الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي صِفَةِ الْغُسْلِ]
الْفَصْلُ الرَّابِعُ
فِي صِفَةِ الْغُسْلِ وَفِي هَذَا الْفَصْلِ مَسَائِلُ:
إِحْدَاهَا: هَلْ يُنْزَعُ عَنِ الْمَيِّتِ قَمِيصُهُ إِذَا غُسِّلَ؟ أَمْ يُغَسَّلُ فِي قَمِيصِهِ؟ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا غُسِّلَ الْمَيِّتُ تُنْزَعُ ثِيَابُهُ وَتُسْتَرُ عَوْرَتُهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُغَسَّلُ فِي قَمِيصِهِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ غُسْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي قَمِيصِهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ سُنَّةً، فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ وأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْمَيِّتِ إِلَّا مَا يَحْرُمُ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ قَالَ: يُغَسَّلُ عُرْيَانًا إِلَّا عَوْرَتَهُ فَقَطْ الَّتِي يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةً يَسْتَنِدُ إِلَى بَابِ الْإِجْمَاعِ أَوْ إِلَى الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ (لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُمْ سَمِعُوا صَوْتًا يَقُولُ لَهُمْ: لَا تَنْزِعُوا الْقَمِيصَ، وَقَدْ أُلْقِيَ عَلَيْهِمُ النَّوْمُ» قَالَ: الْأَفْضَلُ أَنْ يُغَسَّلَ الْمَيِّتُ فِي قَمِيصِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ; قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُوَضَّأُ الْمَيِّتُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُوَضَّأُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ وُضِّئَ فَحَسَنٌ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ: مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلْأَثَرِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَلَّا وُضُوءَ عَلَى الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الْوُضُوءَ طَهَارَةٌ مَفْرُوضَةٌ لِمَوْضِعِ الْعِبَادَةِ، وَإِذَا أُسْقِطَتِ الْعِبَادَةُ عَنِ الْمَيِّتِ سَقَطَ شَرْطُهَا الَّذِي هُوَ الْوُضُوءُ، وَلَوْلَا أَنَّ الْغُسْلَ وَرَدَ فِي الْآثَارِ لَمَا وَجَبَ الغُسْلُ.
وَظَاهِرُ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ الثَّابِتِ أَنَّ الْوُضُوءَ شَرْطٌ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا» وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ ثَابِتَةٌ خَرَّجَهَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تُعَارَضَ بِالرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا الْغُسْلُ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْمُقَيَّدَ يَقْضِي عَلَى الْمُطْلَقِ، إِذْ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا يَرَاهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَيُشْبِهُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ مُعَارَضَةُ الْمُطْلِقِ لِلْمُقَيَّدِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَتْ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْغُسْلِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ وُضُوءٍ فِيهَا، فَهَؤُلَاءِ رَجَّحُوا الْإِطْلَاقَ عَلَى التَّقْيِيدِ لِمُعَارَضَةِ الْقِيَاسِ لَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالشَّافِعِيُّ جَرَى عَلَى الْأَصْلِ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ; اخْتَلَفُوا فِي التَّوْقِيتِ فِي الْغُسْلِ: فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَحْسَنَهُ وَاسْتَحَبَّهُ. وَالَّذِينَ أَوْجَبُوا التَّوْقِيتَ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْوِتْرَ، أَيَّ وِتْرٍ كَانَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الثَّلَاثَةَ فَقَطْ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّ أَقَلَّ الْوِتْرِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَنْقُصُ عَنِ الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ يَحُدَّ الْأَكْثَرَ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّ الْأَكْثَرَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَتَجَاوَزُ بِهِ السَّبْعَةَ، وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَمِمَّنْ قَالَ بِاسْتِحْبَابِ الْوِتْرِ وَلَمْ يَحُدَّ فِيهِ حَدًّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَصْحَابُهُ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ بَيْنَ مَنْ شَرَطَ التَّوْقِيتَ وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ بَلِ اسْتَحَبَّهُ: مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلْأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ يَقْتَضِي التَّوْقِيتَ، لِأَنَّ فِيهِ:«اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ " وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: " أَوْ سَبْعًا» .
وَأَمَّا قِيَاسُ الْمَيِّتِ عَلَى الْحَيِّ فِي الطَّهَارَةِ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا تَوْقِيتَ فِيهَا كَمَا لَيْسَ فِي طَهَارَةِ الْحَيِّ تَوْقِيتٌ. فَمَنْ رَجَّحَ الْأَثَرَ عَلَى النَّظَرِ قَالَ بِالتَّوْقِيتِ. وَمَنْ رَأَى الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ حَمَلَ التَّوْقِيتَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي التَّوْقِيتِ، فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ أَلْفَاظُ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ.
فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَإِنَّهُ رَأَى أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْ ثَلَاثَةٍ، لِأَنَّهُ أَقَلُّ وِتْرٍ نُطِقَ بِهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ، وَرَأَى أَنَّ مَا فَوْقَ ذَلِكَ مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ» .
وَأَمَّا أَحْمَدُ: فَأَخَذَ بِأَكْثَرِ وِتْرٍ نُطِقَ بِهِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:" أَوْ سَبْعًا ".
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَصَارَ فِي قَصْرِهِ الْوِتْرَ عَلَى الثَّلَاثِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ كَانَ يَأْخُذُ الْغُسْلَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ: " ثَلَاثًا، يُغَسَّلُ بِالسِّدْرِ مَرَّتَيْنِ، وَالثَّالِثَةَ بِالْمَاءِ وَالْكَافُورِ ". وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوِتْرَ الشَّرْعِيَّ عِنْدَهُ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الثَّلَاثِ فَقَطْ.
وَكَانَ مَالِكٌ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُغَسَّلَ فِي الْأَوْلَى بِالْمَاءِ الْقِرَاحِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالسِّدْرِ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِالْمَاءِ وَالْكَافُورِ.
وَاخْتَلَفُوا إِذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِهِ حَدَثٌ هَلْ يُعَادُ غُسْلُهُ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: لَا يُعَادُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَقِيلَ يُعَادُ. وَالَّذِينَ رَأَوْا أَنَّهُ يُعَادُ اخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَجِبُ بِهِ الْإِعَادَةُ إِنْ تَكَرَّرَ خُرُوجُ الْحَدَثِ، فَقِيلَ يُعَادُ الْغُسْلُ عَلَيْهِ وَاحِدَةً، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقِيلَ: يُعَادُ ثَلَاثًا. وَقِيلَ: يُعَادُ سَبْعًا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى السَّبْعِ شَيْءٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْلِيمِ أَظْفَارِ الْمَيِّتِ وَالْأَخْذِ مِنْ شِعْرِهِ، فَقَالَ قَوْمٌ: تُقَلَّمُ أَظْفَارُهُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تُقَلِّمُ أَظْفَارُهُ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ شَعْرِهِ وَلَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ.
وَأَمَّا سَبَبُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، فَالْخِلَافُ الْوَاقِعُ فِي ذَلِكَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ،