الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما وجوب تِلْكَ الصِّفَات الْمُتَقَدّمَة للأنبياء فلأنهم لَو انحطت فطرهم عَن فطر أهل زمانهم أَو تضاءلت أَرْوَاحهم لسلطان نفوس أخر أَو مس عُقُولهمْ شىء من الضعْف لما كَانُوا أَهلا لهَذَا الِاخْتِصَاص الإلهى الذى يفوق كل اخْتِصَاص اختصاصهم يوحيه والكشف لَهُم عَن أسرار علمه وَلَو لم تسلم أبدانهم عَن المنفرات لَكَانَ انزعاج النَّفس لمرآهم حجَّة للْمُنكر فى إِنْكَار دَعوَاهُم وَلَو كذبُوا أَو خانوا أَو قبحت سيرتهم لضعفت الثِّقَة بهم ولكانوا مضلين لَا مرشدين فتذهب الْحِكْمَة من بعثتهم وَالْأَمر كَذَلِك لَو أدركهم السَّهْو أَو النسْيَان فِيمَا عهد إِلَيْهِم تبليغه من العقائد وَالْأَحْكَام أما وُقُوع الْخَطَأ مِنْهُم فِيمَا لَيْسَ من الحَدِيث عَن الله ولاله مدْخل فى التشريع فجوزه بَعضهم وَالْجُمْهُور على خِلَافه وَمَا ورد من مثل أَن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عَن تأبير النّخل ثمَّ أَبَاحَهُ لظُهُور أَثَره فى الإثمار فَإِنَّمَا فعله عليه الصلاة والسلام ليعلم النَّاس أَن مَا يتخذونه من وَسَائِل الْكسْب وطرق الصناعات فَهُوَ موكول لمعارفهم وتجاربهم وَلَا حظر عَلَيْهِم فِيهِ مَا دَامَت الشَّرَائِع مرعية والفضائل محمية وَمَا حَكَاهُ الله من قصَّة آدم وعصيانه بِالْأَكْلِ من الشَّجَرَة فمهما خفى فِيهِ سر النهى عَن الْأكل والمؤاخذة عَلَيْهِ وَغَايَة مَا علمناه من حكمته أَنه كَانَ سَببا لعمارة الأَرْض ببنى آدم كَأَن النهى وَالْأكل رمزان إِلَى طورين من أطوار آدم عليه السلام أَو مظهران من مظَاهر النَّوْع الإنسانى فى الْوُجُود وَالله أعلم وَمن الْعسر إِقَامَة الدَّلِيل العقلى أَو إِصَابَة دَلِيل شرعى يقطع بِمَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور
حَاجَة الْبشر إِلَى الرسَالَة
سبق لَك فى الْفَصْل السَّابِق مَا يهم الْكَلَام عَلَيْهِ من الْوَجْه الأول وَهُوَ وَجه مَا يجب على الْمُؤمن اعْتِقَاده فى الرُّسُل وَالْكَلَام فى هَذَا الْفَصْل موجه إِن شَاءَ الله إِلَى بَيَان الْحَاجة إِلَيْهِم وَهُوَ معترك الأفهام ومزلة الْإِقْدَام ومزدحم الْكثير من الأفكار والأوهام لسنا بصدد الاتيان بِمَا قَالَ الْأَولونَ وَلَا عرض مَا ذهب إِلَيْهِ الْآخرُونَ وَلَكنَّا نلزم مَا التزمنا فى هَذِه الوريقات من بَيَان المعتقد والذهاب
إِلَيْهِ من أقرب الطّرق من غير نظر إِلَى مَا مَال إِلَيْهِ الْمُخَالف أَو استقام عَلَيْهِ الْمُوَافق اللَّهُمَّ إِلَّا إِشَارَة من طرف خفى أَو إلماعا لَا يسْتَغْنى عَنهُ القَوْل الجلى
وللكلام فى بَيَان الْحَاجة إِلَى الرُّسُل مسلكان الأول وَقد سبق الْإِشَارَة إِلَيْهِ يبتدىء من الِاعْتِقَاد بِبَقَاء النَّفس الإنسانية بعد الْمَوْت وَأَن لَهَا حَيَاة أُخْرَى بعد الْحَيَاة الدُّنْيَا تتمتع فِيهَا بنعيم أَو تشقى فِيهَا بِعَذَاب أَلِيم وَأَن السَّعَادَة والشقاء فى تِلْكَ الْحَيَاة الْبَاقِيَة معقودان بأعمال الْمَرْء فى حَيَاته الفانية سَوَاء كَانَت تِلْكَ الْأَعْمَال قلبية كالاعتقادات والمقاصد والارادات أَو بدنية كأنواع الْعِبَادَات والمعاملات
