الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول
في تبايعها مع النسيئة
وفيه فصلان:
الفصل الأول: فيما اتحد فيه جنس العوضين
وفيه فرعان:
الفرع الأول: فيما تظهر فيه زيادة ما في العوض المؤجل لا يقابلها شيءٌ في المعجل، وله صور:
1 -
زيادة المؤجل في القدر مع تساويهما في الصفات، كدرهم بدرهمين، وكل منهما مثله.
2 -
زيادته في الوصف، كصاع تمر بصاع تمرٍ أجود منه.
والربا في هاتين الصورتين متحقق، والمعنى معنى القرض بشرط الزيادة أو الجودة.
3 -
أن يكون في كل من العوضين زيادة من جهة، وزيادة المؤجل أرغب، كثلاثة آصُعٍ من تمر رديءٍ نقدًا بصاعَيْ تمرٍ جيد إلى أجل، وقيمة الصاع الرديء درهم، والجيد درهمان.
والربا في هذه متحقق؛ لتحقق الزيادة في المنسأ.
4 -
أن يستويا في القدر، ويكون المعجل أجود، ولكن المؤجل عزيز الوجود، كصاع تمر جيد نقدًا بصاع تمر رديء إلا أنه عزيز الوجود.
فالظاهر هنا أن لصاحب الجيد غرضًا في ذلك الرديء، لو وجده لاشترى الصاع منه بصاعٍ جيد نقدًا أو بأكثر لرغبته فيه. فعزة الوجود زيادة في المؤجل، فيكون ربًا.
5 -
الدينار وسبيكة الذهب وحليته، كل منها بالآخر، وهكذا كل منها بمثله بوصف آخر، كدينار عتيق بدينار جديد، وسبيكة مربعة بسبيكة مستطيلة، وخاتم ذهب بخاتم ذهب أضيق منه، مع اتحاد القدر وزنًا، والاتفاق في الجودة أو الرداءة.
هذا كله ربًا؛ لأن صاحب المعجل رغب أن يكون ذهبه على صورة المؤجل، ولو أراد أن يصوره بتلك الصورة لاحتاج إلى البحث عن صائغ أو ضارب، ودفع ذهبه إليه ليصوره بالصورة التي يريدها، ويدفع أجرته، فآثر أن يبيعه بذهب على الصورة التي يريد؛ ليربح السلامة من التعب والأجرة.
فبهذا الاعتبار كانت الصفة المرغوبة له في الذهب المؤجل زيادة فيه، وقد يتضح هذا: كسبيكة نقدًا بدينار أو حلية إلى أجل. وقد يحتاج إلى تأمل، كدينار أو حلية نقدًا بسبيكة إلى أجل. وقد أوضحنا.
ومثل ذلك الدراهم وسبيكة الفضة وحليتها، وهكذا كل من البر والشعير مع دقيقه، ونحو خبزه؛ لأن الحب والدقيق ونحو الخبز على وزان الدينار والسبيكة والحلية، وإن لم يمكن في العادة ردُّ الدقيق ونحو الخبز حبًّا.
وهكذا التمر المنزوع النوى مع التمر الذي لم يُنْزَع نواه، فكأن بائع ما لم يُنزع نواه بما نُزع نواه يريد نزعَ نوى تمره، وفي ذلك مشقة، فباعه؛ ليحصل له منزوع النوى، ويربح السلامة من المشقة، وكان بائع ما نُزِع نواه
بغيره يريد ردَّ نوى تمرِه إليه، وفي ذلك مشقة، فباعه؛ ليحصل له ما لم يُنزع نواه، ويربح السلامة من المشقة. وقس على ذلك.
[ص 40] الفرع الثاني: ما لم تظهر فيه زيادة ما في المؤجل، وله صور:
1 -
أن يستويا من كل وجه، كبيع درهم بدرهم مثله، ودينار بدينار مثله، وصاع بر بصاع بر مثله.
فلا يظهر في هذه ربًا، بل المعنى معنى القرض الصحيح، فتحريم مثل ذلك إذا وقع بلفظ البيع يحتاج إلى علة أخرى غير الربا.
2 -
أن يكون في المعجل زيادة لا يقابلها شيء في المؤجل، ويمكن تصحيح المعاملة بصيغة أخرى، كدرهمين نقدًا بدرهم مثل أحدهما نسيئةً.
فلا يظهر في هذه ربًا، بل المعنى معنى الهبة الصحيحة والقرض الصحيح، كأن صاحب الدرهمين وهب لصاحبه درهمًا، وأقرضه درهمًا، فتحريم مثل ذلك إذا وقع بلفظ البيع يحتاج إلى علة أخرى غير الربا.
ومثل هذا بيع دينار جديد نظيف نقدًا بدينار متَّسخٍ إلى أجل، وليس لصاحب الجديد غرضٌ في المتسخ، كأن ذهب إنسان بدينار جديد ليصرفه أو يكسره، فرآه آخر، فقال له: دع هذا الدينار الجديد النظيف لي، وأنا أعطيك دينارًا متسخًا غدًا، أو بعد غدٍ، فتبايعا.
فقد كان يمكنُ صاحبَ الجديد أن يقول لصاحبه: خذ هذا الدينار قرضًا إلى غدٍ، أو بعد غدٍ، وإذا قضيتَني دينارًا متسخًا فأنا أقبله منك.
3 -
كالثانية إلا إنه لا يمكن تصحيح المعاملة بصيغة أخرى، كأن يكون لك خاتم فضة، ولصاحب لك خاتم فضة دونه، فجاءك يومًا وليس
معه خاتمه، ثم ألحَّ عليك أن تبيعه خاتمك بخاتمه، على أن تدفع إليه خاتمك، ثم يجيئك بخاتمه بعد أسبوع مثلًا.
4 -
أن يكون في كل من العوضين زيادةٌ تكافئ ما في الأخرى في القيمة، كصاعين من تمر رديء نقدًا بصاع من تمر جيد إلى شهر، وقيمة الرديء نقدًا في السوق صاع بدرهم، وقيمة الجيد في السوق إلى شهر صاع بدرهمين.
فهاتان الصورتان لا يظهر فيهما الربا، فلا بد للتحريم من علة أخرى.
ويظهر لي أن العلة في الأُولَيينِ هي تشبيه المعاملة المشروعة بالمعاملة الممنوعة.
ففي الأولى: عدل العاقدان عن صيغة القرض المرغَّبِ فيه شرعًا، المحمودِ عقلًا وعرفًا، إلى صيغة البيع الذي عُرِف ذمه في الشريعة، أعني الذهب بالذهب نسيئةً ونحوه.
وفي الثانية: عدلا عن الهبة والقرض المشروعين المحمودين المرغَّب فيهما، إلى صيغة بيع الذهب بالذهب نسيئةً ونحوه.
ويظهر له أن العلة في الأُخريَينِ هي الاحتكار، على ما يأتي إيضاحه في تعليل منع بيع واحد من الستة بأكثر منه من جنسه نقدًا. والله أعلم.
* * * *