نظر.
وفي كلامه نظر آخر؛ وهو أنه ينبغي أن يقول: سؤر كل شيء معتبر بلعابه لوجوه:
أحدها: أن هذا الفصل للسؤر، وهو إنما يعتبر باللعاب بحسب طهارته ونجاسته، فلا مناسبة لذكر العرق.
الثاني: أن حكمهما مأخوذ من غيرهما، وهو اللحم، فلا يؤخذ حكم أحدهما من صاحبه.
الثالث: أن حكم عرق البغل والحمار مخالف لسؤره كما يأتي في كلامه بعد ذلك فانتقض قياسه. وقد أجيب عن الوجه الثالث بأن الأصل
المساواة، ولكن خرج حكم عرق البغل والحمار بدليل.
قوله: (وسؤر الكلب نجس، ويغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثًا، لقوله عليه الصلاة والسلام: "يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثًا").
روى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، من طريق عبد الوهاب بن الضحاك، في الكلب يلغ في الإناء أنه يغسله ثلاثًا، أو خمسًا، أو سبعًا. قال النسائي: عبد الوهاب متروك.
فلا يعارض هذا الحديث الضعيف الحديث الصحيح المتفق على صحته في الأمر بالسبع. ولا يصلح أن يكون حجة على الشافعي في
اشتراط السبع.
فإن قيل: قد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه، ثم اغسله ثلاث مرات"، وأبو هريرة هو راوي الحديث، ولا يظن به أنه خالف ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إلى مثله، فيكون منسوخًا.
فالجواب أن ذلك لم يثبت. وعلى تقدير ثبوته، فالنسخ لا يثبت بالاحتمال. ولأنه يمكن أن يكون فتواه قبل روايته، أو له عذر في مخالفته؛ إما أنه نسي، أو غفل، أو تأوله على أن الأمر بالسبع للاستحباب دون الإيجاب، أو غير ذلك، فلا يتعين النسخ.
وإذا أمكن أن تكون المخالفة عن رأي واجتهاد، وهو مأجور مغفور له،
فالعبرة حينئذ لما روى لا لما رأى. فإن ما رواه ثابت عن قائل معصوم، وما روي عنه غير ثابت عن قائل غير معصوم.
وقد أخذ الأصحاب في مواضع برواية من أفتى من الصحابة بخلاف (روايته)؛ كما في حديث أبي هريرة في البحر: "هو الطهور ماؤه".
وقد روى سعيد بن منصور في "سننه" عنه أنـ[ـه] قال: "ماءان لا يجزيان في غسل الجنابة؛ ماء البحر وماء الحمام".
وكما في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"طلاق الأمة ثنتان، وعدتها حيضتان"، وهي كانت تقول:"الأقراء هي الأطهار".
وكما روي عن/ ابن عباس أنه قال: ليس لمكره ولا لمضطهد طلاق. وهو راوي: "كل طلاق جائز إلا طلاق المعوه". فأخذ الأصحاب
بروايته في وقوع طلاق المكره مع أن روايه كان يقول: إن طلاق المكره غير واقع. ومثل هذا أخذ الأصحاب بحديث عائشة رضي الله عنها: "فرضت الصلاة ركعتين، ركعتين". وقد صح أنها أتمت الصلاة في السفر، فلم يدعوا روايتها لرأيها. وكما في حديث عمر رضي الله عنه:"لا يقتص لولد من والده".
وقد قال: لأقتصن للولد من الوالد، فلم يأخذوا برأيه بل بروايته، وكان ينهى عن التمتع، وهو ممن روى أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع، أي جمع بين
النسكين في سفرة واحدة، فلم يأخذوا برأيه بل بروايته.
وكما روي عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت تواظب على ركعتين بعد العصر، وهي قد روت نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر، فلم يأخذ أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه برأيها، بل بروايتها.
فما هذا بأول حديث خالفه راويه، وأخذ فيه بما روى دون ما رأى. ولا يلزم أن يكون الأمر بغسل الإناء للنجاسة؛ إذ لو كان للنجاسة لما احتيج إلى السبع؛ فإن لعابه لا يكون أنجس من العذرة، وبول الإنسان، ولا يشترط فيه السبع.
ولكن لما ورد الأمر بالغسل سبعًا وجب الامتثال وإن لم يعقل معناه، كما في أمر الجنب بالاغتسال والتطهر.
وبه قال الإمام مالك رحمه الله تعالى، وداود الظاهري، ومن وافقهما. قالوا: قد أبيح اتخاذ الكلب للصيد، والماشية، والزرع أيضًا، فصار من الطوافين علينا.
وقد نبه عليه السلام على سقوط اعتبار النجاسة بعلة الطواف في الهرة. ويحتمل أن يكون الأمر بالسبع لخوف أذاه؛ إذ قد يكون منه داء الكلب، فكان العدد للاستشفاء كما في حديث:"من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر"، وحديث "هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل
أو كيتهن".
وحديث الدعاء للمريض سبع مرات: "أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك". والرقية بالسبع المثاني.
وفي تقسيم الأسآر إلى نجس، ومكروه، ومشكوك فيه من غير نص نظر. والأصل بقاء وصف الطهورية إلا أن يعلم قيام النجاسة بالماء لم تستحل إلى طبعه بعدكما تقدم التنبيه عليه في أوائل الباب.
قوله: (ولأن ما يصيبه بوله يطهر بالثلاث).
فيه نظر، لأن عند الشافعي رحمه الله تعالى، بوله ودمه وسائر ما هو نجس منه لا يطهر إلا بالغسل سبعًا، كذا في "الوسيط"، و"التهذيب"، ولا اعتبار باشتراط الثلاث في إزالة النجاسة عندهم، بل الشرط زوالها ولو مرة واحدة.
قوله: (ولهما قوله عليه الصلاة والسلام: "الهرة سبع").
يعني لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى.
وهذا الحديث أخرجه الدارقطني، والبيهقي، والحاكم.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح. والحاكم معروف تساهله. وإنما هو حديث ضعفه غير واحد من أهل الحديث.
قوله: (وسبب الشك تعارض الأدلة في إباحته وحرمته).
النص الوارد في تحريم لحوم الحمر الأهلية صحيح ثابت لم يعارضه شيء. وما يروى عن غالب بن أبجر أنه قال: لم يبق من مالي إلا حميرات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كل من سمين مالك" رواه أبو داود،
وعثمان الدارمي في الأطعمة.
ولا يعرج على مثله؛ فإنه غير صحيح.
وفي بعض طرقه أنه كان في عام مجاعة، وقد يحل في الضرورة الميتة؛ فلا يصلح لمعارضة الأحاديث الصحيحة الواردة في تحريم لحوم الحمر الأهلية.
قوله: (قلنا ليلة الجن كانت غير واحدة، فلا يصح دعوى النسخ، والحديث مشهور
…
) إلى آخره.
حديث الوضوء بنبيذ التمر لم يثبت، فضلًا عن أن يكون مرات متعددة.
بل قد ثبت في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (لم أكن ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووددت/ أني كنت معه). وإنما كانت
ليلة الجن بمكة مرة واحدة.
قال السروجي: [وقوله] قلنا ليلة الجن كانت غير واحدة موهم أنها كانت بالمدينة أيضًا، ولم ينقل ذلك في كتب الحديث فيما علمته. وقوله: الحديث مشهور عملت به الصحابة، فيه نظر؛ لأن المشهور عندنا ما تلقته الأمة بالقبول، وعملت به.
ثم قال: وهذا الحديث إن عمل به واحد أو اثنان من الصحابة، لم يعمل به الباقون، فكيف يكون مشهورًا. انتهى.
ومسألة نبيذ التمر من فروع مسألة: "الماء إذا خالطه شيء طاهر فغير بعض أوصافه". وقد ذكرها المصنف في أول الباب. وقد قال هناك: إن الغلبة تعتبر بالأجزاء هو الصحيح.
فمقتضى تصحيحه أن يترجح في مسألة نبيذ التمر قول (أبي يوسف)، ولا يحتاج إلى تصحيح الحديث. ولكن قد تقدم أنه لابد من تقييد كلامه بأنه: مادام اسم الماء وطبعه باقيان عليه. وفي أثناء كلامه يقول: ولنا أن اسم الماء باق عليه، ألا ترى أنه لم يتجدد له اسم على حدة. وهذا قد تجدد له اسم؛ فإنه يقال له:"نبيذ التمر" فلا يتوضأ به كما أنه لا يتوضأ بغيره من الأنبذة، بل يتيمم. وروى نوح بن [أبي] مريم عن أبي حنيفة أنه رجع إلى قول أبي يوسف،
وهو الأصح. وذكر أبو بكر الرازي أن قول أبي يوسف هو آخر أقوال أبي حنيفة في المسألة.
فعلى هذا، ما ينبغي الانتصار لقول ضعيف الدليل [مرجوع عنه].
***