الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُقَدمَات
التَّوْحِيد علم يبْحَث فِيهِ عَن وجود الله وَمَا يجب أَن يثبت لَهُ من صِفَات وَمَا يجوز أَن يُوصف بِهِ وَمَا يجب أَن ينفى عَنهُ وَعَن الرُّسُل لإِثْبَات رسالتهم وَمَا يجب أَن يَكُونُوا عَلَيْهِ وَمَا يجوز أَن ينْسب إِلَيْهِم وَمَا يمْتَنع أَن يلْحق بهم
أصل معنى التَّوْحِيد اعْتِقَاد أَن الله وَاحِد لَا شريك لَهُ وسمى هَذَا الْعلم بِهِ تَسْمِيَة لَهُ بأهم أَجْزَائِهِ وَهُوَ إِثْبَات الْوحدَة لله فِي الذَّات وَالْفِعْل فِي خلق الأكوان وَأَنه وَحده مرجع كل كَون ومنتهى كل قصد وَهَذَا الْمطلب كَانَ الْغَايَة الْعُظْمَى من بعثة النبى صلى الله عليه وسلم كَمَا تشهد بِهِ آيَات الْكتاب الْعَزِيز وسيأتى بَيَانه
وَقد يُسمى علم الْكَلَام إِمَّا لِأَن أشهر مَسْأَلَة وَقع فِيهَا الْخلاف بَين عُلَمَاء الْقُرُون الأولى هِيَ أَن كَلَام الله المتلو حَادث أَو قديم وَإِمَّا لِأَن مبناه الدَّلِيل العقلى وأثره يظْهر من كل مُتَكَلم فِي كَلَامه وقلما يرجع فِيهِ إِلَى النَّقْل اللَّهُمَّ إِلَّا بعد تَقْرِير الْأُصُول الأولى ثمَّ الِانْتِقَال مِنْهَا إِلَى مَا هُوَ أشبه بالفرع عَنْهَا وَإِن كَانَ أصلا لما يأتى بعْدهَا وَإِمَّا لِأَنَّهُ فِي بَيَانه طرق الِاسْتِدْلَال على أصُول الدّين أشبه بالْمَنْطق فِي تبيينه مسالك الْحجَّة فِي عُلُوم أهل النّظر وأبدل الْمنطق بالْكلَام للتفرقة بَينهمَا
هَذَا النَّوْع من الْعلم علم تَقْرِير العقائد وَبَيَان مَا جَاءَ فِي النبوات كَانَ مَعْرُوفا عِنْد الْأُمَم قبل الْإِسْلَام ففى كل أمة كَانَ القائمون بِأَمْر الدّين يعْملُونَ لحفظه وتأييده وَكَانَ الْبَيَان من أول وسائلهم إِلَى ذَلِك لكِنهمْ كَانُوا قَلما ينحون فِي بيانهم نَحْو الدَّلِيل العقلى وَبِنَاء آرائهم وعقائدهم على مَا فِي طبيعة الْوُجُود أَو مَا يشْتَمل عَلَيْهِ نظام الْكَوْن بل كَانَت مُنَازع الْعُقُول فِي الْعلم ومضارب الدّين فِي الْإِلْزَام بالعقائد وتقريبها من مشاعر الْقُلُوب على طرفى نقيض وَكَثِيرًا مَا صرح الدّين على لِسَان رؤسائه أَنه عَدو الْعقل نتائجه ومقدماته
فَكَانَ جلّ مَا فِي عُلُوم الْكَلَام تَأْوِيل وَتَفْسِير وإدهاش بالمعجزات أَو إلهاء بالخيالات يعلم ذَلِك من لَهُ إِلْمَام بأحوال الْأُمَم قبل الْبعْثَة الإسلامية
جَاءَ الْقُرْآن فنهج بِالدّينِ منهجا لم يكن عَلَيْهِ مَا سبقه من الْكتب المقدسة منهجا يُمكن لأهل الزَّمن الذى أنزل فِيهِ وَلمن يأتى بعدهمْ أَن يقومُوا عَلَيْهِ فَلم يقصر الِاسْتِدْلَال على نبوة النبى صلى الله عليه وسلم بِمَا عهد الِاسْتِدْلَال بِهِ على النبوات السَّابِقَة بل جعل الدَّلِيل فِي حَال النبى مَعَ نزُول الْكتاب عَلَيْهِ فِي شَأْن من البلاغة يعجز البلغاء عَن محاكاته فِيهِ وَلَو فِي مثل أقصر سُورَة مِنْهُ وقص علينا من صِفَات الله مَا أذن الله لنا أَو مَا أوجب علينا أَن نعلم لَكِن لم يطْلب التَّسْلِيم بِهِ لمُجَرّد أَنه جَاءَ بحكايته وَلكنه أَقَامَ الدَّعْوَى وَبرهن وَحكى مَذَاهِب الْمُخَالفين وكر عَلَيْهَا بِالْحجَّةِ وخاطب الْعقل واستنهض الْفِكر وَعرض نظام الأكوان وَمَا فِيهَا من الْأَحْكَام والأتقان على أنظار الْعُقُول وطالبها بالإمعان فِيهَا لتصل بذلك إِلَى الْيَقِين بِصِحَّة مَا أدعاه ودعا إِلَيْهِ حَتَّى أَنه فِي سِيَاق قصَص أَحْوَال السَّابِقين كَانَ يُقرر لِلْخلقِ سنة لَا تغير وَقَاعِدَة لَا تتبدل فَقَالَ سنة الله الَّتِى خلت من قبل وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا وَصرح {إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله} واعتضد بِالدَّلِيلِ حَتَّى فِي بَاب الْأَدَب فَقَالَ {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن فَإِذا الَّذِي بَيْنك وَبَينه عَدَاوَة كَأَنَّهُ ولي حميم} وتآخى الْعقل وَالدّين لأوّل مرّة فِي كتاب مقدس على لِسَان نبى مُرْسل بتصريح لَا يقبل التَّأْوِيل
وتقرر بَين الْمُسلمين كَافَّة إِلَّا من لاثقة بعقله وَلَا بِدِينِهِ أَن من قضايا الدّين مَالا يُمكن الِاعْتِقَاد بِهِ إِلَّا من طَرِيق الْعقل كَالْعلمِ بِوُجُود الله وبقدرته على إرْسَال الرُّسُل وَعلمه بِمَا يُوحى بِهِ إِلَيْهِم وإرادته لاختصاصهم برسالته وَمَا يتبع ذَلِك مِمَّا يتَوَقَّف عَلَيْهِ فهم معنى الرسَالَة وكالتصديق بالرسالة نَفسهَا كَمَا أَجمعُوا على أَن الدّين إِن جَاءَ بشىء قد يَعْلُو عَن الْفَهم فَلَا يُمكن أَن يأتى بِمَا يَسْتَحِيل عِنْد الْعقل
جَاءَ الْقُرْآن يصف الله بِصِفَات وَإِن كَانَت أقرب إِلَى التَّنْزِيه مِمَّا وصف
بِهِ فِي مخاطبات الأجيال السَّابِقَة فَمن صِفَات الْبشر مَا يشاركها فِي الإسم أَو فى الْجِنْس كالقدرة وَالِاخْتِيَار والسمع وَالْبَصَر وَعزا إِلَيْهِ أمورا يُوجد مَا يشبهها فِي الْإِنْسَان كالاستواء على الْعَرْش وكالوجه وَالْيَدَيْنِ ثمَّ أَفَاضَ فِي الْقَضَاء السَّابِق وفى الِاخْتِيَار الممنوح للْإنْسَان وجادل الغالين من أهل المذهبين ثمَّ جَاءَ بالوعد والوعيد على الْحَسَنَات والسيئات ووكل الْأَمر فِي الثَّوَاب وَالْعِقَاب إِلَى مَشِيئَة الله وأمثال ذَلِك مِمَّا لَا حَاجَة إِلَى بَيَانه فِي هَذِه الْمُقدمَة
فأعتبار حكم الْعقل مَعَ وُرُود أَمْثَال هَذِه المشابهات فِي النَّقْل فسح مجالا للناظرين خُصُوصا ودعوة الدّين إِلَى الْفِكر فِي الْمَخْلُوقَات لم تكن محدودة بِحَدّ وَلَا مَشْرُوطَة بِشَرْط للْعلم بِأَن كل نظر صَحِيح فَهُوَ مؤد إِلَى الِاعْتِقَاد بِاللَّه على مَا وَصفه بِلَا غلو فِي التَّجْرِيد وَلَا دنو من التَّحْدِيد
مضى زمن النبى صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الْمرجع فِي الْحيرَة والسراج فِي ظلمات الشُّبْهَة وَقضى الخليفتان بعده مَا قدر لَهما من الْعُمر فِي مدافعة الْأَعْدَاء وَجمع كلمة الْأَوْلِيَاء وَلم يكن للنَّاس من الْفَرَاغ مَا يخلون فِيهِ مَعَ عُقُولهمْ ليبتلوها بالبحث فِي مبانى عقائدهم وَمَا كَانَ من اخْتِلَاف قَلِيل رد إِلَيْهِمَا وَقضى الْأَمر فِيهِ بحكمهما بعد استشارة من جاورهما من أهل الْبَصَر بِالدّينِ إِن كَانَت حَاجَة إِلَى الاستشارة وأغلب الْخلاف كَانَ فِي فروع الْأَحْكَام لَا فى أصُول العقائد ثمَّ كَانَ النَّاس فِي الزمنين يفهمون إشارات الْكتاب ونصوصه ويعتقدون بالتنزيه ويفوضون فِيمَا يُوهم التَّشْبِيه وَلَا يذهبون وَرَاء مَا يفهمهُ ظَاهر اللَّفْظ
كَانَ الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَن حدث مَا حدث فِي عهد الْخَلِيفَة الثَّالِث وأفضى إِلَى قَتله هوى بِتِلْكَ الْأَحْدَاث ركن عَظِيم من هيكل الْخلَافَة واصطدام الْإِسْلَام وَأَهله صدمة زحزحتهم عَن الطَّرِيق الَّتِى استقاموا عَلَيْهَا وبقى الْقُرْآن قَائِما على صراطه {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وَفتح للنَّاس بَاب لتعدى الْحُدُود الَّتِى حَدهَا الدّين فقد قتل الْخَلِيفَة بِدُونِ حكم شرعى وأشعر الْأَمر قُلُوب الْعَامَّة أَن شهوات تلاعبت بالعقول فِي أنفس من لم يملك الْإِيمَان قُلُوبهم وَغلب الْغَضَب على كثير من الغالين فِي دينهم وتغلب هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ على أهل الْأَصَالَة مِنْهُم فَقضيت أُمُور غير مَا يحبونَ
وَكَانَ من العاملين فِي تِلْكَ الْفِتْنَة عبد الله بن سبأ يهودى أسلم وغلا فِي حب على كرم الله وَجهه حَتَّى زعم أَن الله حل فِيهِ وَأخذ يَدْعُو إِلَى أَنه الأحق بالخلافة وَطعن على عُثْمَان فنفاه فَذهب إِلَى الْبَصْرَة وَبث فِيهَا فتنته فَأخْرج مِنْهَا فَذهب إِلَى الْكُوفَة وَنَفث مَا نفث من سم الْفِتْنَة فنفى مِنْهَا فَذهب إِلَى الشَّام فَلم يجد فِيهَا مَا يُرِيد فَذهب إِلَى مصر فَوجدَ فِيهَا أعوانا على فتنته إِلَى أَن كَانَ مَا كَانَ مِمَّا ذَكرْنَاهُ ثمَّ ظهر بمذهبه فى عهد على فنفاه إِلَى الْمَدَائِن وَكَانَ رَأْيه جرثومة لما حدث من مَذَاهِب الغلاة من بعده
توالت الْأَحْدَاث بعد ذَلِك وَنقض بعض الْمُبَايِعين للخليفة الرَّابِع مَا عقدوا وَكَانَت حروب بَين الْمُسلمين انْتهى فِيهَا أَمر السُّلْطَان إِلَى الأمويين غير أَن بِنَاء الْجَمَاعَة قد انصدع وانفصمت عرى الْوحدَة بَينهم وَتَفَرَّقَتْ بهم الْمذَاهب فِي الْخلَافَة وَأخذت الْأَحْزَاب فِي تأييد آرائهم كل ينصر رَأْيه على رأى خَصمه بالْقَوْل وَالْعَمَل وَكَانَت نشأة الاختراع فِي الرِّوَايَة والتأويل وغلا كل قبيل فافترق النَّاس إِلَى شيعَة وخوارج ومعتدلين وغلا الْخَوَارِج فَكَفرُوا من عداهم ثمَّ اسْتمرّ عنادهم وطلبهم لحكومة أشبه بالجمهورية وتكفيرهم لمن خالفهم زَمنا طَويلا إِلَى أَن اتضعضع أَمرهم بعد حروب أكلت كثيرا من الْمُسلمين وانتشرت فأرتهم فِي أَطْرَاف الْبِلَاد وَلم يكفوا عَن شعال الْفِتَن وَبقيت مِنْهُم بَقِيَّة إِلَى الْيَوْم فِي أَطْرَاف أفريقيا وناحية من جَزِيرَة الْعَرَب وغلا بعض الشِّيعَة فَرفعُوا عليا أَو بعض ذُريَّته إِلَى مقَام الألوهية أَو مَا يقرب مِنْهُ وَتبع ذَلِك خلاف فِي كثير من العقائد
غير أَن شَيْئا من ذَلِك لم يقف فِي سَبِيل الدعْوَة الإسلامية وَلم يحجب ضِيَاء الْقُرْآن عَن الْأَطْرَاف المتسائية عَن مثار النزاع وَكَانَ النَّاس يدْخلُونَ فِيهِ أَفْوَاجًا من الْفرس والسوريين وَمن جاورهم والمصريين والإفريقيين وَمن يليهم واستراح جُمْهُور عَظِيم من الْعَمَل فِي الدفاع عَن سُلْطَان الْإِسْلَام وآن لَهُم أَن يشتغلوا فِي اصول العقائد وَالْأَحْكَام بِمَا هدَاهُم إِلَيْهِ سير الْقُرْآن اشتغالا بحرص فِيهِ على النَّقْل وَلَا يهمل فِيهِ اعْتِبَار الْعقل وَلَا يغض فِيهِ من نظر الْفِكر
وَوجد من أهل الْإِخْلَاص من انتدب للنَّظَر فِي الْعلم وَالْقِيَام بفريضة التَّعْلِيم وَمن أشهرهم الْحسن البصرى فَكَانَ لَهُ مجْلِس للتعليم والإفادة فِي الْبَصْرَة يجْتَمع إِلَيْهِ الطالبون من كل صوب وتمتحن فِيهِ الْمسَائِل من كل نوع وَكَانَ قد التحف بِالْإِسْلَامِ وَلم يتبطنه أنَاس من كل مِلَّة دَخَلُوهُ حاملين لما كَانَ عِنْدهم راغبين أَن يصلوا بَينه وَبَين مَا وجدوه فثارت الشُّبُهَات بَعْدَمَا هبت على النَّاس أعاصير الْفِتَن وَاعْتمد كل نَاظر على مَا صرح بِهِ الْقُرْآن من إِطْلَاق الْعَنَان للفكر وشارك الدخلاء من حق لَهُم السَّبق من العرفاء وبدت رُءُوس المشاقين تعلو بَين الْمُسلمين
وَكَانَت أول مَسْأَلَة ظهر الْخلاف فِيهَا مَسْأَلَة الأختيار واستقلال الْإِنْسَان بإرادته وأفعاله الأختيارية وَمَسْأَلَة من ارْتكب الْكَبِيرَة وَلم يتب اخْتلف فِيهَا وأصل بن عَطاء وأستاذه الْحسن البصرى واعتزله يعلم أصولا لم يكن أَخذهَا عَنهُ غير أَن كثيرا من السّلف وَمِنْهُم الْحسن على قَول كَانَ على رأى أَن العَبْد مُخْتَار فِي أَعماله الصادرة عَن علمه وإرادته وَقَامَ يُنَازع هَؤُلَاءِ أهل الْجَبْر الَّذين ذَهَبُوا إِلَى أَن الْإِنْسَان فِي عمله الإرادى كأغصان الشَّجَرَة فِي حركاتها الأضطرارية كل ذَلِك وأرباب السُّلْطَان من بنى مَرْوَان لَا يحفلون بِالْأَمر وَلَا يعنون برد النَّاس إِلَى أصل وجمعهم على أَمر يشملهم ثمَّ يذهب كل إِلَى مَا شَاءَ سوى أَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَمر الزهرى بتدوين مَا وصل إِلَيْهِ من الحَدِيث وَهُوَ أول من جمع الحَدِيث
ثمَّ لم يقف الْخلاف عِنْد الْمَسْأَلَتَيْنِ السابقتين بل امْتَدَّ إِلَى إِثْبَات صِفَات الْمعَانى للذات الإلهية أَو نَفيهَا عَنْهَا وَإِلَى تَقْرِير سلطة الْعقل فِي معرفَة جَمِيع الْأَحْكَام الدِّينِيَّة حَتَّى مَا كَانَ مِنْهَا فروعا وعبادات غلوا فِي تأييد خطة الْقُرْآن أَو تَخْصِيص تِلْكَ السلطة بالأصول الأولى على مَا سبق بَيَانه ثمَّ غالى آخَرُونَ وهم الأقلون فمحوها بالمرة وخالفوا فِي ذَلِك طَريقَة الْكتاب عنادا للأولين وَكَانَت الآراء فِي الْخُلَفَاء والخلافة تسير مَعَ الآراء فِي العقائد كَأَنَّهَا مبْنى من مبانى الِاعْتِقَاد الإسلامى
تَفَرَّقت السبل بِاتِّبَاع وَاصل وتناولوا من كتب اليونان مالاق بعقولهم وظنوا من التَّقْوَى أَن تؤيد العقائد بِمَا أثْبته الْعلم بِدُونِ تَفْرِقَة بَين مَا كَانَ مِنْهُ رَاجعا إِلَى أوليات الْعقل وَمَا كَانَ سرابا فِي نظر الْوَهم فخلطوا بمعارف الدّين مَالا ينطبق على أصل من أصُول النّظر ولجوا فِي ذَلِك حَتَّى صَارَت شيعهم تعد بالعشرات أيدتهم الدولة العباسية وَهِي فِي ريعان الْقُوَّة فغلب رَأْيهمْ وابتدأ علماؤهم يؤلفون الْكتب فَأخذ المتمسكون بمذاهب السّلف يناضلونهم معتصمين بِقُوَّة الْيَقِين وَإِن لم يكن لَهُم عضد من الْحَاكِمين
عرف الْأَولونَ من العباسيين مَا كَانَ من الْفرس فِي إِقَامَة دولتهم وقلب دولة الأمويين واعتمدوا على طلب الْأَنْصَار فيهم وَأَعدُّوا لَهُم منصات الرّفْعَة بَين وزرائهم وحواشيهم فعلا أَمر كثير مِنْهُم وهم لَيْسُوا من الدّين فِي شَيْء وَكَانَ فيهم المانوية واليزدية وَمن لادين لَهُ وَغير أُولَئِكَ من الْفرق الفارسية فَأخذُوا ينفثون من أفكارهم ويشيرون بحالهم وبمقالهم إِلَى من يرى مثل آرائهم أَن يقتدوا بهم فَظهر الْإِلْحَاد وتطلعت رُءُوس الزندقة حَتَّى صدر أَمر الْمَنْصُور بِوَضْع كتب لكشف شبهاتهم وَإِبْطَال مزاعمهم