اتّفقت كلمة الْبشر مُوَحِّدين ووثنيين مليين وفلاسفة إِلَّا قَلِيلا لَا يُقَام لَهُم وزن على أَن لنَفس الْإِنْسَان بَقَاء تحيا بِهِ بعد مُفَارقَة الْبدن وَأَنَّهَا لَا تَمُوت موت فنَاء وَإِنَّمَا الْمَوْت المحتوم هُوَ ضرب من الْبُطُون والخفاء وَإِن اخْتلفت منازعهم فى تَصْوِير ذَلِك الْبَقَاء وَفِيمَا تكون عَلَيْهِ النَّفس فِيهِ وتباينت مشاربهم فى طرق الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ فَمن قَائِل بالتناسخ فى اجساد الْبشر أَو الْحَيَوَان على الدَّوَام وَمن ذَاهِب إِلَى أَن التناسخ يَنْتَهِي عِنْدَمَا تبلغ النَّفس أَعلَى مَرَاتِب الْكَمَال وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّهَا مَتى فَارَقت الْجَسَد عَادَتْ إِلَى تجردها عَن الْمَادَّة حافظة لما فِيهِ لذتها أَو مَا بِهِ شقوتها وَمِنْهُم من رأى أَنَّهَا تتَعَلَّق بأجسام أثيرية ألطف من هَذِه الْأَجْسَام المرئية وَكَانَ اخْتِلَاف الْمذَاهب فى كنه السَّعَادَة والشقاء الآخرويين وَفِيمَا هُوَ مَتَاع الْحَيَاة الْآخِرَة وفى الْوَسَائِل الَّتِى تعد للنعيم أَو تبعد عَن النكال الدَّائِم وتضارب آراء الْأُمَم فِيهِ قَدِيما وحديثا مِمَّا لَا تكَاد تحصى وجوهه
هَذَا الشُّعُور الْعَام بحياة بعد هَذِه الْحَيَاة المنبث فى جَمِيع الْأَنْفس عالمها وجاهلها وحشيها ومستأنسها باديها وحاضرها قديمها وحديثها لَا يُمكن أَن يعد ضلة عقلية أَو نَزعَة وهمية وَإِنَّمَا هُوَ الإلهامات الَّتِى اخْتصَّ بهَا هَذَا النَّوْع فَكَمَا ألهم الْإِنْسَان أَن عقله وفكره هما عماد بَقَائِهِ فى هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا وَإِن شَذَّ أَفْرَاد
مِنْهُ ذَهَبُوا إِلَى أَن الْعقل والفكر ليسَا بكافيين للإرشاد فى عمل مَا أَو إِلَى أَنه لَا يُمكن لِلْعَقْلِ أَن يُوقن باعتقاد وَلَا للفكر أَن يصل إِلَى مَجْهُول بل قَالُوا أَن لَا وجود للْعَالم إِلَّا فى اختراع الخيال وَإِنَّهُم شاكون حَتَّى فى أَنهم شاكون وَلم يطعن شذوذ هَؤُلَاءِ فى صِحَة الإلهام الْعَام الْمشعر لسَائِر أَفْرَاد النَّوْع أَن الْفِكر وَالْعقل هما ركن الْحَيَاة وأس الْبَقَاء إِلَى الْأَجَل الْمَحْدُود كَذَلِك قد ألهمت الْعُقُول وأشعرت النُّفُوس أَن هَذَا الْعُمر الْقصير لَيْسَ هُوَ مُنْتَهى مَا للْإنْسَان فى الْوُجُود بل الْإِنْسَان ينْزع هَذَا الْجَسَد كَمَا ينْزع الثَّوْب عَن الْبدن ثمَّ يكون حَيا بَاقِيا فى طور آخر وَإِن لم يدْرك كنهه ذَلِك إلهام يكَاد يزاحم البديهة فى الْجلاء يشْعر كل نفس أَنَّهَا خلقت مستعدة لقبُول مَعْلُومَات غير متناهية من طرق غير محصورة شيقة إِلَى لذائذ غير محدودة وَلَا واقفة عِنْد غَايَة مهيأة لدرجات من الْكَمَال لَا تحددها أَطْرَاف الْمَرَاتِب والغايات معرضة لآلام من الشَّهَوَات ونزعات الْأَهْوَاء ونزوات الْأَمْرَاض على الأجساد ومصارعة الأجواء والحاجات وضروب من مثل ذَلِك لَا تدخل تَحت عَدو لَا تنتهى عِنْد حد إلهام يسلفنها بعد هَذَا الشُّعُور إِلَى أَن واهب الْوُجُود للأنواع إِنَّمَا قدر الاستعداد بِقدر الْحَاجة فى الْبَقَاء وَلم يعْهَد فى تصرفه الْعَبَث والكيل الْجزَاف فَمَا كَانَ استعداده لقبُول مَالا يتناهى من مَعْلُومَات وآلام ولذائذ وكمالات لَا يَصح أَن يكون بَقَاؤُهُ قاصرا على أَيَّام أَو سِنِين معدودات
