الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مستحوِذٌ على الأمراء، ولاسيما في عمارة البيوت والسيارات والأثاث ولباس النساء. ومنهم من يتعاطى المسكرات، ويميل مع الرقاصات، ويُكثِر السفر إلى أوربا، فينفق في سفره وإقامته هناك نفقاتٍ باهظة. وتجد فيهم من يتراوح دخْلُه الشهري بين مئة جنيه إلى ألف جنيه، وهو مع ذلك يُدان بالربا والعياذ بالله.
[ق 40]
العلاج
أما الرسوم فعلاجها بيد العلماء والمرشدين (مشايخ الطرق)، فلو أن صاحب الاستفتاء دعاهم إلى النظر فيها واجتهد في ذلك لكان خيرًا له وللمسلمين.
فعلى العلماء والمرشدين أن ينظروا في تلك الرسوم، فسيجدون بعضها لا حاجة إليه أصلًا، وبعضها لا بأس به لولا ضرره الشديد، وبعضها له فائدة ولكن ضرره أكبر من نفعه، وبعضها ضروري ــ كوليمة العرس ــ ولكن بلا إسراف، فالذي يستقرض ليوسِّع الوليمة مسرف، والذي يصرف مالًا كبيرًا في الوليمة وهو غني ــ والمصالح الإسلامية العامة محتاجة إلى المال ــ مسرف.
فيقرر العلماء والمرشدون وقفَ النوع الأول أصلًا، وكذلك الثاني بالنظر إلى الأحوال الحاضرة، ويقررون تخفيفَ الإنفاق في الثالث جدًّا، بحيث يقتصر على دعوة أفراد معدودين وعلى سَقْيهم الشاهي وحده. وتخفيف الرابع بحيث لا يحتاج الداعي إلى القرض، ولا تتجاوز نفقة الوليمة دَخْلَ شهرٍ من دخْله، ولا تُجاوز مئةَ رُبِّية مثلًا. فأما الأمراء والأغنياء الكبار فلْيُترك الاختيار لهم، ويُكتفَى بوعظهم ونُصْحهم ليخفِّفوا الوليمة ما أمكن.
وإذا قرر العلماء والمرشدون هذا أو نحوه عاهدوا الله تعالى على تنفيذه، فيلتزمونه هم في ذات أنفسهم، ويُلزِمون به من يسمع قولهم، ولا يجيبون دعوةَ من خالف ذلك، ويُلزِمون من يسمع لهم أن يحذو حذوهم في ذلك، ويعلنون للناس أن من خالف ما قرروه فهو بالنظر إلى أحوال العصر عاصٍ آثمٌ مخالف لله ورسوله وأوليائه، وأن رضا الله ورسوله وأوليائه في الاقتصاد في هذا العصر. ويمكنهم إذا نصحوا لله ولدينه وللمسلمين أن يقوموا بأكثر من هذا.
[ق 41] وأما الملاهي فأمُّها ههنا السينما، فعلى العلماء والمرشدين أن يدعوا أعيان الأمة، ويقرروا مطالبةَ الحكومة:
بمنع الأطفال الذين دون البلوغ من دخول السينما البتَّةَ، كما قررتْه دولةُ هولندا في جاوه فيما بلغني.
وبتحديد أوقات السينما، فلا تُفتح نهارًا، ولا تُفتح إلا بعد المغرب، وتقتصر على دَورٍ واحد.
وبأن تقيم مراقبةً أخلاقية صارمة تحظُر عرضَ كل فلم مُضرٍّ بالأخلاق، وتُشرِف على دَخْل السينما فتحدِّد قيمة البطاقات بقدرٍ يتناسب مع غرامتها. وغير ذلك.
ثم يبالغون في الوعظ والنصح، وبيان مضارّ السينما ومفاسد إنفاق المال لمشاهدتها، وغير ذلك. وفي وُسْعِهم إذا وفَّقهم الله تعالى أن يعملوا أكثر من هذا.
الرسالة التاسعة والعشرون
كشف الخفاء عن حكم بيع الوفاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بسط الأرض للأنام، وقدَّر فيها أقواتَها على ما اقتضته حكمتُه من النظام، وتولَّى قِسمتَها وقسمةَ ما فيها بينهم بشريعته، فقال سبحانه:{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7 - 9]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فقد سألني بعض الإخوان عن حكم البيع الذي يقال له بيع الوفاء وبيع العهدة إلى غير ذلك من الأسماء، وهو شائع في بلاد حضرموت وكثير من البلدان. فراجعتُ بعض ما تيسَّر لي من كتب علماء حضرموت، فرأيت في "بغية المسترشدين" عن فتاوى الحفيد عبد الله بن الحسين بافقيه: "بيع العهدة [المعروف صحيح جائز، وتثبت به الحجة شرعًا وعرفًا على قول القائلين به، وقد جرى عليه العمل في غالب جهات المسلمين من زمن قديم، وحكمت بمقتضاه الحكام، وأقره مَن يقول به من علماء الإسلام، مع أنه ليس من مذهب الشافعي، وإنما اختاره مَن اختاره ولفّقه من مذاهب للضرورة الماسة إليه، ومع ذلك فالاختلاف في صحته من أصله في التفريع عليه لا يخفى على من له إلمام بالفقه]
(1)
" (ص 133).
فأحببتُ أن أعرف حقيقة التلفيق المذكور، فوجدتُ في "ترشيح
(1)
وضع المؤلف هنا نقطًا، وقد أكملت العبارة من المصدر المذكور.
المستفيدين": "تنبيه: اعلم
…
على الراجح " (ص 230). ثم ذكر اختلاف الحنفية، وسيأتي.
وفي "القلائد" لباقشير: "مسألة: بيع العهدة
…
ممن شهد بذلك". ثم قال: "مسألة: ومن أثبت
…
الشافعي
…
"، ثم قال: "تنبيه
…
المنصوص". ثم أفاض في توابعه من الأحكام بانيًا على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، وعلى أن هذه المعاملة إقالة ولكنها لازمة.
فتلخَّص لي مما تقدم أمور:
الأول: أن هذه المعاملة إذا كانت على ما ذكروه ــ مِن تقدُّم المواطأة، ووقوع العقد باتًّا ــ حكمها في مذهب الشافعي ما قدَّمتُ من نفاذ العقد وبتاته، ويكون رضا المشتري قبل العقد بما تواطأ عليه وعدًا منه يُستحب له الوفاء به ولا يجب.
الأمر الثاني: أن العمدة في إلزام المشتري بالوفاء هو تقليد الإمام مالك.
الثالث: أنه يمكن الاعتماد في ذلك على مذهب أحمد في جواز البيع بشرط.
الرابع: إمكان الاعتماد على مذهبه في جواز تأبيد الخيار.
الخامس: إمكان الاعتماد على مذهب أبي حنيفة.
السادس: العذر عن الخروج عن المذهب بالضرورة.
السابع: اعتماد المتأخرين على عمل من قبلهم من العلماء وكفى.
فأحِبُّ أن أنظر في هذه الأمور واحدًا واحدًا.
فأما الأمر الأول فحقٌّ لا غبار عليه، إلّا أنه يستحب عدم التواطؤ خروجًا من خلاف من يجعل المشروط بالمواطأة كالمشروط بالعقد، فيبطل به العقد ويحرم. وسيأتي إيضاحه إن شاء الله.
وأما الأمر الثاني فقد راجعتُ ما تيسَّر لي من كتب المالكية، فوجدتُ في "الموطأ"
(1)
عن عبيد الله بن [عبد الله بن] عتبة بن مسعود أن عبد الله بن مسعود ابتاع جاريةً [من امرأته زينب الثقفية، واشترطت عليه أنك إن بعتَها فهي لي بالثمن الذي تبيعها به. فسأل عبد الله بن مسعود عن ذلك عمرَ بن الخطاب، فقال عمر بن الخطاب: لا تقربْها وفيها شرط] لأحد.
وعن ابن عمر أنه كان يقول: " [لا يطأ الرجل وليدةً إلا وليدةً إن شاء باعها، وإن شاء وهبها، وإن شاء أمسكها، وإن شاء صنع بها] ما شاء".
قال الباجي في "المنتقى"
(2)
: "ظاهر قوله ["وشرطتْ عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن" يقتضي أن ذلك كان في نفس العقد على وجه الشرط، ولم يكن على وجه التطوع منه بعد كمال العقد، وهذا يسميه العلماء الثنيا، ويسمون البيع المنعقد بهذا الشرط بيع الثُّنيا، وهو بيع فاسد] مع النقد".
وقال بعد ذلك
(3)
: "وقول عمر "لا تقربها [وفيها شرط لأحد"، قال أبو مصعب في "المبسوط": معنى ذلك لا تَبْتَعْها وفيها شرط لأحد، ومعنى
(1)
(2/ 616). ومنه زيادة ما بين المعكوفتين.
(2)
(6/ 129) ط. دار الكتب العلمية. ومنه زيادة ما بين المعكوفتين.
(3)
(6/ 131).
ذلك: لا تشترها بهذا الشرط، وهذا يقتضي منعه من هذا الابتياع لفساده] ".
وفي "حواشي الدسوقي على الشرح الكبير": "وبيع الثُّنيا [هو المعروف بمصر ببيع المعاد، بأن يشترط البائع على المشتري أنه متى أتى له بالثمن ردّ المبيع، فإن وقع ذلك الشرط حين العقد أو تواطآ عليه قبله كان البيع فاسدًا ولو أسقط الشرط، لِتردد الثمنِ بين السلفية والثمنية، وأما إذا تبرع المشتري للبائع بذلك بعد البيع بأن قال له بعد التزام البيع: متى رددتَ إليَّ الثمن دفعتُ لك المبيع، كان البيع صحيحًا، ولا يلزم المشتريَ الوفاء بذلك الوعد، بل يستحبُّ]
(1)
فقط" (ج 3 ص 62).
(1)
ما بين المعكوفتين من المصدر، وقد ترك المؤلف هنا بياضًا.
الرسالة الثلاثون
النظر في ورقة إقرار
الحمد لله.
الذي يظهر من هذه الورقة عند التأمل أنها إقرار بالاشتراك، وأما ما وقع فيها من بعض الألفاظ التي يفهم منها مناقضة الإقرار فليست بصريحةٍ في ذلك. بل إذا نُظِر إلى ما قبلها وما بعدها وإلى تسامح العوامّ في ألفاظهم، وإلى كيفية الاشتراك بين المقر وإخوته على ما تدل عليه هذه الورقة= لم تكن تلك الألفاظ ظاهرةً فيما يناقض الإقرار، بل هي محمولة على ما يوافقه، وعلى ذلك تتفق جميع ألفاظ المقرّ في هذه الورقة، ولا يكون فيها شيء مُلغًى.
فقوله: «يقبضون ما هو لي في أرض الهند وغيره» ليس فيه بيان ما هو له، فيُحمل ذلك على نصيبه من جميع الأموال التي اعترف بعد أنها مشتركة.
وقوله: «وخطوط قوابل البيوت في صندوقي» ليس فيه ما يدل على أن البيوت ملكه خاصة. وقوله «صندوقي» وإن كان ظاهرًا يفيد أن الصندوق له ملكًا، فالاعتراف بالاشتراك يدل أنه إنما أضافه إليه لاختصاصه به، كما يقول الولد في بيت أبيه، والخادم في بيت سيده، والموظف في دور الحكومة:«كرسيِّي» للكرسي المخصص لجلوسه، وإن لم يكن ملكه، نعم إن هذا مجاز، ولكن الحمل على المجاز الذي تعينه القرائن أولى من حمل الكلام على التناقض وإلغاء بعضِه. وهكذا قوله بعد ذلك «فهو في داري» .
وقد قال الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ
…
وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]. فأضاف البيوت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد قال تعالى قبل ذلك في خطاب
أمهات المؤمنين: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34].
فأما قول «المنهاج»
(1)
: «فلو قال: داري أو ثوبي أو دَيني الذي على زيد لعمرو، فهو لغو» ، فوجهه فيما يظهر أن قوله «لعمرو» لا يتعين للإقرار، بل يحتمل الهبة، أو أنه أراد أنه صديقي فمالي كأنه ماله، أو نحو ذلك. وليس تأويل قوله «داري» بأولى من تأويل قوله «لعمرو» ، فلهذا حكم بأن العبارة المذكورة لغو، فأما إذا قال مثلًا:«ثوبي هذا عارية، استعرتُه من مالكه زيد» أو نحو ذلك، فإلغاء الإقرار بعيد عن القواعد.
وفي «التحفة»
(2)
: «أو الدين الذي لي على زيد لعمرو= لم يصح إلّا إن قال: واسمي في الكتاب عارية» .
ومما يؤيد ذلك القاعدةُ المعروفة أنه لا يجوز إلغاء كلام المكلف ما أمكن. وفي «التحفة» عقب عبارة «المنهاج» السابقة ما لفظه: «لأن الإضافة إليه تقتضي الملك له، فتنافي إقراره به لغيره، فحمل على الوعد بالهبة» . فيؤخذ من هذا أنه إذا تعذر أو بعُدَ تأويل لفظ الإقرار مع قرب تأويل الإضافة المتقدمة وجب الحكم بصحة الإقرار. ومن تأمل الورقة المتكلم عليها وجد دلالتها على الإقرار واضحة جدًّا.
ثم على فرض أن دلالة الإضافة على الملك أقوى أو أنها تلغي الإقرار مطلقًا، فيختص هذا بالصندوق والدار والكساء المضافات في هذه الورقة،
(1)
(2/ 181 - 182) ط. دار البشائر.
(2)
(5/ 371 - مع حواشي الشرواني والعبادي).
ويبقى الإقرار فيما عدا ذلك صريحًا. ومن ذلك قوله: «وخطوط قوابل البيوت في صندوقي وأشياء من ذهب وفضة وسلاح وو عن الدار
…
وما هو باسمي من خطوط أملاك ومشاري ورهائن عقارات
…
سنغافوره». وفي «التحفة»
(1)
: «ولو قال: الدين الذي كتبته أو باسمي على زيد لعمرو، صحَّ، إذ لا منافاة» .
وقول كاتب الورقة: «وكسائي الذي على بدني ومطروح» يجيء فيه ما مرَّ في «صندوقي وداري» .
وقوله بعد ذلك كله: «فهو تركة بين إخوتي وبين ورثتي بالسوية فقط، ما شيء لي زائد عليهم» ظاهر فيما قدمته، فلا وجه لإلغائه.
وقوله: «تركة بين إخوتي وبين ورثتي» يريد أن أصله تركة تركها مورثُه ومورثُ إخوته، وبقيت مشتركة بينهم يعملون ضربًا على الاشتراك، كما يدلُّ عليه السياق، وينفي أن يكون المراد تركة لي، أي أتركها أنا، كيف وهو يقول بعد ذلك:«ماشيء لي زائد عليهم» ؟
ثم قال: «وما كان معهم من أملاك وغير، وجميع ما يسمى مال، وما يطلق عليه اسم المال= فهو بيني وبينهم بالسوية» صريح جدًّا في أنهم على الاشتراك، وهو وإن كان ظاهره دعوى إلَّا أنه يقرِّر الإقرار السابق ويوضحه.
ويؤكد ذلك قوله بعد هذا: «والذي مع والدتهم من أسيار ذهب وفضة
…
فهو لها
…
ويكون بطيب نفس من الإخوان محمد وسعيد». فلو كان إنما أراد بهذه الورقة التبرع على أخويه، فأيّ وجه لأن يشترط طيب
(1)
(5/ 371).
أنفسهم فيما أقرّ به لزوجته أو وهبه لها أو أوصى لها به.
فأما قوله: «وأيضًا ما كان متروكه معي في حضرموت جاء في مال بالإرث من والدتي فاطمة
…
فهو بيني وبين إخواني تركة». فهو اعتراف صريح. وفي «التحفة»
(1)
: «وقول «الأنوار» لا أثر للإرادة هنا يشكل بقوله أيضًا في الدار التي ورثتُها من أبي لفلان: إنه إقرار إن أراده، إذ لا فرق بين اشتريت مثلًا وورثتها. ويوجه ذلك بأن إرادته الإقرارَ بذلك تبيِّن أن مراده الشراء والإرث في الظاهر».
قال السيد عمر في حواشيه على «التحفة»
(2)
والإرث المذكور في عبارة المقرّ ماضٍ كما هو واضح، وقول المقر في آخر العبارة الماضية:«بيني وبين إخواني تركة» يُوضح ما قدمته أن مراده بتركة في قوله السابق «تركة بين إخواني وبين ورثتي» التركة الأصلية، أي الذي تركه مورثه ومورث إخوته، وبقي بينهم مشتركًا يعملون فيه بالسوية، وكل ما استحدثوه ضموه إلى ذلك.
فإن قيل: وكيف يكون ما ورثه من أمه من جملة التركة التي يشاركه فيها إخوته من أبيه؟
(1)
(5/ 370 - 371).
(2)
المصدر السابق.
قلت: يحتمل أنه ملكهم مما ورثه من أمه مقدار حصصهم من التركة المشتركة، فانضم ما ورثه من أمه إلى التركة الأصلية المشتركة، فصار معدودًا منها. وهذا ظاهر، فيجب تصحيح العبارة على احتمال هذا الوجه. والله أعلم.
الرسالة الحادية والثلاثون
قضية في سكوت المدعى عليه عن
الإقرار والإنكار
الحمد لله.
مسألة: رجلان ادُّعي عليهما قتلُ آخر عمدًا وعدوانًا دعوى صحيحة، فأجابا أنهما هجما عليه لقصد ضربه لا قتله، وأخذا يضربانه، فاستلَّ سكينًا من حزام أحدهما، فأمسكا يده، وتجاذبا السكين، فوقعتْ به طعنة في جانب ظهره الأيسر. وكلٌّ منهما قال: لا أدري ممن الطعنة، ثم قال أحدهما: أنا القاتل، ثم روجع الآخر على أن يقر أو ينكر، فأصرَّ على قوله: لا أدري ممن.
قد تتبعت مظانَّ المسألة مما وجدته من كتب المذهب، فلم أظفر بها صريحةً، إلّا أنهم قسموا حالة المدعى عليه بعد الدعوى إلى قسمين: إقرار وإنكار. أما الإقرار فله باب مخصوص، وأما الإنكار فهو نقض إلزام الدعوى. وألحقوا به وبالنكول إصرار المدَّعى عليه على السكوت عن جواب الدعوى. والظاهر من عباراتهم أنه ليس مرادهم السكوت المطلق، وهو مقابل النطق، بل السكوت عن جواب الدعوى المفهوم من إطلاقه، أي الجواب بشرط صحته، حتى يدخل ما لو نطق بما لا يصح جوابًا، كقوله: يثبت ما يقول ونحوه، فلا يكتفى به، بل يلزمه أن يبيِّن إما بالإقرار بما ألزمته به الدعوى، وإما بالإنكار لذلك، أو التفصيل، وهو راجع إليهما. فإن بيَّن فالأمر واضح، وإلّا نُزِّل منزلةَ المنكر الناكل، وشرط كون الدعوى ملزمةً من فروعه أن ينسب القتل مثلًا إلى المدعى عليه نفسه، أو إلى مَن يلزمه بقتله شيء، وليس اللزوم. فلو قال: قتله أخوه، ولم يزد على ذلك ما يلزم، لم يسمع.
قال في «عماد الرضا»
(1)
: «حُكي أن رجلين تقدما إلى قاضٍ، فقال
(1)
النقل من كلام المناوي في شرحه على «عماد الرضا» (1/ 350).
أحدهما: إن أخا هذا قتل أخي، فقال القاضي: ما تقول؟ فقال: إن أخا هذا قتله غيري. وهو جواب صحيح عن فساد الدعوى، وكان من صحتها أن أخاه قتلَ أخيِ وأنا وارثُه وهذا من عاقلته، لتتوجَّه له المطالبة». ومن المعلوم أن القصد من طلب الجواب من المدَّعى عليه الإقرار بما أُلزِم به أو إنكاره أو التفصيل، وهو راجع إليهما كما مرَّ. فلفظ «لا أدري» جوابًا عن الدعوى عليه أنه قتل مثلًا لا يكفي، لأنه لم يقرّ بما ألزمته الدعوى وهو القتل، ولا أنكر. وقد شرطوا في اليمين مطابقتها للإجابة، وقالوا في اليمين: لابدَّ أن يحلف بها في كلِّ يمين على فعله إثباتًا أو نفيًا، وكذا على إثبات فعلِ غيره وأما نفي فعل غيره فعلى نفي العلم. فلو اعتبرنا «لا أدري أني قتلتُه أو لا» جوابًا لزم أن نقول: يحلف طبقَه، وحلفه كذلك لا يُعتبر لأنه على نفي العلم في فعل نفسه، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم، لأن الإجابة بغير الإقرار إن لم تكن بيِّنة فهي تقتضي اليمين.
وأما كون لفظة «لا أدري» في فعل نفسه يُعتبر إقرارًا فغير ظاهر، لأن مبنى الإقرار على اليقين، ولا نظير لها في باب الإقرار تقاس عليه، لكنها قد تؤدّي إلى ما هو في حكم الإقرار، بأن يصرّ المدعى عليه، فيحكم القاضي بأنه كالمنكر الناكل، ويحلف المدعي اليمين المردودة. وهل يسمع من قائلها الإنكار بعدُ أو لا؟
(1)
.
(1)
هنا انتهى الموجود من المسألة.
الرسالة الثانية والثلاثون
الفسخ بالإعسار
الحمد لله.
الفسخ بالإعسار ثابت في المذهب، وإذا بحثنا عن علته ظهر لنا أن النكاح عقدٌ بمقابلٍ كالبيع، فهو إباحة الانتفاع بالبضع إلى مقابل الصداق والإنفاق. ولا يَرِد علينا أنه تجب النفقة في غير حال الانتفاع، كما إذا كان عنينًا أو غائبًا. فإننا نقول: إن المنفعة تلِفَتْ تحت يدِه، فهي من ضمانه.
لا يقال: إنها تحتَ يدِ مالكها. فإننا نقول: إنها وإن كانت تحت يده صورةً فهو باذلٌ لها وممنوعٌ من التصرف فيها، فهي من ضمان الزوج قطعًا، بخلاف ما إذا أبى صاحبها من التمكين.
والمذهب أن المشتري إذا أعسر بالثمن، أو كان ماله غائبًا بمسافة قصرٍ، فللبائع الفسخ، لخبر «الصحيحين»
(1)
: «إذا أفلسَ الرجلُ ووجدَ البائعُ سِلْعته بعينها، فهو أحقُّ بها من الغُرماء» . وقِيسَ عليه سائر المعاوضات كالإجارة، وعلى الفلس الإعسارُ. فكذا يكون النكاح، بل هو أولى، لتجدُّد الضرر كلَّ يوم واعتضادِه بالضرر الآخر.
وإذا بحثنا عن علة الفسخ بالإعسار ظهر لنا أنها تعذُّر تسليم العوض، والعلة موجودة فيما إذا غاب غيبةً منقطعةً، أو امتنع ولم يُقدَر على ضبطه.
فإن قيل: ثَمَّ فارقٌ، وهو أنه يمكن في منقطع الغيبة أن يرجع، وفي الممتنع أن يمتثل.
قلنا: وكذا المعسر يمكن أن يتصدق عليه، بل هو أولى، لأن إمكان
(1)
أخرجه البخاري (2402) ومسلم (1559) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم.
يساره أقرب من إمكان رجوع منقطع الغيبة وامتثال الممتنع، مع أنهم قد صرَّحوا في البيع بالفسخ إذا كان مالُه بمسافة قصرٍ. وأنت خبيرٌ أن النكاح أولى، لتجدُّد الضرر واعتضادِه بالضرر الأكبر، ولكن لفسخ النكاح من الأهمية ما ليس لفسخ البيع، فلا يجوز ما دام الضرر خفيفًا، كما في غيبة المال بمسافة القصر. ولا يمنع الفسخَ غِنَى الزوجةِ أو وجودُ مَن يُنفق عليها، كما لا يمنع ذلك في البائع والمؤجر.
الرسالة الثالثة والثلاثون
مسألتان في الضمان والالتزام