فِيمَا حوالى هَذَا الْعَهْد كَانَت نشأة هَذَا الْعلم نبتا لم يتكامل نموه وَبِنَاء لم يتشامخ علوه وَبَدَأَ علم الْكَلَام كَمَا انْتهى مشوبا بمبادىء النّظر فِي الكائنات جَريا على مَا سنه الْقُرْآن من ذَلِك
وَحدثت فتْنَة القَوْل بِخلق الْقُرْآن أَو أزليته وانتصر للْأولِ جمع من خلفاء العباسيين وَأمْسك عَن القَوْل أَو صرح بالأزلية عدد غفير من المتمسكين بظواهر الْكتاب وَالسّنة أَو المتعففين عَن النُّطْق بِمَا فِيهِ مجاراة الْبِدْعَة وأهين فِي ذَلِك رجال من أهل الْعلم وَالتَّقوى وسفكت فِيهِ دِمَاء بِغَيْر حق وَهَكَذَا تعدى الْقَوْم حُدُود الدّين باسم الدّين
على هَذَا كَانَ النزاع بَين مَا تطرف من نظر الْعقل وَمَا توَسط أَو غلا من الإستمساك بِظَاهِر الشَّرْع وَالْكل على وفَاق على أَن الْأَحْكَام الدِّينِيَّة وَاجِبَة
الإتباع مَا تعلق مِنْهَا بالعبادات والمعاملات وَجب الْوُقُوف عِنْده وَمَا مس بواطن الْقُلُوب وملكات النُّفُوس فرض توطين النَّفس عَلَيْهِ وَكَانَ وَرَاء هَؤُلَاءِ قوم من أهل الْحُلُول أَو الدهريين طلبُوا أَن يحملوا الْقُرْآن على مَا حملوه عِنْد التحاقهم بِالْإِسْلَامِ وأفرطوا فِي التَّأْوِيل وحولوا كل عمل ظَاهر إِلَى سر بَاطِن وفسروا الْكتاب بِمَا يبعد عَن تنَاول الْخطاب بعد الْخَطَأ عَن الصَّوَاب وَعرفُوا بالباطنية أَو الإسماعيلية وَلَهُم أَسمَاء أخر تعرف فِي التَّارِيخ فَكَانَت مذاهبهم غائلة الدّين وزلزال الْيَقِين وَكَانَت لَهُم فتن مَعْرُوفَة وحوادث مَشْهُورَة
مَعَ اتِّفَاق السّلف وخصومهم فِي مقارعة هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَة وأشياعهم كَانَ أَمر الْخلاف بَينهم جللا وَكَانَت الْأَيَّام بَينهم دولا وَلَا يمْنَع ذَلِك من أَخذ بَعضهم عَن بعض واستفادة كل فريق من صَاحبه إِلَى أَن جَاءَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن الأشعرى فِي أَوَائِل الْقرن الرَّابِع وسلك مسلكه الْمَعْرُوف وسطا بَين موقف السّلف وتطرف من خالفهم وَأخذ يُقرر العقائد على أصُول النّظر وارتاب فِي أمره الْأَولونَ وَطعن كثير مِنْهُم على عقيدته وكفره الْحَنَابِلَة واستباحوا دَمه
وَنَصره جمَاعَة من أكَابِر الْعلمَاء كأبى بكر الباقلانى وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ والإسفراينى وَغَيرهم وَسموا رَأْيه بِمذهب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة فَانْهَزَمَ من بَين أيدى هَؤُلَاءِ الأفاضل قوتان عظيمتان قُوَّة الواقفين عِنْد الظَّوَاهِر وَقُوَّة الغالين فِي الجرى خلف مَا تزينه الخواطر وَلم يبْق من أُولَئِكَ وَهَؤُلَاء بعد نَحْو من قرنين إِلَّا فئات قَليلَة فِي أَطْرَاف الْبِلَاد الإسلامية
