الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ، وَجَمَاعَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ هَذِهِ السَّاعَاتِ هِيَ سَاعَاتُ النَّهَارِ فَنَدَبُوا إِلَى الرَّوَاحِ مِنْ النَّهَارِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهَا أَجْزَاءُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ، وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ أَجْزَاءُ سَاعَةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِوُجُوبِ السَّعْيِ بَعْدَ الزَّوَالِ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْوَاجِبَ يَدْخُلُهُ الْفَضِيلَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ; وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَقْتَ النِّدَاءِ فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا بفسخ الْبَيْع إِذَا وَقَعَ النِّدَاءِ، وَقَوْم قَالُوا: لَا يُفْسَخُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي أَصْلُهُ مُبَاحٌ إِذَا تَقَيَّدَ النَّهْيُ بِصِفَةٍ يَعُودُ بِفَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَمْ لَا؟ .
وَآدَابُ الْجُمُعَةِ ثَلَاثٌ: الطِّيبُ، وَالسِّوَاكُ، وَاللِّبَاسُ الْحَسَنُ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ لِوُرُودِ الْآثَارِ بِذَلِكَ.
[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي صَلَاةِ السَّفَرِ]
[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْقَصْرِ]
الْبَابُ الرَّابِعُ
فِي صَلَاةِ السَّفَرِ - وَهَذَا الْبَابُ فِيهِ فَصْلَانِ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الْقَصْرِ. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْجَمْعِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
فِي الْقَصْرِ وَالسَّفَرُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْقَصْرِ بِاتِّفَاقٍ، وَفِي الْجَمْعِ بِاخْتِلَافٍ.
أَمَّا الْقَصْرُ فَإِنَّهُ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ قَصْرِ الصَّلَاةِ لِلْمُسَافِرِ إِلَّا قَوْلًا شَاذًّا، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ: وَهُوَ أَنَّ الْقَصْرَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْخَائِفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام إِنَّمَا قَصَرَ ; لِأَنَّهُ كَانَ خَائِفًا، وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: فِي حُكْمِ الْقَصْرِ. وَالثَّانِي: فِي الْمَسَافَةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْقَصْرُ. وَالثَّالِثُ: فِي السَّفَرِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْقَصْرُ. وَالرَّابِعُ: فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَبْدَأُ مِنْهُ الْمُسَافِرُ بِالتَّقْصِيرِ. وَالْخَامِسُ: فِي مِقْدَارِ الزَّمَانِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ فِيهِ إِذَا أَقَامَ فِي مَوْضِعٍ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ.
فَأَمَّا حُكْمُ الْقَصْرِ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الْقَصْرَ هُوَ فَرْضُ الْمُسَافِرِ الْمُتَعَيَّنُ عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الْقَصْرَ وَالْإِتْمَامَ كِلَاهُمَا فَرْضٌ مُخَيَّرٌ لَهُ كَالْخِيَارِ فِي وَاجِبِ الْكَفَّارَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الْقَصْرَ سُنَّةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّهُ رُخْصَةٌ وَأَنَّ الْإِتْمَامَ
أَفْضَلُ، وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَالْكُوفِيُّونَ بِأَسْرِهِمْ (أَعْنِي أَنَّهُ فَرْضٌ مُتَعَيَّنٌ) وَبِالثَّانِي قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبِالثَّالِثِ (أَعْنِي أَنَّهُ سُنَّةٌ) قَالَ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ.
وَبِالرَّابِعِ (أَعْنِي أَنَّهُ رُخْصَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَهُوَ الْمَنْصُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْمَعْقُولِ لِصِيغَةِ اللَّفْظِ الْمَنْقُولِ، وَمُعَارَضَةُ دَلِيلِ الْفِعْلِ أَيْضًا لِلْمَعْنَى الْمَعْقُولِ وَلِصِيغَةِ اللَّفْظِ الْمَنْقُولِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ لِلْمُسَافِرِ إِنَّمَا هُوَ الرُّخْصَةُ لِمَوْضِعِ الْمَشَقَّةِ كَمَا رُخِّصَ لَهُ فِي الْفِطْرِ، وَفِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا حَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ:«قُلْتُ لِعُمَرَ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] يُرِيدُ فِي قَصْرِ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ عُمَرُ: " عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَقَالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ " فَمَفْهُومُ هَذَا الرُّخْصَةُ» .
وَحَدِيثُ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ «أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ، وَشَطْرَ الصَّلَاةِ» وَهُمَا فِي الصَّحِيحِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّخْفِيفِ وَالرُّخْصَةِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ، لَا أَنَّ الْقَصْرَ هُوَ الْوَاجِبُ، وَلَا أَنَّهُ سُنَّةٌ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ الَّذِي يُعَارِضُ بِصِيغَتِهِ الْمَعْنَى الْمَعْقُولَ، وَمَفْهُومَ هَذِهِ الْآثَارِ فَحَدِيثُ عَائِشَةَ الثَّابِتُ بِاتِّفَاقٍ قَالَتْ «فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ» وَأَمَّا دَلِيلُ الْفِعْلِ الَّذِي يُعَارِضُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولَ وَمَفْهُومَ الْأَثَرِ الْمَنْقُولِ فَإِنَّهُ مَا نُقِلَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ أَسْفَارِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ قَطُّ فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ فَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ " أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَمَا هَذَا شَأْنُهُ " فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ:(أَعْنِي: إِمَّا وَاجِبًا مُخَيَّرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سُنَّةً) وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا مُعَيَّنًا، لَكِنَّ كَوْنَهُ فَرْضًا مُعَيَّنًا
يُعَارِضُهُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ، وَكَوْنَهُ رُخْصَةً يُعَارِضُهُ اللَّفْظُ الْمَنْقُولُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا أَوْ سُنَّةً، وَكَانَ هَذَا نَوْعًا مِنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ، وَقَدِ اعْتَلُّوا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ بِالْمَشْهُورِ عَنْهَا مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ تُتِمُّ، وَرَوَى عَطَاءٌ «عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ وَيَقْصُرُ وَيَصُومُ وَيُفْطِرُ وَيُؤَخِّرُ الظُّهْرَ وَيُعَجِّلُ الْعَصْرَ وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ وَيُعَجِّلُ الْعِشَاءَ» وَمِمَّا يُعَارِضُهُ أَيْضًا حَدِيثُ أَنَسٍ، وَأَبِي نَجِيحٍ الْمَكِّيِّ قَالَ: اصْطَحَبْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُتِمُّ وَبَعْضُهُمْ يَقْصُرُ وَبَعْضُهُمْ يَصُومُ، وَبَعْضُهُمْ يُفْطِرُ، فَلَا يَعِيبُ هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَا هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي إِتْمَامِ الصَّلَاةِ عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ، فَهَذَا هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ.
أَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي، (وَهِيَ الْمَسَافَةُ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْقَصْرُ) ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ أَيْضًا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تُقْصَرُ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَذَلِكَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ بِالسَّيْرِ الْوَسَطِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالْكُوفِيُّونَ: أَقَلُّ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَإِنَّ الْقَصْرَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ سَارَ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ.
وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: الْقَصْرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ تَأْثِيرِ السَّفَرِ فِي الْقَصْرِ أَنَّهُ لِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِ مِثْلُ تَأْثِيرِهِ فِي الصَّوْمِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَجِبُ الْقَصْرُ حَيْثُ الْمَشَقَّةُ.
وَأَمَّا مَنْ لَا يُرَاعِي فِي ذَلِكَ إِلَّا اللَّفْظَ فَقَطْ، فَقَال: قَدْ قَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ» فَكُلُّ مَنِ انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مُسَافِرٍ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ، وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَقْصُرُ فِي نَحْوِ السَبْعَةَ عَشَرَ مِيلًا» وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى خَامِسٍ كَمَا قُلْنَا وَهُوَ أَنَّ
الْقَصْرَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْخَائِفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ مَذْهَبُ عَائِشَةَ وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا قَصَرَ ; لِأَنَّهُ كَانَ خَائِفًا.
أَمَّا اخْتِلَافُ أُولَئِكَ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا الْمَشَقَّةَ فَسَبَبُهُ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَ الْأَرْبَعَةِ بُرُدٍ روي عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ، وَمَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعُثْمَانَ، وَغَيْرِهِمَا.
وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ وَهُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي نَوْعِ السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، فَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلَى السَّفَرِ الْمُتَقَرَّبِ بِهِ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجِهَادِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَحْمَدُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ دُونَ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ فِي كُلِّ سَفَرٍ قُرْبَةً كَانَ أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَعْصِيَةً وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ أَوْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ لِدَلِيلِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنِ اعْتَبَرَ الْمَشَقَّةَ أَوْ ظَاهِرَ لَفْظِ السَّفَرِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ سَفَرٍ وَسَفَرٍ. وَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَ دَلِيلَ الْفِعْلِ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي السَّفَرِ الْمُتَقَرَّبِ بِهِ ; «لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَقْصُرْ قَطُّ إِلَّا فِي سَفَرٍ مُتَقَرَّبٍ بِهِ» . وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْمَعْصِيَةِ فَعَلَى جِهَةِ التَّغْلِيظِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ: هَلْ تَجُوزُ الرُّخصة لِلْعُصَاةِ أَمْ لَا؟ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَارَضَ فِيهَا اللَّفْظُ الْمَعْنَى، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا لِذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ: وَهُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مِنْهُ يَبْدَأُ الْمُسَافِرُ بِقَصْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ فِي الْمُوَطَّأِ: لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ الَّذِي يُرِيدُ السَّفَرَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ وَلَا يُتِمُّ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلَ بُيُوتِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَقْصُرُ إِذَا كَانَتْ قَرْيَةً جَامِعَةً حَتَّى يَكُونَ مِنْهَا بِنَحْوِ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَذَلِكَ عِنْدَهُ أَقْصَى مَا يَجِبُ فِيهِ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ الْجُمْهُورُ.
وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ: مُعَارَضَةُ مَفْهُومِ الِاسْمِ لِدَلِيلِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي السَّفَرِ فَقَدِ انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مُسَافِرٍ فَمَنْ رَاعَى مَفْهُومَ الِاسْمِ قَالَ: إِذَا خَرَجَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ قَصَرَ. وَمَنْ رَاعَى دَلِيلَ الْفِعْلِ (أَعْنِي فِعْلَهُ عليه الصلاة والسلام) قَالَ: لَا يَقْصُرُ إِلَّا إِذَا خَرَجَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ بِثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ لِمَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ - شُعْبَةُ الشَّاكُّ - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» .
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ إِذَا أقَامَ فِيهِ فِي بَلَدٍ أَنْ يَقْصُرَ فَاخْتِلَافٌ كَثِيرٌ حَكَى فِيهِ أَبُو عُمَرَ نَحْوًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا، إِلَّا أَنَّ الْأَشْهَرَ مِنْهَا هُوَ مَا عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ أنَّهُ إِذَا أَزْمَعَ الْمُسَافِرُ عَلَى إِقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَتَمَّ. وَالثَّانِي: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ إِذَا أَزْمَعَ عَلَى إِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ.
وَالثَّالِثُ: مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَدَاوُدَ أَنَّهُ إِذَا أَزْمَعَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَتَمَّ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: أَنَّهُ أَمْرٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ وَالْقِيَاسُ عَلَى التَّحْدِيدِ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَلِذَلِكَ رَامَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَنْ يَسْتَدِلُّوا لِمَذْهَبِهِمْ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «أَنَّهُ أَقَامَ فِيهَا مُقْصِرًا» ، أَوْ «أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا حُكْمَ الْمُسَافِرِ» .
فَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ: احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ " أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «أَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثًا يَقْصُرُ فِي عُمْرَتِهِ» ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ النِّهَايَةُ لِلتَّقْصِيرِ، وَإِنَّمَا فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَقْصُرُ فِي الثَّلَاثَةِ فَمَا دُونَهَا.
وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: احْتَجُّوا لِمَذْهَبِهِمْ بِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ عام الفتح مُقْصِرًا» ، وَذَلِكَ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَتِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِكُلٍّ قَالَ فَرِيقٌ.
وَالْفَرِيقُ الثَّالِثُ: احْتَجُّوا بِمَقَامِهِ فِي حَجِّهِ بِمَكَّةَ مُقْصِرًا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَقَدِ احْتَجَّتِ الْمَالِكِيَّةُ لِمَذْهَبِهَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْمُهَاجِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِمَكَّةَ مُقَامَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ» فَدَلَّ هَذَا عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ إِقَامَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَيْسَتْ تَسْلُبُ عَنِ الْمُقِيمِ فِيهَا اسْمَ السَّفَرَ، وَهِيَ النُّكْتَةُ الَّتِي ذَهَبَ الْجَمِيعُ إِلَيْهَا، وَرَامُوا اسْتِنْبَاطَهَا مِنْ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام (أَعْنِي: من يَرْتَفِعُ عَنْهُ بِقَصْدِ الْإِقَامَةِ اسْمُ السَّفَرِ) وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا