الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، شَبَّهَ الْقَضَاءَ بِالْأَدَاءِ.
وَقَدْ رَأَتِ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ تُوجِبَ التَّرْتِيبَ لِلْمَقْضِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْوَقْتِ لَا مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» قَالُوا: فَوَقْتُ الْمَنْسِيَّةِ هُوَ وَقْتُ الذِّكْرِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَفْسُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ الَّتِي هُوَ فِيهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا لَا مَعْنًى لَهُ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ وَقْتُ الذِّكْرِ وَقْتًا لِلْمَنْسِيَّةِ، فَهُوَ بِعَيْنِهِ أَيْضًا وَقْتٌ لِلْحَاضِرَةِ أَوْ وَقْتٌ لِلْمَنْسِيَّاتِ إِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا كَانَ الْوَقْتُ وَاحِدًا فَلَمْ يَبْقَ أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ الْوَاقِعُ فِيهَا إِلَّا مِنْ قِبَلِ التَّرْتِيبِ بَيْنَهَا كَالتَّرْتِيبِ الَّذِي يُوجَدُ فِي أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ أَحَقَّ بِالْوَقْتِ مِنْ صَاحِبَتِهَا إِذْ كَانَ وَقْتًا لِكِلَيْهِمَا إِلَّا أَنَّ يَقُومَ دَلِيلُ التَّرْتِيبِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا عِنْدِي شَيْءٌ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا فِي هَذَا الْبَابِ لِتَرْتِيبِ الْمَنْسِيَّاتِ إِلَّا الْجَمْعُ عِنْدَ مَنْ سَلَّمَهُ، فَإِنَّ الصَّلَوَاتِ الْمُؤَدَّاةَ أَوْقَاتُهَا مُخْتَلِفَةٌ، وَالتَّرْتِيبُ فِي الْقَضَاءِ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ لِلصَّلَاتَيْنِ مَعًا، فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّ فِيهِ غُمُوضًا، وَأَظُنُّ مَالِكًا رحمه الله إِنَّمَا قَاسَ ذَلِكَ عَلَى الْجَمْعِ وَإِنَّمَا صَارَ الْجَمِيعُ إِلَى اسْتِحْسَانِ التَّرْتِيبِ فِي الْمَنْسِيَّاتِ إِذَا لَمْ يُخَفْ فَوَاتُ الْحَاضِرَةِ لِصَلَاتِهِ عليه الصلاة والسلام الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مُرَتَّبَةً، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى الْعَامِدِ، وَلَا مَعْنَى لِهَذَا، فَإِنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ، وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ كَانَ تَرْكًا لِعُذْرٍ، وَأَمَّا التَّحْدِيدُ فِي الْخَمْسِ فَمَا دُونَهَا فَلَيْسَ لَهُ وَجْهٌ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ، فَهَذَا حُكْمُ الْقَضَاءِ الَّذِي يَكُونُ فِي فَوَاتِ جُمْلَةِ الصَّلَاةِ.
[قَضَاءُ بَعْضِ الصَّلَاةِ]
وَأَمَّا الْقَضَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِي فَوَاتِ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ، فَمِنْهُ مَا يَكُونُ سَبَبُهُ النِّسْيَانَ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ سَبَبُهُ سَبْقَ الْإِمَامِ لِلْمَأْمُومِ:(أَعْنِي: أَنْ يَفُوتَ الْمَأْمُومَ بَعْضُ صَلَاةِ الْإِمَامِ)
فَأَمَّا إِذَا فَاتَ الْمَأْمُومَ بَعْضُ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ فِيهِ مَسَائِلَ ثَلَاثًا قَوَاعِدَ: إِحْدَاهَا: مَتَى تَفُوتُ الرَّكْعَةُ. وَالثَّانِيَةُ: هَلْ إِتْيَانُهُ بِمَا فَاتَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْإِمَامِ أَدَاءٌ أَوْ قَضَاءٌ. وَالثَّالِثَةُ: مَتَى يَلْزَمُهُ حُكْمُ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَمَتَّى لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ.
أَمَّا مَتَى تَفُوتُهُ الرَّكْعَةُ؟ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: إِذَا دَخَلَ وَالْإِمَامُ قَدْ أَهْوَى إِلَى الرُّكُوعِ. وَالثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ فَسَهَا أَنْ يَتْبَعَهُ فِي الرُّكُوعِ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنْ زِحَامٍ أَوْ غَيْرِهِ.