شُعُور بهيج بالأرواح إِلَى تحسس هَذَا الْبَقَاء الأبدى وَمَا عَسى أَن تكون عَلَيْهِ مَتى وصلت إِلَيْهِ وَكَيف الاهتداء وَأَيْنَ السَّبِيل وَقد غَابَ الْمَطْلُوب وأعوز الدَّلِيل شعورنا بِالْحَاجةِ إِلَى اسْتِعْمَال عقولنا فى تَقْوِيم هَذِه الْمَعيشَة القصيرة الأمد لم يكفنا فى الاسْتقَامَة على الْمنْهَج الأقوم بل لزمتنا الْحَاجة إِلَى التَّعْلِيم والإرشاد وَقَضَاء الْأَزْمِنَة والأعصار فى تَقْوِيم الأنظار وتعديل الأفكار وَإِصْلَاح الوجدان وتثقيف الأذهان وَلَا تزَال إِلَى الْآن من هم هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا فى اضْطِرَاب لَا ندرى مَتى نخلص مِنْهُ وفى شوق إِلَى طمأنينة لَا تعلم مَتى تنتهى إِلَيْهَا
هَذَا شَأْننَا فهم عَالم الشَّهَادَة فَمَاذَا نؤمل من عقولنا وأفكارنا فى الْعلم بِمَا فى عَالم الْغَيْب هَل فِيمَا بَين أَيْدِينَا من الشَّاهِد معالم نهتدى بهَا إِلَى الْغَائِب وَهل فى طرق الْفِكر مَا يُوصل كل أحد إِلَى معرفَة مَا قدر لَهُ فى حَيَاة يشْعر بهَا وَبِأَن لَا مندوحة عَن الْقدوم عَلَيْهَا وَلَكِن لم يُوهب من الْقُوَّة مَا ينفذ إِلَى تَفْصِيل مَا أعد لَهُ فِيهَا والشؤن الَّتِى لَا بُد أَن يكون عَلَيْهَا بعد مُفَارقَة مَا هُوَ فِيهِ أَو إِلَى معرفَة بيد من يكون تصريف تِلْكَ الشئون هَل فى اساليب النّظر مَا يَأْخُذ بك إِلَى الْيَقِين بمناطها من الاعتقادات والأعمال وَذَلِكَ الْكَوْن مَجْهُول لديك وَتلك الْحَيَاة فى غَايَة الغموض بِالنِّسْبَةِ إِلَيْك كلا فَإِن الصِّلَة بَين الْعَالمين تكَاد تكون مُنْقَطِعَة فى نظر الْعقل ومرامى المشاعر وَلَا اشْتِرَاك بَينهمَا إِلَّا فِيك أَنْت فالنظر فى المعلومات الْحَاضِرَة لَا يُوصل إِلَى الْيَقِين بحقائق تِلْكَ العوالم الْمُسْتَقْبلَة
أفليس من حِكْمَة الصَّانِع الْحَكِيم الذى أَقَامَ أَمر الْإِنْسَان على قَاعِدَة الْإِرْشَاد والتعليم الذى خلق الْإِنْسَان وَعلمه الْبَيَان علمه الْكَلَام للتفاهم وَالْكتاب للتراسل أَن يَجْعَل من مَرَاتِب الْأَنْفس البشرية مرتبَة يعدلها بمحض فَضله بعض من يصطفيه من خلقه وَهُوَ أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته يميزهم بِالْفطرِ السليمة ويبلغ بأرواحهم من الْكَمَال مَا يليقون مَعَه للاستشراق بأنوار علمه وَالْأَمَانَة على مَكْنُون سره مِمَّا لَو انْكَشَفَ لغَيرهم انكشافه لَهُم لفاضت لَهُ نَفسه أَو ذهبت بعقله جلالته وعظمه فيشرفون على الْغَيْب بِإِذْنِهِ ويعلمون مَا سَيكون من شَأْن النَّاس فِيهِ وَيَكُونُونَ فى مَرَاتِبهمْ العلوية على نِسْبَة من الْعَالمين نِهَايَة الشَّاهِد وبداية الْغَائِب فهم فى الدُّنْيَا كَأَنَّهُمْ لَيْسُوا من أَهلهَا وهم وَفد الْآخِرَة فى لِبَاس من لَيْسَ من سكانها ثمَّ يتلقون من أمره أَن يحدثوا عَن جَلَاله وَمَا خفى على الْعُقُول من شئون حَضرته الرفيعة بِمَا يَشَاء أَن يَعْتَقِدهُ الْعباد فِيهِ وَمَا قدر أَن يكون لَهُ مدْخل فى سعادتهم الآخروية وَأَن يبينوا للنَّاس من أَحْوَال الْآخِرَة مَا لَا بُد لَهُم من علمه معبرين عَنهُ بِمَا تحتمله طَاقَة عُقُولهمْ وَلَا يبعد عَن متناول أفهامهم وَأَن يبلغُوا عَنهُ شرائع عَامَّة تحدد لَهُم سيرهم فى تَقْوِيم نُفُوسهم وكبح شهوانهم وتعلمهم من الْأَعْمَال مَا هُوَ منَاط سعادتهم وشقائهم فى ذَلِك الْكَوْن المغيب عَن
مشاعرهم بتفصيله اللاصق علمه بأعماق ضمائرهم فى إجماله وَيدخل فى ذَلِك جَمِيع الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بكليات الْأَعْمَال ظَاهره وباطنه ثمَّ يؤيدهم بِمَا لَا تبلغه قوى الْبشر من الأيات حَتَّى تقوم بهم الْحجَّة وَيتم الاقناع بِصدق الرسَالَة فيكونون بذلك رسلًا من لَدنه إِلَى خلقه مبشرين ومنذرين
لَا ريب أَن الذى أحسن كل شىء خلقه وأبدع فى كل كَائِن صنعه وجاد على كل حى بِمَا إِلَيْهِ حَاجته وَلم يحرم من رَحمته حَقِيرًا وَلَا جَلِيلًا من خلقه يكون من رأفته بالنوع الذى أَجَاد صنعه وَأقَام لَهُ من قبُول الْعلم مَا يقوم مقَام الْمَوَاهِب الَّتِى اخْتصَّ بهَا غَيره أَن ينقذه من حيرته وَيُخَلِّصهُ من التخبط فى أهم حياتيه والضلال فى أفضل حاليه
يَقُول قَائِل وَلم لم يودع فى الغرائز مَا تحْتَاج إِلَيْهِ من الْعلم وَلم يضع فِيهَا الانقياد إِلَى الْعَمَل وسلوك الطَّرِيق المؤدية إِلَى الْغَايَة فى الْحَيَاة الْآخِرَة وَمَا هَذَا النَّحْو من عجائب الرَّحْمَة فى الْهِدَايَة والتعليم وَهُوَ قَول يصدر عَن شطط الْعقل والغفلة عَن مَوْضُوع الْبَحْث وَهُوَ النَّوْع الإنسانى ذَلِك النَّوْع على مَا بِهِ وَمَا دخل فى تَقْدِيم جوهره من الرّوح المفكر وَمَا اقْتَضَاهُ ذَلِك من الِاخْتِلَاف فى مَرَاتِب الاستعداد باخْتلَاف أَفْرَاده وَأَن لَا يكون كل فَرد مِنْهُ مستعدا لكل حَال بطبعه وَأَن يكون وضع وجوده على عماد الْبَحْث وَالِاسْتِدْلَال فَلَو ألهم حاجاته كَمَا تلهم الْحَيَوَانَات لم يكن هُوَ ذَلِك النَّوْع بل كَانَ إِمَّا حَيَوَانا آخر كالنحل والنمل أَو ملكا من الْمَلَائِكَة لَيْسَ من سكان هَذِه الأَرْض
المسلك الثانى فى بَيَان الْحَاجة إِلَى الرسَالَة يَأْخُذ من طبيعة الْإِنْسَان نَفسه أرتنا الْأَيَّام غابرها وحاضرها أَن من النَّاس من يختزل نَفسه من جمَاعَة الْبشر وَيَنْقَطِع إِلَى بعض الغايات أَو إِلَى رُؤُوس الْجبَال ويستأنس إِلَى الْوَحْش ويعيش عَيْش الأوابد من الْحَيَوَان يتغذى بالأعشاب وجذور النَّبَات ويأوى إِلَى الكهوف والمغاور ويتقى بعض العوادى عَلَيْهِ بالصخور وَالْأَشْجَار ويكتفى من الثِّيَاب بِمَا يخصف من ورق الشّجر أَو جُلُود الْهَالِك من حَيَوَان الْبر وَلَا يزَال كَذَلِك حَتَّى
مَعَ مَا قدر لنوعها وَإِنَّمَا الْإِنْسَان نوع من تِلْكَ الْأَنْوَاع الَّتِى غرز فى طبعها أَن تعيش مجتمعة وَإِن تعدّدت فِيهَا الْجَمَاعَات على أَن يكون لكل وَاحِد من الْجَمَاعَة عمل يعود على الْمَجْمُوع فى بَقَائِهِ وللمجموع من الْعَمَل مَالا غنى للْوَاحِد عَنهُ فى نمائه وبقائه وأودع فى كل شخص من أشخاصها شُعُور مَا بحاجته إِلَى سَائِر أَفْرَاد الْجَمَاعَة الَّتِى يشملها إسم وَاحِد وتاريخ وجود الْإِنْسَان شَاهد بذلك فَلَا حَاجَة إِلَى الإطالة فِي بَيَانه وَكَفاك من الدَّلِيل على أَن الأنسان لَا يعِيش إِلَّا فى جملَة مَا وهبه من قُوَّة النُّطْق فَلم يخلق لِسَانه مستعدا لتصوير الْمعَانى فى الْأَلْفَاظ وتأليف الْعبارَات إِلَّا لاشتداد الْحَاجة بِهِ إِلَى التفاهم وَلَيْسَ الِاضْطِرَار إِلَى التفاهم بَين اثْنَيْنِ أَو أَكثر إِلَّا الشَّهَادَة بِأَن لَا غنى لأَحَدهم عَن الآخر
