المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بسرعة لم يعهد لها نظير فى التاريخ - التوحيد لمحمد عبده

[محمد عبده]

فهرس الكتاب

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌مُقَدمَات

- ‌أَقسَام الْمَعْلُوم

- ‌حكم المستحيل

- ‌أَحْكَام الْمُمكن

- ‌الْمُمكن مَوْجُود قطعا

- ‌وجود الْمُمكن يقتضى بِالضَّرُورَةِ وجود الْوَاجِب

- ‌أَحْكَام الْوَاجِب

- ‌الْقدَم والبقاء وَنفى التَّرْكِيب

- ‌الْحَيَاة

- ‌ الْعلم

- ‌الْإِرَادَة

- ‌الْقُدْرَة

- ‌الإختيار

- ‌الْوحدَة

- ‌الصِّفَات السمعية الَّتِى يجب الإعتقاد بهَا

- ‌كَلِمَات فِي الصِّفَات إِجْمَالا

- ‌أَفعَال الله جلّ شَأْنه

- ‌أَفعَال الْعباد

- ‌حسن الْأَفْعَال وقبحها

- ‌الرسَالَة الْعَامَّة

- ‌حَاجَة الْبشر إِلَى الرسَالَة

- ‌امكان الوحى

- ‌وُقُوع الْوَحْي والرسالة

- ‌وَظِيفَة الرُّسُل عليهم السلام

- ‌اعْتِرَاض مشهود

- ‌رِسَالَة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم

- ‌الْقُرْآن

- ‌الْإِسْلَام أَو الدّين الإسلامى

- ‌انتشار الْإِسْلَام

- ‌بِسُرْعَة لم يعْهَد لَهَا نَظِير فى التَّارِيخ

- ‌ايراد سهل الايراد

- ‌الْجَواب

- ‌التَّصْدِيق بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم

- ‌خَاتِمَة

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

الفصل: ‌بسرعة لم يعهد لها نظير فى التاريخ

فَاسْتَجْمَعَ للْإنْسَان عِنْد بُلُوغ رشده كَمَا ذكرنَا حريَّة الْفِكر واستقلال الْعقل فى النّظر وَمَا بِهِ من صَلَاح السجايا واستقامة الطَّبْع وَمَا فِيهِ إنهاض العزائم إِلَى الْعَمَل وسوقها فى سبل السعى وَمن يَتْلُو الْقُرْآن حق تِلَاوَته يجد فِيهِ من ذَلِك كنزا لَا ينْفد وذخيرة لَا تفنى هَل بعد الرشد وصاية وَبعد اكتمال الْعقل ولَايَة كلا قد تبين الرشد من الغى وَلم يبْق إِلَّا اتِّبَاع الْهدى وَالِانْتِفَاع بِمَا ساقته أيدى الرَّحْمَة لبلوغ الْغَايَة من السعادتين لهَذَا ختمت النبوات بنبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وانتهت الرسالات برسالته كَمَا صرح بذلك الْكتاب وأيدته السّنة الصَّحِيحَة وبرهنت عَلَيْهِ خيبة مدعيها من بعده واطمئنان الْعَالم بِمَا وصل إِلَيْهِ من الْعلم إِلَى أَن لَا سَبِيل بعد لقبُول دَعْوَة بزعم الْقَائِم بهَا أَنه يحدث عَن الله بشرع أَو يصدع عَن وحيه بِأَمْر هَكَذَا يصدق نبأ الْغَيْب مَا كَانَ مُحَمَّد ابا أحد من رجالكم وَلَكِن رَسُول الله وَخَاتم النَّبِيين وَكَانَ الله بِكُل شىء عليما

‌انتشار الْإِسْلَام

‌بِسُرْعَة لم يعْهَد لَهَا نَظِير فى التَّارِيخ

كَانَت حَاجَة الْأُمَم إِلَى الْإِصْلَاح عَامَّة فَجعل الله رِسَالَة خَاتم النَّبِيين عَامَّة كَذَلِك لَكِن يندهش عقل النَّاظر فى أَحْوَال الْبشر عِنْدَمَا يرى أَن هَذَا الدّين يجمع إِلَيْهِ الْأمة الْعَرَبيَّة من أدناها إِلَى أقصاها فى أقل من ثَلَاثِينَ سنة ثمَّ يتَنَاوَل من بَقِيَّة الْأُمَم مَا بَين الْمُحِيط الغربى وجدار الصين فى أقل من قرن وَاحِد وَهُوَ أَمر لم يعْهَد فى تَارِيخ الْأَدْيَان وَلذَلِك ضل الْكثير فى بَيَان السَّبَب واهتدى إِلَيْهِ المنصفون فَبَطل الْعجب

ابْتَدَأَ هَذَا الدّين بالدعوة كَغَيْرِهِ من الْأَدْيَان ولقى من أَعدَاء أنفسهم أَشد مَا يلقى حق من بَاطِل أوذى الداعى صلى الله عليه وسلم بضروب الْإِيذَاء وأقيم فى وَجهه مَا كَانَ يصعب تذليله من الْعقَاب لَوْلَا عناية الله وعذب المستجيبون لَهُ وحرموا الرزق وطردوا من الدَّار وسفكت مِنْهُم دِمَاء غزيرة غير أَن تِلْكَ

ص: 94

الدِّمَاء كَانَت عُيُون العزائم تتفجر من صخور الصَّبْر يثبت الله بمشهدها المستيقنين ويقذف بهَا الرعب فى أنفس المرتابين فَكَانَت تسيل لمنظرها نفوس أهل الريب وهى ذوب مَا فسد من طباعهم فتجرى من مناحرهم جرى الدَّم الْفَاسِد من الْمَقْصُود على أيدى الْأَطِبَّاء الحاذقين ليميز الله الْخَبيث من الطّيب وَيجْعَل الْخَبيث بعضه على بعض فيركمه جَمِيعًا فى جَهَنَّم أُولَئِكَ هم الخاسرون تألبت الْملَل الْمُخْتَلفَة مِمَّن كَانَ يسكن جَزِيرَة الْعَرَب وَمَا جاورها على الْإِسْلَام ليحصدوا نبتته ويخنقوا دَعوته فَمَا زَالَ يدافع عَن نَفسه دفاع الضَّعِيف للأقوياء وَالْفَقِير للأغنياء وَلَا نَاصِر لَهُ إِلَّا أَنه الْحق بَين الأباطيل والرشد فى ظلمات الأضاليل حَتَّى ظفر بِالْعِزَّةِ وتعزز بالمنعة وَقد وطىء أَرض الجزيرة أَقوام من أَدْيَان أُخْرَى كَانَت تَدْعُو إِلَيْهَا وَكَانَت لَهُم مُلُوك وَعزة وسلطان وحملوا النَّاس على عقائدهم بأنواع من المكاره وَمَعَ ذَلِك لم يبلغ بهم السعى نجاحا وَلَا أنالهم الْقَهْر فلاحا

ضم الْإِسْلَام سكان القفار الْعَرَبيَّة إِلَى وحدة لم يعرفهَا تاريخهم وَلم يعْهَد لَهَا نَظِير فى ماضيهم وَكَانَ النبى صلى الله عليه وسلم قد أبلغ رسَالَته بِأَمْر ربه إِلَى من جاور الْبِلَاد الْعَرَبيَّة من مُلُوك الْفرس والرومان فهزءوا وامتنعوا وناصبوه وَقَومه الشَّرّ وأخافوا السابلة وضيقوا على المناجر فَبعث إِلَيْهِم الْبعُوث فى حَيَاته وَجرى على سنته الْأَئِمَّة من صحابته طلبا للأمن وإبلاغا للدعوة فاندفعوا فى ضعفهم وفقرهم يحملون الْحق على أَيْديهم وانهالوا بِهِ على تِلْكَ الْأُمَم فى قوتهم ومنعتها وَكَثْرَة عَددهَا واستكمال أهبها وعددها فظفروا مِنْهَا بِمَا هُوَ مَعْلُوم وَكَانُوا مَتى وضعت الْحَرْب أَوزَارهَا وَاسْتقر السُّلْطَان للفاتح عطفوا على المغلوبين بالرفق واللين وأباحو لَهُم الْبَقَاء على أديانهم وَإِقَامَة شعائرها آمِنين مُطْمَئِنين ونشروا حمايتهم عَلَيْهِم يمنعونهم مِمَّا يمْنَعُونَ مِنْهُم أهلهم وَأَمْوَالهمْ وفرضوا عَلَيْهِم كفاء ذَلِك جُزْءا قَلِيلا من مكاسبهم على شَرَائِط مُعينَة كَانَت الْمُلُوك من غير الْمُسلمين إِذا فتحُوا مملكة اتبعُوا جيشها الظافر بِجَيْش من الدعاة إِلَى دينهَا يلجون على النَّاس

ص: 95

بُيُوتهم ويغشون مجَالِسهمْ ليحملوهم على دين الظافر وبرهانهم الْغَلَبَة وحجتهم الْقُوَّة وَلم يَقع ذَلِك لفاتح من الْمُسلمين وَلم يعْهَد فى تَارِيخ فتوح الْإِسْلَام أَن كَانَ لَهُ دعاة معروفون لَهُم وَظِيفَة ممتازة يَأْخُذُونَ على أنفسهم الْعَمَل فى نشره ويقفون مسعاهم على بَث عقائده بَين غير الْمُسلمين بل كَانَ الْمُسلمُونَ يكتفون بمخالطة من عداهم ومحاسنتهم فى الْمُعَامَلَة وَشهد الْعَالم بأسره أَن الْإِسْلَام كَانَ يعد مجاملة المغلوبين فضلا وإحسانا عِنْدَمَا كَانَ يعدها الأوروبيون ضعة وضعفا رفع الْإِسْلَام مَا ثقل من الأتاوات ورد الْأَمْوَال المسلوبة إِلَى أَرْبَابهَا وانتزع الْحُقُوق من مغتصبيها وَوضع الْمُسَاوَاة فى الْحق عِنْد التقاضى بَين الْمُسلم وَغير الْمُسلم بلغ أَمر الْمُسلمين فِيمَا بعد أَن لَا يقبل إِسْلَام من دَاخل فِيهِ إِلَّا بَين يدى قَاض شرعى بِإِقْرَار من الْمُسلم الْجَدِيد أَنه أسلم بِلَا إِكْرَاه وَلَا رَغْبَة فى دنيا وصل الْأَمر فى عهد بعض الْخُلَفَاء الأمويين أَن كره عمالهم دُخُول النَّاس فى دين الْإِسْلَام لما رَأَوْا أَنه ينقص من مبالغ الْجِزْيَة وَكَانَ فى حَال أُولَئِكَ الْعمَّال صد عَن سَبِيل الدّين لَا محَالة عرف خلفاء الْمُسلمين وملوكهم فى كل زمن مَا لبَعض أهل الْكتاب بل وَغَيرهم من المهارة فى كثر من الْأَعْمَال فاستخدموهم وصعدوا بهم إِلَى أَعلَى المناصب حَتَّى كَانَ مِنْهُم من تولى قيادة الْجَيْش فى اسبانيا اشتهرت حريَّة الْأَدْيَان فى بِلَاد الْإِسْلَام حَتَّى هجر الْيَهُود أوربا فِرَارًا مِنْهَا بدينهم إِلَى بِلَاد الأندلس وَغَيرهَا

هَذَا مَا كَانَ من أَمر الْمُسلمين فى معاملتهم لمن أظلوهم بسيوفهم لم يَفْعَلُوا شَيْئا سوى أَنهم حملُوا إِلَى أُولَئِكَ الأقوام كتاب الله وشريعته وألقوا بذلك بَين أَيْديهم وَتركُوا الْخِيَار لَهُم فى الْقبُول وَعَدَمه وَلم يقومُوا بَينهم بدعوة وَلم يستعملوا لإكراههم عَلَيْهِ شَيْئا من الْقُوَّة وَمَا كَانَ من الْجِزْيَة لم يكون مِمَّا يثقل أَدَاؤُهُ على من ضربت عَلَيْهِ فَمَا الذى أقبل بِأَهْل الْأَدْيَان الْمُخْتَلفَة على الْإِسْلَام وأقنعهم أَنه الْحق دون مَا كَانَ لديهم حَتَّى دخلُوا فِيهِ أَفْوَاجًا وبذلوا فى خدمته مالم يبذله الْعَرَب أنفسهم

ظُهُور الْإِسْلَام على مَا كَانَ فى جَزِيرَة الْعَرَب من ضروب الْعِبَادَات الوثنية وتغلبه على ماكان فِيهَا من رذائل الاخلاق وقبائح الْأَعْمَال وسيره بسكانها على

ص: 99

الجادة القويمة حقق لقراء الْكتب الإلهية السَّابِقَة أَن ذَلِك هُوَ وعد الله لنبييه إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَتَحْقِيق استجابة دُعَاء الْخَلِيل {رَبنَا وَابعث فيهم رَسُولا مِنْهُم} وَإِن هَذَا الدّين هُوَ مَا كَانَت تبشر بِهِ الْأَنْبِيَاء أقوامها من بعْدهَا فَلم يجد أهل النصفة مِنْهُم سَبِيلا إِلَى الْبَقَاء على العناد فى مجاحدته فتلقوه شاكرين وَتركُوا مَا كَانَ لَهُم بَين قَومهمْ صابرين أوقع ذَلِك من الريب فى قُلُوب مقلديهم مَا حركهم إِلَى النّظر فِيهِ فوجدوا لطفا وَرَحْمَة وَخيرا ونعمة لَا عقيدة بِنَفر مِنْهَا الْعقل وَهُوَ رائد الْإِيمَان الصَّادِق وَلَا عمل تضعف عَن احْتِمَاله الطبيعة البشرية وهى القاضية فى قبُول الْمصَالح والمرافق رَأَوْا أَن الْإِسْلَام يرفع النُّفُوس بشعور من اللاهوت يكَاد يَعْلُو بهَا عَن الْعلم السُّفْلى ويلحقها بالملكوت الْأَعْلَى وبدعوها إِلَى إحْيَاء ذَلِك الشُّعُور بِخمْس صلوَات فى الْيَوْم وَهُوَ مَعَ ذَلِك لَا يمْنَع من التَّمَتُّع بالطيبات وَلَا يفْرض من الرياضات وضروب الزهادة مَا يشق على الْفطْرَة البشرية تجشمه ويعد بِرِضا الله ونيل ثَوَابه حَتَّى فى تَوْفِيَة الْبدن حَقه مَتى حسنت النِّيَّة وخلصت السريرة فَإِذا نزلت شَهْوَة أَو غلب هوى كَانَ الغفران الإلهى ينتظره مَتى حسنت التَّوْبَة وكملت الأوبة تبدت لَهُم سذاجة الدّين عِنْدَمَا قرءوا الْقُرْآن ونظروا فى سيرة الطاهرين من حامليه اليهم وَظهر لَهُم الْفرق بَين مَالا سَبِيل إِلَى فهمه وَمَا تكفى جَوْلَة نظر فى الْوُصُول إِلَى علمه فتراموا إِلَيْهِ خفافا من ثقل مَا كَانُوا عَلَيْهِ كَانَت الْأُمَم تطلب عقلا فى دين فوافاها وتطلع إِلَى عدل فى إِيمَان فَأَتَاهَا فَمَا الذى يحجم بهَا عَن المسارعة إِلَى طلبتها والمبادرة إِلَى رغيبتها كَانَت الشعوب تَئِنُّ من ضروب الامتياز الَّتِى رفعت بعض الطَّبَقَات على بعض بِغَيْر حق وَكَانَ من حكمهَا أَن لَا يُقَام وزن لشئون الأدنين مَتى عرضت دونهَا شهوات الأعلين فجَاء دين يحدد الْحُقُوق ويسوى بَين جَمِيع الطَّبَقَات فى احترام النَّفس وَالدّين وَالْعرض وَالْمَال ويسوغ لأمراء فقيرة غير مسلمة أَن تأبى بيع بَيت صَغِير بأية قيمَة لأمير عَظِيم مُطلق السُّلْطَان فى قطر كَبِير وَمَا كَانَ يُريدهُ لنَفسِهِ وَلَكِن ليوسع بِهِ مَسْجِدا فَلَمَّا عقد الْعَزِيمَة على أَخذه مَعَ دفع أَضْعَاف قِيمَته رفعت الشكوى إِلَى الْخَلِيفَة فورد أمره برد بَينهَا إِلَيْهَا مَعَ لوم الْأَمِير على مَا كَانَ

ص: 97

مِنْهُ عدل يسمح ليهودى أَن يُخَاصم مثل على بن أَبى طَالب أَمَام القاضى وَهُوَ من نعلم من هُوَ ويستوقفه مَعَه للتقاضى إِلَى أَن قضى الْحق بَينهمَا هَذَا وَمَا سبق بَيَانه مِمَّا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَام هُوَ الذى حببه إِلَى من كَانُوا أعداءه ورد إِلَيْهِ أهواءهم حَتَّى صَارُوا أنصاره وأولياءه

غلب على المسلين فى كل زمن روح الْإِسْلَام فَكَانَ من خلقهمْ الْعَطف على من جاورهم من غَيرهم وَلم تستشعر قُلُوبهم عَدَاوَة لمن خالفهم إِلَّا بعد أَن يحرجهم الْجَار فهم كَانُوا يتعلمونها من سواهُم ثمَّ لَا يكون إِلَّا طَائِفًا يحل ثمَّ يرتحل فَإِذا انْقَطَعت أَسبَاب الشغب تراجعت الْقُلُوب إِلَى سَابق مَا الفته من اللين والمياسرة وَمَعَ ذَلِك بل وغفلة الْمُسلمين عَن الْإِسْلَام وخذلانهم لَهُ وسعى الْكثير مِنْهُم فى هَدمه بِعلم وَبِغير علم لم يقف الْإِسْلَام فى انتشاره عِنْد حد خُصُوصا فى الصين وفى إفريقيا وَلم يخل زمن من رُؤْيَة جموع كَثِيرَة من ملل مُخْتَلفَة تنْزع إِلَى الأخذبعقائده على بَصِيرَة فِيمَا تنْزع إِلَيْهِ لَا سيف وَرَاءَهَا وَلَا داعى أمامها وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرّد الِاطِّلَاع على مَا أودعهُ مَعَ قَلِيل من حَرَكَة الْفِكر فى الْعلم بِمَا شَرعه وَمن هَذَا تعلم أَن سرعَة انتشار الدّين الإسلامى وإقبال النَّاس على الِاعْتِقَاد بِهِ من كل مِلَّة إِنَّمَا كَانَ لسُهُولَة تعقله وَيسر أَحْكَامه وعدالة شَرِيعَته وَبِالْجُمْلَةِ لِأَن فطر الْبشر تطلب دينا وترتاد مِنْهُ مَا هُوَ أمس بمصالحها وَأقرب إِلَى قلوبها ومشاعرها وأدعى إِلَى الطُّمَأْنِينَة فى الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَدين هَذَا شَأْنه يجد إِلَى الْقُلُوب منفذا وَإِلَى الْعُقُول مخلصا وَبِدُون حَاجَة إِلَى دعاة يُنْفقُونَ الْأَمْوَال الْكَثِيرَة والأوقات الطَّوِيلَة ويستكثرون من الْوَسَائِل وَنصب الحبائل لاسقاط النُّفُوس فِيهِ هَذَا كَانَ حَال الْإِسْلَام فى سذاجته الأولى وطهارته الَّتِى أنشأه الله عَلَيْهَا وَلَا يزَال على جَانب عَظِيم مِنْهَا فى بعض أَطْرَاف الأَرْض إِلَى الْيَوْم

قَالَ من لم يفهم مَا قدمْنَاهُ أولم يرد أَن يفهمهُ إِن الْإِسْلَام لم يطف على قُلُوب الْعَالم بِهَذِهِ السرعة إِلَّا بِالسَّيْفِ فقد فتح الْمُسلمُونَ ديار غَيرهم وَالْقُرْآن بِإِحْدَى الْيَدَيْنِ وَالسيف بِالْأُخْرَى يعرضون الْقُرْآن على المغلوب فان لم يقبله فصل السَّيْف بَينه وَبَين حَيَاته سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم مَا قدمْنَاهُ من مُعَاملَة الْمُسلمين مَعَ

ص: 98

من دخلُوا تَحت سلطانهم هُوَ ماتواترت بِهِ الْأَخْبَار تواترا صَحِيحا لَا يقبل الرِّيبَة فى جملَته وَإِن وَقع اخْتِلَاف فى تَفْصِيله وَإِنَّمَا شهر الْمُسلمُونَ سيوفهم دفاعا عَن أنفسهم وكفا للعدوان عَنْهُم ثمَّ كَانَ الِافْتِتَاح بعد ذَلِك من ضَرُورَة الْملك وَلم يكن من الْمُسلمين مَعَ غَيرهم إِلَّا أَنهم جاوروهم وأجاروهم فَكَانَ الْجوَار طَرِيق الْعلم بِالْإِسْلَامِ وَكَانَت الْحَاجة لصلاح الْعقل وَالْعَمَل دَاعِيَة الِانْتِقَال إِلَيْهِ

لَو كَانَ السَّيْف ينشر دينا فقد عمل فى الرّقاب للاكراه على الدّين والإلزام بِهِ مهددا كل أمة لم تقبله بالإبادة والمحو من سطح البسيطة مَعَ كَثْرَة الجيوش ووفرة الْعدَد وبلوغ الْقُوَّة أسمى دَرَجَة كَانَت تمكن لَهَا وابتدأ ذَلِك الْعَمَل قبل ظُهُور الْإِسْلَام بِثَلَاثَة قُرُون كَامِلَة وَاسْتمرّ فى شدته بعد مجىء الْإِسْلَام سَبْعَة أجيال أَو يزِيد فَتلك عشرَة قُرُون كَامِلَة لم يبلغ فِيهَا السَّيْف من كسب عقائد الْبشر مبلغ الْإِسْلَام فى أقل من قرن هَذَا وَلم يكن السَّيْف وَحده بل كَانَ الحسام لَا يتَقَدَّم خطْوَة إِلَّا والدعاة من خَلفه يَقُولُونَ مَا يشاءون تَحت حمايته مَعَ غَيره نفيض من الأفئدة وفصاحة تتدفق عَن الْأَلْسِنَة وأموال تخلب ألباب الْمُسْتَضْعَفِينَ إِن فى ذَلِك لآيَات للمستيقنين

جلت حِكْمَة الله فى أَمر هَذَا الدّين سلسبيل حَيَاة نبع فى القفار الْعَرَبيَّة أبعد بِلَاد الله عَن الْمَدِينَة فاض حَتَّى شملها فَجمع شملها فأحياها حَيَاة شعبية ملية علامده حَتَّى استغرق ممالك كَانَت تفاخر أهل السَّمَاء فى رفعتها وتعلوا أهل الأَرْض بمدنيتها زلزل هديره على لينه مَا كَانَ استحجر من الْأَرْوَاح فانشقت عَن مَكْنُون سر الْحَيَاة فِيهَا قَالُوا كَانَ لَا يَخْلُو من غلب بِالتَّحْرِيكِ قليا تِلْكَ سنة الله فى الْخلق لَا تزَال المصارعة بَين الْحق وَالْبَاطِل والرشد والغى قَائِمَة فى هَذَا الْعَالم إِلَى أَن يقْضى الله قصاءه فِيهِ إِذا سَاق الله ربيعا إِلَى أَرض جدبة ليحيى ميتنها وينقع غَلَّتهَا وينمى الخصب فِيهَا أفينقص من قدره أَن اتى فى طَرِيقه على عقبَة فعلاها أَو بَيت رفيع الْعِمَاد فهوى بِهِ

سطح الْإِسْلَام على الديار الَّتِى بلغَهَا أَهله فَلم يكن بَين أهل تِلْكَ الديار وَبَينه إِلَّا أَن يسمعوا كَلَام الله ويفقهوه واشتغل الْمُسلمُونَ بَعضهم بِبَعْض زَمنا وانحرفوا

ص: 99

عَن طَرِيق الدّين أزمانا فَوقف وَقْفَة الْقَائِد خذله الْأَنْصَار وَكَاد يتزحزح إِلَى مَا وَرَاءه لَكِن الله بَالغ أمره فانحدرت إِلَى ديار الْمُسلمين أُمَم من التتار يَقُودهَا جنكيزخار وفعلوا بِالْمُسْلِمين الأفاعيل وَكَانُوا وثنيين جَاءُوا لمحض الْغَلَبَة وَالسَّلب والنهب وَلم يلبث أَعْقَابهم أَن اتَّخذُوا الْإِسْلَام دينا وَحَمَلُوهُ إِلَى أقوامهم فعمهم مِنْهُ مَا عَم غَيرهم جَاءُوا لشقوتهم فعادوا بسعادتهم

حمل الغرب على الشرق حَملَة وَاحِدَة لم يبْق ملك من ملوكه وَلَا شعب من شعوبه إِلَّا اشْترك فِيهَا واستمرت المجالدات بَين الغربيين والشرقيين أَكثر من مائتى سنة جمع فِيهَا الغربيون من الْغيرَة وَالْحمية للدّين مَا لم يسْبق لَهُم من قبل وجيشوا من الْجند وَأَعدُّوا من الْقُوَّة مَا بلغته طاقتهم وزحفوا على ديار الْمُسلمين وَكَانَت فيهم بَقِيَّة من روح الدّين فغلب الغربيون على كثير من الْبِلَاد الإسلامية وانتهت تِلْكَ الحروب الجارفة بإجلائهم عَنْهَا لم جَاءُوا وبماذا رجعُوا ظفر رُؤَسَاء الدّين فى الغرب بإثارة شعوبهم ليبيدوا مَا يشاءون من سكان الشرق أَو يستولى سُلْطَان تِلْكَ الشعوب على مَا يَعْتَقِدُونَ لأَنْفُسِهِمْ الْحق فى الِاسْتِيلَاء عَلَيْهِ من الْبِلَاد الإسلامية جَاءَ من الْمُلُوك والأمراء وذوى الثروة والأعلياء جم غفير وَجَاء مِمَّن دونهم من الطَّبَقَات مَا قدروه بالملايين اسْتَقر الْمقَام بِكَثِير من هَؤُلَاءِ فى أَرض الْمُسلمين وَكَانَت فترات تنطفىء فِيهَا نَار الْغَضَب وتثوب الْعُقُول إِلَى سكينتها تنظر فى أَحْوَال المجاورين وتلتقط من أفكار المخالطين وتنفعل بِمَا ترى وَمَا تسمع فتبينت أَن المبالغات الَّتِى أطاشت الأحلام وجسمت الآلام لم تصب مُسْتَقر الْحَقِيقَة ثمَّ وجدت حريَّة فى دين وعلما وَشرعا وصنعة مَعَ كَمَال فى يَقِين وتعلمت أَن حريَّة الْفِكر وسعة الْعلم من وَسَائِل الْإِيمَان لَا من العوادى عَلَيْهِ ثمَّ جمعت من الْآدَاب مَا شَاءَ الله وَانْطَلَقت إِلَى بلادها قريرة الْعين بِمَا غنمته من جلادها هَذَا إِلَى مَا كَسبه السفار من أَطْرَاف الممالك إِلَى بِلَاد الأندلس بمخالطة حكمائها وأدبائها ثمَّ عَادوا بِهِ إِلَى شعوبهم ليذيقوهم حلاوة مَا كسبوا وَأخذت الأفكار من ذَلِك الْعَهْد تتراسل وَالرَّغْبَة فى الْعلم تتزايد بَين الغربيين ونهضت الهمم لقطع سلاسل التَّقْلِيد ونزعت العزائم إِلَى تَقْيِيد سُلْطَان زعماء

ص: 100