الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قيدوه ولجوا فى مقاومته وَإِن أدّى ذَلِك إِلَى جحد الْعقل برمتِهِ فأكثرهم يعْتَقد فيستدل وقلما نجد بَينهم من يسْتَدلّ ليعتقد فَإِن صَاح بهم صائح من عماق سرائرهم ويل للخابط ذَلِك قلب لسنة الله فى خلقه وتحريفلهدية وتحريف لهدية فى شَرعه عرتهم هزة من الْجزع ثمَّ عَادوا إِلَى السّكُون محتجين بِأَن هَذَا هُوَ المألوف وَمَا أَقَمْنَا إِلَّا على مَعْرُوف وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه العلى الْعَظِيم
حسن الْأَفْعَال وقبحها
الْأَفْعَال الإنسانية الإختيارية لَا تخرج عَن أَن تكون من الأكوان الْوَاقِعَة تَحت مداركنا وَمَا تنفعل بِهِ نفوسنا عِنْد الإحساس بهَا أَو استحضار صورها يشابه كل المشابهة مَا تنفعل بِهِ عِنْد وُقُوع بعض الكائنات تَحت حواسنا أَو حُضُورهَا فى مخيلاتنا وَذَلِكَ بديهى لَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل
نجد فى أَنْفُسنَا بِالضَّرُورَةِ تمييزا بَين الْجَمِيل من الْأَشْيَاء والقبيح مِنْهَا فان اخْتلفت مشارب الرِّجَال فى فهم جمال النِّسَاء أَو مشارب النِّسَاء فى معنى جمال الرِّجَال فَلم يخْتَلف أحد فى جمال ألوان الأزهار وتنضيد اوراق النباتات وَالْأَشْجَار خُصُوصا إِذا كَانَت أوضاع الزهر على أشكال تمثل الائتلاف والتناسب بَين تِلْكَ الألوان بَعْضهَا مَعَ بعض وَلَا فى قبح الصُّورَة الممثل بهَا بتهشيم بعض أَجْزَائِهَا وَانْقِطَاع الْبَعْض الآخر على غير نظام وانفعال أَنْفُسنَا من الْجَمِيل بهجة أَو إعجاب وَمن الْقَبِيح اشمئزاز أَو جزع وكما يَقع هَذَا التَّمْيِيز فى المبصرات يَقع فى غَيرهَا من المسموعات والملموسات والمذوقات والمشمومات كَمَا هُوَ مَعْرُوف لكل حساس من بنى آدم بِإِحْدَى تِلْكَ الْحَواس
لَيْسَ هَذَا مَوضِع تَحْدِيد مَا هُوَ الْجمال وَمَا هُوَ الْقبْح فى الْأَشْيَاء وَلَكِن لَا يخالفنا أحد فى أَن من خَواص الْإِنْسَان بل وَبَعض الْحَيَوَان التَّمْيِيز بَينهمَا وعَلى هَذَا قَامَت الصناعات على اخْتِلَاف أَنْوَاعهَا وَبِه ارْتقى الْعمرَان فى أطواره
إِلَى الْحَد الذى نرَاهُ عَلَيْهِ الْآن وَإِن اخْتلفت الأذواق ففى الْأَشْيَاء جمال وقبح
هَذَا فى المحسوسات وَاضح كَمَا سبق وَلَعَلَّه لَا ينزل عَن تِلْكَ الدرجَة فى الوضوح مالم بِهِ الْعقل من الموجودات المعقولة وَإِن اخْتلف اعْتِبَار الْجمال فِيهَا فالكمال فى المعقولات كالوجود الْوَاجِب والأرواح اللطيفة وصفات النُّفُوس البشرية لَهُ جمال تشعر بِهِ أنفس عارفيه وتنبهر لَهُ بصائر لاحظية وللقص قبح لَا تنكره المدارك الْعَالِيَة وَإِن اخْتلف أثر الشُّعُور بِبَعْض أطواره فى الوجدان عَن اثر الإحساس بالقبيح فى المحسوسات وَهل فى النَّاس من يُنكر قبح النَّقْص فى الْعقل أَو السُّقُوط فى الهمة وَضعف الْعَزِيمَة ويكفى أَن أَرْبَاب هَذِه النقائص المعنوية يجاهدون فى إخفائها ويفخرون أَحْيَانًا بِأَنَّهُم متصفون بأضدادها
وَقد يجمل الْقبْح بِجَمَال أَثَره ويقبح الْجَمِيل بقبح مَا يقْتَرن بِهِ فالمر قَبِيح مستشبع وَلذَلِك الدميم المشوه ألخلقه ينبو عَنهُ النّظر لَكِن أثر المر فى معالجة الْمَرَض وَعدل الدميم فى رَعيته أَو إحسانه إِلَيْك فى خَاصَّة نَفسك يُغير من حالتك النفسة عِنْد حُضُور صورته فَإِن جمال الْأَثر يلقى على صَاحبه أشعة من بهائه فَلَا يشْعر الوجدان مِنْهُ إِلَّا بالجميل وَمثل ذَلِك يُقَال فى قبح الحلو إِذا أضرّ واشمئزاز النَّفس من الْجَمِيل إِذا ظلم وأصر
هَل يُمكن لعاقل أَن لَا يَقُول فى الْأَفْعَال الأختيارية كَمَا قَالَ فى الموجودات الكونية مَعَ أَنَّهَا نوع مِنْهَا وَتَقَع تَحت حواسنا ومداركنا الْعَقْلِيَّة إِمَّا بِنَفسِهَا وَإِمَّا بآثرها وتنفعل بِمَا يلم بهَا مِنْهَا كَمَا تنفعل بِمَا يرد عَلَيْهَا من صور الكائنات كلا بل هى قسم من الموجودات حكمهَا فى ذَلِك حكم سائرها بالبداهة
فَمن الْأَفْعَال الاختيارية مَا هُوَ معجب فى نَفسه تَجِد النَّفس مِنْهُ مَا تَجِد من جمال الْخلق كالحركات العسكرية المنتظمة وتقلب المهرة من اللاعبين فى الألاعيب الْمَعْرُوفَة الْيَوْم وبالجمتاستيك كإيقاع النغمات على القوانين الموسيقية من العازف بهَا وَمِنْهَا مَا هُوَ قَبِيح فى نَفسه يحس مِنْهُ مَا يحس من رُؤْيَة الْخلق المشوه كتخبط ضعفاء النُّفُوس عِنْد الْجزع وكولولة النائحات ونقع المذعورين
وَمِنْهَا مَا هُوَ قَبِيح لما يعقبه من الْأَلَم وَمَا هُوَ حسن لما يجلب من اللَّذَّة أَو دفع الْأَلَم فَالْأول كالضرب وَالْجرْح وكل مَا يؤلم من أَفعَال الْإِنْسَان والثانى كَالْأَكْلِ على جوع وَالشرب على عَطش وكل مَا يحصل لَذَّة أَو يدْفع ألما مِمَّا لَا يُحْصى عده وفى هَذَا الْقسم يكون الْحسن بِمَعْنى مَا يلذ والقبيح بِمَعْنى المؤلم
وقلما يخْتَلف تَمْيِيز الْإِنْسَان لِلْحسنِ والقبيح من الْأَفْعَال بالمعنيين السَّابِقين عَن تَمْيِيز الْحَيَوَانَات المرتقبة فى سلسلة الْوُجُود اللَّهُمَّ إِلَّا فى قُوَّة الوجدان وتحديد مرتبَة الْجمال والقبح
وَمن الْأَفْعَال الاختيارية مَا يحسن بِاعْتِبَار مَا يجلب من النَّفْع وَمَا يقبح بِمَا يجر إِلَيْهِ من الضَّرَر وَيخْتَص الْإِنْسَان بالتمييز بَين الْحسن والقبيح بِهَذَا الْمَعْنى إِذا أَخذ من أكمل وجهانه وقلما يُشَارِكهُ فِيهِ حَيَوَان آخر اللَّهُمَّ إِلَّا من أحط جهانه وَهُوَ خَاصَّة الْعقل وسر الْحِكْمَة الإلهية فى هبة الْفِكر
فَمن اللذيذ مَا يقبح لشئوم عاقبته كالإفراط فى تنَاول الطَّعَام وَالشرَاب والإنقطاع إِلَى سَماع الأغانى والجرى فى أعقاب الشَّهَوَات فَإِن ذَلِك مفْسدَة للصِّحَّة مضيعة لِلْعَقْلِ متلفة لِلْمَالِ مدعاة للعجز والذل وَإِنَّمَا قبح اللذيذ فى هَذَا الْموضع لقصر مدَّته وَطول مُدَّة مَا يجر إِلَيْهِ عَادَة من الآلام الَّتِى قد لَا تنتهى إِلَّا بِالْمَوْتِ على أَسْوَأ حالاته ولضعف النِّسْبَة بَين مَتَاع اللَّذَّة ومقاساة شَدَائِد الْأَلَم وَمن المؤلم مَا يحسن كتجشم مشاق التَّعَب فى الْأَعْمَال لكسب الرزق وتأمين النَّفس حاجاته فى أَوْقَات الضعْف ومجاهدة الشَّهَوَات ومقاساة الحرمان من بعض اللَّذَّات حينا من الزَّمن ليتوفر للقوى الْبَدَنِيَّة والعقلية حظها من التَّمَتُّع بِمَا قدر لَهَا من اللذائذ على وَجه ثَابت لَا يخالطه اضْطِرَاب أَو على نمط يُخَفف من رزايا الْحَيَاة إِن عدت الْحَيَاة مثارا لَهَا
وَمن المؤلم الذى عده الْعقل الْبُشْرَى حسنا مقارعة الْإِنْسَان عدوه سَوَاء كَانَ من نَوعه أَو من غَيره للمدافعة عَن نَفسه أَو عَن أنصاره وَمِنْهُم بَنو أَبِيه أَو قبيلته أَو شعبه أَو أمته حسب ارتقائه فى الإحساس ومخاطرته حَتَّى بحياته فى
سَبِيل ذَلِك كَأَنَّهُ يرى فى بذل هَذِه الْحَيَاة أمنا على حَيَاة أُخْرَى تشعر بهَا نَفسه وَإِن لم يحددها عقله وَمِنْه معاناة التَّعَب فى كشف مَا عمى عَن علمه من حقائق الْكَوْن كَأَنَّهُ لَا يرى الْمَشَقَّة فِي ذَلِك شَيْئا بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا يحصل من لَذَّة الاطمئنان على الْحق بِقدر مَاله من الِاسْتِطَاعَة
وعد من اللذيذ المستقبح مد الْيَد إِلَى مَا كَسبه الْغَيْر بسعيه واستشفاء ألم الحقد بِإِتْلَاف نفس المحقود عَلَيْهِ أَو مَاله لما فى ذَلِك من جلب المخافة الْعَامَّة حَتَّى على ذَات المتعدى ويمكنك من نَفسك استحضار مَا يتبع الْوَفَاء بالعهود والعقود والغدر فِيهَا
كل هَذَا عرفه الْعقل الْبُشْرَى وَفرق فِيهِ بَين الضار والنافع وسمى الأول فعل الشَّرّ والثانى عمل الْخَيْر وَهَذَا التَّفْرِيق هُوَ منبت التَّمْيِيز بَين الْفَضِيلَة والرذيلة وَقد حددهما النّظر الفكرى على تفَاوت فى الْإِجْمَال وَالتَّفْصِيل للتفاوت فى دَرَجَات عقول الناظرين وناط بهما سَعَادَة الْإِنْسَان وشقاءه فى هَذِه الْحَيَاة كَمَا ربط بهما نظام الْعمرَان الْبُشْرَى وفساده وَعزة الْأُمَم وذلتها وضعفها وقوتها وَإِن كَانَ المحددون لذَلِك والآخذون فِيهِ بحظ من الصَّوَاب هم الْعدَد الْقَلِيل من عقلاء الْبشر
كل هَذَا من الأوليات الْعَقْلِيَّة لم يخْتَلف فِيهِ ملى وَلَا فيلسوف فللأعمال الاختيارية حسن وقبح فى نَفسهَا أَو بِاعْتِبَار أَثَرهَا فى الْخَاصَّة أَو فى الْعَامَّة والحس أَو الْعقل قَادر على تَمْيِيز مَا حسن مِنْهَا وَمَا قبح بالمعانى السَّابِقَة بِدُونِ توقف على سمع وَالشَّاهِد على ذَلِك مَا نرَاهُ فى بعض أَصْنَاف الْحَيَوَان وَمَا نشهده فى أفاعيل الصّبيان قبل تعقل مَا معنى الشَّرْع وَمَا وصل إِلَيْنَا من تَارِيخ الْإِنْسَان وَمَا عرف عَنهُ فى جاهليته
وَمِمَّا يحسن ذكره هُنَا مَا شَاهده بعض الناظرين فى أَحْوَال النَّمْل قَالَ كَانَت جمَاعَة من النَّمْل تشتغل فى بَيت لَهَا فَجَاءَت نملة كَأَنَّهَا الْقَائِمَة بمراقبة الْعَمَل فرأت المشتغلات قد وضعت السّقف على أقل من الِارْتفَاع الْمُنَاسب فَأمرت بهدمه
فهدم وَرفع الْبُنيان إِلَى الْحَد الْمُوَافق وَوضع السّقف على أرفع مِمَّا كَانَ وَذَلِكَ من أنقاض السّقف الْقَدِيم وَهَذَا هُوَ التَّمْيِيز بَين الضار والنافع فَمن زعم أَن لَا حسن وَلَا قبح فى الْأَعْمَال على الْإِطْلَاق فقد سلب نَفسه الْعقل بل عدهَا أَشد حمقا من النَّمْل
سبق لنا أَن وَاجِب الْوُجُود وَصِفَاته الكمالية تعرف بِالْعقلِ فَإِذا وصل مستدل ببرهان إِلَى إِثْبَات الْوَاجِب وَصِفَاته الْغَيْر السمعية وَلم تبلغه بذلك رِسَالَة كَمَا حصل لبَعض أَقوام من الْبشر ثمَّ انْتقل من النّظر فى ذَلِك وفى أطوار نَفسه إِلَى أَن مبدأ الْعقل فى الْإِنْسَان يبْقى بعد مَوته كَمَا وَقع لقوم آخَرين ثمَّ انْتقل من هَذَا مخطئا أَو مصيبا إِلَى أَن بَقَاء النَّفس البشرية بعد الْمَوْت يستدعى سَعَادَة لَهَا فِيهِ أَو شقاء ثمَّ قَالَ إِن سعادتها إِنَّمَا تكون بِمَعْرِِفَة الله وبالفضائل وَإِنَّهَا إِنَّمَا تسْقط فى الشَّقَاء بِالْجَهْلِ بِاللَّه وبارتكاب الرذائل وَبنى على ذَلِك أَن من الْأَعْمَال مَا هُوَ نَافِع للنَّفس بعد الْمَوْت بتحصيل السَّعَادَة وَمِنْهَا مَا هُوَ ضار لَهَا بعده بإيقاعها فى الشَّقَاء فأى مَانع عقلى أَو شرعى يحظر عَلَيْهِ أَن يَقُول بعد ذَلِك بِحكم عقله إِن معرفَة الله وَاجِبَة وَإِن جَمِيع الْفَضَائِل وَمَا يتبعهَا من الْأَعْمَال مَفْرُوضَة وَأَن الرذائل وَمَا يكون عَنْهَا محظورة وَأَن يضع لذَلِك مَا يَشَاء من القوانين ليدعو بَقِيَّة الْبشر إِلَى الإعتقاد بِمثل مَا يعْتَقد وَإِلَى أَن يَأْخُذ من الْأَعْمَال بِمثل مَا أَخذ بِهِ حَيْثُ لم يُوجد شرع يُعَارضهُ
أما أَن يكون ذَلِك حَالا لعامة النَّاس يعلمُونَ بعقولهم أَن معرفَة الله وَاجِبَة وَأَن الْفَضَائِل منَاط السَّعَادَة فى الْحَيَاة الْأُخْرَى والرذائل مدَار الشَّقَاء فِيهَا فمما لَا يَسْتَطِيع عَاقل أَن يَقُول بِهِ والمشهود من حَال الْأُمَم كَافَّة يضلل الْقَائِل بِهِ فى رَأْيه
لَو كَانَت حاجات الْإِنْسَان ومخاوفه محدودة كَمَا هِيَ حاجات فيل أَو أَسد مثلا وَكَانَ مَا وهب لَهُ من الْفِكر وَاقِفًا عِنْد حد مَا إِلَيْهِ الْحَاجة لاهتدى إِلَى الْمَنَافِع واتقاء المضار على وَجه لَا يخْتَلف فِيهِ أَفْرَاده واسعدت حَيَاته وتخلص كل من شَرّ الآخر وَنَجَا بَقِيَّة الْحَيَوَانَات من غائلة الْجَمِيع
لَكِن قضى عَلَيْهِ حكم نَوعه بِأَن لَا يكون لِحَاجَتِهِ حد وَلَا تخْتَص معيشته بجو من الأجواء وَلَا بِوَضْع من الأوضاع وَأَن يُوهب من القوى المدركة مَا يَكْفِيهِ اسْتِعْمَاله فى سد عوزه وتوفير لذاته فى أَي إقليم وعَلى أَي حَال وَأَن يخْتَلف ظُهُور هَذِه المدارك فى أطوارها وآثارها باخْتلَاف أصنافه وشعوبه وأشخاصه اخْتِلَافا لَا تنتهى درجاته وَلَوْلَا هَذَا لما اخْتلف عَن بَقِيَّة الْحَيَوَانَات إِلَّا باستقامة الْقَامَة وَعرض الْأَظْفَار
وهب الله الْإِنْسَان أَو سلط عَلَيْهِ ثَلَاث قوى لم يساوه فِيهَا حَيَوَان الذاكرة والمخيلة والمفكرة فالمذكرة تثير من صور الماضى مَا ستره الِاشْتِغَال بالحاضر فتستحضر من صور المرغوبات والمكروهات مَا تنبه إِلَيْهِ الْأَشْبَاه أَو الأضداد الْحَاضِرَة فقد يذكر الشىء بشبهه وَقد يذكرهُ بضده كَمَا هُوَ بديهى والخيال يجسم من الْمَذْكُور وَمَا يُحِيط بِهِ من الْأَحْوَال حَتَّى يصير كَأَنَّهُ شَاهد ثمَّ ينشىء لَهُ مِثَال لَذَّة أَو ألم فِي الْمُسْتَقْبل يحاكى مَا ذهب بِهِ الماضى ويهمز للنَّفس فى طلبه أَو الْهَرَب مِنْهُ فتلجأ إِلَى الْفِكر فى تَدْبِير الْوَسِيلَة إِلَيْهِ
على هَذِه القوى الثَّلَاث مستوى سَعَادَة الْإِنْسَان وَمِنْهَا ينبوع بلائه
فَمن النَّاس معتدل الذّكر هادىء الخيال صَحِيح الْفِكر ينظر مثلا فى حَال مُسْرِف أنْفق مَاله فى غير نَافِع وَضَاقَتْ يَده عَمَّا يُقيم معيشته فيذكر ألما لحَاجَة مَضَت ثمَّ يتخيل المَال ومنافعه وَمَا تتمتع بِهِ النَّفس من اللَّذَّة بِهِ سَوَاء فى سد حاجاته أَو فى دفع الْأَلَم الذى يحدثه مشْهد الْفَاقَة فى غَيره بِإِعْطَاء الْمُضْطَر مَا يذهب بضرورته ثمَّ يتخيل ذَلِك المَال آتِيَا من وجوهه الَّتِى لَا يتَعَلَّق بهَا حق من حُقُوق غَيره وَعند ذَلِك يُوَجه فكره لطلب الْوَسِيلَة إِلَيْهِ من تِلْكَ الْوُجُوه بِالْعَمَلِ القويم فى اسْتِخْدَام مَا وهبه الله من القوى فى نَفسه وَمَا سَخَّرَهُ لَهُ من قوى الْكَوْن الْمُحِيط بِهِ