; أما الْمَسْأَلَةُ الأُولَى فَإِنَّ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: (هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ) : أَنَّهُ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَرَكَعَ مَعَهُ، فَهُوَ مُدْرِكٌ لِلرَّكْعَةِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَهَؤُلَاءِ
اخْتَلَفُوا: هَلْ مِنْ شَرْطِ هَذَا الدَّاخِلِ أَنْ يُكَبِّرَ تَكْبِيرَتَيْنِ تَكْبِيرَةً لِلْإِحْرَامِ وَتَكْبِيرَةً لِلرُّكُوعِ أَوْ يَجْزِيهِ تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ؟ . وَإِنْ كَانَتْ تَجْزِيهِ فَهَلْ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَنْوِيَ بِهَا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ أَمْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ تَجْزئه إِذَا نَوَى بِهَا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَالِاخْتِيَارُ عِنْدَهُمْ تَكْبِيرَتَانِ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا بُدَّ مِنْ تَكْبِيرَتَيْنِ، وَقَالَ قَوْمٌ: تَجْزِئ وَاحِدَةٌ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهَا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ إِذَا رَكَعَ الْإِمَامُ فَقَدْ فَاتَتْهُ الرَّكْعَةُ، وَأَنَّهُ لَا يُدْرِكُهَا مَا لَمْ يُدْرِكْهُ قَائِمًا، وَهُوَ المَنْسُوب إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا انْتَهَى إِلَى الصَّفِّ الْآخَرِ، وَقَدْ رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ، وَلَمْ يَرْفَعْ بَعْضُهُمْ، فَأَدْرَكَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجْزِيهِ ; لِأَنَّ بَعْضَهُمْ أَئِمَّةٌ لِبَعْضٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ.
وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِلَافِ: تَرَدُّدُ اسْمِ الرَّكْعَةِ بَيْنَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْفِعْلِ نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ الِانْحِنَاءُ فَقَطْ، أَوْ عَلَى الِانْحِنَاءِ وَالْوُقُوفِ مَعًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام:«مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ كَانَ اسْمُ الرَّكْعَةِ يَنْطَلِقُ عِنْدَهُ عَلَى الْقِيَامِ وَالِانْحِنَاءِ مَعًا قَالَ: إِذَا فَاتَهُ قِيَامُ الْإِمَامِ فَقَدْ فَاتَتْهُ الرَّكْعَةُ، وَمَنْ كَانَ اسْمُ الرَّكْعَةِ يَنْطَلِقُ عِنْدَهُ عَلَى الِانْحِنَاءِ نَفْسِهِ جَعَلَ إِدْرَاكَ الِانْحِنَاءِ إِدْرَاكًا لِلرَّكْعَةِ، وَالِاشْتِرَاكُ الَّذِي عَرَضَ لِهَذَا الِاسْمِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قِبَلِ تَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ اسْمَ الرَّكْعَةِ يَنْطَلِقُ لُغَةً عَلَى الِانْحِنَاءِ، وَيَنْطَلِقُ شَرْعًا عَلَى الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَمَنْ رَأَى أَنَّ اسْمَ الرَّكْعَةِ يَنْطَلِقُ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً» عَلَى الرَّكْعَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَمْ يَذْهَبْ مَذْهَبَ الْأخذِ بِبَعْضِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءُ قَالَ: لَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَ مَعَ الْإِمَامِ الثَّلَاثَةَ الْأَحْوَالَ (أَعْنِي: الْقِيَامَ، وَالِانْحِنَاءَ، وَالسُّجُودَ) ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى اعْتِبَارِ الِانْحِنَاءِ فَقَطْ أَنْ يَكُونَ اعْتَبَرَ أَكْثَرَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْمُ هَاهُنَا ; لِأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الِانْحِنَاءَ فَقَدْ أَدْرَكَ مِنْهَا جُزْأَيْنِ، وَمَنْ فَاتَهُ الِانْحِنَاءُ إِنَّمَا أَدْرَكَ مِنْهَا جُزْءًا وَاحِدًا فَقَطْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخِلَافُ آيِلًا إِلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَخْذِ بِبَعْضِ دَلَالَةِ الْأَسْمَاءِ أَوْ بِكُلِّهَا، فَالْخِلَافُ يُتَصَوَّرُ فِيهَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.
وَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَ رُكُوعَ مَنْ فِي الصَّفِّ مِنَ الْمَأْمُومِينَ فَلِأَنَّ الرَّكْعَةَ مِنَ الصَّلَاةِ قَدْ تُضَافُ إِلَى الْإِمَامِ فَقَطْ، وَقَدْ تُضَافُ إِلَى الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ.
فَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: هُوَ الِاحْتِمَالُ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ: (أَعْنِي: قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام: - «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ» وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَظْهَرُ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي: هَلْ تَجْزِيهِ تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ تَكْبِيرَتَانِ؟ (أَعْنِي الْمَأْمُومَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ) فَسَبَبُهُ هَلْ مِنْ شَرْطِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا وَاقِفًا أَمْ لَا؟ فَمَنْ رَأَى أَنَّ مِنْ
شَرْطِهَا الْمَوْضِعَ الَّذِي تُفْعَلُ فِيهِ تَعَلُّقًا بِالْفِعْلِ (أَعْنِي فِعْلَهُ عليه الصلاة والسلام)، وَكَانَ يَرَى أَنَّ التَّكْبِيرَ كُلَّهُ فَرْضٌ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ تَكْبِيرَتَيْنِ.
وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا الْمَوْضِعُ تَعَلُّقًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: " وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ " وَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ هِيَ فَقَطِ الْفَرْضُ قَالَ: يَجْزِيهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا وَحْدَهَا. وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِتَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَنْوِ بِهَا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ، فَقِيلَ: يَبْنِي عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، وَقِيلَ: إِنَّمَا يَبْنِي عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ نِيَّةِ الصَّلَاةِ عَنْ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى أَنْ يَنْوِيَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ إِلَّا مُقَارَنَةَ النِّيَّةِ لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ لَهَا وَصْفَانِ: النِّيَّةُ الْمُقَارِنَةُ، وَالْأَوَّلِيَّةُ:(أَعْنِي وُقُوعَهَا فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ)، فَمَنِ اشْتَرَطَ الْوَصْفَيْنِ قَالَ: لَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ الْمُقَارِنَةِ، وَمَنِ اكْتَفَى بِالصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ اكْتَفَى بِتَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ تُقَارِنْهَا النِّيَّةُ.
; وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ إِذَا سَهَا عَنِ اتِّبَاعِ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ حَتَّى سَجَدَ الْإِمَامُ، فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: إِذَا فَاتَهُ إِدْرَاكُ الرُّكُوعِ مَعَهُ، فَقَدْ فَاتَتْهُ الرَّكْعَةُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَقَوْمٌ قَالُوا: يَعْتَدُّ بِالرَّكْعَةِ إِذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُتِمَّ من الرُّكُوع قَبْلَ أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَوْمٌ قَالُوا: يَتْبَعُهُ وَيَعْتَدُّ بِالرَّكْعَةِ مَا لَمْ يَرْفَعِ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ الِانْحِنَاءِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَوْجُودٌ لِأَصْحَابِ مَالِكٍ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ، وَاخْتِلَافٌ بَيْنَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَنْ نِسْيَانٍ أَوْ أَنْ يَكُونَ عَنْ زِحَامٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي جُمُعَةٍ أَوْ فِي غَيْرِ جُمُعَةٍ، وَبَيْنَ اعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ عَرَضَ لَهُ هَذَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَيْسَ قَصْدُنَا تَفْصِيلَ الْمَذْهَبِ وَلَا تَخْرِيجَهُ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ الْإِشَارَةُ إِلَى قَوَاعِدِ الْمَسَائِلِ وَأُصُولِهَا، فَنَقُولُ: إِنَّ سَبَبَ الِاخْتِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ: هَلْ مِنْ شَرْطِ فِعْلِ الْمَأْمُومِ أَنْ يُقَارِنَ فِعْلَ الْإِمَامِ، أَوْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ ذَلِكَ؟ وَهَلْ هَذَا الشَّرْطُ هُوَ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الرَّكْعَةِ الثَّلَاثَةِ؟ (أَعْنِي الْقِيَامَ، وَالِانْحِنَاءَ، وَالسُّجُودَ) أَمْ إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي بَعْضِهَا؟ وَمَتَى يَكُونُ إِذَا لَمْ يُقَارِنْ فِعْلُهُ فِعْلَ الْإِمَامِ اخْتِلَافًا عَلَيْهِ: (أَعْنِي: أَنْ يَفْعَلَ هُوَ فِعْلًا وَالْإِمَامُ فِعْلًا ثَانِيًا)، فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ شَرْطٌ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ:(أَعْنِي أَنْ يُقَارِنَ فِعْلُ الْمَأْمُومِ فِعْلَ الْإِمَامِ) ، وَإِلَّا كَانَ اخْتِلَافًا عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام:«فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» قَالَ: مَتَى لَمْ يُدْرِكْ مَعَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَلَوْ جُزْءًا يَسِيرًا لَمْ يَعْتَدَّ بِالرَّكْعَةِ، وَمَنِ اعْتَبَرَهُ فِي بَعْضِهَا قَالَ: هُوَ مُدْرِكٌ لِلرَّكْعَةِ إِذَا أَدْرَكَ فِعْلَ الرَّكْعَةِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا عَلَيْهِ، فَإِذَا قَامَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنِ اتَّبَعَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَتْبَعُهُ مَا لَمْ يَنْحَنِ فِي الرَّكْعة الثَّانِيَةِ، فَإِنَّهُ رَأَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ فِعْلِ الْمَأْمُومِ أَنْ يُقَارِنَ بَعْضُهُ بَعْضَ فِعْلِ الْإِمَامِ، وَلَا كُلَّهُ، وَإِنَّمَا مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ فَقَطْ، وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ
إِذَا قَامَ مِنْ الِانْحِنَاءِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ لَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ إِنِ اتَّبَعَهُ فِيهَا ; لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْأَوْلَى، وَالْإِمَامُ فِي حُكْمِ الثَّانِيَةِ، وَذَلِكَ غَايَةُ الِاخْتِلَافِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ هَذَا الْبَابِ وَهِيَ: هَلْ إِتْيَانُ الْمَأْمُومِ بِمَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ أَدَاءٌ أَوْ قَضَاءٌ؟ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ، قَوْمٌ قَالُوا: إِنَّ مَا يَأْتِي بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ هُوَ قَضَاءٌ وَإِنَّ مَا أَدْرَكَ لَيْسَ هُوَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ.
وَقَوْمٌ قَالُوا: إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ هُوَ أَدَاءٌ، وَإِنَّ مَا أَدْرَكَ هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ.
وَقَوْمٌ فَرَّقُوا بَيْنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فَقَالُوا: يَقْضِي فِي الْأَقْوَالِ (يَعْنُونَ فِي الْقِرَاءَةِ)، وَيَبْنِي فِي الْأَفْعَالِ (يَعْني: الْأَدَاءَ) ، فَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ:(أَعْنِي مَذْهَبَ الْقَضَاءِ) قَامَ إِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ إِلَى رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي:(أَعْنِي عَلَى الْبِنَاءِ) قَامَ إِلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ يَقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ، وَيَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى رَكْعَةٍ يَقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ يَقُومُ إِلَى رَكْعَةٍ فَيَقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ، وَقَدْ نُسِبَتِ الْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ إِلَى الْمَذْهَبِ، وَالصَّحِيحُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَقْضِي فِي الْأَقْوَالِ، وَيَبْنِي فِي الْأَفْعَالِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي الْمَغْرِبِ إِنَّهُ إِذَا أَدْرَكَ مِنْهَا رَكْعَةً أَن يَقُوم إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ يَجْلِسُ، وَلَا اخْتِلَافَ فِي قَوْلِهِ إِنَّهُ يَقْضِي بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: «فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» ، وَالْإِتْمَامُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا أَدْرَكَ هُوَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ.
