المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الدّين باعثا لَهَا على طلب الْعرْفَان مطالبا لَهَا باحترام الْبُرْهَان - التوحيد لمحمد عبده

[محمد عبده]

فهرس الكتاب

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌مُقَدمَات

- ‌أَقسَام الْمَعْلُوم

- ‌حكم المستحيل

- ‌أَحْكَام الْمُمكن

- ‌الْمُمكن مَوْجُود قطعا

- ‌وجود الْمُمكن يقتضى بِالضَّرُورَةِ وجود الْوَاجِب

- ‌أَحْكَام الْوَاجِب

- ‌الْقدَم والبقاء وَنفى التَّرْكِيب

- ‌الْحَيَاة

- ‌ الْعلم

- ‌الْإِرَادَة

- ‌الْقُدْرَة

- ‌الإختيار

- ‌الْوحدَة

- ‌الصِّفَات السمعية الَّتِى يجب الإعتقاد بهَا

- ‌كَلِمَات فِي الصِّفَات إِجْمَالا

- ‌أَفعَال الله جلّ شَأْنه

- ‌أَفعَال الْعباد

- ‌حسن الْأَفْعَال وقبحها

- ‌الرسَالَة الْعَامَّة

- ‌حَاجَة الْبشر إِلَى الرسَالَة

- ‌امكان الوحى

- ‌وُقُوع الْوَحْي والرسالة

- ‌وَظِيفَة الرُّسُل عليهم السلام

- ‌اعْتِرَاض مشهود

- ‌رِسَالَة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم

- ‌الْقُرْآن

- ‌الْإِسْلَام أَو الدّين الإسلامى

- ‌انتشار الْإِسْلَام

- ‌بِسُرْعَة لم يعْهَد لَهَا نَظِير فى التَّارِيخ

- ‌ايراد سهل الايراد

- ‌الْجَواب

- ‌التَّصْدِيق بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم

- ‌خَاتِمَة

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

الفصل: الدّين باعثا لَهَا على طلب الْعرْفَان مطالبا لَهَا باحترام الْبُرْهَان

الدّين باعثا لَهَا على طلب الْعرْفَان مطالبا لَهَا باحترام الْبُرْهَان فارضا عَلَيْهَا أَن تبذل مَا تَسْتَطِيع من الْجهد فى معرفَة مَا بَين يَديهَا من العوالم وَلَكِن مَعَ الْتِزَام الْقَصْد وَالْوُقُوف فى سَلامَة الِاعْتِقَاد عِنْد الْحَد وَمن قَالَ غير ذَلِك فقد جهل الدّين وجنى عَلَيْهِ جِنَايَة لَا يغفرها لَهُ رب الْعَالمين

‌اعْتِرَاض مشهود

قَالَ قَائِل إِن كَانَت بعثة الرُّسُل حَاجَة من حاجات الْبشر وكمالا لنظام اجْتِمَاعهم وطريقا لسعادتهم الدُّنْيَوِيَّة والأخروية فَمَا بالهم لم يزَالُوا أشقياء عَن السَّعَادَة بعداء يتخالفون وَلَا يتفقون يتقاتلون وَلَا يتناصرون يتناهبون وَلَا يتناصفون كل يستعد للوثبة وَلَا ينْتَظر إِلَّا مجىء النّوبَة حَشْو جُلُودهمْ الظُّلم وملء قُلُوبهم الطمع عد أهل كل ذى دين دينهم حجَّة لمقارعة من خالفهم فِيهِ وَاتَّخذُوا مِنْهُ سَببا جَدِيدا للعداوة والعدوان فَوق مَا كَانَ من اخْتِلَاف الْمصَالح وَالْمَنَافِع بل أهل الدّين الْوَاحِد قد تَنْشَق عصاهم وتختلف مذاهبهم فى فهمه وتتفارق عُقُولهمْ فى عقائدهم ويثور بَينهم غُبَار الشَّرّ وتتشبث أهواؤهم بالفتن فيسفكون دِمَاءَهُمْ ويخربون دِيَارهمْ إِلَى أَن يغلب قويهم ضعيفهم فيستقر الْأَمر للقوة لَا للحق وَالدّين فها هُوَ الدّين الذى تَقول إِنَّه جَامع الْكَلِمَة وَرَسُول الْمحبَّة كَانَ سَببا فى الشقاق ومضرما للضغينة فَمَا هَذِه الدَّعْوَى وَمَا هَذَا الْأَثر

نقُول فى جَوَابه نعم كل ذَلِك قد كَانَ وَلَكِن بِعُذْر من الْأَنْبِيَاء وانقضاء عَهدهم وَوُقُوع الدّين فى أيدى من لَا يفهمهُ أَو يفهمهُ ويغلو فِيهِ أَولا يغلو فِيهِ وَلَكِن لم يمتزج حبه بِقَلْبِه أَو امتزج بِقَلْبِه حب الدّين وَلَكِن ضَاقَتْ سَعَة عقله عَن تصريفه تصريف الْأَنْبِيَاء أنفسهم أَو الْخيرَة من تبعتهم وَإِلَّا فَقل لنا أى نبى لم يَأْتِ أمته بِالْخَيرِ الجم والفيض الْأَعَمّ وَلم يكن دينه وافيا بِجَمِيعِ مَا كَانَت تمس إِلَيْهِ حَاجَتهَا فى أفرادها وجملتها

أَظن أَنَّك لَا تخالفنا فى أَن الْجُمْهُور الْأَعْظَم من النَّاس بل الْكل إِلَّا قَلِيلا

ص: 65

لَا يفهمون فلسفة أفلاطون وَلَا يقيسون أفكارهم وآراءهم بمنطق أرسطو بل لَو عرض أقرب المعقولات إِلَى الْعُقُول عَلَيْهِم بأوضح عبارَة يُمكن أَن يأتى بهَا معبر لما أدركوا مِنْهَا إِلَّا خيالا لَا أثر لَهُ فى تَقْوِيم النَّفس وَلَا فى إصْلَاح الْعَمَل فَاعْتبر هَذِه الطَّبَقَات فى حَالهَا الَّتِى لَا تفارقها من تلاعب الشَّهَوَات بهَا ثمَّ أنصب نَفسك واعظا بَينهَا فى تَخْفيف بلَاء سَاقه النزاع إِلَيْهَا فأى الطّرق أقرب إِلَيْك فى مهاجمة شهواتهم وردهَا إِلَى الِاعْتِدَال فى رغائبها من البديهى أَنَّك لَا تَجِد الطَّرِيق الْأَقْرَب فى بَيَان مضار الْإِسْرَاف فى الرغب وفوائد الْقَصْد فى الطّلب وَمَا ينحو نَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يصل إِلَيْهِ أَرْبَاب الْعُقُول السامية إِلَّا بطويل النّظر وَإِنَّمَا تَجِد أقصد الطّرق وأقومها أَن تأتى إِلَيْهِ من نَافِذَة الوجدان المطلة على سر الْقَهْر الْمُحِيط بِهِ من كل جَانب فتذكره بقدرة الله الذى وهبه مَا وهب الْغَالِب عَلَيْهِ فى أدنى شئونه إِلَيْهِ الْمُحِيط بِمَا فى نَفسه الْآخِذ بأزمة هممه وتسوق إِلَيْهِ من الْأَمْثَال فى ذَلِك مَا يقرب إِلَى فهمه ثمَّ تروى لَهُ مَا جَاءَ فى الدّين المعتقد بِهِ من مواعظ وَعبر وَمن سير السّلف فى ذَلِك الدّين مَا فِيهِ أُسْوَة حَسَنَة وتنعش روحه بِذكر رضَا الله إِذا استقام وسخطة عَلَيْهِ إِذا تقحم عِنْد ذَلِك يخشع مِنْهُ الْقلب وتدمع الْعين ويستخذى الْغَضَب وتخمد الشَّهْوَة وَالسَّامِع لم يفهم من ذَلِك كُله إِلَّا أَنه يرضى الله وأولياءه إِذا أطَاع ويسخطهم إِذا عصى ذَلِك هُوَ الْمَشْهُود من حَال الْبشر غابرهم وحاضرهم ومنكره يسم نَفسه أَنه لَيْسَ مِنْهُم كم سمعنَا أَن عيُونا بَكت وزفرات صعدت وَقُلُوبًا خَشَعت لواعظ الدّين وَلَكِن هَل سَمِعت بِمثل ذَلِك بَين يدى نصاح الْأَدَب وزعماء السياسة مَتى سمعنَا أَن طبقَة من طَبَقَات النَّاس يغلب الْخَيْر على أَعْمَالهم لما فِيهِ من الْمَنْفَعَة لعامتهم أَو خاصتهم وينفى الشَّرّ من بَينهم لما يجلبه عَلَيْهِم من مضار ومهالك هَذَا أَمر لم يعْهَد فى سير الْبشر وَلَا ينطبق على فطرهم وَإِنَّمَا قوام الملكات هُوَ العقائد والتقاليد وَلَا قيام للأمرين إِلَّا بِالدّينِ فعامل الدّين هُوَ أقوى العوامل فى أَخْلَاق الْعَامَّة بل والخاصة وسلطانه على نُفُوسهم أَعلَى من سُلْطَان الْعقل الذى هُوَ خَاصَّة نوعهم

قُلْنَا إِن منزلَة النبوات من الِاجْتِمَاع هى منزلَة الْعقل من الشَّخْص أَو منزلَة

ص: 66

الْعلم الْمَنْصُوب على الطَّرِيق المسلوك بل نصعد إِلَى مَا فَوق ذَلِك ونقول منزلَة السّمع وَالْبَصَر أَلَيْسَ من وَظِيفَة الباصرة التَّمْيِيز بَين الْحسن والقبيح من المناظر وَبَين الطَّرِيق السهلة والسلوك والمعابر الوعرة وَمَعَ ذَلِك فقد يسىء الْبَصِير اسْتِعْمَال بَصَره فيتردى فى هاوية يهْلك فِيهَا وَعَيناهُ سليمتان تلمعان فى وَجهه يَقع ذَلِك لطيش أَو اهمال أَو غَفلَة أَو لجاج وعناد وَقد يقوم من الْعقل والحس ألف دَلِيل على مضرَّة شىء وَيعلم ذَلِك الباغى فى رايه من أهل الشَّرّ ثمَّ يُخَالف تِلْكَ الدَّلَائِل الظَّاهِرَة ويقتحم الْمَكْرُوه لقَضَاء شَهْوَة اللجاج أَو نَحْوهَا وَلَكِن وُقُوع هَذِه الْأَمْثَال لَا ينقص من قدر الْحس أَو الْعقل فِيمَا خلق لأَجله كَذَلِك الرُّسُل عليهم السلام أَعْلَام هِدَايَة نصبها الله على سَبِيل النجَاة فَمن النَّاس من اهْتَدَى بهَا فَانْتهى إِلَى غايات السَّعَادَة وَمِنْهُم من غلط فى فهمها أَو انحرف عَن هديها فانكب فى مهاوى الشَّقَاء فالدين هاد وَالنَّقْص يعرض لمن دعوا إِلَى الاهتداء بِهِ وَلَا يطعن نقصهم فى كَمَاله واشتداد حَاجتهم إِلَيْهِ {يضل بِهِ كثيرا وَيهْدِي بِهِ كثيرا وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} أَلا إِن الدّين مُسْتَقر السكينَة ولجأ الطُّمَأْنِينَة بِهِ يرضى كل بِمَا قسم لَهُ وَبِه يدأب عَامل حَتَّى يبلغ الْغَايَة من عمله وَبِه تخضع النُّفُوس إِلَى أَحْكَام السّنَن الْعَامَّة فى الْكَوْن وَبِه ينظر الْإِنْسَان إِلَى من فَوْقه فى الْعلم والفضيلة وَإِلَى من دونه فِي المَال والجاه اتبَاعا لما وَردت بِهِ الْأَوَامِر الإلهية الدّين أشبه بالبواعث الفطرية الإلهامية مِنْهُ بالدواعى الاختيارية الدّين قُوَّة من أعظم قوى الْبشر وَإِنَّمَا قد يعرض عَلَيْهَا من الْعِلَل مَا يعرض لغَيْرهَا من القوى وكل مَا وَجه إِلَى الدّين من مثل الِاعْتِرَاض الذى نَحن بصدده فتبعته فى أَعْنَاق القائمين عَلَيْهِ الناصبين أنفسهم منصب الدعْوَة إِلَيْهِ أَو المعروفين بِأَنَّهُم حفظته ورعاة أَحْكَامه وَمَا عَلَيْهِم فى إبلاغ الْقُلُوب بغيتها مِنْهُ إِلَّا أَن يهتدوا بِهِ ويرجعوا بِهِ إِلَى أُصُوله الطاهرة الأولى ويضعوا عَنهُ أوزار الْبدع فترجع إِلَيْهِ قوته وَتظهر للأعمى حكمته

رُبمَا يَقُول قَائِل إِن هَذِه الْمُقَابلَة بَين الْعقل وَالدّين تميل إِلَى رأى الْقَائِلين بإهمال الْعقل بالمرة فى قضايا الدّين وَبِأَن أساسه هُوَ التَّسْلِيم الْمَحْض وَقطع الطَّرِيق

ص: 67