المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الرابعةقراءة المأموم الفاتحة - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ١٨

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌ المسألة الثالثةهل تجب الزيادة على الفاتحة

- ‌المسألة الرابعةقراءة المأموم الفاتحة

- ‌لم تقم حجة على إدراك الركعة بإدراك الركوع

- ‌ المسألة الخامسةهل يزيد المأموم في الأُولَيين من الظهر والعصر على الفاتحة

- ‌ المسألة السادسةإذا كان المأموم أصمَّ أو بعيدًا عن الإمام لا يسمع قراءته؛ فهل يقرأ غير الفاتحة والإمام يجهر

- ‌ظواهر الأحاديث المتقدمة المنع

- ‌الفصل الأولفي حديث أبي أيوب

- ‌الفصل الثانيفي حكم الحديث

- ‌الفصل الثالثفي المتابعات

- ‌الفصل الرابعحديث ثوبان

- ‌الفصل الخامسحديث أبي هريرة

- ‌ الفصل السادسفي حديث جابر

- ‌الفصل السابعفي بقية الأحاديث

- ‌ الفصل الثامنفي الآثار

- ‌الفصل التاسعفي مذاهب الفقهاء

- ‌الفصل العاشرفي معنى الحديث

- ‌مفاسد الربا

- ‌أسباب التملك

- ‌ الدين الممطول به والمال المغصوب

- ‌الربا مع الحربي

- ‌ المضاربة

- ‌وجوه الربا

- ‌ العِينة

- ‌ المفاسد التي تترتب على بيع الوفاء

- ‌الباب الأولفي تبايعها مع النسيئة

- ‌الفصل الأول: فيما اتحد فيه جنس العوضين

- ‌ الفصل الثاني: في بيع واحد من الستة بآخر منها نسيئةً

- ‌الباب الثانيفي تبايعها نقدًا

- ‌ فصلفي الاحتكار وإيضاح علاقته بهذا الحكم

- ‌القسم الثانيفي البحث مع صاحب الاستفتاء

- ‌الربا في اللغة

- ‌ الزيادة المشروطة في القرض ربا منصوصفي الكتاب والسنة

- ‌ شبهة ودفعها

- ‌ تفسير العِيْنة

- ‌ معارضة وجوابها

- ‌أدلة تقتضي التحريم وليس فيها لفظ الربا

- ‌ بعض الآثار عن الصحابة والتابعين

- ‌القياس

- ‌ أحوال هذا العصر

- ‌الأحوال التي نعرفها

- ‌الترخيص في الربا هو الداء العضال

- ‌ العلاج

- ‌ يكفي في الضمان لفظٌ يُشعِر بالالتزام

- ‌[قضية أخرى في الضمان]

- ‌تعدد الزوجات والفطرة:

- ‌تعدد الزوجات والمصالح:

- ‌مفاسد تعدد الزوجات:

- ‌ فتوى جماعة من متأخري الشافعية بجواز إنكاح غير الأب والجد الصغيرةَ

- ‌الجوابإن لهذين الصبيين خمس حالات:

الفصل: ‌المسألة الرابعةقراءة المأموم الفاتحة

[ص 41] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

‌المسألة الرابعة

قراءة المأموم الفاتحة

يستدلُّ من أوجبها بقول الله عز وجل: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، وقوله عز وجل:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} ، وبحديث المسيء صلاته، فإنَّ في رواية أبي هريرة:"ثم اقرأ بما تيسَّر معك من القرآن"، وفي بعض روايات حديث رفاعة:"ثم اقرأ بأم القرآن"

(1)

.

فإنَّ الحنفية احتجُّوا بما ذُكر على فرضية القراءة في الصلاة، وقد قدَّمنا أنَّ أحاديث فرضية الفاتحة إما متواترة وإما مشهورة؛ يلزمهم تقييد القرآن بها، ولو لم تكن متواترة ولا مشهورة لكانت كافية في تقييد القرآن بها عند الشافعية وغيرهم.

وأما حديث المسيء صلاته فإذا ثبت فيه ذكر الفاتحة فذاك، وإلَاّ فقد قدَّمنا أنَّ ما فيه من قراءة ما تيسَّر نُسِخ بقراءة الفاتحة. ولما كانت قراءة ما تيسَّر في كلِّ ركعة فكذلك الفاتحة؛ لأنها بدلٌ من ذلك. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم علَّم الرجل أركان الصلاة، ولم يبيِّن له أنه إذا كان مأمومًا لا يقرأ.

وفيه في بعض الروايات: "إنها لا تتم صلاة رجلٍ حتى

"، وعلى هذه الرواية يكون اللفظ عامًّا يتناول صلاة المأموم.

(1)

سبق تخريج الحديثين.

ص: 60

ومما يستدلُّون به أحاديث فرضية الفاتحة، وقد تقدَّم بعضها، وهي عامة تتناول صلاة المأموم.

ومما يستدلُّون به ما رواه البخاري في "جزء القراءة" والإمام أحمد وابن حبان في "صحيحه"

(1)

وغيرهم بسند صحيح، عن أبي قلابة عن محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما قضى صلاته قال:"أتقرؤون والإمام يقرأ؟ " قالوا: إنا لنفعل، قال:"فلا تفعلوا؛ إلَاّ أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه".

الحديث على شرط مسلم، وفي "سنن البيهقي"

(2)

تصريح أبي قلابة بالسماع؛ فزالت تهمة تدليسه.

ومن ذلك: ما أخرجه ابن حبان

(3)

وغيره بسند صحيح إلى أبي قلابة عن أنس بن مالك: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قضى صلاته أقبل عليهم بوجهه؛ فقال: أتقرؤون في صلاتكم والإمام يقرأ؟ فسكتوا؛ فقال لهم ثلاث مرَّات؛ فقال قائل أو قائلون: إنا لنفعل، قال: فلا تفعلوا [ص 42]، ليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه.

قال ابن حبان في "صحيحه"

(4)

: "سمعه ــ يعني أبا قلابة ــ من أنس،

(1)

"جزء القراءة"(ص 191 - 193) و"المسند"(20765) و"صحيح ابن حبان"(عقب الحديث 1852).

(2)

(2/ 166). وليس فيه التصريح بالسماع، بل الرواية بالعنعنة.

(3)

في "صحيحه"(1844، 1852). وأخرجه أيضًا الدارقطني (1/ 340) والبيهقي (2/ 166).

(4)

عقب الحديث (1852).

ص: 61

وسمعه من ابن أبي عائشة؛ فالطريقان محفوظان".

قلت: وجَزْم ابن حبان بأنَّ أبا قلابة سمعه من أنس ربما يرفع تهمة التدليس، وأما البيهقي

(1)

فزعم أنَّ المحفوظ رواية أبي قلابة عن محمد بن أبي عائشة. والراجح كلام ابن حبان، ولا يجوز الحكم على الثقة بالغلط إلَاّ بحجة بيِّنة.

ومن ذلك: قال البخاري في "جزء القراءة"

(2)

: "حدثنا شجاع بن الوليد قال: حدثنا النضر قال: حدثنا عكرمة قال: حدثني عمرو بن سعد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تقرؤون خلفي؟ قالوا: نعم، إنا لنهذُّ هذًّا، قال: فلا تفعلوا إلَاّ بأم القرآن".

النضر هو ابن محمد بن موسى الجُرَشي: ثقة. وعكرمة هو ابن عمَّار: ثقة إذا حدَّث عن غير يحيى بن أبي كثير، وإنما يخشى تدليسه، وقد صرَّح هنا بالسماع. وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه فيه كلام، والراجح توثيقه، وإن صحَّ ما قالوه: إنَّ حديثه عن أبيه عن جدِّه غالبه من صحيفة جدِّه عبد الله بن عمرو، فإنَّ صحيفة عبد الله بن عمرو كتبها بإذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بقيت محفوظة عند ذرِّيته؛ فهي حجَّة بلا شبهة.

وقد عدَّ ابن حجر

(3)

عَمْرًا وأباه من المدلِّسين؛ لأنهما كانا يرويان من الصحيفة ولا يبيِّنان، ومثل هذا التدليس لا يضرُّ. فالحديث حسنٌ ولا يعلَّل هذا الحديث بالذي بعده؛ إذ لا يجوز تغليط الثقة إلَاّ بحجة بيِّنة.

(1)

في "السنن الكبرى"(2/ 166).

(2)

(ص 174 - 176).

(3)

في "تعريف أهل التقديس"(ص 123، 120).

ص: 62

ومن ذلك: قال البخاري في "جزء القراءة"

(1)

أيضًا: حدثنا عتبة بن سعيد عن إسماعيل عن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: "تقرؤون القرآن إذا كنتم معي في الصلاة؟ " قالوا: نعم يا رسول الله نهذُّ هذًّا، قال:"فلا تفعلوا إلَاّ بأم القرآن".

إسماعيل هو ابن عيَّاش؛ وثَّقه الأئمة فيما رواه عن ثقات الشاميين، وحديثه هذا عن الأوزاعي، وهو إمام أهل الشام؛ فالحديث حسن.

ومنها: ما في "الجوهر النقي"

(2)

قال: "وقال عبد الحق: رواه الأوزاعي عن مكحول [عن رجاء بن حيوة] عن عبد الله بن عمرو قال: صلينا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فلما انصرف قال: "هل تقرؤون إذا كنتم معي في الصلاة؟ "، قلنا: نعم، قال: "فلا تفعلوا إلَاّ بأم القرآن". وفي "التمهيد": خُولِفَ فيه ابن إسحاق؛ فرواه الأوزاعي عن مكحول عن رجاء بن حَيوَة عن عبد الله بن عمرو؛ فذكره.

ومنها: قال الإمام أحمد

(3)

: ثنا يزيد بن هارون أنا سليمان ــ يعني ــ التيمي قال: حُدِّثتُ عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تقرؤون خلفي؟ " قالوا: نعم، قال:"فلا تفعلوا إلَاّ بأم الكتاب".

(1)

(ص 189 - 190).

(2)

(2/ 164). وانظر "الأحكام الوسطى" لعبد الحق (1/ 377)، ومنه ما بين المعكوفتين. و"التمهيد"(11/ 46). والحديث أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين"(2099، 3559). وفي إسناده مسلمة بن علي، وهو متروك.

(3)

"المسند"(22625).

ص: 63

وشيخ التيمي مبهم، والاعتماد على ما تقدَّم. والله أعلم

(1)

.

ومن ذلك: قال البخاري في "جزء القراءة"

(2)

: حدثنا يحيى بن صالح قال حدثنا فليح عن هلال عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: دعاني النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقال: "إنما الصلاة لقراءة القرآن، ولذكر الله، ولحاجة المرء إلى ربِّه؛ فإذا كنت فيها فلْيَكُن ذلك شأنك".

فليح هو ابن سليمان، اعتمد عليه الشيخان في "صحيحيهما"، وضعَّفه جماعة.

والحديث في "صحيح مسلم"

(3)

من طريق يحيى بن أبي كثير عن هلال مطوَّلًا. وفيه بيان السبب، وهو: أنَّ معاوية بن الحكم صلَّى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعطس رجلٌ؛ فقال معاوية بن الحكم: يرحمه الله؛ فزجره الصحابة رضي الله عنهم[ص 43]، فسكت؛ فلمَّا سلَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاه؛ فقال:"إنَّ هذه الصلاة لا يصلُح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ففي الحديث أمره بالقراءة في الصلاة، مع أنه كان في تلك الصلاة مأمومًا.

(1)

ملاحظة: من قوله: "ومنها ما في

" إلى هنا ملحق في هامش (ص/44)، وأشار إلى ذلك اللحق هنا بقوله:(حاشية ص 44)، وأحال عليها هناك بقوله:(ينقل إلى ص 42).

(2)

(ص 194، 195).

(3)

رقم (537).

ص: 64

فهذه الأحاديث تنصُّ على أمر المأموم بالقراءة، وهي مؤكِّدة لعموم أحاديث إيجاب الفاتحة وغيرها مما تقدَّم. وهذه الأحاديث تعمُّ الصلاة السريَّة والجهريَّة.

ولهم أدلَّةٌ تنصُّ على الجهرية؛ فمنها قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 204، 205].

وسيأتي إن شاء الله تعالى تفسير الآيات مفصَّلًا، وفيه ــ نقلًا ــ عن ابن جرير

(1)

: "يقول تعالى ذكره: {وَاذْكُرْ} أيها المستمع المنصت للقرآن إذا قُرِئ في صلاة أو خطبة {رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ

وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} يقول: ودعاءٌ باللسان لله في خفاء لا جهار، يقول: ليكن ذكر الله عند استماعك القرآن؛ في دعاء ــ إن دعوت ــ غير جهار؛ ولكن في خفاء من القول".

وفي "روح المعاني"

(2)

: "ويُشعر كلام ابن زيد أنَّ المراد بالجهر مقابل الذكر في النفس، والآية عنده خطاب للمأموم المأمور بالإنصات؛ أي: اذكر ربَّك أيها المنصت في نفسك، ولا تجهر بالذكر".

أقول: وعلى هذا يكون المراد بالإنصات ترك الجهر.

(1)

"تفسيره"(10/ 667، 668).

(2)

(9/ 154).

ص: 65

وسيأتي عن الواحدي

(1)

قوله: "والعرب تسمِّي تارك الجهر منصتًا، وإن كان يقرأ في نفسه؛ إذا لم يُسمع أحدًا".

وفي "الصحيحين"

(2)

عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كبَّر في الصلاة سكت هُنيَّةً قبل أن يقرأ؛ فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أرأيتَ سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعدْ بيني وبين خطاياي" الحديث، وهذا لفظ مسلم.

ففيه إطلاق السكوت على الحال التي يتكلَّم فيها سرًّا، وسيأتي إيضاح أنَّ الاستماع والإنصات إنما يكون لما يجهر به؛ فإذا كان المراد بقوله:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} أي في الصلاة ــ كما عليه أكثر المفسِّرين ــ فالمراد به الصلاة التي يجهر الإمام فيها بالقراءة قطعًا، وسيأتي إيضاح هذا كله إن شاء الله تعالى.

والمقصود هنا أنَّه مع أمر المأموم أن يستمع وينصت لجهر إمامه بالقراءة أمره بأن يذكر الله تعالى في نفسه؛ تضرُّعًا وخيفة ودون الجهر، ويجب حمل هذا الذكر على قراءة الفاتحة؛ لأنَّ غيرها من الأذكار سواء أكان قرآنًا أو غيره لا ينبغي للمأموم [ص 44] حين يسمع جهر إمامه بالقراءة إجماعًا.

فإن ثبت أنَّ الواجب أولًا في القيام كان الجهر والثناء والتمجيد وقراءة ما تيسَّر غير مقيَّد بالفاتحة، وأنَّ الفاتحة إنما وجبت بعد ذلك على احتمال

(1)

(ص 86). وكلامه في "البسيط"(9/ 568).

(2)

البخاري (744) ومسلم (598).

ص: 66

تقدَّم في الكلام على حديث المسيء صلاته، وأنَّ الآية نزلت قبل إيجاب الفاتحة بمدَّة= فإنا نقول: الذكر المأمور به في الآية هو ذلك الواجب، ولما نسخ أحلَّت الفاتحة محلَّه. فلما كان مأمورًا به المأموم عند جهر إمامه بالقراءة، فكذلك يكون مأمورًا ببدله وهو الفاتحة. والله أعلم.

ومن الأدلة التي تنصُّ على الجهرية: قال الإمام أحمد

(1)

: ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني مكحول عن محمود بن الربيع الأنصاري عن عبادة بن الصامت قال: "صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبح، فثقلت عليه فيها القراءة؛ فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صلاته أقبل علينا بوجهه فقال: "إني لأراكم تقرؤون خلف إمامكم إذا جهر"، قال: قلنا: أجلْ والله إذن يا رسول الله، إنه لهذًّا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تفعلوا إلَاّ بأمِّ القرآن؛ فإنه لا صلاة إلَاّ بها" (مسند ج 5 ص 322).

وأخرجه الدارقطني

(2)

من طرق عن ابن إسحاق.

وابن إسحاق ثقة، إنما يخشى تدليسه، وقد صرَّح بالسماع. ومكحول إمام؛ ولكن قال البخاري: إنه لم يذكر سماعًا، وهذا من البخاري ــ بناءً على رأيه ــ أنه يشترط للاتصال العلم باللقاء. وقد ردَّ مسلمٌ في مقدِّمة "صحيحه"

(3)

هذا القول، وحكى الإجماع على أنه يكفي إمكان اللقاء إذا لم يكن الراوي مدلسًا.

(1)

"المسند"(22745).

(2)

(1/ 318 - 319) بأربعة طرق عن ابن إسحاق، قال عقب أولاها: هذا إسناد حسن.

(3)

(1/ 29 وما بعدها).

ص: 67

وإمكان لقاء مكحول لمحمود واضح؛ لأنَّ مكحولًا سكن الشام، ومحمود كان بإيلياء.

وفي "تهذيب التهذيب"

(1)

عن مكحول: "عتقت بمصر فلم أدعْ فيها علمًا إلا احتويت عليه فيما أدري، ثم أتيت العراق والمدينة والشام؛ فذكر كذلك". وعنه قال: "طفت الأرض كلها في طلب العلم". وعن الزهري قال: "العلماء أربعة ــ فذكرهم؛ فقال: ــ ومكحول بالشام".

وقد طُعِن في هذا الحديث بمطاعن واهية أشفُّها

(2)

أنَّ ابن حبَّان

(3)

قال: "إنَّ مكحولًا ربما دلَّس"، وتبعه الذهبي

(4)

.

فقال الحافظ ابن حجر في "طبقات المدلِّسين"

(5)

: "مكحول الشامي الفقيه المشهور، تابعيٌ؛ يقال إنه لم يسمع من الصحابة إلَاّ عن نفر قليل، ووصفه بذلك ابن حبَّان، وأطلق الذهبي أنه كان يدلِّس، ولم أره للمتقدِّمين إلَاّ في قول ابن حبَّان".

أقول: إنما أراد ابن حبَّان أنَّ مكحولًا روى عمن لم يلقه؛ فإنَّ علماء الفنِّ ذكروا ذلك في ترجمة مكحولٍ مفصَّلًا، واقتصر ابن حبان على قوله:"وربما دلَّس". وعند ابن حبان والذهبي أن الرواية عمَّن لم يلقه تسمَّى تدليسًا.

(1)

(10/ 291).

(2)

ولعل المعنى: أحسنها وأقواها أو أوضحها، من الشفافية.

(3)

"الثقات"(5/ 447).

(4)

في "ميزان الاعتدال"(4/ 177).

(5)

"تعريف أهل التقديس"(ص 156).

ص: 68

وقد بيَّن الأئمة أسماء الذين روى عنهم مكحول ولم يسمع منهم، ولم يذكروا محمودًا؛ وهذا يدلُّك أنَّ مكحولًا إنما كان يروي عمن لم يلقه حيث يعلم الناس أنه لم يلقه، وليس هذا بالتدليس المتعارف

(1)

؛ إذ ليس فيه إيهام.

والحديث صحَّحه ابن حبان والحاكم

(2)

وغيرهما، وتصحيح ابن حبان له مما يدلُّك على تأويل قوله في مكحول:"ربما دلَّس" بنحو ما قلنا، أو على أنه اطلع على سماع مكحول من محمود لهذا الحديث، والله أعلم.

[ص 45] ومنها: ما رواه الدارقطني

(3)

وغيره بسند صحيح عن زيد بن واقد عن حرام بن حكيم ومكحول عن نافع بن محمود بن ربيعة

(4)

قال نافع: "أبطأ عبادة عن صلاة الصبح؛ فأقام أبو نعيم المؤذِّنُ الصلاة، وكان أبو نعيم أول من أذَّن في بيت المقدس، فصلى بالناس أبو نعيم، وأقبل عبادة وأنا معه، حتى صففنا خلف أبي نعيم، وأبو نعيم يجهر بالقراءة؛ فجعل عبادة يقرأ بأمِّ القرآن، فلما انصرف قلت لعبادة: قد صنعت شيئًا، فلا أدري أسنة هي أم سهو كانت منك؟ قال: وما ذاك؟ قال: سمعتك تقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر. قال: أجل، صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة؛ فالتبست عليه القراءة؛ فلما انصرف أقبل علينا بوجهه؛ فقال: "هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة؟ " فقال بعضنا: إنا لنصنع ذلك، قال: "فلا تفعلوا،

(1)

بل هو الإرسال الخفي في اصطلاح المحدثين.

(2)

انظر "صحيح ابن حبان"(1785، 1792، 1848) و"المستدرك"(1/ 238).

(3)

(1/ 319، 320).

(4)

في "سنن الدارقطني": "الربيع"، وكلاهما صواب كما سيأتي التنبيه عليه. وانظر "التقريب".

ص: 69

وأنا أقول مالي أنازع القرآن؛ فلا تقرؤوا بشيءٍ من القرآن إذا جهرت إلَاّ بأمِّ القرآن".

قال الدارقطني: هذا إسناد حسنٌ ورجاله ثقات كلهم، ثم رواه من طرقٍ أخرى ضعيفة.

وقد تكلَّموا في هذا السند بأنَّ نافع بن محمود بن الربيع ــ ويقال: ابن ربيعة ــ مجهول الحال؛ لم يوثقه إلَاّ ابن حبان والدارقطني.

وابن حبان يوثِّق كل من روى عن ثقةٍ فأكثر، وروى عنه ثقةٌ فأكثر، ولم يكن حديثه منكرًا؛ كما بيَّن ذلك في كتاب "الثقات"

(1)

.

والدارقطني نُقِلَ عنه في "فتح المغيث"

(2)

أنه قال: "من روى عنه ثقتان فقد ارتفعت جهالته، وثبتت عدالته".

والجواب أنَّ الحنفية يوافقون الدارقطني في توثيق المستور؛ فالحديث إذن حجَّةٌ عليهم، وأما نحن فلم نحتجَّ به وحده؛ بل به مع ما انضمَّ إليه من الحجج المتقدِّمة، والله أعلم.

وقال ابن حبان في "الثقات"

(3)

: "نافع بن محمود بن ربيعة، من أهل إيلياء، يروي عن عبادة بن الصامت، روى عنه حرام بن حكيم ومكحول، مَتْنُ خَبَرِه في القراءة خلف الإمام يخالف متنَ خبرِ محمود بن الربيع عن

(1)

(1/ 12، 13). والردّ عليه في مقدمة "لسان الميزان"(1/ 208 - 210).

(2)

(2/ 51) طبعة الهند. وفي "سنن الدارقطني"(3/ 174): "وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعدًا، فإذا كان هذه صفته ارتفع عنه اسم الجهالة".

(3)

(5/ 470).

ص: 70

عبادة، كأنهما حديثان أحدهما أتمُّ من الآخر، وعند مكحول الخبران جميعًا عن محمود بن الربيع ونافع بن محمود بن ربيعة، وعند الزهري الخبر عن محمود بن الربيع مختصرٌ غير مستقصى".

ومن الغريب ما قاله البخاري في "جزء القراءة"

(1)

: "والذي زاد مكحول وحرام بن معاوية ورجاء بن حيوة عن محمود بن الربيع عن عبادة فهو تبعٌ لما روى الزهري؛ لأنَّ الزهري قال: حدثنا محمود، وهؤلاء لم يذكروا سماعًا".

وهذا من البخاري بناءً على رأيه في اشتراط العلم باللقاء؛ ولكن لم نقف على رواية حرام بن معاوية في هذا الحديث، وكأنه أراد حرام بن حكيم؛ فإنه يقال فيه حرام بن معاوية. فيدلُّ هذا على أنهما عند البخاري رجلٌ واحدٌ، وإن فصل لهما ترجمتين في "التاريخ"

(2)

.

وبهذا [ص 46] يندفع قول الخطيب ــ كما في "تهذيب التهذيب"

(3)

ــ: "وهم البخاري في فصله بين حرام بن حكيم وبين حرام بن معاوية؛ لأنه رجلٌ واحدٌ، اختلف على معاوية بن صالح في اسم أبيه".

بقي أنَّ حرام بن حكيم لم يروِ عن محمود بن ربيعة، وإنما روى عن نافع بن محمود بن ربيعة؛ فهل يرى البخاري أنَّ نافع بن محمود بن ربيعة هو محمود بن الربيع؛ أخطأ بعض الرواة في اسمه؟ وقد يشهد لهذا أنَّ

(1)

(ص 307).

(2)

"التاريخ الكبير"(3/ 101، 102).

(3)

(2/ 222). وقول الخطيب في "الموضح"(1/ 108). وانظر تعليق المعلمي على "التاريخ الكبير"(3/ 102، 103).

ص: 71

البخاري لم يذكر نافع بن محمود في "تاريخه". فإن صحَّ هذا فالحديث صحيح والله أعلم.

وقد راجعت "تاريخ البخاري" فوجدته ذكر في ترجمة حرام بن حكيم أنه روى عن محمود بن ربيعة

(1)

.

ووقع في "جزء القراءة"

(2)

: "حدثنا محمود حدثنا البخاري حدثنا صدقة بن خالد حدثنا زيد بن واقد عن حرام بن حكيم ومكحول عن ربيعة الأنصاري

".

كذا قال

(3)

، وقد سقط من النسخة رجلٌ أو رجلان، بين البخاري وصدقة

(4)

؛ فإنَّ صدقة مات قبل أن يولد البخاري بأربع عشرة سنة.

ولم أجد في "تاريخ البخاري" ترجمة لربيعة الأنصاري

(5)

، ولا لمحمود بن ربيعة، ولا لنافع بن محمود؛ إلَاّ أنه في ترجمة حرام بن حكيم ذكر أنه روى عن محمود بن ربيعة، فالله أعلم.

وقد روى الدارقطني

(6)

الحديث من طريق الوليد بن مسلم حدثني غير

(1)

(3/ 101).

(2)

(ص 185 - 187).

(3)

وفي بعض النسخ: "أبي ربيعة" مكان "ربيعة".

(4)

الساقط هو "هشام بن عمار" كما في النسخة الصحيحة من الكتاب ومطبوعة الهند.

(5)

قال المؤلف في مسوّدات هذا الكتاب: "وقوله [في "جزء القراءة"]: (عن ربيعة الأنصاري) الصواب: (عن نافع بن محمود بن ربيعة) كما في سنن الدارقطني وغيرها، وهذا من تحريف النساخ".

(6)

(1/ 319).

ص: 72

واحد منهم سعيد بن عبد العزيز عن مكحول عن محمود عن أبي نعيم أنه سمع عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "هل تقرؤون في الصلاة معي؟ قلنا: نعم، قال: فلا تفعلوا إلَاّ بفاتحة الكتاب".

ثم قال الدارقطني: "وقال ابن صاعد: قوله "عن أبي نعيم" إنما كان أبو نعيم المؤذن، وليس هو كما قال الوليد: عن أبي نعيم عن عبادة".

أقول: محمود بن الربيع كنيته أبو نعيم، فالله أعلم.

* * * *

ص: 73

حجج القائلين بأنَّ المأموم لا يقرأ فيما يجهر فيه إمامه

قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].

قالوا: اتفق السلف على أنَّ هذه الآية نزلت في القراءة في الصلاة. ولما كان الاستماع والإنصات إنما يكون لما يسمع، علمنا أنها خاصة بما جهر فيه الإمام.

وقد أخرج مسلم

(1)

حديث قتادة عن يونس بن جبير عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن أبي موسى مرفوعًا: "إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمَّكم أحدكم؛ فإذا كبر فكبروا" الحديث، عن جماعة.

ثم رواه

(2)

من طريق جرير عن سليمان التيمي عن قتادة، ثم قال:"وفي حديث جرير عن سليمان عن قتادة من الزيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا"

".

وفي بعض النسخ

(3)

زيادة أدرجها أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان راوي "الصحيح" عن مسلم؛ لفظها: "قال أبو إسحاق: قال أبو بكر ابن أخت أبي النضر في هذا الحديث، فقال مسلم: تريد أحفظَ من سليمان؟ فقال له أبو بكر: فحديث أبي هريرة؟ فقال: هو صحيح؛ يعني: "وإذا قرأ فأنصتوا". فقال: هو عندي صحيح. فقال: لِمَ لمْ تضعه ههنا؟ قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا؛ إنما وضعتُ ههنا ما أجمعوا عليه".

(1)

رقم (404/ 62).

(2)

رقم (404/ 63).

(3)

انظر طبعة محمد فؤاد عبد الباقي (1/ 304).

ص: 74

قالوا: وقد تُوبع سليمان؛ فرواه الدارقطني

(1)

من طريق سالم بن نوح ثنا عمر بن عامر وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة فذكره، ومتنه:"إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به؛ فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قرأ فأنصتوا".

وأما حديث أبي هريرة فرواه أبو داود والنسائي وغيرهما.

فروى أبو داود

(2)

الحديث من طريق مصعب بن محمد عن أبي صالح بدون هذه الزيادة، ثم قال

(3)

: "حدثنا محمد بن آدم المصيصي ثنا أبو خالد عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنما جُعل الإمام ليُؤتمَّ به" بهذا الخبر، زاد: "وإذا قرأ فأنصتوا".

قال أبو داود: وهذه الزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا" ليست بمحفوظة، الوهم من أبي خالد".

قالوا: قد تُوبِع أبو خالد؛ فرواه النسائي

(4)

عن محمد بن عبد الله المخرَّمي عن محمد بن سعد ــ هو الأنصاري الأشهلي ــ[ص 47] عن ابن عجلان به، والأشهلي ثقة.

(1)

(1/ 330). قال الدارقطني: سالم بن نوح ليس بالقوي.

(2)

رقم (603). وأخرجه أيضًا أحمد (8502) بهذا الإسناد. ووقع في الأصل: "محمد بن مصعب" خطأ.

(3)

رقم (604). وأخرجه أيضًا أحمد (9438) والنسائي (2/ 141، 142) وابن ماجه (846) والدارقطني (1/ 327) وغيرهم من طريق أبي خالد به.

(4)

(2/ 142). وأخرجه أيضًا بهذا الطريق الدارقطني (1/ 328) والخطيب في "تاريخ بغداد"(5/ 320).

ص: 75

وذكروا متابعات أخرى ساقطة لا نعرِّج عليها

(1)

.

قالوا: وقد روى مالك

(2)

عن ابن شهاب عن ابن أُكيمة الليثي عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انصرف من صلاةٍ جَهَر فيها بالقراءة؛ فقال: "هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ " فقال رجل: نعم يا رسول الله، قال:"إني أقول مالي أُنازَع القرآن". قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقراءة من الصلوات؛ حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ورواه أبو داود

(3)

عن جماعة منهم ابن السرح، قالوا: ثنا سفيان عن الزهري قال: سمعت ابن أُكيمة يحدِّث سعيد بن المسيِّب قال: سمعت أبا هريرة يقول: "صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاةً نظنُّ أنها الصبح ــ بمعناه إلى قوله ــ: مالي أنازع القرآن".

قال أبو داود: قال مسدَّد في حديثه: قال معمر: "فانتهى الناس

"، وقال ابن السرح في حديثه: قال معمر عن الزهري قال أبو هريرة: "فانتهى الناس

".

(1)

منها متابعة محمد بن ميسَّر الصاغاني، أخرجها أحمد (8889) والدارقطني (1/ 330) والبيهقي في "القراءة خلف الإمام"(312). ومتابعة إسماعيل بن أبان الغنوي، أخرجها الدارقطني (1/ 329) والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 156). وكلاهما ضعيف.

(2)

في "الموطأ"(1/ 86). ومن طريقه أبو داود (826) والترمذي (312) والنسائي (2/ 140، 141).

(3)

رقم (827).

ص: 76

قالوا: وقد قال يحيى بن معين ــ وهو هو ــ: كفاك قول الزهري: سمعت ابن أُكيمة يحدِّث سعيد بن المسيِّب. وقال الدوري عن يحيى: عمارة بن أكيمة ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، مقبول، وقال يعقوب بن سفيان: هو من مشاهير التابعين بالمدينة

(1)

.

وقد عمل الراوي عنه ــ وهو الإمام الزهري ــ بحديثه؛ فإنَّ مذهب الزهري أن لا يقرأ المأموم فيما جهر به إمامه؛ سواءٌ أسمع القراءة أم لم يسمع. وهذا يدلُّ أنَّ ابن أكيمة عنده ثقة.

قالوا: وقد أخرج الإمام أحمد وابن ماجه

(2)

وغيرهما بأسانيد صحيحة من طريق أبي إسحاق السَّبيعي عن الأرقم بن شُرحبيل عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: "لمَّا مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرضَه الذي مات فيه"، فذكر الحديث إلى أن قال: "فخرج أبو بكر فصلَّى بالناس، ووجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نفسه خِفَّةً؛ فخرج يُهادَى بين رجلين، ورِجْلاه تَخُطَّان في الأرض؛ فلمَّا رآه الناس سبَّحوا أبا بكر؛ فذهب يتأخَّر، فأومأ إليه أيْ مكانَك؛ فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى جلس، قال: وقام أبو بكر عن يمينه، وكان أبو بكر يأتمُّ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والناسُ يأتمُّون بأبي بكر، قال ابن عباس: وأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القراءة من حيث بلغ أبو بكر

الحديث.

قالوا: فهذا ظاهر أنَّ الصلاة كانت جهرية، وأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنى على قراءة أبي بكر، ولابد أن يكون أبو بكر قد قرأ الفاتحة أو بعضها. ففيه دلالة

(1)

انظر "تهذيب التهذيب"(7/ 411).

(2)

"المسند"(3355) وابن ماجه (1235). وأخرجه أيضًا الطحاوي في "معاني الآثار"(1/ 405) والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 81).

ص: 77

واضحةٌ أنَّ قراءة الإمام في الجهرية كافية لمن يستخلفه؛ فأن تكفي قراءتُه المأمومين من باب أولى.

قالوا: فهذه الأدلة تخصِّص أدلَّتكم العامة، وتعارض الخاصة، وعند المعارضة يترجَّح ما عليه جمهور الأمة.

وقد قال الإمام أحمد

(1)

: ما سمعنا أحدًا من أهل الإسلام يقول: إنَّ الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ صلاة من خلفه. وقال: هذا النبي، وأصحابه، والتابعون، وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر ما قالوا لرجلٍ صلَّى وقرأ إمامه ولم يقرأ هو: صلاته باطلة.

[ص 48] ولنشرع في الجواب، وتقدَّم الكلام على آية الإنصات، ونسأل الله تعالى التوفيق

(2)

.

[ص 49] فصل

قال الله عز وجل: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ

(1)

انظر "المغني" لابن قدامة (2/ 262).

(2)

لم يكتب الشيخ في هذه الصفحة غير هذا السطر.

ص: 78

يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 203 ــ 206].

قال الشارح: (قال ابن قدامة في "المغني"

(1)

: قال أحمد: فالناس على أنَّ هذا في الصلاة. وعن سعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم ومحمد بن كعب والترمذي: أنها نزلت في شأن الصلاة. وقال زيد بن أسلم وأبو العالية: كانوا يقرؤون خلف الإمام فنزلت

وقال أحمد في رواية أبي داود: أجمع الناس على أنَّ هذه الآية نزلت في الصلاة).

أقول: روى ابن جرير في "تفسيره"

(2)

عن ابن عباس أنه كان يقول في هذه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} هذا في المكتوبة، وأما ما كان من قصص أو قراءة بعد ذلك فإنما هي نافلة. إنَّ نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في صلاة مكتوبة، وقرأ أصحابه وراءه فخلطوا عليه. قال: فنزل القرآن: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . فهذا في المكتوبة.

وفي سنده ابن لهيعة معنعنًا.

وأخرج

(3)

من طريق أشعث ــ هو ابن سوَّار ــ عن الزهري قال: نزلت هذه الآية في فتًى من الأنصار، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلما قرأ شيئًا قرأه، فنزلت:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} .

أشعث بن سوَّار ضعيف.

(1)

(2/ 261).

(2)

(10/ 664).

(3)

(10/ 659).

ص: 79

ولكن في "سنن البيهقي"

(1)

بسند جيِّد عن مجاهد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الصلاة؛ فسمع قراءة فتى من الأنصار؛ فنزلت: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} .

وفي "أسباب النزول"

(2)

للسيوطي: "وقال سعيد بن منصور في "سننه": ثنا أبو معشر عن محمد بن كعب قال: كانوا يتلقَّفون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذا قرأ شيئًا قرؤوا معه حتى نزلت هذه الآية التي في الأعراف: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} .

أقول: أبو معشر ضعيف؛ إلَاّ أنه فيما يرويه عن محمد بن كعب من التفسير أحسن حالًا منه في غير ذلك.

وقال السيوطي

(3)

عقب هذا الحديث: "قلت: ظاهر هذا أنَّ الآية مدنية".

أقول: والمعروف بين علماء القرآن أنّها مكية. وقد ذكر في النوع الأول من "الإتقان"

(4)

نصوصَهم على أنَّ سورة الأعراف مكية، واستثنى بعضهم منها آياتٍ ليس هذه منها.

[ص 50] وقد قال ابن جرير

(5)

: حدثنا أبوكريب قال ثنا أبو بكر بن عيَّاش

(1)

(2/ 155).

(2)

"لباب النقول"(ص 105، 106). وانظر "سنن سعيد بن منصور"(978 - تفسير).

(3)

في المصدر السابق.

(4)

(1/ 49، 86) ط. مجمع الملك فهد.

(5)

في "تفسيره"(10/ 658).

ص: 80

عن عاصم عن المسيّب بن رافع قال: كان عبد الله يقول: كنا يُسلِّم بعضُنا على بعض في الصلاة، سلامٌ على فلان، وسلامٌ على فلان، قال: فجاء القرآن: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} .

أقول: أبو بكر بن عيَّاش ثقة يغلط إذا حدَّث من حفظه؛ ولكن هذا من روايته عن عاصم بن بهدلة، شيخه في القراءة، وهذا مما يتعلَّق بها؛ فالظاهر أنَّه أتقنه، إلَاّ أنه منقطعٌ، المسيّب بن رافع لم يسمع من ابن مسعود، قاله أبو حاتم وغيره

(1)

. ولكن ثبوت هذا الأثر عن المسيّب عمن أخبره عن عبد الله كافٍ في معارضة الآثار المتقدِّمة.

وقد أخرج أحمد وأبوداود والنسائي وصحَّحه وابن حبان

(2)

وغيرهم من طريق عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كنَّا نُسلِّم في الصلاة، ونأمر بحاجتنا؛ فقدِمتُ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلِّي، فسلَّمت عليه فلم يردَّ عليَّ السلام، فأخذَني ما قَدُمَ وما حَدُثَ، فلما قضى صلاته قال:"إنَّ الله يُحدِث مِن أمره ما شاء، وإنَّ الله قد أحدث أن لا تَكَلَّموا في الصلاة".

وفي روايةٍ

(3)

: "كنا نتكلَّم في الصلاة، ويُسلِّم بعضنا على بعض، ويُومئ أحدنا بالحاجة" الحديث.

(1)

انظر "تهذيب التهذيب"(10/ 153).

(2)

"المسند"(3575) وأبو داود (924) والنسائي (3/ 19) وابن حبان (2243، 2244). وأخرجه أيضًا الطحاوي في "معاني الآثار"(1/ 455) والبيهقي (2/ 248، 356) وغيرهما.

(3)

عند أحمد (4145) والبيهقي (2/ 248).

ص: 81

وأصل الحديث في "الصحيحين"

(1)

، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وفيه دلالة على صحة حديث المسيّب بن رافع، والله أعلم.

وقال البخاري في "جزء القراءة"

(2)

: حدثنا محمد بن مقاتل قال حدثنا النضر قال أنبأنا يونس عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوم كانوا يقرؤون القرآن فيجهرون: "خلَّطتم عليَّ القرآن". وكنا نسلِّم في الصلاة؛ فقيل لنا: "إنَّ في الصلاة لشُغلًا".

وروى ابن جرير

(3)

أيضًا بسند صحيح إلى عبد الله بن عامر قال: ثني زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة عن هذه الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} ، قال: نزلت في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة.

أقول: عبد الله بن عامر أظنه الأسلمي، ضعيف.

وأخرج ابن جرير

(4)

وغيره عن أبي هريرة قال: كانوا يتكلَّمون في الصلاة؛ فلما نزلت هذه الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} ، والآية الأخرى

(1)

البخاري (1199، 1216، 3875) ومسلم (538).

(2)

(ص 400 - 401). وأخرجه أيضًا أحمد (4309) والبزار (488 ــ زوائد) وأبو يعلى (5397) والدارقطني (1/ 341) وغيرهم.

(3)

"تفسيره"(10/ 660). وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في "تفسيره"(5/ 1645) والدارقطني (1/ 326).

(4)

(10/ 659). وأخرجه أيضًا ابن المنذر في "الأوسط"(3/ 105) والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 155).

ص: 82

أُمِروا بالإنصات.

وإبراهيم الهَجَري ضعيف.

وأخرج ابن أبي حاتم

(1)

عن عبد الله بن مغفَّل نحوه. ذكره السيوطي في "أسباب النزول"

(2)

.

وأخرج ابن جرير

(3)

بسند صحيح عن قتادة: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} قال: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة، فيسألهم: كم صلَّيتم؟ كم بقي؟ فأنزل الله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} .

وأخرج

(4)

بسند رجاله ثقات عن قتادة أيضًا: قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} قال: كانوا يتكلَّمون في صلاتهم بحوائجهم أولَ ما فُرضت عليهم؛ فأنزل الله ما تسمعون: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} .

وأخرج البيهقي في "السنن"

(5)

عن عون بن موسى قال: سمعت معاوية بن قرَّة قال: أنزل الله هذه الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} ، قال: كان الناس يتكلمون في الصلاة.

(1)

في "تفسيره"(5/ 1646).

(2)

"لباب النقول"(ص 105).

(3)

(10/ 662).

(4)

(10/ 661).

(5)

(2/ 155).

ص: 83

قال البيهقي: ورواه سعيد بن منصور عن عون، وزاد فيه:"فأنزلها القصَّاص في القصص".

أقول: وعون بن موسى ذكره ابن حبان في "الثقات"

(1)

.

[ص 51] ومجموع هذه الآثار أثبت من مجموع ما تقدَّم.

بقي أن يقال: دلَّت هذه الآثار على أنَّ هذه الآية نزلت عند تحريم الكلام في الصلاة. وقد ثبت في "الصحيحين"

(2)

عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلَّم في الصلاة؛ يكلِّم أحدُنا صاحبَه وهو إلى جنبه في الصلاة؛ حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأُمرنا بالسكوت، ونُهينا عن الكلام. هذا لفظ مسلم.

لا مانع أن تنزل آيتان من سورتين في وقت واحد متفقتان في الدلالة على حكم، ولكن آية الإنصات مكية باتفاق، وآية القنوت مدنية باتفاق؛ فكيف تنزل آية الإنصات بالمنع من الكلام، ويبقى حلالًا بعد ذلك حتى تنزل آية القنوت؟

والجواب: أنَّ جماعة من أهل العلم تأولوا حديث زيد بن أرقم كما في "فتح الباري"

(3)

، ورجَّحوا أن تحريم الكلام كان بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين قبل نزول آية القنوت بزمان؛ لأنها مدنية.

(1)

(7/ 280).

(2)

البخاري (1200، 4534) ومسلم (539).

(3)

(3/ 74).

ص: 84

وحجَّتهم حديث ابن مسعود في "الصحيحين"

(1)

وغيرهما قال: كنَّا نسلِّم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيردُّ علينا؛ فلمَّا رجعنا من عند النجاشي سلَّمنا عليه فلم يردَّ علينا؛ فقلنا: يا رسول الله كنا نسلِّم عليك في الصلاة فتردَّ علينا؛ فقال: "إنَّ في الصلاة شغلًا".

وقد تقدَّم في رواية النسائي

(2)

وغيره: "فلما قضى صلاته قال: إنَّ الله يُحدِث من أمره ما شاء، وإنَّ الله قد أحدث ألَاّ تكلَّموا في الصلاة".

فعلى هذا لا إشكال.

ولكن جمع ابنُ حجر بين الحديثين بأنَّ ابن مسعود توجَّه إلى الحبشة مرتين؛ رجع من الأولى قبل الهجرة، ثم توجَّه إلى الحبشة أيضًا، ثم رجع منها بعد الهجرة قبل بدر، فالرجوع الذي ذكره في حديثه هو هذا الثاني. وحديث زيد بن أرقم على ظاهره؛ فعلى هذا يبقى الإشكال بحاله.

والجواب ما في "حواشي الشيخ زاده على البيضاوي"

(3)

، قال:"قال الإمام الواحدي في "الوسيط"

(4)

: ولا تدلُّ الآية على ترك القراءة خلف الإمام؛ لأنَّ هذا الإنصات المأمور به نهي عن الكلام في الصلاة، لا عن القراءة أو عن ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام. كما روي عن ابن عباس

(5)

أنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة المكتوبة، وقرأ أصحابه وراءه رافعي

(1)

البخاري (1199، 1216) ومسلم (538).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

(2/ 393).

(4)

(2/ 440). وانظر "البسيط"(9/ 568).

(5)

أخرجه الطبري في "تفسيره"(10/ 664). وقد سبق ذكره.

ص: 85

أصواتهم؛ فنزلت هذه الآية. وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه. والعرب تسمِّي تارك الجهر "منصتًا"، وإن كان يقرأ في نفسه إذا لم يُسمِع أحدًا". (ملحق الجلد الأول ص 293).

وعليه فآية الإنصات إنما منعت من رفع الصوت؛ سواء أكان بقراءة، أم بذكر، أم بدعاء، أم بكلام الناس بعضهم بعضًا. وآية القنوت منعت من كلام الناس بعضهم بعضًا مطلقًا ولم تتعرض للقراءة والذكر والدعاء.

فالمراد بالإنصات في الآية الإسرار؛ بدليل قوله بعدُ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} الآية.

قال ابن جرير

(1)

: "يقول تعالى ذكره: واذكرْ أيها المستمع المنصت للقرآن ــ إذا قريء في صلاة أو خطبة ــ ربَّك في نفسك

{وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} يقول: ودعاء باللسان لله في خفاء لا جهار، يقول: ليكنْ ذكر الله عند استماعك القرآن في دعاء إن دعوت غير جهار؛ ولكن في خفاء من القول".

وفي "روح المعاني"

(2)

: "ويُشعر كلام ابن زيد أنَّ المراد بالجهر مقابل الذكر في النفس، والآية عنده خطاب للمأموم المأمور بالإنصات؛ أي: اذكر ربك أيها المنصت في نفسك، ولا تجهر بالذكر".

أقول: وفي "الصحيحين"

(3)

عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

(1)

(10/ 667، 668).

(2)

(9/ 154).

(3)

البخاري (744) ومسلم (598).

ص: 86

إذا كبَّر في الصلاة سكت هُنَيَّةً قبل أن يقرأ؛ فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أرأيتَ سكوتك بين التكبير والقراءة؛ ما تقول؟ قال:"أقول: اللهم باعِدْ بيني وبين خطاياي"؛ فذكر الحديث، وهذا لفظ مسلم.

فأطلق على تلك الحال سكوتًا؛ مع العلم بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتكلَّم فيها ولكن سرًّا.

[ص 52]، وإنما قال في الآية:{وَأَنْصِتُوا} ليدلَّ ــ والله أعلم ــ على أنه ينبغي المبالغة في الإسرار. وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} فأفرد بعد أن كان الكلام على الجمع ليدلَّ ــ والله أعلم ــ على أنه ينبغي المبالغة بالإسرار حتى يُسمِع الإنسان نفسه فحسب. ولو قال: "واذكروا ربكم في أنفسكم" لتوهَّم أنه لا بأ س بأن يرفع صوته قليلًا بحيث يُسمِع أصحابَه.

وإنما جاز لهم بعد هذا أن يكلِّم أحدهم صاحبه إلى جنبه لأنَّ المقصود من كلام بعضهم بعضًا لا يحصل إلَاّ بهذا؛ بخلاف القراءة والذكر والدعاء.

ومما يشهد لهذا المعنى أثر ابن عباس المتقدِّم

(1)

: أنه كان يقول في هذه {وَاذْكُرْ رَبَّكَ}

إلخ.

وهذا هو السرُّ في ذكره الآية الثانية. فقوله فيه: "وقرأ أصحابه وراءه فخلَّطوا عليه" أراد قرؤوا رافعين أصواتهم؛ فتدبَّر!

ومثله قول محمد بن كعب

(2)

: "كانوا يتلقَّفون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذا

(1)

في "تفسير الطبري"(10/ 664). وقد سبق ذكره.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(978 - تفسير). وسبق ذكره.

ص: 87

قرأ شيئًا قرؤوا معه".

وعليه يحمل ما قاله ابن قدامة في "المغني"

(1)

؛ حيث قال: "وقال زيد بن أسلم وأبو العالية: كانوا يقرؤون خلف الإمام فنزلت". هذا إن صحَّ عنهما. وكذا ما تقدَّم عن ابن مسعود

(2)

: "كنَّا يسلِّم بعضُنا على بعض في الصلاة" إلخ.

فأما ما تقدَّم عن أبي هريرة

(3)

قال: "نزلت في رفع الأصوات، وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة"؛ فظاهر.

وأما ما مرَّ عنه من قوله

(4)

: كانوا يتكلَّمون في الصلاة؛ فلما نزلت هذه الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} ، والآية الأخرى أُمِروا بالإنصات؛ فمراده بالإنصات هو ما حملناه عليه في الآية. ويدلُّ على هذا قوله:"والآية الأخرى"، وقد علمت أنَّ الآية الأخرى قرينة ظاهرة على ذلك.

ونحوه قول ابن مغفَّل

(5)

.

فأما قول قتادة

(6)

: "كان الرجل يأتي وهم في الصلاة، فيسألهم: كم

(1)

(2/ 261).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

في "تفسير الطبري"(10/ 660) و"سنن الدارقطني"(1/ 326).

(4)

أي قول أبي هريرة في "تفسير الطبري"(10/ 659) والبيهقي (2/ 155).

(5)

في "تفسير ابن أبي حاتم"(5/ 1646).

(6)

في "تفسير الطبري"(10/ 662).

ص: 88

صليتم؟ كم بقي" إلخ. وقوله

(1)

: "كانوا يتكلَّمون في صلاتهم بحوائجهم أولَ ما فُرِضت عليهم". وقول معاوية بن قرَّة

(2)

: "كان الناس يتكلَّمون في الصلاة"= فالمراد بذلك كلِّه السؤال والكلام جهرًا، وهو الذي منعتهم منه هذه الآية، وبقي الكلام مسارَّةً مباحًا لهم حتى نزلت آية القنوت.

ولذلك قال زيد

(3)

: "فيكلِّم أحدُنا صاحبَه وهو إلى جنبه في الصلاة"؛ وهذا ظاهر في المسارَّة.

فأما ما مرَّ عن مجاهد

(4)

: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الصلاة، فسمع قراءة فتى من الأنصار؛ فنزلت: وذكر الآية= فإن صحَّ فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه [ص 53] وآله وسلَّم لما سمع ذلك الفتى يرفع صوته تلا الآية بعد السلام؛ تنبيهًا لذلك الفتى بأنَّ الآية منعت المأموم عن رفع الصوت؛ فسمعه بعض صغار الصحابة، فظنَّ أنَّ الآية إنما نزلت حينئذٍ.

ولهذا نظائر في أسباب النزول. ومن يجيز تعدد نزول الآية الواحدة يجيء احتماله هنا، والله أعلم.

وهكذا ما تقدَّم عن الزهري

(5)

؛ إن صحَّ.

وقال البخاري في "جزء القراءة"

(6)

: "وقال مجاهد: إذا لم يقرأ خلف

(1)

في المصدر السابق (10/ 661).

(2)

في "السنن الكبرى"(2/ 155).

(3)

عند البخاري (1200) ومسلم (539).

(4)

في "السنن الكبرى"(2/ 155).

(5)

في "تفسير الطبري"(10/ 659، 662).

(6)

(ص 119).

ص: 89

الإمام أعاد الصلاة".

وأخرج ابن جرير

(1)

عن يُسَير بن جابر قال: صلَّى ابن مسعود فسمع ناسًا يقرؤون مع الإمام؛ فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفقهوا؟ أما آن لكم أن تعقلوا؟ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} كما أمركم الله.

يحتمل أنه إنما أنكر عليهم رفع أصواتهم حتى سمعهم، والرفع مخالف للآية كما علمت.

وأخرج

(2)

أيضًا من طرقٍ عن مجاهد وغيره في هذه الآية قالوا: في الصلاة.

وهذا مجملٌ، ليس فيه مخالفة لما اخترناه، والله أعلم. على أنَّ مذهب مجاهد أنَّ من لم يقرأ خلف الإمام يعيد الصلاة؛ ذكره البخاري في "جزء القراءة"

(3)

؛ كما مرَّ.

وأخرج

(4)

عن الزهري أنَّ المأمومين يقرؤون فيما أسرَّ به الإمام، ولا يقرؤون فيما جهر به سرًّا ولا علانيةً، وتلا الآية.

وهذا مذهب الزهري، معروفٌ عنه، وقد وهم في حمل الآية عليه، والله المستعان.