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ «فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» وَالْقَضَاءُ يُوجِبُ أَنَّ مَا أَدْرَكَ هُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ
; فَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْإِتْمَامِ قَالَ: مَا أَدْرَكَ هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ ; وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْقَضَاءِ قَالَ: مَا أَدْرَكَ هُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ، وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجَمْعِ جَعَلَ الْقَضَاءَ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَدَاءَ فِي الْأَفْعَالِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ (أَعْنِي أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الصَّلَاةِ أَدَاءً وَبَعْضُهَا قَضَاءً) وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، وَعَلَى أَنَّ مَوْضِعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ هُوَ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ مَا أَدْرَكَ هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ لَكِنْ تَخْتَلِفُ نِيَّةُ الْمَأْمُومِ وَالْإِمَامِ فِي التَّرْتِيبِ، فَتَأَمَّلْ هَذَا، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ أَحَدَ مَا رَاعَاهُ مَنْ قَالَ: مَا أَدْرَكَ فَهُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْأُوَلِ، وَهِيَ مَتَى يَلْزَمُ الْمَأْمُومَ حُكْمُ صَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الِاتِّبَاعِ؟ فَإِنَّ فِيهَا مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا: مَتَى يَكُونُ مُدْرِكًا لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ؟
وَالثَّانِيَةُ: مَتَى يَكُونُ مُدْرِكًا مَعَهُ لِحُكْمِ سُجُودِ السَّهْوِ (أَعْنِي سَهْوَ الْإِمَامِ) وَالثَّالِثَةُ: مَتَى يَلْزَمُ الْمُسَافِرَ الدَّاخِلَ وَرَاءَ إِمَامٍ يُتِمُّ الْإِتْمَامَ إِذَا أَدْرَكَ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ بَعْضَهَا؟
فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: إِذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ، وَيَقْضِي رَكْعَةً ثَانِيَةً، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، فَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ صَلَّى ظُهْرًا أَرْبَعًا.
وَقَوْمٌ قَالُوا: بَلْ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ أَدْرَكَ مِنْهَا مَا أَدْرَكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذَا: هُوَ مَا يُظَنُّ مِنَ التَّعَارُضِ بَيْنَ عُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» ، وَبَيْنَ مَفْهُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» فَإِنَّهُ مَنْ صَارَ إِلَى عُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» أَوْجَبَ أَنْ يَقْضِيَ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ أَدْرَكَ مِنْهَا أَقَلَّ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَمَنْ كَانَ الْمَحْذُوفُ عِنْدَهُ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» أَيْ فَقَدْ أَدْرَكَ حُكْمَ الصَّلَاةِ، وَقَالَ: دَلِيلُ الْخِطَابِ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ فَلَمْ يُدْرِكْ حُكْمَ الصَّلَاةِ وَالْمَحْذُوفُ فِي هَذَا الْقَوْلِ مُحْتَمِلٌ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ فَضْلُ الصَّلَاةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ حُكْمُ الصَّلَاةِ، وَلَعَلَّهُ لَيْسَ هَذَا الْمَجَازُ فِي أَحَدِهِمَا أَظْهَرَ مِنْهُ فِي الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ مِنْ بَابِ الْمُجْمَلِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي حُكْمًا، وَكَانَ الْآخَرُ بِالْعُمُومِ أَوْلَى، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ أَظْهَرُ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْمَحْذُوفَاتِ، وَهُوَ مَثَلًا الْحُكْمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا الظَّاهِرُ مُعَارِضًا لِلْعُمُومِ، إِلَّا مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَالْعُمُومُ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَلَا سِيَّمَا الدَّلِيلُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْمُحْتَمَلِ والظَّاهِرِ. وَأَمَّا مَنْ يَرَى أَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام:«فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَحْذُوفَاتِ فَضَعِيفٌ، وَغَيْرُ مَعْلُومٍ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، إِلَّا أَنْ يَتَقَرَّرَ أَنَّ هُنَاكَ اصْطِلَاحًا عُرْفِيًّا أَوْ شَرْعِيًّا.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ اتِّبَاعِ الْمَأْمُومِ لِلْإِمَامِ فِي السُّجُودِ: (أَعْنِي فِي سُجُودِ السَّهْوِ) فَإِنَّ قَوْمًا اعْتَبَرُوا فِي ذَلِكَ الرَّكْعَةَ: (أَعْنِي: أَنْ يُدْرِكَ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَهُ رَكْعَةً) وَقَوْمٌ لَمْ يَعْتَبِرُوا ذَلِكَ، فَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ، فَمَصِيرًا إِلَى عُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ» ، وَمَنِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ فَمَصِيرًا إِلَى مَفْهُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» .
وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي