الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْبَابُ السَّادِسُ فِي آدَابِ الِاسْتِنْجَاءِ]
ِ وَأَمَّا آدَابُ الِاسْتِنْجَاءِ وَدُخُولِ الْخَلَاءِ، فَأَكْثَرُهَا مَحْمُولَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى النَّدْبِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ مِنَ السُّنَّةِ كَالْبُعْدِ فِي الْمَذْهَبِ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ، وَتَرْكِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا، وَالنَّهْيِ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ، وَأَلَّا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ فِي الْآثَارِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مَشْهُورَةٍ، وَهِيَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ لِلْغَائِطِ، وَالْبَوْلِ وَاسْتِدْبَارُهَا، فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةُ لِغَائِطٍ، وَلَا بَوْلٍ أَصْلًا، وَلَا فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَقَوْلٌ: إِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ بِإِطْلَاقٍ. وَقَوْلٌ: إِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْمَبَانِي وَالْمُدُنِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الصَّحْرَاءِ وَفِي غَيْرِ الْمَبَانِي وَالْمُدُنِ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ هَذَا حَدِيثَانِ مُتَعَارِضَانِ ثَابِتَانِ، أَحَدُهُمَا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام:«إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» وَالْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «ارْتَقَيْتُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتِ أُخْتِي حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا لِحَاجَتِهِ عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ» .
فَذَهَبَ النَّاسُ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: مَذْهَبُ الْجَمْعِ.
وَالثَّانِي: مَذْهَبُ التَّرْجِيحِ.
وَالثَّالِثُ: مَذْهَبُ الرُّجُوعِ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ إِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ وَأَعْنِي بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ: عَدَمَ الْحُكْمِ.
فَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجَمْعِ حَمَلَ حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ عَلَى الصَّحَارِي حَيْثُ لَا سُتْرَةَ، وَحَمَلَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ عَلَى السُّتْرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ رَجَّحَ حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ ; لِأَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ حَدِيثَانِ أَحَدُهُمَا فِيهِ شَرْعٌ مَوْضُوعٌ، وَالْآخَرُ مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْحُكْمِ، وَلَمْ يُعْلَمِ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا مِنَ الْمُتَأَخِّرِ - وَجَبَ أَنْ يُصَارَ إِلَى الْحَدِيثِ الْمُثْبِتِ لِلشَّرْعِ ; لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِنَقْلِهِ مِنْ طَرِيقِ الْعُدُولِ، وَتَرْكُهُ الَّذِي وَرَدَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْعُدُولِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ شَرْعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَتْرُكَ شَرْعًا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ بِظَنٍّ لَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نُوجِبَ النَّسْخَ بِهِ إِلَّا لَوْ نُقِلَ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَهُ، فَإِنَّ الظُّنُونَ الَّتِي تَسْتَنِدُ إِلَيْهَا الْأَحْكَامُ مَحْدُودَةٌ بِالشَّرْعِ: أَعْنِي الَّتِي تُوجِبُ رَفْعَهَا أَوْ إِيجَابَهَا وَلَيْسَتْ هِيَ أَيُّ ظَنٍّ اتَّفَقَ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ إِنَّ الْعَمَلَ بِمَا لَمْ يَجِبْ بِالظَّنِّ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالْأَصْلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الشَّرْعَ الْمَقْطُوعَ بِهِ الَّذِي أَوْجَبَ الْعَمَلَ بِذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الظَّنِّ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الَّتِي قُلْنَاهَا هِيَ طَرِيقَةُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ الْأَنْدَلُسِيِّ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ جَيِّدَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أُصُولِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْفِقْهِيِّ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ بِالشَّكِّ مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ.
وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الرُّجُوعِ إِلَى الْأَصْلِ عِنْدَ التَّعَارُضِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الشَّكَّ يُسْقِطُ الْحُكْمَ وَيَرْفَعُهُ، وَأَنَّهُ كَلَا حُكْمٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَلَكِنَّهُ خَالَفَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِهِ.
قَالَ الْقَاضِي: فَهَذَا هُوَ الَّذِي رَأَيْنَا أَنْ نُثْبِتَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ظَنَنَّا أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ، وَهِيَ الَّتِي نَطَقَ بِهَا فِي الشَّرْعِ أَكْثَرُ ذَلِكَ، أَعْنِي أَنَّ أَكْثَرَهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ، إِمَّا تَعَلُّقًا قَرِيبًا أَوْ قَرِيبًا مِنَ الْقَرِيبِ، وَإِنْ تَذَكَّرْنَا لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَثْبَتْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَكْثَرُ مَا عَوَّلْتُ فِيمَا نَقَلْتُهُ مِنْ نِسْبَةِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ إِلَى أَرْبَابِهَا هُوَ كِتَابُ الِاسْتِذْكَارِ، وَأَنَا قَدْ أَبَحْتُ لِمَنْ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَهْمٍ لِي أَنْ يُصْلِحَهُ، وَاللَّهُ الْمُعِينُ وَالْمُوَفِّقُ.