(1)

"تفسيره"(10/ 659).

(2)

(10/ 660، 661).

(3)

(ص 119).

(4)

أي ابن جرير في "تفسيره"(10/ 664).

ص: 90

ويحتجُّ من يرى أنَّ الإنصات في الآية السكوت للاستماع بأنه الحقيقة، وبحديث:"إنما جُعِلَ الإمام ليؤتمَّ به"، وفيه:"وإذا قرأ فأنصتوا". يقول: لا يحتمل تأويل قوله: "فأنصِتوا" بأنَّ المراد فأَسِرُّوا؛ لأنَّ حكم المأموم الإسرار مطلقًا؛ فكيف يقيِّده بقوله: "وإذا قرأ"؟ وإذا ثبت أنَّ المراد في الحديث حقيقة الإنصات دلَّ هذا على أنَّ الإنصات في الآية على حقيقته؛ لأنَّ الظاهر أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما قال ذلك إشارة إلى الآية.

والجواب عن الأول: أننا قد قدَّمنا بيان القرائن والأدلة الصارفة عن الحقيقة.

وعن الثاني: بأنَّ الحديث مختلف في صحَّته؛ كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

وعلى القول بصحَّته فإن قلنا: إنه إشارة إلى الآية فذلك قرينة على أنَّ المراد بالإنصات: الإسرار، وإنما قال صلى الله عليه وآله وسلم:"وإذا قرأ"[ص 54] لأنه موضع الحاجة؛ لأنه لما قال لهم: "إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به؛ فإذا كبَّر فكبِّروا" احتمل أن يفهموا من ذلك: "وإذا جهر بالقراءة فاجهروا"؛ فاحتيج إلى إزالة هذا الوهم.

فإن قيل: فإنَّ الإمام يجهر بالتكبيرات، فإذا أمكن أن يتوهَّموا الجهر بالقراءة أمكن أن يتوهَّموا الجهر بالتكبيرات.

قلت: لكن احتمال الوهم في التكبيرات دون احتماله في القراءة؛ لأنه لا يخفى أن جهْرَ الإمام بالتكبيرات إنما هو للإعلام بالانتقالات؛ ولهذا يجهر الإمام بها دائمًا، والمأموم لا يحتاج إلى أن يُعلِم غيره.

ص: 91

فأما القراءة فليس المقصود بالجهر بها الإعلام، واحتمال أن يكون المقصود بالجهر بها إسماعَ المقتدين يدفعه أنَّ المنفرد يجهر أيضًا، وأنهم قد علموا أنَّ المؤتمَّ يقرأ أيضًا.

ولا يدفع هذا الوهم أن الآية قد سبق نزولها بالأمر بالإنصات؛ لاحتمال أن يتوهَّموا أنَّ قوله: "إنما جعل الإمام ليؤتمَّ به" تخصيص للآية بالنسبة إلى القراءة.

مع أنَّ مثل هذا وارد على المخالف؛ إذ يقال له: إذا كان الإنصات في الآية ينافي القراءة سرًّا فلماذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "وإذا قرأ فأنصتوا"؟ وهلَاّ اكتفى بالآية؟ وجوابه: بأنه زاده تنبيهًا على الدليل، وتأكيدًا له. وهكذا نقول مع زيادة دفع الإيهام.

وكأني بك لا يطمئنُّ قلبك إلى هذا التأويل؛ ولكنك إذا تأملت ما تقدَّم، وعلمت أنَّ الآية مكية اتفاقًا، وأنَّ تحريم الكلام في الصلاة إنما كان بالمدينة علمت الاحتياج إلى التأويل.

وقد فُتِحَ عليَّ بمعنًى آخر لعلَّه أقرب من الأول؛ وهو أن يقال: الإنصات على ظاهره، والآية إنما منعت من الكلام حال قراءة الإمام جهرًا، وبقي الكلام مباحًا في غير ذلك من الحالات، كحال قراءته سرًّا، وحال الركوع والسجود وغير ذلك؛ حتى حرم ذلك بالمدينة.

وعلى هذا فيقال: الأمر بالإنصات يعمُّ الإنصات عن كلام الناس، وعن القراءة، وعن الذكر.

ولكن دلَّ قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} إلخ على اختصاص النهي بكلام الناس، وأما ذكر الله تعالى بقرآن أو غيره فلم ينه عنه، ولكن أمر

ص: 92

بالإسرار به.

فإن قلت: هذا أقرب لإبقائه اللفظ على حقيقته؛ ولكن بقي فيه شيءٌ من حيث المعنى، وهو أنَّ الاستماع والإنصات إنما فائدته تفهُّم ما يقرأه الإمام وتدبُّره، وهذه الفائدة تزول بالاشتغال بالذكر ولو سرًّا.

قلت: أما زوالها ففيه نظر؛ فقد يقرأ الإنسان سرًّا وهو مع ذلك يفهم قراءة غيره في الجملة. نعم إذا لم يشتغل بالقراءة كان فهمه لكلام غيره أتمَّ.

ولكن قد يقال: دلَّ قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أنَّ تفهُّم قراءة الإمام إنما أمر به من يريد الاشتغال عنه بكلام الناس. فأما من يريد الاشتغال عنه بقراءة أو ذكر فلا؛ لأنه قد حصل له ما هو أتمُّ من الاستماع.

ويؤكِّد هذا أن تفهُّم قراءة الإمام لم يقل أحدٌ بوجوبه، حتى لو اشتغل المأموم بالتفكر في شيء من أمر معاشه لم يقل أحدٌ بأنه آثم. ومع هذا فنحن نَقْصُر الذكر المأمور به على الذكر الواجب، وهو قراءة الفاتحة، وأنت خبير أن تحصيل الواجب أولى من تحصيل المستحب.

هذا مع أن أدلة وجوب الفاتحة تساعد على التخصيص الذي ذكرنا، بل تعيِّنه. وسيأتي تقرير هذا إن شاء الله تعالى.

هذا تحقيق الكلام في معنى الآية؛ مع التقيُّد بما نُقل عن السلف. فأما إذا صرفنا النظر عما نقل عنهم فسقوط الاحتجاج بها أوضح، ودونك البيان:

قال في "الكشَّاف"

(1)

: "وقيل معناه: وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند

(1)

(2/ 111) ط. دار المعرفة.

ص: 93

نزوله فاستمعوا له".

وكذا قال أبو السعود، ثم قال:"والآية إما من تمام القول المأمور به أو استئناف من جهته تعالى؛ فقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} على الأول عطف على {قل} ". (ج 1 ص 546)

(1)

.

[ص 55] وحاصل ذلك أنَّ الآية من جملة ما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوله للكفار الذين يطلبون، الذين تقدَّم أنه إذا لم يأتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآية قالوا:{لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} . فالخطاب بقوله: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} للكفَّار.

وقد أوضح ذلك في "روح المعاني"

(2)

قال: "وقال بعضهم: إنَّ الخطاب فيها للكفَّار؛ وذلك أنَّ كون القرآن بصائر وهدى ورحمة لا يظهر إلَاّ بشرط مخصوص وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قرأ عليهم القرآن عند نزوله استمعوا له وأنصتوا؛ ليقفوا على معانيه ومزاياه، فيعترفوا بإعجازه، ويستغنوا بذلك عن طلب سائر المعجزات. وأيَّد هذا بقوله سبحانه وتعالى في آخر الآية:{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ؛ بناء على أن ذلك للترجي، وهو إنما يناسب حال الكفار، لا حال المؤمنين؛ الذين حصل لهم الرحمة جزمًا في قوله تعالى:{وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .

وأجيب بأنَّ هذه الرحمة المرجُوَّة غير تلك الرحمة، ولئن سُلِّم كونها إياها فالإطماع من الكريم واجب، فلم يبق فرق".

(1)

"إرشاد العقل السليم"(3/ 310) ط. دار الفكر.

(2)

(9/ 153).

ص: 94

وقال بعد ذلك بأسطر

(1)

: "والجملة على ما يدل عليه كلامهم يحتمل أن تكون من القول المأمور به، ويحتمل أن تكون استئنافًا من جهته تعالى".

أقول: أما "لعلَّ" فقد قال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] فقيل: إنها للترجية؛ أي: اذهبا على رجائكما. وقيل: للتعليل. فهكذا يقال في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ؛ أي راجين أن تُرحَموا، أو لكي تُرحَموا.

فإن قيل: وهل تُرْجَى الرحمة للكفار بمجرَّد استماعهم وإنصاتهم؟

قلت: يُرجى من استماعهم وإنصاتهم أن يؤمنوا؛ فإذا آمنوا رُحِموا.

وفي الآية إشارة إلى قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصِّلت: 26].

ونظيرها في إحالتهم على القرآن إذا طلبوا آية معجزةً قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50، 51].

وفي هذه الآية ذكر الرحمة، وقال أكثر المفسِّرين إنَّ المعنيَّ بقوله {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: لقومٍ مُوطِّنين أنفسَهم على الإيمان إذا تبيَّن لهم الحق؛ بخلاف المعاندين.

(1)

(9/ 154).

ص: 95

أقول: والظاهر أنَّ يقال في آية الأعراف مثل ذلك.

ومن نظائر الآية قوله سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133].

[ص 56] وقوله تبارك اسمه: {

فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)

لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء 5 ــ 10].

أقول: وتفسير الآية على هذا القول هكذا:

{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ} أي المشركين؛ وهذا متفق عليه، {بِآيَةٍ} بمعجزةٍ؛ كما رُوِيَ عن ابن عباس والجبَّائي وأبي مسلم؛ على ما في "روح المعاني"

(1)

، ويشهد له الآيات المتقدِّمة.

وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37].

وقوله سبحانه: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7].

وقوله عز وجل: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27].

وقوله تبارك وتعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ

(1)

(9/ 149).

ص: 96

إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس: 20].

{قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} اصطفيتها واخترتها واقترحتها على ربِّك.

أخرج ابن جرير

(1)

عن ابن عباس: قوله: {لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} يقول: لولا تقبلتها من الله. وعن قتادة: لولا تلقَّيتها من ربِّك.

وقال آخرون: لولا اخترعتها؛ وأيَّدوه بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} [الأعراف: 203]، وهو مناسبٌ للأول؛ أي: ليس لي أن أقترح على ربِّي، وإنما عليَّ أن أتَّبع ما يوحيه إليَّ

(2)

.

ثم علم أنهم سيقولون: فهلَّا أنزلها ربُّك بدون طلبك؟ كما تقدَّم نحو ذلك في الآيات التي تلوناها. فأجيبوا عن ذلك بقوله تعالى: {هَذَا} أي القرآن، {بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: كفى به آيةً لمن كان موطِّنًا نفسه على أن يتَّبع الحق إذا ظهر له.

ثم علِمَ الله تعالى أنهم سيقولون: فما بالنا لم يحصل لنا ذلك؟ ولا نسلِّم أننا معاندون؛ فقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: أنَّ السبب في كون ذلك لم يحصل لكم هو عنادكم؛ والدليل [ص 57] على عنادكم قولكم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. فاستمعوا له وأنصتوا، فلا تَلْغَوا، ولا تأمروا باللغو؛ فإن فعلتم

(1)

في "تفسيره"(10/ 656).

(2)

في الأصل: "إليه".

ص: 97

ذلك رُجِيَ أن يحصل لكم البصائر والهدى والرحمة. واقتصر على الرحمة لدلالتها على الباقي، مع أنها المقصود الأعظم للإنسان.

ولا مانع من تسليم ما تقدَّم عن "روح المعاني"؛ من أنَّ الإطماع من الكريم واجبٌ؛ فإنَّ الإطماع في الآية مشروط بالاستماع والإنصات.

ولنا أنَّ نقول: لو استمعوا وأنصتوا لهداهم الله تعالى للإيمان؛ فتحصل لهم الرحمة قطعًا. قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 68، 69].

والكافر إذا استمع للقرآن وأنصت إليه، راغبًا في العلم به أهو حق أم لا، مصمِّمًا على أنه إذا عرف أنه الحق اتبعه، موطِّنًا نفسه على ذلك، منشرحًا صدره مطمئنًا قلبه، لا يجد في نفسه عداوةً لما يتبيَّن له أنه الحق= فهو مجاهدٌ في الله بلا ريب.

وبهذا تنحلُّ المعضلة المشهورة في الكافر إذا اجتهد في طلب الحق، وبذل وُسعَه في ذلك، راغبًا في معرفته، مُحِبًّا له، عازمًا على اتباعه إذا ظهر له، ولكنه لم يظهر له حقِّيَّة الإسلام= أيكون ناجيًا لأنَّ الله تعالى يقول:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أم لا؟

حُكي الإجماع على أنه لا ينجو، وخالف فيه بعض أهل العلم. وآية المجاهدة تدلُّ أنَّ مثل هذا لا يوجد؛ لأنه إذا كان بهذه الصفة هداه الله تعالى للإسلام، ولله الحمد.

ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} قيدًا لما قبله، أي

ص: 98

استمعوا للقرآن وأنصتوا له، راجين أن يهديكم الله تعالى للحق فيرحمكم، أي أنه لا يكفيكم الاستماع والإنصات بدون توطين النفوس على الرضا بالحق إذا تبيَّن، والله أعلم.

ولما علم الله تعالى أن نبيَّه صلى الله عليه وآله وسلم قد يفهم مما تقدَّم، ومِن أمْرِ الله تعالى له في آيات كثيرة بالتبليغ أنَّ عليه أن يجهر بالقراءة دائمًا، ويؤكّد هذا عنده صلى الله عليه وآله وسلم شدَّةُ حرصه على إيمان قومه= لما علم الله تعالى ذلك [ص 58] نبَّه رسوله على أنه لا يلزمه ذلك؛ فقال سبحانه:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} ، وقوله سبحانه:{وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} ؛ أي: ولا يحمِلْك حرصُك على إيمان قومك واشتغالك بدعوتهم على أن تغفل عن مناجاة ربك وذكره، وتلاوة كتابه، وإن لم يكن هناك من يسمع. ولا يحزنْك إعراضُ الكفار وإصرارهم على كفرهم واستكبارهم عن عبادة ربهم؛ فإنهم لا يضرُّون الله تعالى شيئًا. وقد وكَّل بعبادته من لا يعلم عددَهم غيرُه من جنوده:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206].

ولا يخفى أنه على هذا التفسير لا يكون في آية الإنصات ما يتعلَّق بقراءة المأموم في الصلاة، والله أعلم.

قال الشارح: (ويشهد لهذا المعنى ــ يعني أنَّ الآية نزلت في الصلاة أو لعمومها شاملة للصلاة ــ ما رواه أحمد ومسلم

(1)

عن أبي موسى قال: علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا قمتم إلى الصلاة فلْيؤمَّكم أحدُكم، وإذا قرأ الإمام

(1)

"المسند"(19723) و"صحيح مسلم"(404).

ص: 99

فأنصتوا".

وما رواه الخمسة

(1)

سوى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به؛ فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قرأ فأنصتوا").

أقول: إذا حُمِلت الآية على المعنى الثاني فلا حاجة للجواب عن هذا؛ لأنها في وادٍ والحديث في وادٍ، والاتفاق في بعض اللفظ لا يستلزم الاتفاق في المعنى.

وإذا حملت على المعنى الأول تمسُّكًا بأقوال السلف، واعتصامًا بآثارهم فقد مرَّ الجواب.

ولنبحث عن صحَّة هذا الحديث، ونسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق.

أما حديث أبي موسى فمداره على قتادة، ورواه عنه أبو عوانة وهشام ومعمر وهمَّام والحجَّاج بن الحجَّاج وغيرهم بدون تلك الزيادة، ورواه عنه سليمان التيمي بها

(2)

. فمال مسلمٌ

(3)

إلى إثباتها؛ فإنه ذكرها وقال لمن كلَّمه فيها: "تريد أحفظ من سليمان! ".

وفي "الجوهر النقي"

(4)

عن "علل الخلَاّل": أنَّ الإمام أحمد قال: "من قال أخطأ التيمي فقد بَهَتَ التيمي".

(1)

"المسند"(9438) وأبو داود (604) والنسائي (2/ 141، 142) وابن ماجه (846).

(2)

انظر "علل الدارقطني"(7/ 252 - 254).

(3)

عقب الحديث رقم (404).

(4)

(2/ 155).

ص: 100

وقال أبو داود في "السنن"

(1)

: وقوله: "فأنصتوا" ليس بمحفوظ؛ لم يجئ بها إلَاّ سليمان التيمي في هذا الحديث.

وقال الدارقطني

(2)

: هذه اللفظة [ص 59] لم يتابَع سليمان التيمي فيها عن قتادة، وخالفه الحفَّاظ فلم يذكروها.

قال: وإجماعهم على مخالفته يدلُّ على وهمه.

وقال الحافظ أبوعلي النيسابوري

(3)

: خالف جرير عن التيمي أصحابَ قتادة كلَّهم في هذا الحديث، والمحفوظ عن قتادة رواية هشام الدستوائي وهمَّام

ورواه سالم بن نوح عن ابن أبي عروبة، وعمر بن عامر عن قتادة؛ فأخطأ فيه.

ذكر هذا كلَّه البيهقي في "سننه"

(4)

، ثم ذكر رواية سالم بن نوح من طريق الدارقطني، وذكر قول الدارقطني: سالم بن نوح ليس بالقوي.

اعترضه صاحب "الجوهر النقي"

(5)

فقال: "سالم هذا وإن قال الدارقطني: ليس بالقوي، فقد أخرج له مسلمٌ وابن خزيمة وابن حبان

".

أقول: لم ينفرد الدراقطني بتوهين سالم؛ فقد قال الدوري عن ابن معين: ليس بشيءٍ، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتجُّ به، وقال النسائي:

(1)

عقب الحديث رقم (973).

(2)

انظر "العلل"(7/ 252 - 254) و"سنن الدارقطني"(1/ 331).

(3)

كما نقل عنه البيهقي في "السنن"(2/ 156).

(4)

في الموضع المذكور.

(5)

(2/ 155).

ص: 101

ليس بالقوي، وقال ابن عدي: عنده غرائب وأفراد، وأحاديثه محتملة متقاربة

(1)

.

ومع هذا فسالمٌ يرويه عن ابن أبي عروبة وعمر بن عامر، فأما ابن أبي عروبة فإنه ثقة، ولكنه اختلط بأخرة، ولا يُدرى متى سمع منه سالم، إن كان سمع. ثم هو ــ أعني ابن أبي عروبة ــ مدلس، فلا يُؤمَن أن يكون سمع الحديث من قتادة بدون هذه الزيادة كما أخرجه مسلمٌ، ثم سمع التيمي يذكر الحديث بتلك الزيادة؛ فسمعه منه بها ودلَّسه. وعمر بن عامر مختلفٌ فيه؛ ضعَّفه النسائي وغيره، وقوَّاه آخرون

(2)

.

فانحصر الأمر في زيادة التيمي، وهي زيادة ثقة على جماعة، والمشهور قبولها. وخالف في ذلك قومٌ؛ منهم ابن خزيمة.

وقال السخاوي في "فتح المغيث"

(3)

في فصل تعارض الوصل والإرسال: "فالحق حسب الاستقراء من صنيع متقدِّمي الفن ــ كابن مهديٍّ والقطَّان وأحمد والبخاري ــ عدمُ اطراد حكم كلِّي؛ بل ذلك دائرٌ مع الترجيح. فتارة يترجَّح الوصل، وتارة الإرسال، وتارة يترجَّح عدد الذوات على الصفات، وتارةً العكس. ومن تتبَّع أحكامهم الجزئية تبيَّن له ذلك

مع أنَّ الشافعي يقول: العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد

هذا حاصل ما أفاده شيخنا مع زيادة.

(1)

يراجع "تهذيب التهذيب"(3/ 443).

(2)

انظر المصدر السابق (7/ 467).

(3)

(1/ 203، 204) ط. الهند.

ص: 102

وسبقَه لكون ذلك مقتضى كلام الأئمة: العلائيُّ، ومِن قبله ابن دقيق العيد وغيرهما".

أقول: ومثل ذلك يقال في الزيادة والنقصان؛ فإنَّ الوصل زيادة، والإرسال نقصان.

[ص 60] وهذا هو الذي يظهر من صنيع المتقدِّمين؛ أنَّ العبرة عندهم بالترجيح؛ فتارةً تترجَّح الزيادة، وإن كان الذين لم يذكروها أكثر، وتارةً بالعكس. وذلك منوطٌ بنظر المجتهد الماهر في الفنِّ؛ فقد يقوم لديه من القرائن ما يجهله من ليس في درجته؛ بل ربَّما صعب على المجتهد التعبير عن تلك القرائن؛ كما ذكروه في المعلَّل.

إذا تقرَّر هذا فقد اختلف الحفَّاظ في هذه الزيادة؛ زيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا". فالذي أختاره التوقُّف عن قبولها وردِّها، والله الموفق.

ثم رأيت في "جزء القراءة"

(1)

للبخاري، في الكلام على هذه الزيادة:"ولم يذكر سليمان في هذه الزيادة سماعًا من قتادة، ولا قتادة من يونس بن جبير". يعني: وسليمان وقتادة يدلِّسان.

أقول: ولكن سليمان صرَّح بالتحديث في رواية ابنه المعتمر عنه، عند أبي داود

(2)

.

فأما قتادة فلم أقف على تصريحه بالتحديث؛ فإن كان صرَّح في بعض الروايات الخالية عن هذه الزيادة لم يكف ذلك؛ لأنه يحتمل أن يسمع

(1)

(ص 413).

(2)

رقم (973).

ص: 103

الراوي الحديث من الشيخ ثم يسمعه من آخر عنه. فلعلَّ قتادة سمع الحديث من أبي غلاب بدون الزيادة، وسمعه من آخر عنه بالزيادة؛ فرواه مرَّةً بهذه الزيادة عن أبي غلاب؛ يريد: حدثني رجل عن أبي غلاب؛ كما عُرِفَ في التدليس.

فإن قيل: فإنَّ ذِكْر مسلم له في "صحيحه"

(1)

، وقد قالوا: إنَّ ما كان في "الصحيحين" من عنعة المدلِّسين محمول على السماع

(2)

.

قلت: قد ناقش في ذلك ابن دقيق العيد وغيره، ومن قال بذلك يخصُّه بغير المتابعات والشواهد.

وبعدُ، فلا حاجة لتفصيل ذلك، بعد أن طعن إمام الفن البخاري في هذه الزيادة بتهمة التدليس، والله أعلم.

وقد وقعت هذه الزيادة بعينها في حديث أبي هريرة كما ذكره الشارح؛ فرواه أبو داود

(3)

من طريق أبي خالد الأحمر عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة.

قال أبو داود: "زاد "وإذا قرأ فأنصتوا"، قال أبو داود: وهذه الزيادة "إذا قرأ فأنصتوا" ليست بمحفوظة، الوهم عندنا من أبي خالد".

أقول: أبو خالد قال فيه ابن معين: صدوق، وليس بحجَّة. وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، وإنما أُتيَ من سوء حفظه؛ فيغلط ويخطئ، وهو

(1)

رقم (404). وخبر "إنّ" مفهوم مما يأتي.

(2)

"تدريب الراوي"(1/ 230).

(3)

رقم (604).

ص: 104

في الأصل كما قال ابن معين: صدوق وليس بحجَّة. وقال أبو بكر البزَّار في كتاب "السنن": ليس ممن يلزم بزيادته حجة؛ لاتفاق أهل العلم بالنقل أنه لم يكن حافظًا، وأنه قد روى أحاديث عن الأعمش وغيره لم يتابع عليها

(1)

.

ولكن قد تابع أبا خالد محمدُ بن سعد الأنصاري الأشهلي عند النسائي

(2)

، والأشهلي ثقة.

وتابعه أيضًا إسماعيل بن أبان ــ هو الغنوي ــ عند البيهقي

(3)

. ولكن إسماعيل متفق على تركه؛ رماه ابن معين وابن حبان بوضع الحديث، وقال أحمد: روى أحاديث موضوعة، وقال أبو داود: كان كذَّابًا

(4)

.

وتابعه أبو سعد محمد بن ميسَّر الصاغاني عند الدارقطني

(5)

، وقال: ضعيف.

فالعمدة على متابعة الأنصاري.

وقد روى البيهقي

(6)

عن الحاكم عن الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول في حديث ابن عجلان "إذا قرأ فأنصتوا": ليس بشيءٍ.

وعن أحمد بن محمد بن الحارث عن أبي الشيخ عن ابن أبي حاتم

(1)

"تهذيب التهذيب"(4/ 181، 182).

(2)

(2/ 142).

(3)

في "السنن الكبرى"(2/ 156).

(4)

"تهذيب التهذيب"(1/ 271).

(5)

في "السنن"(1/ 330).

(6)

في "السنن الكبرى"(2/ 156، 157).

ص: 105

قال: سمعت أبي، وذكر هذا الحديث؛ فقال أبي: ليست هذه الكلمة محفوظة؛ هي من تخاليط ابن عجلان

(1)

.

قلت: ابن عجلان ثقةٌ عندهم؛ ولكن حكى عنه القطَّان حكايةً

(2)

تدلُّ على سوء حفظه في الجملة، وعلى تدليس.

وفي "الميزان"

(3)

: قال الحاكم: أخرج له مسلمٌ في كتابه ثلاثة عشر حديثًا كلها شواهد، وقد تكلَّم المتأخرون من أئمتنا في سوء حفظه.

وقال الذهبي

(4)

: وقد روى عن أنس؛ فما أدري هل شافه أنسًا، أو دلَّس عنه.

[ص 61] وذكره الحافظ ابن حجر في "طبقات المدلِّسين"

(5)

في الطبقة الثالثة في من أكثر من التدليس؛ فلم يحتجَّ الأئمة من أحاديثهم إلَاّ بما صرَّحوا فيه بالسماع. وقال: وصفه ابنُ حبان بالتدليس.

وذكر البيهقي

(6)

أنَّ خارجة بن مصعب ويحيى بن العلاء الرازي تابعا ابن عجلان، وهذا لا يفيد؛ فإنهما هالكان. ولعلَّ ابن عجلان دلَّس الحديث عن أحدهما أو غيرهما.

(1)

المصدر السابق.

(2)

انظر "تهذيب التهذيب"(9/ 342).

(3)

(3/ 644).

(4)

في "الميزان"(3/ 647). وقال في "السير"(6/ 318): "قيل إنه روى عن أنس بن مالك، وذلك ممكن إن صح".

(5)

(ص 149 - 150).

(6)

في "السنن الكبرى"(2/ 157).

ص: 106

فالراجح ردّ هذه الزيادة.

فأما مسلمٌ ــ رحمه الله ــ فإنه وقع في بعض نُسَخ "صحيحه" زيادة زادها الراوي عنه أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان، بعد ذكر حديث التيمي

(1)

.

وحاصلها: أنَّ أبا بكر بن [أخت] أبي النضر تكلَّم في زيادة التيمي؛ فقال له مسلم: تريد أحفظ من سليمان؟ فسأله عن حديث أبي هريرة ــ يعني بزيادة ابن عجلان ــ فقال: هو عندي صحيح، فقال: لِمَ لَمْ تضعه ههنا؟ يعني في "الصحيح"؛ فقال: ليس كل شيءٍ عندي صحيح وضعتُه ههنا، إنما وضعت ما أجمعوا عليه.

أقول: فهذه مذاكرة، والعالم لا يحتاط في المذاكرة احتياطه في التصنيف ونحوه، ومع ذلك فقوله:"إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه" مشكلٌ.

وقد ذكر النووي في مقدمة "شرح مسلم"

(2)

أنَّ ابن الصلاح أجاب عنه بجوابين، ثم قال ابن الصلاح:"ومع هذا فقد اشتمل كتابه على أحاديث اختلفوا في إسنادها ومتنها لصحتها عنده، وفي ذلك ذهولٌ منه عن هذا الشرط أو سبب آخر، وقد استُدرِكت وعُلِّلت".

أقول: وعبارة مسلم المذكورة تدلُّ أنَّ هذه الزيادة عنده أنزلُ درجةً من كل ما ذكره في "الصحيح"؛ حتى على سبيل المتابعة والشواهد، وهذا كما ترى.

(1)

رقم (404/ 63).

(2)

(1/ 16). وانظر "صيانة صحيح مسلم"(ص 13).

ص: 107

وعلى كل حال فالراجح ردُّ هذه الزيادة، والله أعلم.

ثم اعلم أنَّ حديث أبي هريرة في "الصحيح"

(1)

من طرقٍ بدون هذه الزيادة، وفي "الصحيح" أيضًا من حديث عائشة

(2)

وأنس

(3)

وجابر

(4)

نحو حديثه بدون هذه الزيادة، وفي حديث هؤلاء ما حاصله أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشتكى؛ فصلَّى جالسًا فصلُّوا خلفه، فأشار إليهم أن يقعدوا، فلمَّا سلَّم قال: فذكروا الحديث.

وبيَّن أنس سبب الشكوى، وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم سقط عن فرس؛ فجُحِشَ شِقُّه الأيمن.

قال في "الفتح"

(5)

: وأفاد ابن حبان أنَّ هذه القصة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة.

وإذا صحَّ هذا فأبو هريرة لم يشهد القصة؛ لأنه إنما أسلم سنة سبع، وإنما سمعها من غيره من الصحابة المتقدمين؛ كما يقع مثل ذلك كثيرًا. ولم يصرِّح أبو هريرة بالسماع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

إذا تقرَّر هذا فلو صحَّت تلك الزيادة وصحَّت دلالتها على نهي المأموم عن القراءة مطلقًا، أو في الجهرية فقط، لأمكن أن يقال: هي منسوخة

(1)

البخاري (722، 734) ومسلم (414).

(2)

البخاري (688، 1113، 1236) ومسلم (412).

(3)

البخاري (689، 732 ومواضع أخرى) ومسلم (411).

(4)

مسلم (413).

(5)

(2/ 178). وانظر "صحيح ابن حبان"(5/ 492).

ص: 108

بأحاديث إيجاب الفاتحة [ص 62]؛ فإنَّ منها ما يُعلم أنه متأخر عن هذا التأريخ؛ كما تقدَّم في المسألة الأولى.

وأما حديث أبي موسى فهو متأخر عن هذا التاريخ حتمًا؛ لأنه إنما قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيام خيبر، وقد صرَّح في حديثه بقوله

(1)

: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبنا؛ فبيَّن لنا سنَّتنا، وعلَّمنا صلاتنا؛ فقال

" الحديث.

فإن صحَّت تلك الزيادة فيه فالإنصات عند أهل اللغة قد يطلق على ترك الجهر؛ كما تقدَّم عن الواحدي مع شواهده.

نعم، الظاهر أنَّه بهذا الإطلاق مجاز ولكن قد قدمنا بيان القرينة الدالة عليه في الآية، فلنا: أن نقول بأنه في الحديث ــ إن صحَّ ــ مجاز، جمعًا بينه وبين أدلَّة وجوب الفاتحة. ومثل هذا الجمع أولى من النسخ.

ولنا أن نسلِّم أنه على حقيقته؛ وهي السكوت لأجل الاستماع، ثم نقول: السكوت الذي تضمنه الإنصات عبارة عن ترك الكلام. فقوله: "أنصتوا" في قوة قولنا: "اتركوا الكلام لكي تسمعوا". والكلام في هذا عام، قراءة الفاتحة فردٌ من أفراده، وحديث مكحول عن محمود ونافع عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاص، وقد عضدَه عمومات كثيرة وما قدمناه عن الصحابة رضي الله عنهم؛ فوجب العمل به.

على أنه لو لم يصحَّ حديث مكحول لوجب أيضًا تخصيص الكلام الذي نُهِي عنه في قوله: {وَأَنْصِتُوا} بتلك العمومات الكثيرة؛ لأنَّ تخصيص عموم دليل أولى من تخصيص عموم دليلين، وتخصيص عموم

(1)

"صحيح مسلم"(404).

ص: 109

دليلين أولى من تخصيص عموم ثلاثة أدلة، وهكذا. ولأنَّ الأمر بالفاتحة مشدَّدٌ فيه بأنه لا صلاة إلَاّ بها، ونحو ذلك، والأمر بالإنصات غير مشدَّدٍ فيه للاتفاق أنه لو لم ينصت لم تبطل صلاته.

لا يقال: إنَّ لعموم الكلام المنهي عنه بالإنصات مرجحًا أيضًا؛ وهو أنه لم يخصَّص قبل هذا.

فإننا نقول: بل قد خُصِّص بحديث "الصحيحين"

(1)

: "من نابَه شيءٌ في صلاته فليسبِّح"، وأحاديث الفتح على الإمام.

مع أنَّنا نختار ما اختاره البخاري وجماعة من الشافعية أنَّ المأموم إذا لم يقرأ الفاتحة لا يدرك الركعة وإن أدرك الإمام راكعًا

(2)

. وعلى هذا فتكون أحاديث إيجاب الفاتحة غير مخصَّصة إلَاّ بما هو في قوة الاستثناء المتصل كما قدَّمنا ذلك، وذلك لا يضر.

وهذا الكلام بعينه يجيء في تخصيص آية الإنصات؛ على تسليم أنَّ الإنصات فيها على حقيقته، وأنها في أمر المأمومين بالإنصات للإمام، والله أعلم.

[ص 63] وأما حديث ابن شهاب عن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم انصرف من صلاةٍ جهر فيها بالقرآن؛ فقال: هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ فقال رجل: نعم، أنا يا رسول الله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إني

(1)

البخاري (684، 1234) ومسلم (421) من حديث سهل بن سعد الساعدي.

(2)

للمؤلف في هذا الموضوع رسالة ضمن هذه المجموعة.

ص: 110

أقول مالي أُنازَع القرآن"

(1)

.

وبُيِّن في روايةٍ

(2)

: أنَّ تلك الصلاة كانت الصبح.

وفي بعض الروايات

(3)

زيادة: "فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ".

وقد أخرج [ص 64] أبو داود

(4)

هذا الحديث عن القعنبي عن مالك عن ابن شهاب قال في آخره: "فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقراءة من الصلوات؛ حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ".

ثم أخرجه

(5)

عن مسدَّد، وأحمد بن محمد المروزي، ومحمد بن أحمد بن أبي خلف، وعبد الله بن محمد الزهري، وابن السرح عن سفيان عن الزهري؛ فذكره بدون هذه الزيادة. ثم قال: قال مسدَّد في حديثه: قال معمر: "فانتهى الناس

"، وقال ابن السرح في حديثه: قال معمر عن الزهري قال أبو هريرة: "فانتهى الناس". وقال عبد الله بن محمد الزهري من بينهم: قال سفيان: "وتكلَّم الزهري بكلمة لم أسمعها"؛ فقال معمر: "إنه قال: فانتهى الناس".

(1)

سبق تخريجه.

(2)

هي رواية أبي داود (827).

(3)

في "الموطأ"(1/ 86) وغيره.

(4)

رقم (826).

(5)

أي أبو داود (827).

ص: 111

قال أبو داود: ورواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري، وانتهى حديثه إلى قوله:"مالي أُنازع القرآن". ورواه الأوزاعي عن الزهري قال فيه: قال الزهري: "فاتعظ المسلمون بذلك؛ فلم يكونوا يقرؤون معه فيما يجهر به صلى الله عليه وآله وسلم ".

قال أبو داود: سمعت محمد بن يحيى بن فارس قال: قوله: "فانتهى الناس" من كلام الزهري.

وأخرجه البخاري في "جزء القراءة"

(1)

عن عبد الله بن محمد عن الليث عن يونس عن ابن شهاب، وفيه: "قال: فانتهى الناس

".

قال البخاري

(2)

: وقوله: "فانتهى الناس" من كلام الزهري، وقد بيَّنه لي الحسن بن صبَّاح قال: حدثنا مبشِّر عن الأوزاعي قال الزهري: فاتعظ المسلمون

وقال مالك: قال ربيعة للزهري: "إذا حدثتَ فبيِّنْ كلامك من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ".

ثم رواه

(3)

عن [أبي] الوليد عن الليث عن الزهري؛ فذكره بدون تلك الزيادة.

أقول: يبقى النظر في ما قاله ابن السرح، والظاهر أنه سمع سفيان يقول ما ذكره عبد الله بن محمد الزهري. ففهم من ذلك أنَّ تلك الزيادة من تمام الحديث، وخشي إن قال كما قال مسدَّد، أن يكون ظاهر ذلك أنَّ هذه الزيادة

(1)

(ص 227).

(2)

(ص 230).

(3)

(ص 231).

ص: 112

من قول معمر؛ فعبَّر عبارة صريحة بما فهمه، بناءً على جواز الرواية بالمعنى.

وفي صحَّة هذا الحديث كلام؛ قال البيهقي

(1)

: "راويه ابن أُكيمة الليثي، وهو رجلٌ مجهولٌ لم يحدِّث إلَاّ بهذا الحديث وحده، ولم يحدِّث عنه غير الزهري، ولم يكن عند الزهري من معرفته أكثر من أنْ رآه يحدِّث سعيد بن المسيِّب".

ثم أسند

(2)

عن الحميدي شيخ البخاري [ص 65] قال: "هذا حديث رواه رجل مجهول، ولم يرو عنه غيره قطُّ".

اعترضه صاحب "الجوهر"

(3)

؛ فقال: "أخرج حديثه ابن حبان في "صحيحه"

(4)

، وحسَّنه الترمذي

(5)

، وقال: اسمه عُمارة، ويقال: عمرو. وأخرجه أيضًا أبو داود

(6)

، ولم يتعرَّض له بشيءٍ، وذلك دليل على حسنه عنده؛ كما عُرِف.

وفي "الكمال" لعبد الغني: روى عن ابن أُكيمة مالك ومحمد بن عمرو، وقال ابن سعد

(7)

: توفي سنة إحدى ومئة، وهو ابن تسع وسبعين.

(1)

"السنن الكبرى"(2/ 159).

(2)

المصدر نفسه.

(3)

"الجوهر النقي"(2/ 158).

(4)

رقم (1849).

(5)

عقب الحديث رقم (312).

(6)

رقم (826).

(7)

"الطبقات"(5/ 249).

ص: 113

وقال ابن أبي حاتم

(1)

: سألت أبي عنه؛ فقال: صحيح الحديث، حديثه مقبول.

وقال ابن حبان في "صحيحه"

(2)

اسمه عَمْرو، هو وأخوه عُمر ثقتان.

وقال ابن معين

(3)

: روى عنه محمد بن عمرو وغيره، وحسبك برواية ابنِ شهاب عنه.

وفي "التمهيد"

(4)

: كان يحدِّث في مجلس سعيد بن المسيِّب؛ وهو يصغي إلى حديثه، وبحديثه قال ابن شهاب

(5)

، وذلك دليل على جلالته عندهم وثقته"

(6)

.

قلت: وتتمة عبارة ابن سعد

(7)

: روى عنه الزهري حديثًا واحدًا؛ ومنهم من لا يحتج بحديثه، ويقول: هو [شيخ] مجهول.

وفي "التهذيب"

(8)

: وقال أبو بكر البزَّار: ابن أكيمة ليس مشهورًا بالنقل، ولم يحدِّث عنه إلَاّ الزهري.

(1)

"الجرح والتعديل"(6/ 362).

(2)

(5/ 159).

(3)

انظر "التمهيد"(11/ 22، 90).

(4)

(11/ 22، 23).

(5)

في الأصل تبعًا للجوهر النقي: "وتحديثه قال هو ابن شهاب" والتصويب من "التمهيد".

(6)

إلى هنا انتهى النقل من "الجوهر النقي".

(7)

في "الطبقات"(5/ 249).

(8)

"تهذيب التهذيب"(7/ 411).

ص: 114

وقد حقَّق في "تهذيب التهذيب"

(1)

أنَّ الذي روى عنه الزهري اسمه عمارة بن أكيمة، ولم يرو عنه غير الزهري، وأما الذي روى عنه مالك ومحمد بن عمرو؛ فذاك حفيده عَمْرو بن مسلم بن عمارة.

أقول: والحق أنه وإن لم يرو عنه إلَاّ ابن شهاب؛ فإنَّ ذلك مع شهرة الرجل كافٍ في معرفته، رافع لجهالة عينه، وتبقى جهالة حاله.

وقد قال ابن معين: كفاك بقول الزهري: سمعت ابنَ أُكيمة يحدِّث سعيدَ بن المسيِّب.

وقال الدوري عن يحيى: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث مقبول؛ كذا في "تهذيب التهذيب"

(2)

.

وقال صاحب "الجوهر"

(3)

: "صحيح" بدل: "صالح".

وذكره ابن حبان في "الثقات"

(4)

، وأخرج له في "صحيحه"

(5)

، وإن خبط في اسمه ونسبه، وزعم أنَّ حفيده أخوه. وحسَّن الترمذيُّ حديثَه.

ومنشأ ما قاله هؤلاء أمران:

الأول: أنَّ الزهري سمعه يحدِّث سعيد بن المسيِّب؛ فاستدلَّ ابن معين

(1)

في الموضع السابق.

(2)

(7/ 410، 411).

(3)

(2/ 158). وفي "الجرح والتعديل"(6/ 362) كما في "الجوهر النقي".

(4)

(5/ 242).

(5)

(5/ 159). قال: "اسم ابن أُكيمة: عمرو بن مسلم بن عمّار بن أُكيمة، وهما أخوان: عمرو بن مسلم وعمر بن مسلم". وهذا خطأ لم يوافقه عليه أحد.

ص: 115

بهذا على أنه كان مقبولًا عند ابن المسيِّب.

فأما رواية الدوري فيردُّ عليها أنَّ ابن معين كان يظنُّ أنَّ هذا الرجل ــ أعني ابن أُكيمة ــ هو وحفيده واحد؛ ولذلك قال: "روى عنه محمد بن عمرو وغيره". ويحتمل أنه إنما عرف الثقة في الذي روى عنه محمد بن عمرو، وظنَّه شيخ الزهري. وهذا الاحتمال مانع من العمل بتوثيقه.

الثاني: أنهم لم يستنكروا حديثه، وهذا الأمر هو حاصل عبارة أبي حاتم، وعمدة ابن حبَّان؛ فإنه يوثِّق المجهول الذي يروي عن ثقة، ويروي عنه ثقة؛ إذا كان حديثه غير منكر، ويُخرِّج له في "صحيحه". وأما الترمذي فإنه متساهلٌ في التحسين؛ حتى قال الذهبي في تصحيحه وتحسينه ما قال.

[ص 66] فأما الأمر الأول فالمنصف يعلم أنَّ مثله لا يكفي في التوثيق؛ فقد يكون ابن المسيِّب يجهل حال هذا الرجل، ورأى أنَّ حديثه يمكن أن يكون صحيحًا بالتأويل الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، ومنعه تواضعه وكرم أخلاقه أن يستقبل ابن أكيمة بما يكره مع احتمال صحَّة حديثه.

وقد وقع لغير ابن أكيمة كما وقع له فلم يُعدَّ ذلك توثيقًا؛ فقد روى الزهري عن أبي الأحوص مولى بني ليث عن أبي أيوب وأبي ذر وغيرهما. وقال الزهري في بعض الروايات الصحيحة عنه: سمعت أبا الأحوص مولى بني ليث في مجلس ابن المسيِّب، ومع ذلك قال الدوري عن ابن معين: ليس بشيء.

فقال ابن عبد البر

(1)

: قد تناقض ابن معين، وذكر قوله في ابن أكيمة؛

(1)

كما في "تهذيب التهذيب"(12/ 5).

ص: 116

قال: فيلزمه مثل هذا في أبي الأحوص.

أقول: ليس هذا اللزوم بأولى من عكسه؛ بل العكس أولى، وهو أنه يلزمه أن يقول في ابن أكيمة مثل قوله في أبي الأحوص، والله أعلم.

وأما الأمر الثاني فالاستناد إليه في التوثيق ضعيف جدًا؛ فإنَّ الضعيف والكذَّاب قد يروي حديثًا ليس بمنكر. فإذا لم يروِ الرجل إلَاّ حديثًا واحدًا، وكان غير منكر؛ فأنَّى يُعلَمُ بذلك أنه ثقة؟

على أنَّ الأفهام تختلف في الحكم بالنُّكْرة، وقد لا يستنكر العالم الحديث؛ لأنه ينزِّله على معنى معروف، فيصحِّحه بناءً على ذلك؛ فيجيء من يتمسَّك بالحديث وينزِّله على معنى آخر.

[ص 67] وإن حكمنا بتوثيق ابن أكيمة فقد علمتَ أنَّ زيادة "فانتهى الناس" إلخ مدرج من قول الزهري؛ فلا يبقى إلَاّ سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه: "هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ "، وقول أحدهم: نعم، أنا يا رسول الله، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:"وأنا أقول مالي أنازع القرآن".

فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "هل قرأ

" إلخ، صريح في أنهم لم يكونوا قبل ذلك مأمورين بالقراءة التي سألهم عنها؛ إذ لو كانوا مأمورين لما كان للسؤال وجهٌ؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أنهم لا يذرون ما هو واجبٌ عليهم.

ويؤيِّد هذا قوله: "أحدٌ"، فإنه ظاهرٌ أنهم لم يكونوا مأمورين؛ بل ظاهر أنهم كانوا منهيين عن القراءة التي سألهم عنها. ولهذا علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم لا يقرؤون تلك القراءة، وإنما ظنَّ أنَّ بعضهم لم يبلغه النهي أو نسي.

ويؤكِّد ذلك أنه لم يجبه إلَاّ رجلٌ واحدٌ، قال: نعم، أنا يا رسول الله.

ص: 117

ويزيده وضوحًا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "وأنا أقول مالي أنازع القرآن"؛ فإنَّ هذا تعجُّبٌ؛ كما قاله أهل المعاني وغيرهم في قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20].

ولا يخفى أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم أنَّ القراءة معه تقتضي المنازعة، فلو كان يعلم أنهم مأمورون بالقراءة لعلم أنهم قرأوا، وأن المنازعة حصلت بسبب قراءتهم؛ فكيف يتعجَّب.

فقد بان أنَّ القراءة التي حصلت بها المنازعة وسألهم عنها قراءة لم يكونوا مأمورين بها قبل ذلك.

وقد زعم الشارح أنَّ الاستفهام الأول للإنكار، وقد يقول هو أو غيره في الثاني ــ أعني قوله:{مَا لِيَ} ــ إنه للإنكار أيضًا.

وهذا مدفوع؛ أما في الأول فلأنه إخراج للاستفهام عن حقيقته بدون حجة، ولأنه لو كان إنكاريًّا لما أجابه أحدهم بقوله: نعم، أنا يا رسول الله؛ لأنَّ الاستفهام الإنكاري لا يستدعي الجواب.

وأما الثاني فلأنَّ قوله: "وأنا أقول" يدفع احتمال الإنكار؛ لأنَّ ظاهره: وأنا أقول حال المنازعة في نفسي، وذلك ظاهرٌ في التعجُّب.

وهبْ أنَّ الاستفهامين للإنكار فلا بد من القول بأنهم لم يكونوا مأمورين بتلك القراءة؛ لأنَّ الاستفهام الإنكاري على ضربين.

الأول: الإبطالي، وهو يقتضي أنَّ ما بعد أداة الاستفهام غير واقع، وأنَّ مدَّعيه كاذبٌ.

ص: 118

والضرب الثاني: التوبيخي؛ وهو يقتضي أنَّ ما بعد أداة الاستفهام واقعٌ، وأنَّ فاعله ملومٌ [ص 68]، قاله ابن هشام في "المغني"

(1)

وغيره. وهو معلومٌ من تتبُّع موارد الاستفهام الإنكاري في الكتاب والسنة وكلام العرب.

والضرب الأول لا معنى لادعائه هنا؛ فلم يبقَ إلَاّ الضرب الثاني، ولا ريب أنهم لو كانوا مأمورين بتلك القراءة التي أوجبت المنازعة لما استحقُّوا أن يوبّخوا عليها. بل إذا طرأ النسخ حينئذٍ يقول لهم صلى الله عليه وآله وسلم:"كنت أمرتكم فلا تفعلوا" أو نحو ذلك؛ كقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"

(2)

.

فتبيَّن أنه على تقدير الاستفهام إنكاريًّا يلزم من ذلك أنهم لم يكونوا مأمورين بتلك القراءة.

إذا تقرَّر هذا فهناك احتمالان:

أحدهما: أن يكون المراد بالقراءة في قوله: "هل قرأ" ما يصدق بالفاتحة، ويكونوا لم يؤمروا بقراءة الفاتحة معه إذا جهر أصلًا، أو يكونوا قد أُمِروا أولًا، ثم نُهوا عنها قبل هذه الواقعة.

الثاني: أن يكون المراد بالقراءة غير الفاتحة.

قد يرجَّح الاحتمال الأول بأنَّ ظاهر السؤال الإطلاق، ويرد بأنَّ الصرف عن مثل هذا الظاهر متعيِّنٌ إذا كانت هناك قرينةٌ.

فإن قيل: وما القرينة؟

(1)

(1/ 11، 12).

(2)

أخرجه مسلم (1977) من حديث بريدة.

ص: 119

قلت: ما قدَّمناه من الأدلة على وجوب الفاتحة على المأموم وإن جهر إمامُه. فإذا كان الصحابة عالمين بأنَّ الفاتحة واجبة عليهم، وأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أنهم لا يَدَعونها، ثم سمعوه يسألهم ذلك السؤال ويتعجَّب ذلك التعجُّب؛ فإنهم يفهمون أنه لا يريد الفاتحة، وإنما يريد قراءة لم يكونوا مأمورين بها.

فإن قيل: قد يجوز أن يكون قد سبق قبل هذه الواقعة نصٌّ يخصِّص الأدلة العامة وينسخ الخاصة.

قلت: مجرَّد احتمال؛ مع أنَّ من النصوص الخاصة قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} كما تقدَّم، والقرآن لا يُنسخ بخبر الواحد الصريح؛ فضلًا عن مجرَّد الاحتمال. لعلك لا تسلم دلالة الآية فلا حرج، ولكن عموم الأدلة العامة لا تستطيع إنكاره، وتخصيص تلك الأدلة المتضافرة بمجرَّد هذا الاحتمال لا يسوغ.

فإن قلت: لكن هذا الاحتمال يؤيده إطلاق اللفظ.

قلت: إنما يلزمنا التشدُّد في المحافظة على ظاهر اللفظ إذا كان من القواعد التشريعية العامة؛ كقوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وقوله:"كل صلاة لا يُقرأ فيها بأمِّ القرآن فهي خداج"، ونحو ذلك. فأما ما كان محاورة مع المخاطبين مثل هذا السؤال فلا.

وكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم كله حقٌ؛ ولكن النصوص التشريعية العامة يُحتاط لها ما لا يُحتاط للمحاورات الخاصة. [ص 69] فإنه صلى الله عليه وآله وسلم يعتمد في هذه على القرائن التي يعلمها المخاطب، وإن لم يكن في ظاهر اللفظ دلالةٌ عليها.

ص: 120

فإن قيل: الظنُّ بالراوي أنه لو كانت هناك قرينة لبيَّنها.

قلت: والظنُّ به أنه لو لم تكن قرينة لما خالف ظاهر اللفظ. وقد ثبت في "صحيح مسلم"

(1)

وغيره عن أبي هريرة أنه كان يفتي بوجوب القراءة على المأموم وإن جهر الإمام، ومع ذلك فلعلَّه اتكل على الأدلة المتضافرة في وجوب الفاتحة فرأى أنها تغني عن القرينة.

فإن قيل: الأصل عدم القرينة.

قلت: والأصل عدم التخصيص والنسخ.

هذا، وقد عُلم من القصة أنه لم يقرأ تلك القراءة في تلك الواقعة إلَاّ رجلٌ واحد؛ فما ظنك بالصحابة رضي الله عنهم بعد هذه الواقعة؛ أظنك تجزم بأنه لا يعود لتلك القراءة أحدٌ منهم، فاسمع الآن:

ثبت عن جماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يقرؤون ويفتون بالقراءة بعد الإمام في الجهرية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

(2)

. منهم: أبو هريرة راوي القصة، وأمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وراوي حديث:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" عبادة بن الصامت؛ شهد العقبتين وبدرًا والمشاهد، وهو أحد النقباء.

وعن جماعة من الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ القراءة خلف الإمام مطلقًا. منهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأمّ المؤمنين عائشة، وسيِّد

(1)

رقم (395) و (396).

(2)

سيأتي ذكر مصادر هذه الآثار مجتمعةً بعد صفحتين.

ص: 121

المسلمين أُبي بن كعب، وصاحب السرِّ حذيفة بن اليمان، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وهشام بن عامر.

وعن جماعةٍ منهم القراءة خلف الإمام في الظهر والعصر، ولم ينفوا ما سوى ذلك. منهم: عبد الله بن مغفَّل، وعبد لله بن الزبير، وعبد الله بن عَمْرو بن العاص.

واختلفت الرواية عن الحبر عبد الله بن مسعود، والبحر عبد الله بن عباس، والقانت عبد الله بن عمر بن الخطاب، وجابر بن عبد الله، وأبي الدرداء.

وجاء عن زيد بن ثابت وحده أنه قال: "لا قراءة مع الإمام في شيءٍ"، ولم يُنقل عنه خلاف ذلك، وقد يحتمل أنه أراد قراءة ما عدا الفاتحة.

وقال القاسم بن محمد: كان ابن عمر لا يقرأ خلف الإمام؛ جهر أو لم يجهر. وكان رجال أئمة يقرؤون وراء الإمام.

قلت: وقد روي عن ابن عمر القراءة؛ فهي ممن اختلفت عنه الرواية، وقد يحتمل أنه أراد: لا يقرأ زيادة على الفاتحة. وكذا يحتمل ما نقل عن ابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء.

فأما ما صحَّ عن جابر من قوله: "من صلَّى ركعةً لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصلِّ، إلَاّ وراء الإمام"؛ فقد يجوز أن يكون أراد بالاستثناء المسبوق فقط. وهذا الحمل خلاف الظاهر؛ ولكن يجوز ارتكابه جمعًا بين ما ثبت عنهم وعن غيرهم، وتوفيقًا بين قولهم وبين ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 122

وقال البخاري

(1)

: "وقال ابن خُثيم: قلت لسعيد بن جبير: أَقْرأُ خلف الإمام؟ [ص 70]، قال: نعم، وإن كنت تسمع قراءته؛ فإنهم قد أحدثوا ما لم يكونوا يصنعونه، إنَّ السلف كان إذا أمَّ أحدهم الناس كبَّر ثم أنصت حتى يظنَّ أنَّ من خلفه قرأ بفاتحة الكتاب، ثم قرأ وأنصتوا".

انظر أسانيد هذه الآثار في "جزء القراءة" للبخاري

(2)

و"سنن الدارقطني"

(3)

و"السنن الكبرى" للبيهقي

(4)

.

فقل لي الآن: أتراهم كانوا قد نُهوا عن قراءة الفاتحة خلف الإمام إذا جهر قبل واقعة حديث ابن أُكَيمة؛ فامتثلوا حتى لم يقرأ في تلك الصلاة إلَاّ رجل واحدٌ، ثم أكَّد النهي في ذلك الحديث، ثم خالفوه كما رأيت؟

فإن جوَّزتَ ذلك عليهم فبأيٍّ عقلٍ تمنع أن يسكت أحدهم عن بيان القرينة الصارفة، اتكالًا على ما تكاثر وتضافر من الأدلة على ما يخالف ذلك الظاهر الضعيف، وعلى ما عُرِفَ من مذهبه ومذهب غيره؟

ولعلَّه ذكر القرينة ولكن أهملها ابن أُكيمة ذلك الرجل الذي لم يحدِّث إلَاّ بهذا الحديث الواحد، ولم يُعرف من عدالته أكثر من كونه حدَّث في مجلس سعيد بن المسيِّب، وهذا إن دلَّ على عدالته بعد اللتيا والتي لا يدلُّ على ضبطه.

(1)

في "جزء القراءة"(ص 428).

(2)

(ص 115 وما بعدها، وص 147 وما بعدها).

(3)

(1/ 317 وما بعدها). وانظر "مسائل الكوسج"(9/ 4637) و"مسائل حرب"(ص 131).

(4)

(2/ 167 وما بعدها). وانظر أيضًا "المصنّف" لابن أبي شيبة (1/ 373 وما بعدها)"والقراءة خلف الإمام" للبيهقي (ص 90 وما بعدها).

ص: 123

أبمثل هذا تُنْطَح جبال الأدلة، وتُرْجَم أركانُ الملَّة؟ هيهات، هيهات!

ونقل الحازمي في "الاعتبار"

(1)

عن الحميدي كلامًا ذكر فيه أنَّ حديث ابن أكيمة عن أبي هريرة ــ يعني على فرض صحَّته ــ منسوخ بحديث عبادة؛ لأنَّ فتوى أبي هريرة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوجوب القراءة خلف الإمام ولو جهر دليلٌ على تقدُّم حديثه على حديث عبادة.

أقول: ويؤيده عمل عبادة، وفتواه طبق حديثه، وكذا جمهور الصحابة رضي الله عنهم كما تقدَّم.

وقد زعم الشارح أنه يبعد أن يكون حديث عبادة متأخرًا؛ لأنَّ فيه أنهم كانوا يقرؤون الفاتحة وغيرها هذًّا؛ فكيف يُظنُّ بهم أن يفعلوا ذلك بعد حديث ابن أكيمة.

والجواب: بأنَّهم قد بَقُوا يقرؤون الفاتحة ويأمرون بها ولو في الجهرية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم أبو هريرة نفسه. فإذا وقع ذلك منهم بالفعل، وأنت تجوِّز أن يكون حديث ابن أكيمة متأخرًا مطلقًا لم يُنسخ؛ فكيف تستبعد أن يقع من بعضهم مثل ذلك؟

ومع هذا فالأولى ما قدَّمناه، ويظهر منه أنَّ حديث عبادة متقدِّم؛ فلما سمعوه انتهوا عن قراءة غير الفاتحة وحافظوا على الفاتحة؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عبادة:"لا تفعلوا ــ أي لا تقرؤوا فيما جهرت به ــ إلَاّ بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، ثم في واقعة حديث ابن أكيمة قرأوا كلهم الفاتحة، وزاد أحدهم فقرأ غيرها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم السورةَ التي قرأها بعدها؛

(1)

(ص 73 - 75).

ص: 124

[ص 71] كأنَّ هذا الرجل لم يبلغه حديث عبادة أو غفل عنه؛ فأحسَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه ينازع في السورة؛ فدلَّه ذلك على أنَّ رجلًا ممن بعده يقرأ معه السورة. كما وقع نظير ذلك في حديث عمران بن حصين في "صحيح مسلم"

(1)

: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الظهر أو العصر؛ فقال: "أيكم قرأ خلفي بسبِّح اسم ربِّك الأعلى؟ "؛ فقال رجلٌ: أنا، ولم أُرِدْ بها إلَاّ الخير، قال:"قد علمتُ أنَّ بعضكم خالجنيها". ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم في واقعة حديث ابن أكيمة استبعد أن يقرأ معه أحدٌ السورة وهو يجهر بها بعد أن نهاهم عن ذلك في واقعة حديث عبادة؛ فلهذا تعجَّب من المنازعة.

وإنما نصَّ في حديث عمران على عين السورة؛ لأنَّ الصلاة كانت سريَّة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ بسبِّح اسم ربِّك الأعلى سرًّا، ولم يسمعوه، فلو اكتفى بقوله:"أيكم قرأ معي؟ " لم يعلموا المقصود؛ لأنَّ كلًا منهم قرأ بالفاتحة وغيرها؛ فاحتاج أن ينصَّ لهم على نفس السورة التي قرأها، واستدلَّ بالمخالجة على أنَّ بعضهم قرأها معه.

وأما في واقعة ابن أكيمة فكانت الصلاة جهرية؛ قد علموا السورة التي قرأ بها نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الفاتحة، فاكتفى بقوله:"هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا"؟ فعلموا أنه لا يسألهم عن الفاتحة لما تقدَّم، وأنه إنما يسألهم عن قراءة السورة التي قرأ بها؛ فأجابه الذي قرأ: نعم، أنا يا رسول الله.

وإنما قلت: إن ذلك القارئ قرأ السورة التي قرأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عينها؛ لأمرين:

(1)

رقم (398).

ص: 125

الأول: حديث عمران؛ فإنه يدلُّ أنَّ المنازعة لم تكن تحصل إلَاّ إذا قرأ المأموم السورة التي قرأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الفاتحة. إذ لو كانت تحصل بمطلق القراءة بعد الفاتحة، لما استدلَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمخالجة إلَاّ على أنَّ بعض من خلفه قرأ سورة ما بعد الفاتحة؛ فلمَّا نصَّ على السورة علمنا أنَّ المنازعة إنما كانت تحصل إذا قرأ المأموم السورة التي قرأ بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:"خالجنيها" ظاهرٌ في ذلك.

الثاني: قوله في حديث ابن أُكيمة: "قرأ معي"، فإنك إذا قلتَ: قرأت سورة كذا، وقرأ معي فلانٌ كان الظاهر أنه قرأ معك تلك السورة التي قرأتَها.

وبما قدَّمناه تتفق الأدلة، ونَسْلَم من سوء الظن بالصحابة، ومن دعوى النسخ [ص 72] ونحوه؛ فإنَّ أحاديث الزيادة على الفاتحة لم تصحَّ كما تقدَّم، وإنما عُلمت الزيادة من فعله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ كان يقرأ الفاتحة، ويزيد عليها إمامًا أو منفردًا. فكأنَّ أصحابه رضي الله عنهم قاسوا المأموم على الإمام والمنفرد؛ فكانوا يقرؤون زيادة على الفاتحة خلفه صلى الله عليه وآله وسلم، فأقرَّهم على ذلك في السريِّة؛ كما في حديث عمران.

فقد روى البخاري في "جزء القراءة"

(1)

حديث عمران، من طريق شعبة عن قتادة، وزاد:"قال شعبة: فقلت لقتادة: كأنه كرهه، فقال: لو كرهه لنهانا عنه".

وسيأتي ما يؤيده إن شاء الله تعالى.

وبيَّن لهم بطلان ذلك القياس فيما جهر به، وذلك في حديث عبادة.

(1)

(ص 214).

ص: 126

ووجه ذلك ــ والله أعلم ــ أنه قياسٌ مع الفارق؛ فإنَّ قراءة المأموم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يجهر به تُخِلُّ باستماع قراءته صلى الله عليه وآله وسلم، وتوجب منازعته في قراءته؛ بخلاف قراءة الإمام والمنفرد؛ فافترقا. فأما في السريّة فإنه لا إخلال بالاستماع، ولا تحصل المنازعة إلَاّ نادرًا بدون تعمُّدٍ من المأموم لقراءة السورة التي يقرأ بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه لا يسمع قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يمكن منه تعمُّد قراءة تلك السورة، فإن اتفق ذلك فبلا عمدٍ.

ولهذا ــ والله أعلم ــ عبَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمخالجة، وفي حديث عبادة بالمنازعة، والمخالجة أخفُّ من المنازعة.

وإنما أخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عمران ليعلموا تلك المعجزة.

فعُلِمَ أنَّ قراءة الصحابة رضي الله عنهم زيادةً على الفاتحة في الجهرية خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في واقعة حديث عبادة إنما كان اجتهادًا منهم أخطأوا فيه. فنهيه صلى الله عليه وآله وسلم ليس بنسخ ولا تخصيص، وإنما هو بيان لخطأ القياس، وليس فيما ذكر سوء ظنٍّ بالصحابة؛ لأنهم كانوا يفعلون ذلك اجتهادًا، والمجتهد إذا أخطأ كان معذورًا مأجورًا.

ثم لما نهاهم انتهوا عن قراءة غير الفاتحة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما جهر به؛ حتى كانت واقعة ابن أكيمة؛ ففعل ذلك رجل منهم كأنه لم يبلغه حديث عبادة؛ فاجتهد كما اجتهدوا أولًا؛ فبيَّن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحكم.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عبادة: "إني أراكم تقرؤون" إن كانت الرواية بفتح همزة "أراكم" فمعناه: أعلمكم. أو بضمها؛ فمعناه: أظنكم. وكلاهما محتملٌ من حيث المعنى.

ص: 127

أما كونه صلى الله عليه وآله وسلم علم أنهم يقرؤون؛ فلأنه يعلم أنهم يعلمون أنَّ الفاتحة فرضٌ عليهم [ص 73]، وأنهم لا يذرونها. ودلَّته المنازعة على أنهم قرأوا معه غيرها، ولم يستبعد ذلك؛ لأنهم لم يكونوا قد نهوا عن ذلك.

وعلم أنهم قاسوا المأموم في الجهرية على الإمام والمنفرد والمأموم في السرية.

وما جاء في بعض الروايات من زيادة: "وأنا أقول مالي أنازع القرآن" في حديث عبادة محمول ــ إن صحَّ ــ على أنه صلى الله عليه وآله وسلم استبعد أولًا أن يقرأوا معه غير الفاتحة، ولم يأمرهم بذلك، ثم تبيَّن له أنهم قاسوا كما ذكرنا.

وأما كونه ظنَّ أنهم قرأوا معه ظنًّا فقط، فكأنَّ ثِقلَ القراءة لم يكن دليلًا كافيًا للعلم بقراءتهم معه غير الفاتحة؛ كأنه كان قد يحصل بسبب ذلك، وقد يحصل لسبب آخر.

وعلى هذا فلا تكون الفاتحة داخلة في قوله: "إني أراكم تقرأون"، وإنما قال صلى الله عليه وآله وسلم:"فلا تفعلوا إلَاّ بأمَّ القرآن؛ فإنه لا صلاة إلَاّ بها" فاستثناها احتياطًا لئلا يتوهموا دخولها في النهي، وقال:"فإنه لا صلاة إلا بها" تنبيهًا على الفرق بينها وبين غيرها.

فأما حديث ابن أكيمة فليس فيه نهيٌ صريح يُتوهَّم دخول الفاتحة فيه حتى يُحتاج إلى الاستثناء.

وقد علموا بحديث عبادة أنه لا يصحُّ قياسها على غيرها، وظهر من سكوتهم عن الجواب ــ إلَاّ ذلك الرجل الواحد ــ أنهم فهموا أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما سألهم عن قراءة غير الفاتحة معه؛ فعلم صلى الله عليه وآله وسلم أنهم إذا فهموا نهيًا يعلمون

ص: 128

أنه متوجِّهٌ إلى ذلك فقط، والله أعلم.

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ حديث عبادة وحديث ابن أكيمة عن أبي هريرة كلاهما حكاية عن قصة واحدة؛ لأنَّ في كل منهما أنَّ الصلاة كانت صلاة الصبح، وأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سألهم عن القراءة معه، وأنَّ بعضهم أجاب بنعم، وأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"وأنا أقول مالي أنازع القرآن".

وزاد عبادة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "فلا تفعلوا إلَاّ بأمِّ القرآن؛ فإنه لا صلاة إلَاّ بها". وكأنَّ أبا هريرة كان بعيدًا فلم يسمع هذه الكلمة إلَاّ أنه قد علم بها؛ فساق الحديث سياقًا يفهم منه النهي عن غيرها دونها، بمعونة الأدلة الأخرى، وبما عُرِفَ من مذهبه.

وهذا محتمل، ولكن يبعده اختلاف السؤال والجواب. فالذي يظهر أنهما واقعتان، وقد علمت أنَّ حديث ابن أكيمة موافقٌ لحديث عبادة وغيره من الأدلة الثابتة بلا نسخ ولا تخصيص ولا خروج عن الظاهر بغير حجة، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.

[ص 74] وأما حديث أبي إسحاق السبيعي

(1)

عن الأرقم بن شرحبيل عن ابن عباس في صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرض موته= فالسبيعي على جلالته مشهورٌ بالتدليس؛ وصفه بذلك شعبة وابن المديني وأبوجعفر الطبري وحسين الكرابيسي وابن حبان وغيرهم. قال ابن المديني في "العلل"

(2)

: قال شعبة: سمعت أبا إسحاق يحدِّث عن الحارث بن الأزمع بحديث؛

(1)

سبق تخريجه (ص 77)، ومن هنا يبدأ الكلام عليه عند المؤلف.

(2)

انظر "تهذيب التهذيب"(8/ 66).

ص: 129

فقلت له: سمعت منه؟ فقال: حدثني به مجالد عن الشعبي عنه.

ومما يبيِّن ضعف هذا الحديث ما في الصحيحين

(1)

وغيرهما عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: دخلت على عائشة، فقلت: ألا تحدِّثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قالت: بلى، ثَقُلَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فذكرت الحديثَ إلى أن قالت: ثم إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجد من نفسه خفَّةً، فخرج بين رجلين أحدهما العبَّاس لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلِّي بالناس. فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يتأخر. قال: أَجْلِساني إلى جنبه؛ فأجلَساه إلى جنب أبي بكر، الحديث.

قال عبيد الله: فدخلتُ على عبد الله بن عباس، فقلت له: ألا أَعرِض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: هات؛ فعرضتُ عليه حديثها؛ فما أنكر منه شيئًا؛ غير أنه قال: أسمَّتْ لك الرجل الذي كان مع العبَّاس؟ قلت: لا، قال: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وصلاة الظهر سريَّةٌ فأنى يعلم كيف قرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟

وفي "مسند أحمد"(ج 1 ص 234)

(2)

: ثنا وكيع ثنا سفيان عن سلمة عن الحسن ــ يعني العُرَني ــ قال: قال ابن عباس: "ما ندري أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الظهر والعصر؛ ولكنا نقرأ".

وأخرج نحوه من طرق أخرى

(3)

.

(1)

البخاري (687) ومسلم (418).

(2)

رقم (2085).

(3)

برقم (2246، 2332).

ص: 130

وقد يحتمل أن تكون الواقعة المذكورة في حديث أبي إسحاق السبيعي غير الواقعة الثابتة في "الصحيحين"؛ ولكن حديثه لم يصحَّ حتى تتكلَّف له الاحتمالات.

ومع هذا فليس في الحديث نفي الفاتحة، فقد يجوز أن تكون الصلاة جهرية، ويكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل في الصلاة قرأ الفاتحة في نفسه ولم يجهر بها؛ لأنَّ الإمام قبله قد جهر بها، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قراءة السورة من حيث وقف أبو بكر.

ولم يذكر ابن عباس قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفاتحة؛ [ص 75] لأنه لم يسمعه يقرأها. ولا يستبعد هذا؛ فقد صحَّ عن ابن عباس أنه سئل: هل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: لا، فقيل: فلعلَّه كان يقرأ في نفسه؟ فقال: خمشا؛ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان عبدًا مأمورًا، بلَّغ ما أُمِر به، الحديث. "مسند أحمد"(ج 1 ص 249)

(1)

.

بقي ما نُقِلَ عن الإمام أحمد رحمه الله؛ فأما قوله: "ما سمعنا أحدًا من أهل الإسلام يقول: إنَّ الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ صلاة من خلفه"؛ يعني: إذا لم يقرأ. ثم قال: "هذا النبي وأصحابه والتابعون".

فيقال له: يغفر الله لك أبا عبد الله؛ أما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد تقدَّمت نصوصه العامة والخاصة القاضية بأنَّ هذا الرجل لا صلاة له، ولا تجزئه صلاته، وأن صلاته كالخِدْج الذي تُلقِيه الناقة ميتًا مستقذرًا لا حياة له، ولا ينتفع به في شيء، إلى غير ذلك.

(1)

رقم (2238).

ص: 131

وأما أصحابه والتابعون فقد رووا أحاديثه وأفتوا بها، ولا داعي لاتهامهم بأنهم حملوها على غير ما تقتضيه. فإن صحَّ عن بعضهم ما يخالفها فقد صحَّ عن جمهورهم ما يوافقها.

وإذا كانت الأدلة تقتضي بطلان صلاة من لم يقرأ الفاتحة وإن جهر إمامه، وقد رواها الصحابة رضي الله عنهم، واحتجُّوا بها على وجوب الفاتحة في هذه الصورة وغيرها، وأمروا بقراءة الفاتحة في هذه الصورة وغيرها= فقد ظهر من ذلك أنهم كانوا يرون بطلان من لم يقرأ بها، وإن جهر إمامه، وهذا كافٍ في إثبات ذلك؛ فمن ادعى خلافه فعليه البيان.

وفي حديث عبادة

(1)

أنه قرأ الفاتحة خلف الإمام في الجهرية، ثم احتجَّ بأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقراءتها خلف الإمام في الجهرية، وقال: لا صلاة إلَاّ بها.

وحكى البخاري في "جزء القراءة"

(2)

عن علي ابن المديني أنه لم يُجِز إدراك الركعة بإدراك الركوع مع الإمام من الصحابة إلا من كان لا يرى القراءة خلف الإمام.

فيؤخذ من هذا أنَّ الذين كانوا يرون قراءة الفاتحة خلف الإمام كانوا يرون أنها لا تجزئ الصلاة بدونها، وقد تقدَّم ذكر بعضهم.

وقال البخاري في "جزء القراءة"

(3)

: "وقال الحسن وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وما لا أُحصي من التابعين وأهل العلم: إنه يقرأ خلف

(1)

سبق تخريجه.

(2)

(ص 269، 270).

(3)

(ص 117، 119).

ص: 132

الإمام وإن جهر. وكانت عائشة رضي الله عنها تأمر بالقراءة خلف الإمام

وقال مجاهد: إذا لم يقرأ خلف الإمام أعاد الصلاة. وكذلك قال عبد الله بن الزبير".

وذكر ممن كان يرى القراءة خلف الإمام وإن جهر من التابعين: القاسم بن محمد وأبا سلمة بن عبد الرحمن وحميد بن هلال وعطاء بن أبي رباح.

وقد مرَّ قول البخاري: "ومن لا أحصي من التابعين وأهل العلم". وظاهر أنَّ من قال: يقرأ، يعترف بأنه داخل في النصوص العامة؛ وهي مقتضية للفرضية الموجبة أنَّ الصلاة لا تصحُّ إلَاّ بها.

وإن صحَّ عن بعضهم الأمر بالقراءة مع التصريح بأنه لو لم يقرأ أجزأته صلاته= لم يكن ذلك مسوِّغًا للجزم بأنَّ القائلين بالقراءة كلهم يقولون بذلك؛ [ص 76] لأنَّ ذلك خلاف الظاهر.

فأما مالك والأوزاعي وسفيان والليث فقد كان مع كل واحد منهم عدة من المجتهدين في بلده؛ فضلًا عن غيرها من أقطار المسلمين المتباعدة. فهل نقل عن كل عالم كان في ذلك العصر مثل ما نقل عن هؤلاء مما يخالف الأدلة العامة والخاصة التي تقدَّمت؟

وقد زاد ابن قدامة فادَّعى أنَّ ذلك إجماع.

وقد قال الإمام أحمد نفسه: "ما يدَّعي فيه الرجلُ الإجماعَ فهو كذب، من ادَّعى الإجماع فهو كاذبٌ؛ لعلَّ الناس اختلفوا، ما يُدريه، ولم ينتهِ إليه؟ فلْيقل: لا نعلم الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصمّ، ولكنه

ص: 133

يقول: لا نعلم الناسَ اختلفوا، ولم يبلغني ذلك". "إعلام الموقعين" (ج 1 ص 33)

(1)

.

وللشافعي رحمه الله تعالى كلام في معنى هذا، وفي إبطال ما يسمَّى الإجماع السكوتي، انظر "الأم"(ج 1 ص 134 ــ 135)

(2)

.

وقد تتبعت ما جاء من الكتاب والسنة وآثار الصحابة رضي الله عنهم في الإجماع، ثم تأملت ما نقل عن الإمامين الشافعي وأحمد؛ فتحرَّر لي من ذلك كله: أنَّ الإجماع إنما يتحقَّق في الفرائض القطعية كفرضية الصلوات الخمس ونحوها. وأما ما عدا ذلك فإنما يحصل العالم منه على عدم العلم بمخالف.

وهذا في نصوص الصحابة ثم في نصوص الإمامين حجة اضطرارية؛ أي: أنه يكون حجة إذا لم يوجد من كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله حجة. فإن ثبت من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله حجة مخالفة له لم يلتفت إليه، ولكنه إذا وجدت من الكتاب والسنة نصوص كثيرة ظاهرة في معنى، متظافرة عليه، ثم لم نعلم أحدًا من السلف صرفها عن ذلك الظاهر= كان ذلك عاضدًا لتلك الظواهر؛ ربما يبلغه درجة القطع، حتى يكفر من يخالف ذلك، والله أعلم.

* * * *

(1)

(1/ 30) ط. محمد محيي الدين عبد الحميد.

(2)

ضمن "اختلاف الحديث"(10/ 109 - 113) ط. دار الوفاء.

ص: 134

ما يحتجُّ به من يقول بأنَّ المأموم لا يقرأ مطلقًا

احتجُّوا بآية الإنصات، وبزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا"[في حديث أبي موسى وحديث أبي هريرة]؛ بناءً على أنَّ الإنصات هو السكوت مطلقًا.

وبحديث ابن أُكيمة؛ بناءً على أنَّ ما يشعر به من النهي يعمُّ الجهرية والسرية؛ لأنَّ النهي متوجِّهٌ إلى ما سألهم عنه. وإنما قال في السؤال: "هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ ". فقوله "آنفًا" أي: وأنا إمام وهو مأموم؛ فيؤخذ من هذا نهي المأموم أن يقرأ مع إمامه.

قالوا: ويؤيد هذا قوله: "وأنا أقول مالي أنازع القرآن؟ "؛ فإنَّ هذا في قوة تعليل النهي بالمنازعة، والمنازعة تحصل بالقراءة خلفه في السرية؛ بدليل حديث عمران.

قالوا: وزيادة "فانتهى الناس

إلخ" من كلام الزهري؛ كما قلتم.

واحتجُّوا بحديث أبي إسحاق السبيعي عن الأرقم بن شرحبيل؛ وعسى أن يقولوا: فإن تلك الصلاة [ص 77] هي الظهر؛ كما في "الصحيحين". ولعلَّ أبا بكر كان يعلم أنَّ السنة أن يبني الإمام الثاني على قراءة الأول؛ فرفع صوته بالآية ليسمعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيبني على قراءته. ولعلَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفع صوته بالآية التي بعدها؛ ليعلم الناس السنة في ذلك، فسمعها ابن عباس أو بلغه ذلك.

واحتجُّوا بالإجماع الذي ادعاه ابن قدامة. قالوا: لأنه يدلُّ على نسخ فرضية الفاتحة؛ لأنَّ في حديث عبادة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم بقراءة الفاتحة خلفه إذا جهر؛ معلِّلًا ذلك بأنه لا صلاة إلَاّ بها. وقد دلَّ الإجماع على نسخ هذا الحكم؛ فدلَّ ذلك على زوال علَّته.

ص: 135

هذا توضيح استدلال الشارح بهذا الإجماع.

واحتجُّوا بسقوط الفاتحة عن المسبوق، قالوا: فسقوطها عنه يدلُّ على أنها ليست فرضًا عليه أصلًا؛ إذ لو كانت فرضًا عليه لما تحمَّلها عنه كما لا يتحمَّل عنه غيرها.

واحتجُّوا بما رواه الإمام أبو حنيفة

(1)

ــ رحمه الله تعالى ــ عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد بن الهاد عن جابر بن عبد الله: أنَّ النبي صلى اله عليه وآله وسلَّم صلَّى ورجلٌ خلفه يقرأ؛ فجعل رجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهاه عن القراءة في الصلاة، فلمَّا انصرف أقبل عليه الرجل؛ قال: أتنهاني عن القراءة خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ ! فتنازعا، حتى ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:"من صلَّى خلف إمام فإنَّ قراءة الإمام له قراءة".

وفي رواية عن أبي حنيفة

(2)

رحمه الله: أنَّ رجلًا قرأ خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الظهر أو العصر؛ فأومأ إليه رجلٌ فنهاه؛ فلما انصرف قال: أتنهاني؟ الحديث.

قالوا: وقد تابع أبا حنيفة على وصله سفيان وشريك.

نقل ابن الهمام

(3)

عن "مسند أحمد بن منيع": أخبرنا إسحاق الأزرق حدثنا سفيان وشريك عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد عن

(1)

أخرجه من طريقه الدارقطني (1/ 324، 325) والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 159). وسيأتي الكلام على هذا الحديث عند المؤلف.

(2)

أخرجها الدارقطني (1/ 325).

(3)

في "فتح القدير"(1/ 338). وسيأتي كلام المؤلف عليه، وأن كونه موصولًا بهذا الإسناد خطأ.

ص: 136

جابر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة".

ثم قال: وحدثنا جرير عن موسى عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فذكره ولم يذكر جابرًا.

قالوا: وقد روى الإمام أحمد في "مسنده"

(1)

عن أسود بن عامر، وروى عبد بن حميد في "مسنده"

(2)

عن أبي نعيم، وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه"

(3)

عن مالك بن إسماعيل= ثلاثتهم عن الحسن بن صالح [ص 78] عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة".

قالوا: وقد صحَّ من رواية مالك

(4)

عن وهب بن كيسان عن جابر أنه قال: "من صلَّى ركعةً لم يقرأ فيها بأمِّ القرآن فلم يصلِّ؛ إلَاّ وراء الإمام".

قالوا: وقد رويَ هذا عن جابر مرفوعًا

(5)

. قال البيهقي

(6)

: وقد رفعه

(1)

رقم (14643).

(2)

رقم (1050).

(3)

(1/ 377). والحسن بن صالح لم يسمعه من أبي الزبير، بينهما فيه جابر الجعفي، وهو ضعيف. انظر طرق الحديث والكلام عليها في تعليق "المسند"(14643).

(4)

في "الموطأ"(1/ 84).

(5)

أخرجه الطحاوي (1/ 228) والدارقطني (1/ 327) والبيهقي في "القراءة خلف الإمام"(349) من طريق يحيى بن سلام عن مالك. قال الدارقطني: يحيى بن سلام ضعيف، والصواب موقوف.

(6)

في "السنن الكبرى"(2/ 160).

ص: 137

يحيى بن سلام وغيره من الضعفاء عن مالك.

قال صاحب "الجوهر النقي"

(1)

: "ذكر البيهقي في "الخلافيات" أنه روي عن إسماعيل بن موسى السدِّي أيضًا عن مالك مرفوعًا، وإسماعيل صدوق، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن عدي: احتمله الناس ورووا عنه، وإنما أنكروا عليه الغلو في التشيُّع".

وقال ابن أبي شيبة في "المصنف"

(2)

: ثنا وكيع عن الضحاك بن عثمان عن عبيد الله بن مِقْسم عن جابر قال: "لا يقرأ خلف الإمام".

قال في "الجوهر النقي"

(3)

: وهذا أيضًا سند صحيح متصل على شرط مسلم.

قالوا: وهذا من قوله يشهد بصحة ما تقدَّم عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

الجواب:

أما آية الإنصات وزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا"، فقد تقدَّم الكلام عليها.

وقولهم إنَّ الإنصات عند أهل اللغة: السكوت مطلقًا غير صحيح، وإنما الإنصات: السكوت للاستماع. هذا هو المعروف في اللغة، ولهذا يقال: أنصَتَ له، وأنصَت إليه؛ كما يقال: استمع له واستمع إليه، ولا يقال: سكتَ له، ولا سكتَ إليه.

(1)

(2/ 160).

(2)

(1/ 376).

(3)

(2/ 161).

ص: 138

[ص 79] ويقرب من قولهم: أصغى إليه؛ لأنهم قد قالوا: أنصت للَّهو: إذا مال. ومن تتبَّع موارد هذه اللفظة، وكان له دُربة بالعربية وذوق فيها، لم يشكَّ أنَّ الإنصات هو السكوت لأجل الاستماع.

وأئمة اللغة منهم من أوضح ذلك، ومنهم من أطلق في بعض كلامه تفسير الإنصات بالسكوت، وبيَّن في موضع آخر من كلامه أنَّه السكوت للاستماع. وأهل اللغة كثيرًا ما يفعلون ذلك؛ يطلقون ما هو مقيد اعتمادًا على أنهم قد قيَّدوا في موضع آخر، أو اكتفاءً بأنَّ التقييد مشهور عند من يعرف اللغة، أو إشارةً إلى أنَّ الكلمة قد تُستعمل في ذلك المعنى بدون القيد مجازًا.

ونحن لا ننكر أنَّ الإنصات قد يستعمل في مطلق السكوت مجازًا، ولكن الأصل الحقيقة.

وقال البخاري في "جزء القراءة"

(1)

: "وقال أبو مريم: سمعت ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ خلف الإمام. وقال أبو وائل عن ابن مسعود: "أنصِتْ للإمام". قال ابن المبارك: دلَّ أنَّ هذا في الجهر".

فأنت ترى ابن المبارك فهم من الإنصات أنه إنما يكون إذا جهر الإمام. وكلام السلف في ذلك كثير.

وقد جاء الإنصات في موضعين من القرآن؛ الأول: الآية المتقدِّمة. الثاني: قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29].

(1)

(ص 116).

ص: 139

وواضح أنَّ معناه في آية الأحقاف متضمِّنٌ للاستماع، وأما في الآية المتقدِّمة فقد قدَّمنا أننا إذا تقيَّدنا بتفسير السلف كان معنى قوله {وَأَنْصِتُوا}: ودَعُوا الجهر بالكلام لكي تستمعوا. وإن نظرنا إلى ظاهر القرآن رجَّحنا ما قاله بعض الخلف؛ فيكون المعنى عليه: واسكُتوا مستمعين.

فإن قيل: فلماذا قال: {وَأَنْصِتُوا} بعد أن قال: {فَاسْتَمِعُوا} ؟

قلت: لأنَّ الاستماع لا يلزم منه إخفاء المستمع كلامه أو سكوته، وإن لزم من الكلام وقوع الخلل في الاستماع. وأنت ترى الناس عند حضورهم الخطب والقصص يتكلَّمون وهم يستمعون.

وإذا حملنا الآية على المعنى الثاني فيكون لذكرِ {وَأَنْصِتُوا} بعد {فَاسْتَمِعُوا} نكتةٌ أخرى؛ وهي الإشارة إلى قولهم الذي حكاه الله تعالى عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].

فقوله: {فَاسْتَمِعُوا} في مقابل قولهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} .

وقوله: {وَأَنْصِتُوا} في مقابل قولهم: {وَالْغَوْا فِيهِ} .

ولما كان معنى كلامهم: {وَالْغَوْا فِيهِ} لئلا تسمعوه ولا يسمعه غيركم= وجب أن يكون معنى: {وَأَنْصِتُوا} : واسكتوا لتسمعوه أنتم وغيركم.

[ص 81]

(1)

ولو فُرِض أن معنى الإنصات هو السكوت مطلقًا، وأنَّ تلك

(1)

ضرب المؤلف رحمه الله على صفحة (80) كلها.

ص: 140

الزيادة صحيحة، فيجب تخصيصها بحديث مكحول عن محمود ونافع عن عبادة، مع ما اعتضد به من النصوص العامة.

وكذا آية الإنصات لو فرض أنَّ معناها أمر المأموم بالسكوت حين يقرأ إمامه، فإنَّ عمومها مخصَّصٌ اتفاقًا كما تقدَّم. فتُخصُّ منها قراءته سرًّا بدليل حديث عمران وشواهده. مع القياس أنَّ فائدة السكوت إنما هي الاستماع، ولا معنى لسكوت المأموم في السريَّة.

وتُخصُّ منها الفاتحة مطلقًا لحديث مكحول، مع ما اعتضد به من النصوص العامة في إيجاب الفاتحة، وعموم قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وقوله تعالى:{لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وغيرها من الآيات، التي تقتضي أنه لا يحسب للمأموم ما يصنعه إمامه، والله أعلم.

وأما حديث ابن أكيمة فقد مرَّ الكلام عليه، وقولهم إنه يعمُّ الجهرية والسريَّة خطأ؛ كما يأتي في المسألة الخامسة إن شاء الله تعالى.

[ص 82] ومرَّ الكلام أيضًا على حديث السبيعي، وعلى الإجماع الذي ادَّعاه ابن قدامة.

وأما استدلالهم بسقوط الفاتحة عن المسبوق، فالذي أختاره لنفسي ما اختاره جماعةٌ من أصحابنا الشافعية، واختاره الإمام البخاري، ونقله هو وشيخه علي ابن المديني عن بعض الصحابة. بل قال

(1)

: إنَّ كل من قال من الصحابة بأنَّ المأموم يقرأ الفاتحة قائل بأنه لا يدرك الركعة بدون قراءة

(1)

"جزء القراءة"(ص 269، 270).

ص: 141