حَاجَة كل فَرد من الْجَمَاعَة إِلَى سائرها مِمَّا لَا يشْتَبه فِيهِ وَكلما كثرت مطَالب الشَّخْص فى معيشته ازدادت بِهِ الْحَاجة إِلَى الأيدى العاملة فتمتد الْحَاجة وعَلى أَثَرهَا الصِّلَة من الْأَهْل إِلَى الْعَشِيرَة ثمَّ إِلَى الْأمة وَإِلَى النَّوْع بأسره وأيامنا هَذِه شاهدة على أَن الصِّلَة النابعة للْحَاجة قد تعم النَّوْع كمالا يخفى هَذِه الْحَاجة خُصُوصا فى الْأمة الَّتِى حققت عنوانها لَهَا صلات وعلائق ميزتها عَمَّن سواهَا حَاجَة فى الْبَقَاء حَاجَة فى التَّمَتُّع بمزايا الْحَيَاة حَاجَة فى جلب الرغائب وَدفع المكاره من كل نوع
لَو جرى أَمر الْإِنْسَان على أساليب الْخلقَة فى غَيره لكَانَتْ هَذِه الْحَاجة من أفضل عوامل الْمحبَّة بَين أَفْرَاده عَامل يشْعر كل نفس أَن بقاءها مُرْتَبِط بِبَقَاء الْكل فَالْكل مِنْهَا بِمَنْزِلَة بعض قواها المسخرة لمنافعها ودرء مضارها والمحبة عماد السّلم وَرَسُول السكينَة إِلَى الْقُلُوب هى الدَّافِع لكل من المتاحبين على الْعَمَل لمصْلحَة الآخر الناهض بِكُل مِنْهُمَا للمدافعة عَنهُ فى حَالَة الْخطر فَكَانَ من شَأْن الْمحبَّة أَن تكون حفاظا لنظام الْأُمَم وروحا لبقائها وَكَانَ من حَالهَا أَن تكون مُلَازمَة للْحَاجة على مُقْتَضى سنة الْكَوْن فان الْمحبَّة حَاجَة لنَفسك إِلَى من تحب أَو مَا تحب فان اشتدت كَانَت ولعا وعشقا
لَكِن كَانَ من قوانين الْمحبَّة أَن تنشأ وتدوم بَين متاحبين إِذا كَانَت الْحَاجة إِلَى ذَات المحبوب أَو مَا هُوَ فِيهَا لَا يفارقها وَلَا يكون هَذَا النَّوْع مِنْهَا فى الْإِنْسَان إِلَّا إِذا كَانَ منشؤه أمرا فى روح المحبوب وشمائله الَّتِى لَا تفارق ذَاته حَتَّى تكون لَذَّة الْوُصُول فى نفس الِاتِّصَال لَا فى عَارض يتبعهُ فَإِذا عرض التبادل والتعارض وَلَو حَظّ فى العلاقة بَينهمَا تحولت الْمحبَّة إِلَى رَغْبَة فى الِانْتِفَاع بِالْعِوَضِ وتعلقت بالمنتفع بِهِ لَا بمصدر الِانْتِفَاع وَقَامَ بَين الشخصين مقَام الْمحبَّة إِمَّا سُلْطَان الْقُوَّة أَو ذلة المخافة أَو الدهان والخديعة من الْجَانِبَيْنِ
يحب الْكَلْب سَيّده ويخلص لَهُ ويدافع عَنهُ دفاع المستميت لما يرى أَنه مصدر الْإِحْسَان إِلَيْهِ فى سداد عوزه فصورة شبعه وربه وحمايته مقرونة فى شعوره بِصُورَة من يكفلها لَهُ فَهُوَ يتَوَقَّع فقدها بفقده فيحرص عَلَيْهِ حرصه على حَيَاته وَلَو أَنه انْتقل من حوزته إِلَى حوزة آخر وَغَابَ عَنهُ السنين ثمَّ رَآهُ معرضًا لخطر مَا عَادَتْ إِلَيْهِ تِلْكَ الصُّورَة يصل بَعْضهَا بَعْضًا واندفع إِلَى خُلَاصَة بِمَا تمكنه الْقُوَّة
ذَلِك لِأَن الإلهام الذى هدى بِهِ شُعُور الْكَلْب لَيْسَ مِمَّا تتسع بِهِ الْمذَاهب فوجدانه يتَرَدَّد بَين الْإِحْسَان ومصدره وَلَيْسَ لَهُ وراءهما مَذْهَب فحاجته فى سد عوزه هى حَاجته إِلَى الْقَائِم بأَمْره فَيُحِبهُ محبته لنَفسِهِ وَلَا يبخس مِنْهَا شوب التَّعَارُض فى الْخدمَة
أما الْإِنْسَان وَمَا أَدْرَاك مَا هُوَ فَلَيْسَ أمره على ذَلِك لَيْسَ مِمَّن يلهم وَلَا يتَعَلَّم وَلَا مِمَّن يشْعر وَلَا يتفكر بل كَانَ كَمَاله النوعى فى إِطْلَاق مداركه عَن الْقَيْد ومطالبه عَن النهايات وتسليمه على صغره إِلَى الْعَالم الْأَكْبَر على جلالته وعظمه بتصارعه بعوامله وهى غير محصورة حَتَّى يعتصر مِنْهُ مَنَافِعه وهى غير محدودة وإيداعه من قوى الْإِدْرَاك وَالْعَمَل مَا يُعينهُ على المغالبة ويمكنه من الْمُطَالبَة بسعيه ورأيه وَيتبع ذَلِك أَن يكون لَهُ فى كل كَائِن مِمَّا يصل إِلَيْهِ لَذَّة وبجوار كل لَذَّة ألم ومخافة فَلَا تنتهى رغائبه إِلَى غَايَة وَلَا تقف مخاوفه عِنْد نِهَايَة إِن الْإِنْسَان خلق هلوعا إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعا وَإِذا مَسّه الْخَيْر منوعا تفاوتت
أَفْرَاده فى مواهب الْفَهم وفى قوى الْعَمَل وفى الهمة والعزم فَمنهمْ المقصر ضعفا أَو كسلا المتطاول فى الرَّغْبَة شَهْوَة وَطَمَعًا يرى فى أَخِيه أَنه العون لَهُ على مَا يُرِيد من شئون وجوده لكنه يذهب من ذَلِك إِلَى تخيل اللَّذَّة فى الاستئثار بِجَمِيعِ مَا فى يَده وَلَا يقنع بمعاوضته فى ثَمَرَة من ثمار عمله وَقد يجد اللَّذَّة فى أَن يتمتع وَلَا يعْمل وَيرى الْخَيْر فى أَن يُقيم مقَام الْعَمَل إِعْمَال الْفِكر فى استنباط ضروب الْحِيَل ليتمتع وَإِن لم ينفع ويغلب عَلَيْهِ ذَلِك حَتَّى يخيل لَهُ أَن لَا ضير عَلَيْهِ لَو انْفَرد بالوجود عَمَّن يطْلب مغالبته وَلَا يبالى بإرساله إِلَى عَالم الْعَدَم بعد سلبه فَكلما حثه الذّكر والخيال إِلَى دفع مَخَافَة أَو الْوُصُول إِلَى لذيذ فتح لَهُ الْفِكر بَابا من الْحِيلَة أَو هيأ لَهُ وَسِيلَة لاستعمال الْقُوَّة فَقَامَ التناهب مقَام التواهب وَحل الشقاق مَحل الْوِفَاق وَصَارَ الضَّابِط لسيرة الْإِنْسَان إِمَّا الْحِيلَة وَإِمَّا الْقَهْر
هَل وقف الْهوى بالإنسان عِنْد التنافس فى اللذائذ الجسدانية وتجالد أَفْرَاده طَمَعا فى وُصُول كل إِلَى مَا يَظُنّهُ غَايَة مطلبه وَإِن لم تكن لَهُ غَايَة كلا وَلَكِن قدر لَهُ أَن تكون لَهُ لذائذ روحانية وَكَانَ من أعظم همه أَن يشْعر بالكرامة لَهُ فى نفس غَيره مِمَّن تجمعه مَعَهم جَامِعَة مَا حَسْبَمَا يَمْتَد إِلَيْهِ نظره وَقد بلغت هَذِه الشَّهْوَة حد من الْأَنْفس كَادَت تتغلب على جَمِيع الشَّهَوَات وَأخذت لَذَّة الْوُصُول إِلَيْهَا من الْأَرْوَاح مَكَانا كَاد لَا تصعد إِلَيْهِ سَائِر اللَّذَّات وهى من أفضل العوامل فى إِحْرَاز الْفَضَائِل وتمكين الصلات بَين الْأَفْرَاد والأمم لَو صرفت فِيمَا سيقت لأجل وَلَكِن انحرف بهَا السَّبِيل كَمَا انحرف بغَيْرهَا للأسباب الَّتِى أَشَرنَا إِلَيْهَا من التَّفَاوُت فى مَرَاتِب الْإِدْرَاك والهمة والعزيمة حَتَّى خيل لكثير من الْعُقَلَاء أَن يسْعَى إِلَى إعلاء مَنْزِلَته فى الْقُلُوب بإخافة الْأَمْن وإزعاج السَّاكِن وإشعار الْقُلُوب رهبة المخافة لَا تهيب الْحُرْمَة
هَل يُمكن مَعَ هَذَا أَن يَسْتَقِيم أَمر جمَاعَة بنى نظامهم وعلق بقاؤهم فى الْحَيَاة على تعاونهم ورفد بَعضهم بَعْضًا فى الْأَعْمَال أَولا تكون هَذِه الأفاعيل السَّابِق ذكرهَا سَببا فى تفانيهم لَا ريب أَن الْبَقَاء على تِلْكَ الْأَحْوَال من ضروب الْمحَال فَلَا بُد للنوع الإنسانى فى حفظ بَقَائِهِ من الْمحبَّة أَو مَا يَنُوب منابها
لَجأ بعض أهل البصيرة فى أزمنة مُخْتَلفَة إِلَى الْعدْل وظنوا كَمَا ظن بعض العارفين ونطق بِهِ فى كلمة جليلة أَن الْعدْل نَائِب الْمحبَّة نعم لَا يَخْلُو القَوْل من حِكْمَة وَلَكِن من الذى يضع قَوَاعِد الْعدْل وَيحمل الكافة على رعايتها قبل ذَلِك هُوَ الْعقل فَكَمَا كَانَ الْفِكر وَالذكر والخيال ينابيع الشَّقَاء كَذَلِك تكون وَسَائِل السَّعَادَة وفيهَا مُسْتَقر السكينَة وَقد راينا أَن اعْتِدَال الْفِكر وسعة الْعلم وَقُوَّة الْعقل وأصالة الحكم تذْهب بِكَثِير من النَّاس إِلَى مَا وَرَاء حجب الشَّهَوَات وَتَعْلُو بهم فَوق مَا تخيله المخاوف فيعرفون لكل حق حرمته ويميزون بَين لَذَّة مَا يفنى وَمَنْفَعَة مَا يبْقى وَقد جَاءَ مِنْهُم أَفْرَاد فى كل أمة وضعُوا أصُول الْفَضِيلَة وكشفوا وُجُوه الرذيلة وقسموا أَعمال الْإِنْسَان إِلَى مَا تحضر لذته وتسوء عاقبته وَهُوَ مَا يحب اجتنابه وَإِلَى مَا قد يشق احْتِمَاله وَلَكِن تسر مغابته وَهُوَ مَا يجب الْأَخْذ بِهِ وَمِنْهُم من أنْفق فى الدعْوَة إِلَى رايه نَفسه وَمَاله وَقضى شَهِيد إخلاصه فى دَعْوَة قومه إِلَى مَا يحفظ نظامهم فَهَؤُلَاءِ الْعُقَلَاء هم الَّذين يضعون قَوَاعِد الْعدْل وعَلى أهل السُّلْطَان أَن يحملوا الكافة على رعايتها وَبِذَلِك يَسْتَقِيم أَمر النَّاس
هَذَا قَول لَا يجافى الْحق ظَاهره وَلَكِن هَل سمع فى سيرة الْإِنْسَان وَهل ينطبق على سنته أَن يخضع كَافَّة أَفْرَاده أَو الْغَالِب مِنْهُم لرَأى الْعَاقِل لمُجَرّد أَنه الصَّوَاب وَهل كفى فى إقناع جمَاعَة مِنْهُ كشعب أَو أمة قَول عاقلهم إِنَّهُم مخطئون وَإِن الصَّوَاب فِيمَا يَدعُوهُم إِلَيْهِ وَإِن أَقَامَ على ذَلِك من الْأَدِلَّة مَا هُوَ أوضح من الضياء وَأجلى من ضَرُورَة الْمحبَّة للبقاء كلا لم يعرف ذَلِك فى تَارِيخ الْإِنْسَان وَلَا هُوَ مِمَّا ينطبق على سنته فقد تقدم لنا أَن مهب الشَّقَاء هُوَ تفَاوت النَّاس فى الْإِدْرَاك وهم مَعَ ذَلِك يدعونَ الْمُسَاوَاة فى الْعُقُول والتقارب فى الْأُصُول وَلَا يعرف جمهورهم من حَال الْفَاضِل إِلَّا كَمَا يعرف من أَمر الْجَاهِل وَمن لم يكن فى مرتبتك من الْعقل لم يذقْ مذاقك من الْفضل فمجرد الْبَيَان العقلى لَا يدْفع نزاعا وَلَا يرد طمأنينة وَقد يكون الْقَائِم على مَا وضع من شَرِيعَة الْعقل مِمَّن يزْعم أَنه أرفع من واضعها فَيذْهب بِالنَّاسِ مَذْهَب شهواته فتذهب حرمتهَا ويتهدم بناؤها ويفقد مَا قصد بوضعها
أضف إِلَى مَا سبق من لَوَازِم نزعات الْفِكر ونزعات الْأَهْوَاء شعورا هُوَ ألصق بالغريزة البشرية واشد لُزُوما لَهَا كل إِنْسَان مهما علا فكره وقوى عقله أَو ضعفت فطنته وانحطت فطرته يجد نَفسه أَنه مغلوب لقُوَّة أرفع من قوته وَقُوَّة مَا أنس مِنْهُ الْغَلَبَة عَلَيْهِ مِمَّا حوله وَأَنه مَحْكُوم بِإِرَادَة تصرفه وَتصرف مَا هُوَ فِيهِ من العوالم فى وُجُوه قد لَا تعرفها معرفَة العارفين وَلَا نتطرف إِلَيْهَا إِرَادَة المختارين تشعر كل نفس أَنَّهَا مسوقة لمعْرِفَة تِلْكَ الْقُوَّة الْعُظْمَى فتطلبها من حسها تَارَة وَمن عقلهَا أُخْرَى وَلَا سَبِيل لَهَا إِلَّا الطَّرِيق الَّتِى حددت لنوعها وهى طَرِيق النّظر فَذهب كل فى طلبَهَا وَرَاء رائد الْفِكر فَمنهمْ من ناولها بِبَعْض الْحَيَوَانَات لِكَثْرَة نَفعهَا أَو شدَّة ضررها وَمِنْهُم من تمثلت لَهُ فى بعض الْكَوَاكِب لظُهُور أَثَرهَا وَمِنْهُم من حَجَبته الْأَشْجَار والأحجار لاعتبارات لَهُ فِيهَا وَمِنْهُم من تبدت لَهُ آثَار قوى مُخْتَلفَة فى أَنْوَاع مُتَفَرِّقَة تتماثل فى أَفْرَاد كل نوع وتتخالف بتخالف الْأَنْوَاع فَجعل لكل نوع إِلَهًا وَلَكِن كلما رق الوجدان ولطفت الأذهان ونفذت البصائر ارْتَفع الْفِكر وجلت النتائج فوصل من بلغ بِهِ علمه بعض الْمنَازل من ذَلِك إِلَى معرفَة هَذِه الْقُدْرَة الباهرة واهتدى إِلَى أَنَّهَا قدرَة وَاجِب الْوُجُود غير أَن من أسرار الجبروت مَا غمض عَلَيْهِ فَلم يسلم من الْخَيط فِيهِ ثمَّ لم يكن لَهُ من الميزة الفائقة فى قومه مَا يحملهم على الاهتداء بهديه فبقى الْخلاف ذائعا والرشد ضائعا انفق النَّاس فى الإذعان لما فاق قدرهم وَعلا متناول استطاعتهم لكِنهمْ اخْتلفُوا فى فهم مَا تلجئهم الْفطْرَة إِلَى الإذعان لَهُ اخْتِلَافا كَانَ اشد أثرا فى التقاطع بَينهم وإثارة أعاصير الشقاق فيهم من اخْتلَافهمْ فى فهم النافع والضار لغَلَبَة الشَّهَوَات عَلَيْهِم
إِن كَانَ الْإِنْسَان قد فطر على أَن يعِيش فى جملَة وَلم يمنح مَعَ تِلْكَ الْفطْرَة مَا منحه النَّحْل وَبَعض أَفْرَاد النَّمْل مثلا من الإلهام الهادى إِلَى مَا يلْزم لذَلِك وَإِنَّمَا ترك إِلَى فكره يتَصَرَّف بِهِ على نَحْو مَا سبق كَمَا فطر على الشُّعُور بقاهر تنساق نَفسه بالرغم عَنْهَا إِلَى مَعْرفَته وَلم يفض عَلَيْهِ مَعَ ذَلِك الشُّعُور عرفانه بِذَات ذَلِك القاهر وَلَا صِفَاته وَإِنَّمَا ألْقى بِهِ فى مطارح النّظر تحمله الأفكار فى مجاريها وترمى
بِهِ إِلَى حَيْثُ يدرى وَلَا يدرى وفى كل ذَلِك الويل على جامعته والخطر على وجوده أفهل منى هَذَا النَّوْع بِالنَّقْصِ ورزء بالقصور عَن مثل مَا بلغه أَضْعَف الْحَيَوَانَات وأحطها فى منَازِل الْوُجُود نعم هُوَ كَذَلِك لَوْلَا مَا أَتَاهُ الصَّانِع الْحَكِيم من نَاحيَة ضعفه
الْإِنْسَان عَجِيب فى شَأْنه يصعد بِقُوَّة عقله إِلَى أَعلَى مَرَاتِب الملكوت ويطاول بفكره أرفع معالم الجبروت ويسامى بقوته مَا يعظم عَن أَن يسامى من قوى الْكَوْن الْأَعْظَم ثمَّ يصغر ويتضاءل وينحط إِلَى أدنى دَرك من الاستكانة والخضوع مَتى عرض لَهُ أَمر مالم يعرف سَببه وَلم يدْرك منشأه ذَلِك لسر عرفه المستبصرون واستشعرته نفوس النَّاس أَجْمَعِينَ من ذَلِك الضعْف قيد إِلَى هداه وَمن تِلْكَ الضعة أَخذ بِيَدِهِ إِلَى شرف سعادته أكمل الْوَاهِب الْجواد لجملته مَا اقْتَضَت حكمته فى تَخْصِيص نَوعه بِمَا يميزه عَن غَيره أَن ينقص من أَفْرَاده وكما جاد على كل شخص بِالْعقلِ الْمصرف للحواس لينْظر فى طلب اللُّقْمَة وَستر الْعَوْرَة والتوقى من الْحر وَالْبرد جاد على الْجُمْلَة بِمَا هُوَ أمس بِالْحَاجةِ فِي الْبَقَاء وآثر فى الْوِقَايَة من غوائل الشَّقَاء وأحفظ لنظام الِاجْتِمَاع الذى هُوَ عماد كَونه بالاجماع من عَلَيْهِ بالنائب الحقيقى عَن الْمحبَّة بل الرَّاجِع بهَا إِلَى النُّفُوس الَّتِى أقفرت مِنْهَا لم يُخَالف سنَنه فِيهِ من بِنَاء كَونه على قَاعِدَة التَّعْلِيم والإرشاد غير أَنه أَتَاهُ مَعَ ذَلِك من أَضْعَف الْجِهَات فِيهِ وهى جِهَة الخضوع والاستكانة فَأَقَامَ لَهُ من بَين أَفْرَاده مرشدين هادين وميزهم من بَينهَا بخصائص فى أنفسهم لَا يشركهم فِيهَا سواهُم وأيد ذَلِك زِيَادَة فى الْإِقْنَاع بآيَات باهرات تملك النُّفُوس وَتَأْخُذ الطَّرِيق على سوابق الْعُقُول فيستخذى الطامح ويذل الْجَامِع ويصطدم بهَا عقل الْعَاقِل فَيرجع إِلَى رشده وينبهر لَهَا بصر الْجَاهِل فيرتد عَن غيه يطرقون الْقُلُوب بقوارع من أَمر الله ويدهشون المدارك ببواهر من آيَاته فيحيطون الْعُقُول بمالا مندوحة عَن الأذعان لَهُ ويستوى فى الركون لما يجيئون بِهِ الْمَالِك والمملوك وَالسُّلْطَان والصعلوك والعاقل وَالْجَاهِل والمفضول والفاضل فَيكون الاذعان لَهُم أشبه بالاضطرارى مِنْهُ بالاختيارى النظرى يعلمونهم مَا شَاءَ الله أَن يصلح بِهِ معاشهم