غير أَن الناصرين لمَذْهَب الأشعرى بعد تقريرهم مَا بنى رَأْيه عَلَيْهِ من نواميس الْكَوْن أوجبوا على المعتقد أَن يُوقن بِتِلْكَ الْمُقدمَات ونتائجها كَمَا يجب عَلَيْهِ الْيَقِين بِمَا تُؤَدّى إِلَيْهِ من عقائد الْإِيمَان ذَهَابًا مِنْهُم إِلَى أَن عدم الدَّلِيل يُؤدى إِلَى عدم الْمَدْلُول وَمضى الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَن جَاءَ الإِمَام الغزالى وَالْإِمَام الرازى وَمن أَخذ مأخذهما فخالفوهم فِي ذَلِك وقرروا أَن دَلِيلا وَاحِدًا
أَو أَدِلَّة كَثِيرَة قد يظْهر بُطْلَانهَا وَلَكِن قد يسْتَدلّ على الْمَطْلُوب بِمَا هُوَ أقوى مِنْهَا فَلَا وَجه للحجز فِي الإستدلال
أما مَذَاهِب الفلسفة فَكَانَت تستمد آراءها من الْفِكر الْمَحْض وَلم يكن من هم أهل النّظر من الفلاسفة إِلَّا تَحْصِيل الْعلم وَالْوَفَاء بِمَا تنْدَفع إِلَيْهِ رَغْبَة الْعقل من كشف مَجْهُول أَو استسكناه مَعْقُول وَكَانَ يُمكنهُم أَن يبلغُوا من مطالبهم مَا شَاءُوا وَكَانَ الْجُمْهُور من أهل الدّين يكنفهم بحمايته ويدع لَهُم من إِطْلَاق الْإِرَادَة مَا يتمتعون بِهِ فِي تَحْصِيل لَذَّة عُقُولهمْ وإفادة الصِّنَاعَة وتقوية أَرْكَان النظام الْبُشْرَى بِمَا يكشفون من مساتير الْأَسْرَار المكنونة فِي ضمائر الْكَوْن فَمَا أَبَاحَ الله لنا أَن نتناوله بعقولنا وأفكارنا فِي قَوْله {خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} إِذْ لم يسْتَثْن من ذَلِك ظَاهرا وَلَا خفِيا وَمَا كَانَ عَاقل من عقلاء الْمُسلمين ليَأْخُذ عَلَيْهِم الطَّرِيق أَو يضع العقبات فِي سبيلهم إِلَى مَا هُدُوا إِلَيْهِ بعد مَا رفع الْقُرْآن من شَأْن الْعقل وَمَا وَضعه من المكانة بِحَيْثُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَمر السَّعَادَة والتمييز بَين الْحق وَالْبَاطِل والضار والنافع وَبعد مَا صَحَّ من قَوْله عليه السلام أَنْتُم أعلم بشئون دنياكم وَبعد ماسن لنا فِي غَزْوَة بدر من سنة الْأَخْذ بِمَا صدق من التجارب وَصَحَّ من الآراء
لَكِن يظْهر أَن أَمريْن غلبا على غالبهم الأول الْإِعْجَاب بِمَا نقل إِلَيْهِم عَن فلاسفة اليونان خُصُوصا أرسطو وأفلاطون ووجدان اللَّذَّة فِي تقليدهما لبادىء الْأَمر والثانى الشَّهْوَة الْغَالِبَة على النَّاس فِي ذَلِك الْوَقْت وَهُوَ أشأم الْأَمريْنِ زجوا بِأَنْفسِهِم فِي المنازعات الَّتِى كَانَت قَائِمَة بَين أهل النّظر فِي الدّين واصطدموا بعلومهم فِي قلَّة عَددهمْ مَعَ مَا انطبعت عَلَيْهِ نفوس الكافة فَمَال حماة العقائد عَلَيْهِم وَجَاء الغزالى وَمن على طَرِيقَته فَأخذُوا جَمِيع مَا وجد فِي كتب الفلاسفة مِمَّا يتَعَلَّق بالإلهيات وَمَا يتَّصل بهَا من الْأُمُور الْعَامَّة وَأَحْكَام الْجَوَاهِر والأعراض ومذاهبهم فِي الْمَادَّة وتركيب الْأَجْسَام وَجَمِيع مَا ظَنّه المشتغلون بالْكلَام يمس شَيْئا من مبانى الدّين واشتدوا فِي نَقده وَبَالغ الْمُتَأَخّرُونَ مِنْهُم
فِي تأثرهم حَتَّى كَاد يصل بهم السّير إِلَى مَا وَرَاء الإعتدال فَسَقَطت مَنْزِلَتهمْ من النُّفُوس ونبذتهم الْعَامَّة وَلم تحفل بهم الْخَاصَّة وَذهب الزَّمَان بِمَا كَانَ ينْتَظر الْعَالم الإسلامى من سَعْيهمْ
هَذَا هُوَ السَّبَب فِي خلط مسَائِل الْكَلَام بمذاهب الفلسفة فِي كتب الْمُتَأَخِّرين كَمَا ترَاهُ فِي كتب البيضاوى والعضد وَغَيرهم وَجمع عُلُوم نظرية شَتَّى وَجعلهَا جَمِيعًا علما وَاحِدًا والذهاب بمقدماته ومباحثه إِلَى مَا هُوَ أقرب إِلَى التَّقْلِيد من النّظر فَوقف الْعلم عَن التَّقَدُّم
ثمَّ جَاءَت فتن طلاب الْملك من الأجيال الْمُخْتَلفَة وتغلب الْجُهَّال على الْأَمر وفتكوا بِمَا بقى من أثر الْعلم النظرى النابع من عُيُون الدّين الإسلامى فانحرفت الطَّرِيق بسالكيها وَلم يعد بَين الناظرين فِي كتب السَّابِقين إِلَّا تحاور فِي الْأَلْفَاظ أَو تناظر فِي الأساليب على أَن ذَلِك فِي قَلِيل من الْكتب أختارها الضعْف وفضلها الْقُصُور
ثمَّ انتشرت الفوضى الْعَقْلِيَّة بَين الْمُسلمين تَحت حماية الجهلة من ساستهم فجَاء قوم ظنُّوا فِي أنفسهم مالم يعْتَرف بِهِ الْعلم لَهُم فوضعوا مالم يعد لِلْإِسْلَامِ قبل باحتماله غير أَنهم وجدوا من نقص المعارف أنصارا وَمن الْبعد عَن ينابيع الدّين أعوانا فشردوا بالعقول عَن مواطنها وتحكموا فِي التضليل والتكفير وغلوا فِي ذَلِك حَتَّى قلدوا بعض من سبق من الْأُمَم فِي دَعْوَى الْعَدَاوَة بَين الْعلم وَالدّين وَقَالُوا لما تصف ألسنتهم الْكَذِب هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام وَهَذَا كفر وَهَذَا إِسْلَام وَالدّين من وَرَاء مَا يتوهمون وَالله جلّ شَأْنه فَوق مَا يظنون وَمَا يصفونَ وَلَكِن مَاذَا أصَاب الْعَامَّة فِي عقائدهم ومصادر أَعْمَالهم من أنفسهم بعد طول الْخبط وَكَثْرَة الْخَلْط شَرّ عَظِيم وخطب عميم
هَذَا مُجمل من تَارِيخ هَذَا الْعلم ينبئك كَيفَ أسس على قَوَاعِد من الْكتاب الْمُبين وَكَيف عبثت بِهِ فِي نِهَايَة الْأَمر أيدى المفرقين حَتَّى خَرجُوا بِهِ عَن قَصده وبعدوا بِهِ عَن حَده
والذى علينا اعْتِقَاده أَن الدّين الإسلامى دين تَوْحِيد فِي العقائد لَا دين تَفْرِيق فِي الْقَوَاعِد الْعقل من أَشد أعوانه وَالنَّقْل من أقوى أَرْكَانه وَمَا وَرَاء