المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب التيمم قوله: (والميل هو المختار في المقدار). اختلفت عبارات الأصحاب في - التنبيه على مشكلات الهداية - جـ ١

[ابن أبي العز]

الفصل: ‌ ‌باب التيمم قوله: (والميل هو المختار في المقدار). اختلفت عبارات الأصحاب في

‌باب التيمم

قوله: (والميل هو المختار في المقدار).

اختلفت عبارات الأصحاب في المقدار. وينبغي أن يكون المختار خوف الضرر بغالب الظن، ولا يتقدر بمساحة؛ لأن الضرر مدفوع شرعًا.

وليس في التقدير بالميل نص شرعي، وإنما هو مأخوذ من الحرج، فيدار

ص: 381

الحكم على خوفه بغالب الظن، كما في المرض المبيح للتيمم، لا على قدر معين من المسافة لتفاوتها باعتبار الزمان والمكان والحال.

مع أن مقدار الميل في كلام العرب مختلف فيه: فقيل ثلاثة آلاف ذراع. وقيل: أربعة آلاف. وقال في "المغرب": الميل في كلام العرب مقدار مد البصر من الأرض. ونحوه في الصحاح. وكأن الاختلاف في ذرعه بحسب حدة البصر وضعفه. فينبغي أن يفوض إلى رأي المبتلى به لا إلى غيره.

قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين").

رواه الدارقطني، والحاكم في "المستدرك" وقال: لا أعلم أحدًا أسنده

ص: 382

عن عبد الله بن عمر غير علي بن ظبيان، وهو صدوق. وتساهل الحاكم معروف. وقد طعن فيه غير واحد من أهل الحديث.

وقال ابن قدامة في "المغني": قال الخلال: الأحاديث في ذلك ضعاف جدًا، ولم يرو منها أهل السنن إلا حديث ابن عمر. قال أحمد: ليس بصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو عن ابن عمر، وهو عندكم حديث منكر.

ص: 383

وقال الخطابي: يرويه محمد بن ثابت وهو ضعيف، انتهى.

وقال ابن المنذر في صفة التيمم: وفيه قول رابع، وهو أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، هذا قول عطاء، ومكحول، والشعبي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وبهذا نقول. الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن التيمم ضربة للوجه والكفين. انتهى.

وحكاه في "المغني" عنهم، وعن علي، وعمار، وابن عباس،

ص: 384

ومالك، ثم قال: ولنا ما روى عمار رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال:"إنما يكفيك أن تقول بيدك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجه" متفق عليه. انتهى.

ومقتضى/ قول الأصحاب في مسح الرأس أن المفروض فيه مقدار الناصية أن يكون المفروض في التيمم هو المسح إلى الرسغ، والاكتفاء بضربة؛ لأنه قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم هذا، وورد عنه المسح إلى المرفقين بضربتين على تقدير صحته. فيكون المفروض المسح إلى الرسغ بضربة، والزائد سنة.

كما قالوا: إن المفروض في مسح الرأس الناصية ومسح الباقي سنة؛ لأنه فعل هذا وهذا، فكان الأقل هو المفروض والزائد سنة، إذ المذكور في

ص: 385

الموضعين لفظ المسح وحرف الباء. وكيف يكون المسح إلى المرفقين في التيمم فرضًا وهو لم يثبت؟.

ومقدار الناصية هو المفروض في مسح الرأس بحديث المغيرة، وفيه:"وكمل على العمامة"؟ ومسح كل الرأس ثابت.

وقد روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سئل عن التيمم فقال: "إن الله قال في كتابه حين ذكر الوضوء: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} . وقال في التيمم: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} ،

ص: 386

وقال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} ، وكانت السنة في السرقة قطع الكفين، إنما هو في الوجه والكفين، يعني التيمم.

قوله: (ولابد من الاستيعاب [في] ظاهر الرواية لقيامه مقام الوضوء).

في تعليله نظر؛ فإن المسح على الخفين قائم مقام غسل القدمين ولم يجب فيه الاستيعاب؛ والبدل يأخذ حكم المبدل لا وصفه، وليس الاستيعاب؛ لأن الباء صلة، أي زائدة كما يقوله كثير من الأصحاب وغيرهم. وهو

ص: 387

مذهب نحاة الكوفة.

بل الباء في مسح الرأس في الوضوء، وفي مسح الوجه واليدين في التيمم على بابها للإلصاق، وهي لا تقتضي التبعيض. وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى.

قوله: (لما روي أن قومًا جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنا قوم نسكن هذه الرمال، ولا نجد الماء شهرًا أو شهرين، وفينا الجنب والحائض، والنفساء. فقال عليه الصلاة والسلام: "عليكم بأرضكم"). هذا الحديث ضعفه ابن الجوزي وغيره.

قوله: (ثم لا يشترط أن يكون عليه غبار عند أبي حنيفة رحمه الله لإطلاق ما تلونا).

ص: 388

فيه نظر! بل قد دلت الآية على اشتراط التصاق شيء من الصعيد بالوجه واليد، كما دلت على اشتراط التصاق شيء من الماء بالرأس في مسحه في الوضوء. وذلك مذهب الشافعي، وأحمد وغيرهما؛ لأن الباء للإلصاق، وهي لا تدخل إلا لفائدة، فإذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه أو بغيرها أفادت قدرًا زائدًا، كما في قوله تعالى:{عينًا يشرب بها عباد الله} ، فإنه لو قيل: يشرب منها لم يدل على الري، فضُمِّن "يشرب"

ص: 389

معنى "يروي"، فعدي بالباء فقيل: يشرب بها، فأفاد ذلك أنه شُربٌ يحصل معه الري.

وباب تضمين الفعل معنى فعل آخر حتى يتعدى تعديته كثير، كما ضمن قوله تعالى:{لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} معنى الضم المعدَّى بـ "إلى" فعدي بها. وقوله تعالى: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا} معنى خلصناه. وقوله: {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} معنى يصرفوك عن بعض ما أنزل الله إليك.

وأمثال ذلك كثير في القرآن. وهو يغني عند البصريين من النحاة عما يتكلفوه الكوفيون من دعوى الاشتراك في الحروف.

فالمسح في الوضوء والتيمم ضُمِّن معنى الإلصاق، فعدي بالباء، فأفاد

ص: 390

معنى: ألصقوا برؤوسكم ووجوهكم شيئًا بهذا المسح. والمفعول- وهو شيء أو نحوه- محذوف لأنه فضلة يسوغ حذفه إذا دل عليه دليل.

ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} . فإن "مِنْ" ههنا للتبعيض لا للغاية. أي ألصقوا بوجوهكم وأيديكم بعضه.

قال الزمخشري في «الكشاف» : فإن قلت: قولهم: إنها لابتداء الغاية قول متعسَّف، ولا يفهم أحد من العرب قول القائل: مسحت برأسه من الدهن، ومن/ الماء، ومن التراب إلا معنى التبعيض.

قلت: هو كما يقول، والإذعان للحق خير من المراء. انتهى.

قوله: (والماء طهور بنفسه على ما مر).

إن أراد أنه مطهر من النجاسة العينية فمسلم، وليس الكلام فيها، وإن أراد أنه طهور من النجاسة المعنوية وهي نجاسة الآثام فتلك متوقفة على النية،

ص: 391

فاستوى الماء والتراب بهذا الاعتبار، ولكن قدم الماء عليه لما فيه من زيادة وصف الوضاءة. وبه تقع طهارة الأشياء من الأدناس والأقذار، وصير إلى التراب عند فقد الماء لمناسبة بينهما؛ وهو أن كليهما أصل الآدميين وأقواتهم.

ووصف الوضاءة يخلفه وصف ذل العبودية بتعفير الوجه واليدين في التراب امتثالًا لأمر الرب تعالى، ولم يكن في القدمين لمباشرتهما التراب كل وقت في المشي، ولا في الرأس لأنه لا يباشر التراب إلا عند المصائب والنوائب.

ص: 392

وأيضًا فإن التيمم جعل في العضوين المغسولين، وسقط عن العضوين الممسوحين؛ فإن الرجلين تمسحان في الخف، فلما خفف عن المغسولين بالمسح خفف عن الممسوحين بالعفو. والمقصود أن التراب شقيق الماء كلاهما سواء في إزالة النجاسة المطلوب إزالتها بكل منهما؛ إذ ليس على العضو نجاسة عينية يزيلها الماء بطبعه حتى يستغنى عن النية في إزالتها.

قوله: (والنائم عند أبي حنيفة رحمه الله قادر تقديرًا).

فيه نظر، فإن معنى قوله:"تقديرًا"، أي يجعل قادرًا حكمًا وإن لم يكن قادرًا حقيقة، والحكم لا يثبت إلا بدليل شرعي، ولم يوجد، ولا قدرة بدون العلم، ولا علم للنائم ولا شعور. وفي "فتاوى قاضي خان": وقيل: ينبغي ألا ينتقض عند الكل؛ لأنه لو تيمم وبقربه ماء لا يعلم به يجوز تيممه عند الكل. انتهى.

ص: 393

قوله: (ليقع الأداء بأكمل الطهارتين، فصار كالطامع في الجماعة).

فيه نظر؛ لأن الصلاة بالتيمم حال فقد الماء كالصلاة بالوضوء حالة القدرة عليه، فكان تحصيل فضيلة أول الوقت أولى لأنها تفوت لا إلى خلف. أما الصلاة في الجماعة فإنها أفضل من صلاة المنفرد بخمس وعشرين درجة، فإذا فاتت فضيلة أول الوقت فاتت إلى خلف، وهو تحصيل فضل الجماعة، وهي فوق فضيلة أول الوقت.

***

ص: 394