الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمَنْ حَمَلَهَا عَلَى النَّدْبِ قَالَ إِنَّ التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَسْنُونِ وَالْمَفْرُوضِ مِنَ الْأَفْعَالِ قَالَ: إِنَّ التَّرْتِيبَ الْوَاجِبَ إِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْأَفْعَالِ الْوَاجِبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ قَالَ: إِنَّ الشُّرُوطَ الْوَاجِبَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي لَيْسَتْ وَاجِبَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الشُّرُوطِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُوَالَاةِ فِي أَفْعَالِ الْوُضُوءِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ فَرْضٌ مَعَ الذِّكْرِ وَمَعَ الْقُدْرَةِ ; سَاقِطَةٌ مَعَ النِّسْيَانِ وَمَعَ الذِّكْرِ عِنْدَ الْعُذْرِ مَا لَمْ يَتَفَاحَشِ التَّفَاوُتُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ لَيْسَتْ مِنْ وَاجِبَاتِ الْوُضُوءِ.
وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ الِاشْتِرَاكُ الَّذِي فِي الْوَاوِ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُعْطَفُ بِهَا الْأَشْيَاءُ الْمُتَرَاخِيَةُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ. وَقَدِ احْتَجَّ قَوْمٌ لِسُقُوطِ الْمُوَالَاةِ بِمَا ثَبَتَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام " أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ فِي أَوَّلِ طَهُورِهِ وَيُؤَخِّرُ غَسْلَ رِجْلَيْهِ إِلَى آخِرِ الطُّهْرِ ".
وَقَدْ يَدْخُلُ الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا فِي الِاخْتِلَافِ فِي حَمْلِ الْأَفْعَالِ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ لِأَنَّ النَّاسِيَ الْأَصْلُ فِيهِ فِي الشَّرْعِ أَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ إِلَى أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» ، وَكَذَلِكَ الْعُذْرُ يَظْهَرُ مِنْ أَمْرِ الشَّرْعِ أَنَّ لَهُ تَأْثِيرًا فِي التَّخْفِيفِ.
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ» وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ، وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النِّيَّةُ، وَبَعْضُهُمْ حَمَلَهُ عَلَى النَّدْبِ فِيمَا أَحْسَبُ.
فَهَذِهِ مَشْهُورَاتُ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَجْرِي مِنْ هَذَا الْبَابِ مَجْرَى الْأُصُولِ، وَهِيَ كَمَا قُلْنَا مُتَعَلِّقَةٌ إِمَّا بِصِفَاتِ أَفْعَالِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ، وَإِمَّا بِتَحْدِيدِ مَوَاضِعِهَا، وَإِمَّا بِتَعْرِيفِ شُرُوطِهَا، وَأَرْكَانِهَا، وَسَائِرِ مَا ذُكِرَ.
وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ مَسْحُ الْخُفَّيْنِ إِذْ كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ.
[الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ]
وَالْكَلَامُ الْمُحِيطُ بِأُصُولِهِ يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ فِي سَبْعِ مَسَائِلَ: بِالنَّظَرِ فِي جَوَازِهِ، وَفِي تَحْدِيدِ مَحَلِّهِ، وَفِي تَعْيِينِ مَحَلِّهِ، وَفِي صِفَتِهِ:(أَعْنِي: صِفَةَ الْمَحَلِّ) وَفِي تَوْقِيتِهِ، وَفِي شُرُوطِهِ، وَفِي نَوَاقِضِهِ:
الْمَسْأَلَةُ الأُولَى فَأَمَّا الْجَوَازُ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ جَائِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَوَازُهُ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: مَنْعُ جَوَازِهِ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ أَشَدُّهَا.
وَالْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَعَنْ مَالِكٍ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مَا يُظَنُّ مِنْ مُعَارَضَةِ آيَةِ الْوُضُوءِ الْوَارِدِ فِيهَا الْأَمْرُ بِغَسْلِ الْأَرْجُلِ لِلْآثَارِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْمَسْحِ مَعَ تَأَخُّرِ آيَةِ الْوُضُوءِ، وَهَذَا الْخِلَافُ كَانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ آيَةَ الْوُضُوءِ نَاسِخَةٌ لِتِلْكَ الْآثَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِهِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُمْ «حَدِيثُ جَرِيرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، فَقَالَ: مَا أَسْلَمْتُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ» .
وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِهِ: لَيْسَ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْآثَارِ تَعَارُضٌ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ إِنَّمَا هُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَنْ لَا خُفَّ لَهُ، وَالرُّخْصَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلَابِسِ الْخُفِّ، وَقِيلَ: إِنَّ تَأْوِيلَ قِرَاءَةِ الْأَرْجُلِ بِالْخَفْضِ هُوَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْآثَارِ الصِّحَاحِ الْوَارِدَةِ فِي مَسْحِهِ عليه الصلاة والسلام إِنَّمَا كَانَتْ فِي السَّفَرِ، مَعَ أَنَّ السَّفَرَ مُشْعِرٌ بِالرُّخْصَةِ وَالتَّخْفِيفِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ هُوَ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ، فَإِنَّ نَزْعَهُ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَأَمَّا تَحْدِيدُ الْمَحَلِّ: فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَيْضًا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْوَاجِبَ مِنْ ذَلِكَ مَسْحُ أَعْلَى الْخُفِّ، وَإِنَّ مَسْحَ الْبَاطِنِ (أَعْنِي أَسْفَلَ الْخُفِّ) مُسْتَحَبٌّ، وَمَالِكٌ أَحَدُ مَنْ رَأَى هَذَا وَالشَّافِعِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَسْحَ ظُهُورِهِمَا وَبُطُونِهِمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ نَافِعٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَسْحَ الظُّهُورِ فَقَطْ وَلَمْ يَسْتَحِبَّ مَسْحَ الْبُطُونِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَدَاوُدَ وَسُفْيَانَ وَجَمَاعَةٍ، وَشَذَّ أَشْهَبُ فَقَالَ: إِنَّ الْوَاجِبَ مَسْحُ الْبَاطِنِ، أَوِ الْأَعْلَى أَيُّهُمَا مَسَحَ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ تَعَارُضُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَتَشْبِيهُ الْمَسْحِ بِالْغَسْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَثَرَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ، أَحَدُهُمَا حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَفِيهِ:«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ وَبَاطِنِهِ» وَالْآخَرُ حَدِيثُ عَلِيٍّ: «لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ» ، فَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ حَمَلَ حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَحَدِيثَ عَلِيٍّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ حَسَنَةٌ.
وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ أَخَذَ إِمَّا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ، وَإِمَّا بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ، فَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ عَلَى حَدِيثِ عَلِيٍّ رَجَّحَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِيَاسِ (أَعْنِي قِيَاسَ الْمَسْحِ عَلَى الْغَسْلِ) وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ عَلِيٍّ رَجَّحَهُ مِنْ قِبَلِ مُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ أَوْ مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ، وَالْأَسْعَدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَالِكٌ. وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَسْحِ الْبَاطِنِ فَقَطْ فَلَا أَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً ; لِأَنَّهُ لَا هَذَا الْأَثَرَ اتَّبَعَ، وَلَا هَذَا الْقِيَاسَ اسْتَعْمَلَ، (أَعْنِي قِيَاسَ الْمَسْحِ عَلَى الْغَسْلِ) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَأَمَّا نَوْعُ مَحَلِّ الْمَسْحِ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ الْقَائِلِينَ بِالْمَسْحِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ فَأَجَازَ ذَلِكَ قَوْمٌ وَمَنَعَهُ قَوْمٌ.
وَمِمَّنْ مَنَعَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمِمَّنْ أَجَازَ ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي صِحَّةِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ. وَاخْتِلَافُهُمْ أَيْضًا فِي: هَلْ يُقَاسُ عَلَى الْخُفِّ غَيْرُهُ أَمْ هِيَ عِبَادَةٌ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا وَلَا يُتَعَدَّى بِهَا مَحَلُّهَا؟ فَمَنْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ الْحَدِيثُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَمَنْ لَمْ يَرَ الْقِيَاسَ عَلَى الْخُفِّ قَصَرَ الْمَسْحَ عَلَيْهِ، وَمَنْ صَحَّ عِنْدَهُ الْأَثَرُ، أَوْ جَوَّزَ الْقِيَاسَ عَلَى الْخُفِّ أَجَازَ الْمَسْحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَهَذَا الْأَثَرُ لَمْ يُخَرِّجْهُ الشَّيْخَانِ (أَعْنِي الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا) وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَلِتَرَدُّدِ الْجَوْرَبَيْنِ الْمُجَلَّدَيْنِ بَيْنَ الْخُفِّ وَالْجَوْرَبِ غَيْرِ الْمُجَلَّدِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَسْحِ عَلَيْهِمَا رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا بِالْمَنْعِ وَالْأُخْرَى بِالْجَوَازِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَأَمَّا صِفَةُ الْخُفِّ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ الصَّحِيحِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُخَرَّقِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: يَمْسَحُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ الْخَرْقُ يَسِيرًا، وَحَدَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَا يَكُونُ الظَّاهِرُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ. وَقَالَ قَوْمٌ بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ الْمُنْخَرِقِ مَا دَامَ يُسَمَّى خُفًّا، وَإِنْ تَفَاحَشَ خَرْقُهُ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ الثَّوْرِيُّ، وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَدَّمِ الْخُفِّ خَرْقٌ يَظْهَرُ مِنْهُ الْقَدَمُ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَنْهُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: اخْتِلَافُهُمْ فِي انْتِقَالِ الْفَرْضِ مِنَ الْغَسْلِ إِلَى الْمَسْحِ هَلْ هُوَ لِمَوْضِعِ السِّتْرِ (أَعْنِي سِتْرَ خُفِّ الْقَدَمَيْنِ) أَمْ هُوَ لِمَوْضِعِ الْمَشَقَّةِ فِي نَوْعِ الْخُفَّيْنِ؟ فَمَنْ رَآهُ لِمَوْضِعِ السِّتْرِ لَمْ يُجِزِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ الْمُنْخَرِقِ ; لِأَنَّهُ إِذَا انْكَشَفَ مِنَ الْقَدَمِ شَيْءٌ انْتَقَلَ فَرْضُهَا مِنَ الْمَسْحِ إِلَى الْغَسْلِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ الْمَشَقَّةُ لَمْ يَعْتَبِرِ الْخَرْقَ مَا دَامَ يُسَمَّى خُفًّا.
وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْخَرْقِ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ فَاسْتِحْسَانٌ وَرَفْعٌ لِلْحَرَجِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: كَانَتْ خِفَافُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا تَسْلَمُ مِنَ الْخُرُوقِ كَخِفَافِ النَّاسِ، فَلَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ حَظْرٌ لَوَرَدَ وَنُقِلَ عَنْهُمْ.
قُلْتُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مَسْكُوتٌ عَنْهَا، فَلَوْ كَانَ فِيهَا حُكْمٌ مَعَ عُمُومِ الِابْتِلَاءِ بِهِ لَبَيَّنَهُ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] .
الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ وَأَمَّا التَّوْقِيتُ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ أَيْضًا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ، وَأَنَّ لَابِسَ الْخُفَّيْنِ يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا مَا لَمْ يَنْزِعْهُمَا أَوْ تُصِيبُهُ جَنَابَةٌ ; وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مُؤَقَّتٌ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ:
أَحَدُهَا حَدِيثُ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
وَالثَّانِي حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ عِمَارَةَ " أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَأَمْسَحُ عَلَى الْخُفِّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَوْمًا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَيَوْمَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَثَلَاثَةً؟ قَالَ نَعَمْ حَتَّى بَلَغَ سَبْعًا، ثُمَّ قَالَ: امْسَحْ مَا بَدَا لَكَ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالطَّحَاوِيُّ.
وَالثَّالِثُ حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: «كُنَّا فِي سَفَرٍ فَأُمِرْنَا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ نَوْمٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ»
قُلْتُ: أَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَصَحِيحٌ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ عِمَارَةَ فَقَالَ فِيهِ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ قَائِمٌ، وَلِذَلِكَ لَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَارَضَ بِهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ.
وَأَمَّا حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُخْرِجْهُ الْبُخَارِيُّ وَلَا مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّحَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ مُعَارِضٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ لِحَدِيثِ أُبَيٍّ كَحَدِيثِ عَلِيٍّ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ حَدِيثَ صَفْوَانَ وَحَدِيثَ عَلِيٍّ خَرَجَا مَخْرَجَ السُّؤَالِ عَنِ التَّوْقِيتِ، وَحَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ عِمَارَةَ نَصٌّ فِي تَرْكِ التَّوْقِيتِ، لَكِنَّ حَدِيثَ أُبَيٍّ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِحَدِيثَيْ عَلِيٍّ وَصَفْوَانَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ إِلَّا أَنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ فِيهِمَا يُعَارِضُهُ الْقِيَاسُ، وَهُوَ كَوْنُ التَّوْقِيتِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي نَقْضِ الطَّهَارَةِ ; لِأَنَّ النَّوَاقِضَ هِيَ الْأَحْدَاثُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَأَمَّا شَرْطُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَهُوَ أَنْ تَكُونَ الرِّجْلَانِ طَاهِرَتَيْنِ بِطُهْرِ الْوُضُوءِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إِلَّا خِلَافًا شَاذًّا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ. وَذَكَرَهُ ابْنُ لُبَابَةَ فِي الْمُنْتَخَبِ، وَإِنَّمَا قَالَ بِهِ الْأَكْثَرُ لِثُبُوتِهِ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ وَغَيْرِهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْزِعَ الْخُفَّ عَنْهُ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:«دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ» وَالْمُخَالِفُ حَمَلَ هَذِهِ الطَّهَارَةَ عَلَى الطَّهَارَةِ اللُّغَوِيَّةِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِيمَنْ غَسَلَ رِجْلَيْهِ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ أَتَمَّ وُضُوءَهُ هَلْ يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا؟
فَمَنْ لَمْ يَرَ أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ وَرَأَى أَنَّ الطَّهَارَةَ تَصِحُّ لِكُلِّ عُضْوٍ قَبْلَ أَنْ تَكْمُلَ الطَّهَارَةُ لِجَمِيعِ الْأَعْضَاءِ قَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ، وَأَنَّهُ لَا تَصِحُّ طَهَارَةُ الْعُضْوِ إِلَّا بَعْدَ طَهَارَةِ جَمِيعِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ، وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَبِالْقَوْلِ الثَّانِي قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ التَّرْتِيبِ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تُوجَدُ لِلْعُضْوِ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ جَمِيعِ الطَّهَارَةِ، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام:«وَهُمَا طَاهِرَتَانِ» فَأَخْبَرَ عَنِ الطَّهَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْمُغِيرَةِ: «إِذَا أَدْخَلْتَ رِجْلَيْكَ فِي الْخُفِّ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ فَامْسَحْ عَلَيْهِمَا» .