وَمن النَّاس منحرف عَن سنَن الِاعْتِدَال يرى مَالا مثلا فى يَد غَيره فيتذكر لَذَّة ماضيه أَصَابَهَا بِمثل هَذَا المَال ويعظم لَهُ الخيال لَذَّة مثلهَا فى الْمُسْتَقْبل
وَلَا يزَال يعظم فى تِلْكَ اللَّذَّة والتمتع بهَا حَتَّى يَقع ظلّ الخيال على طَرِيق الْفِكر فَيسْتر عَنهُ مَا طَابَ من وُجُوه الْكسْب وَإِنَّمَا يعمد إِلَى اسْتِعْمَال قوته أَو حيلته فى سلب المَال من يَد مَالِكه لينفقه فِيمَا تخيل من الْمَنْفَعَة فَيكون قد عطل بذلك قواه الْمَوْهُوبَة لَهُ وأخل بالأمن الذى أفاضه الله بَين عباده وَسن سنة الاعتداء فَلَا يسهل عَلَيْهِ وَلَا على غَيره الْوُصُول إِلَى الرَّاحَة من أَعمال المقترفين لمثل عمله وخفيف من النّظر فى أَعمال الْبشر يجليها جَمِيعهَا على نَحْو مَا بَينا فى المثالين فلقوة الذاكرة وضعفها وحدة الخيال واعتداله واعوجاج الْفِكر واستقامته أعظم أثر فى التَّمْيِيز بَين النافع والضار فى أشخاص الْأَعْمَال وللأمزجة والأجواء وَمَا يحتف بالشخص من أهل وعشيرة ومعاشرين مدْخل عَظِيم فى التخيل والفكر بل وفى الذّكر
فَالنَّاس متفقون على أَن من الْأَعْمَال مَا هُوَ نَافِع وَمِنْهَا مَا هُوَ ضار وَبِعِبَارَة أُخْرَى مِنْهَا مَا هُوَ حسن وَمِنْهَا مَا هُوَ قَبِيح وَمن عقلائهم وَأهل النّظر الصَّحِيح والمزاج المعتدل مِنْهُم من يُمكنهُ إِصَابَة وَجه الْحق فى معرفَة ذَلِك ومتفقون كَذَلِك على أَن الْحسن مَا كَانَ أدوم فَائِدَة وَإِن كَانَ مؤلما فى الْحَال وَأَن الْقَبِيح مَا جر إِلَى فَسَاد فى النظام الْخَاص بالشخص أَو الشَّامِل لَهُ وَلمن يتَّصل بِهِ وَإِن عظمت لذته الْحَاضِرَة وَلَكنهُمْ يَخْتَلِفُونَ فى النّظر إِلَى كل عمل بِعَيْنِه اخْتلَافهمْ فى أمزجتهم وسحنهم ومناشئهم وَجَمِيع مَا يكتنف بهم فَلذَلِك ضربوا إِلَى الشَّرّ فى كل وَجه وكل يظنّ أَنه إِنَّمَا يطْلب نَافِعًا ويتقى ضارا فالعقل الْبُشْرَى وَحده لَيْسَ فى استطاعته أَن يبلغ بِصَاحِبِهِ مَا فِيهِ سعادته فى هَذِه الْحَيَاة اللَّهُمَّ إِلَّا فى قَلِيل مِمَّن لم يعرفهُمْ الزَّمن فان كَانَ لَهُم من الشَّأْن الْعَظِيم مَا بِهِ عرفهم أَشَارَ إِلَيْهِم الدَّهْر بأصابع الأجيال وَقد سبقت الْإِشَارَة إِلَيْهِم فِيمَا مر
وَلَيْسَت عقول النَّاس سَوَاء فى معرفَة الله تَعَالَى وَلَا فى معرفَة حَيَاة بعد هَذِه الْحَيَاة فهم وَإِن اتَّفقُوا فى الخضوع لقُوَّة أسمى من قواهم وَشعر معظمهم بِيَوْم بعد هَذَا الْيَوْم وَلَكِن أفسدت الوثنية عُقُولهمْ وانحرفت بهَا عَن مَسْلَك السَّعَادَة فَلَيْسَ فى سَعَة الْعقل الإنسانى فى الْأَفْرَاد كَافَّة أَن يعرف من الله مَا يجب أَن
يعرف وَلَا أَن يفهم من الْحَيَاة الْآخِرَة مَا ينبغى أَن يفهم وَلَا أَن يُقرر لكل نوع من الْأَعْمَال جزاءه فى تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة وَإِنَّمَا قد تيَسّر ذَلِك لقَلِيل مِمَّن اختصه الله بِكَمَال الْعقل وَنور البصيرة وَإِن لم ينل شرف الِاقْتِدَاء بهدى نبوى وَلَو بلغه لَكَانَ أسْرع النَّاس إِلَى اتِّبَاعه وَهَؤُلَاء رُبمَا يصلونَ بأفكارهم إِلَى الْعرْفَان من وَجه غير مَا يَلِيق فى الْحَقِيقَة أَن ينظر مِنْهُ إِلَى الْجلَال الإلهي
ثمَّ من أَحْوَال الْحَيَاة الْأُخْرَى مَالا يُمكن لعقل بشرى أَن يصل إِلَيْهِ وَحده وَهُوَ تَفْصِيل اللذائذ والآلام وطرق المحاسبة على الْأَعْمَال وَلَو بِوَجْه مَا وَمن الْأَعْمَال مَالا يُمكن أَن يعرف وَجه الْفَائِدَة فِيهِ لَا فى هَذِه الْحَيَاة وَلَا فِيمَا بعْدهَا كصور الْعِبَادَات كَمَا يرى فى أعداد الرَّكْعَات وَبَعض الْأَعْمَال فِي الْحَج فى الدّيانَة الإسلامية وكبعض الاحتفالات فى الدّيانَة الموسوية وضروب التوسل والزهادة فى الدّيانَة العيسوية كل ذَلِك مِمَّا لَا يُمكن لِلْعَقْلِ الْبُشْرَى أَن يسْتَقلّ بِمَعْرِِفَة وَجه الْفَائِدَة فِيهِ وَيعلم الله أَن فِيهِ سعادته
لهَذَا كُله كَانَ الْعقل الإنسانى مُحْتَاجا فى قيادة القوى الإدراكية والبدنية إِلَى مَا هُوَ خير لَهُ فى الحياتين إِلَى معِين يَسْتَعِين بِهِ فى تَحْدِيد أَحْكَام الْأَعْمَال وَتَعْيِين الْوَجْه فى الِاعْتِقَاد بِصِفَات الألوهية وَمَعْرِفَة مَا ينبغى أَن يعرف من أَحْوَال الْآخِرَة وَبِالْجُمْلَةِ فى وَسَائِل السَّعَادَة فى الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلَا يكون لهَذَا الْمعِين سُلْطَان على نَفسه حَتَّى يكون من بنى جنسه ليفهم مِنْهُ أَو عَنهُ مَا يَقُول وَحَتَّى يكون ممتازا على سَائِر الْأَفْرَاد بِأَمْر فائق على مَا عرف فى الْعَادة وَمَا عرف فى سنة الخليقة وَيكون بذلك مبرهنا على أَنه يتَكَلَّم عَن الله الذى يعلم مصَالح الْعباد على مَا هى عَلَيْهِ وَيعلم صِفَاته الكمالية وَمَا ينبغى أَن يعرف مِنْهَا والحياة الْآخِرَة وَمَا أعد فِيهَا فَيكون الْفَهم عَنهُ والثقة بِأَنَّهُ يتَكَلَّم عَن الْعَلِيم الْخَبِير معينا لِلْعَقْلِ على ضبط مَا تشَتت عَلَيْهِ أَو دَرك مَا ضعف عَن إِدْرَاكه وَذَلِكَ الْمعِين هُوَ النبى صلى الله عليه وسلم
النُّبُوَّة تحدد مَا ينبغى أَن يلحظ فى جَانب وَاجِب الْوُجُود من الصِّفَات وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْبشر كَافَّة من ذَلِك وتشير إِلَى خاصتهم بِمَا يُمكن لَهُم أَن يفضلوا
بِهِ غَيرهم فى مقامات عرفانهم لَكِنَّهَا لَا تحتم إِلَّا مَا فِيهِ الْكِفَايَة للعامة فَجَاءَت النبوات مُطَالبَة بالاعتقاد بِوُجُود الله وبوحدانيته وبالصفات الَّتِى أثبتناها على الْوَجْه الذى بَيناهُ وأرشدت إِلَى طرق الِاسْتِدْلَال على ذَلِك فوجوب الْمعرفَة على هَذَا الْوَجْه الْمَخْصُوص وَحسن الْمعرفَة وحظر الْجَهَالَة أَو الْجُحُود بشىء مِمَّا أوجبه الشَّرْع فى ذَلِك وقبحه مِمَّا لَا يعرف إِلَّا من طَرِيق الشَّرْع معرفَة تطمئِن بهَا النَّفس وَلَو اسْتَقل عقل بشرى بذلك لم يكن على الطَّرِيق الْمَطْلُوب من الْجَزْم وَالْيَقِين والاقتناع الذى هُوَ عماد الطُّمَأْنِينَة فان زيد على ذَلِك أَن الْعرْفَان على مَا بَينه الشَّرْع يسْتَحق المثوبة الْمعينَة فِيهِ وضده يسْتَحق الْعقُوبَة الَّتِى نَص عَلَيْهَا كَانَت طَرِيق معرفَة الْوُجُوب شَرْعِيَّة مَحْضَة غير أَن ذَلِك لَا ينافى أَن معرفَة الله على هَذِه الصّفة حَسَنَة فى نَفسهَا وَإِنَّمَا جَاءَ الشَّرْع مُبينًا للْوَاقِع فَهُوَ لَيْسَ مُحدث الْحسن ونصوصه تؤيد ذَلِك وأذكر مِثَالا من كثير قَالَ تَعَالَى على لِسَان يُوسُف أأرباب متفرقون خير أم الْوَاحِد القهار يُشِير بذلك اشارة وَاضِحَة إِلَى أَن تفرق الْآلهَة يفرق بَين الْبشر فى وجهة قُلُوبهم إِلَى أعظم سُلْطَان يتخذونه فَوق قوتهم وَهُوَ يذهب بِكُل فريق إِلَى التعصب لما وَجه قلبه إِلَيْهِ وفى ذَلِك فَسَاد نظامهم كَمَا لَا يخفى أما اعْتِقَاد جَمِيعهم بإله وَاحِد فَهُوَ تَوْحِيد لمنازع نُفُوسهم إِلَى سُلْطَان وَاحِد يخضع الْجَمِيع لحكمه وفى ذَلِك نظام أخوتهم وهى قَاعِدَة سعاتهم وإليها مآلهم فِيمَا أعتقد وَإِن طَال الزَّمن فَكَمَا جَاءَ الشَّرْع مطالبا بالاعتقاد جَاءَ هاديا لوجه الْحسن فِيهِ
النُّبُوَّة تحدد أَنْوَاع الْأَعْمَال الَّتِى تناط بهَا سَعَادَة الْإِنْسَان فى الدَّاريْنِ وتطالبه عَن الله بِالْوُقُوفِ عِنْد الْحُدُود الَّتِى حددتها وَكَثِيرًا مَا تبين لَهُ مَعَ ذَلِك وُجُوه الْحسن أَو الْقبْح فِيمَا أَمر بِهِ أَو نهى عَنهُ فوجوب عمل من الْمَأْمُور بِهِ أَو النّدب إِلَيْهِ وحظر عمل كَرَاهَته من المنهى عَنهُ الذى على الْوَجْه الذى حددته الشَّرِيعَة وعَلى أَنه مثاب عَلَيْهِ بِأَجْر كَذَا ومجازى عَلَيْهِ بعقوبة كَذَا مِمَّا لَا يسْتَقلّ الْعقل بمعرفته بل طَريقَة مَعْرفَته شَرْعِيَّة وَهُوَ لَا ينافى أَيْضا أَن يكون الْمَأْمُور بِهِ حسنا فى ذَاته بِمَعْنى أَنه مِمَّا يُؤدى إِلَى مَنْفَعَة دنيوية أَو أخروية بِاعْتِبَار أَثَره فى أَحْوَال