المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رسالة محمد صلى الله عليه وسلم - التوحيد لمحمد عبده

[محمد عبده]

فهرس الكتاب

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌مُقَدمَات

- ‌أَقسَام الْمَعْلُوم

- ‌حكم المستحيل

- ‌أَحْكَام الْمُمكن

- ‌الْمُمكن مَوْجُود قطعا

- ‌وجود الْمُمكن يقتضى بِالضَّرُورَةِ وجود الْوَاجِب

- ‌أَحْكَام الْوَاجِب

- ‌الْقدَم والبقاء وَنفى التَّرْكِيب

- ‌الْحَيَاة

- ‌ الْعلم

- ‌الْإِرَادَة

- ‌الْقُدْرَة

- ‌الإختيار

- ‌الْوحدَة

- ‌الصِّفَات السمعية الَّتِى يجب الإعتقاد بهَا

- ‌كَلِمَات فِي الصِّفَات إِجْمَالا

- ‌أَفعَال الله جلّ شَأْنه

- ‌أَفعَال الْعباد

- ‌حسن الْأَفْعَال وقبحها

- ‌الرسَالَة الْعَامَّة

- ‌حَاجَة الْبشر إِلَى الرسَالَة

- ‌امكان الوحى

- ‌وُقُوع الْوَحْي والرسالة

- ‌وَظِيفَة الرُّسُل عليهم السلام

- ‌اعْتِرَاض مشهود

- ‌رِسَالَة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم

- ‌الْقُرْآن

- ‌الْإِسْلَام أَو الدّين الإسلامى

- ‌انتشار الْإِسْلَام

- ‌بِسُرْعَة لم يعْهَد لَهَا نَظِير فى التَّارِيخ

- ‌ايراد سهل الايراد

- ‌الْجَواب

- ‌التَّصْدِيق بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم

- ‌خَاتِمَة

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

الفصل: ‌رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

على أشعة البصيرة أَن تنفذ إِلَى فهم مَا أودعهُ من معارف وَأَحْكَام فَنَقُول لَو كَانَ الْأَمر كَمَا عساه أَن يُقَال لما كَانَ الدّين علما يهتدى بِهِ وَإِنَّمَا الذى سبق تَقْرِيره هُوَ أَن الْعقل وَحده لَا يسْتَقلّ بالوصول إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَة الْأُمَم بِدُونِ مرشد إلهى كَمَا لَا يسْتَقلّ الْحَيَوَان فى دَرك جَمِيع المحسوسات بحاسة الْبَصَر وَحدهَا بل لَا بُد مَعهَا من السّمع لإدراك المسموعات مثلا كَذَلِك الدّين هُوَ حاسة عَامَّة لكشف مَا يشْتَبه على الْعقل من وَسَائِل السعادات وَالْعقل هُوَ صَاحب السُّلْطَان فى معرفَة تِلْكَ الحاسة وتصريفها فِيمَا منحت لأَجله والإذعان لما تكشف لَهُ من معتقدات وحدود أَعمال كَيفَ يُنكر على الْعقل حَقه فى ذَلِك وَهُوَ الذى ينظر فى أدلتها ليصل مِنْهَا إِلَى مَعْرفَتهَا وَأَنَّهَا آتِيَة من قبل الله وَإِنَّمَا على الْعقل بعد التَّصْدِيق برسالة نبى أَن يصدق بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ وَإِن لم يسْتَطع الْوُصُول إِلَى كنه بعضه والنفوذ إِلَى حَقِيقَته وَلَا يقْضى عَلَيْهِ ذَلِك بِقبُول مَا هُوَ من بَاب الْمحَال الْمُؤَدى إِلَى مثل الْجمع بَين النقيضين أَو بَين الضدين فى مَوْضُوع وَاحِد فى آن وَاحِد فَإِن ذَلِك مِمَّا تتنزه النبوات عَن أَن تأتى بِهِ فَإِن جَاءَ مَا يُوهم ظَاهره ذَلِك فى شَيْء مَا الْوَارِد فِيهَا وَجب على الْعقل أَن يعْتَقد أَن الظَّاهِر غير مُرَاد وَله الْخِيَار بعد ذَلِك فى التَّأْوِيل مسترشدا بِبَقِيَّة مَا جَاءَ على لِسَان من ورد الْمُتَشَابه فى كَلَامه وفى التَّفْوِيض إِلَى الله فى علمه وفى سلفنا من الناجين من أَخذ بِالْأولِ وَمِنْهُم من أَخذ بالثانى

‌رِسَالَة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم

لَيْسَ من غرضنا فى هَذِه الوريقات أَن نلما بتاريخ الْأُمَم عَامَّة وتاريخ الْعَرَب خَاصَّة فى زمن الْبعْثَة المحمدية لنبين كَيفَ كَانَت حَاجَة سكان الأَرْض ماسة إِلَى قَارِعَة تهز عروش الْمُلُوك وتزلزل قَوَاعِد سلطانهم الغاشم وتخفض من أَبْصَارهم المعقودة بعنان السَّمَاء إِلَى من دونهم من رعاياهم الضُّعَفَاء وَإِلَى نَار تنقض من سَمَاء الْحق على أَدَم الْأَنْفس البشرية لتأكل مَا عشوشبت بِهِ من الأباطيل القاتلة للعقول وصيحة فصحى تزعج الغافلين وَترجع بِالْبَابِ الذاهلين وتنبه المرءوسين

ص: 68

إِلَى أَنهم ليسو بأبعدعن البشرية من الرؤساء الظَّالِمين والهداة الضَّالّين والقادة الغارين وَبِالْجُمْلَةِ تؤوب بهم إِلَى رشد يُقيم الْإِنْسَان على الطَّرِيق الَّتِى سنّهَا الله لَهُ إِنَّا هديناه السَّبِيل ليبلغ بسلوكها كَمَاله ويصل على نهجها إِلَى مَا أعد فى الدَّاريْنِ لَهُ وَلَكنَّا نستعير من التَّارِيخ كلمة يفهمها من نظر فِيمَا أتفق عَلَيْهِ مؤرخو ذَلِك الْعَهْد نظر إمعان وإنصاف

كَانَت دولتا الْعَالم دولة الْفرس فى الشرق ودولة الرومان فى الغرب فى تنَازع وتجالد مُسْتَمر دِمَاء بَين الْعَالمين مسفوكة وقوى منهوكة وأموال هالكة وظلم من الأحن حالكة وَمَعَ ذَلِك فقد كَانَ الزهو والترف والإسراف والفخفخة والتفنن فى الملاذ بَالِغَة حد مَالا يُوصف فى قُصُور السلاطين والأمراء والقواد ورؤساء الْأَدْيَان من كل أمة وَكَانَ شَره هَذِه الطَّبَقَة من الْأُمَم لَا يقف عِنْد حد فزادوا فى الضرائب وبالغوا فى فرض الأتاوات حَتَّى أثقلوا ظُهُور الرّعية بمطالبهم وَأتوا على مَا فى أيديها من ثَمَرَات أَعمالهَا وانحصر سُلْطَان القوى فى اختطاف مَا بيد الضَّعِيف وفكر الْعَاقِل فى الاحتيال لسلب الغافل وَتبع ذَلِك أَن استولى على تِلْكَ الشعوب ضروب من الْفقر والذل والاستكانة وَالْخَوْف وَالِاضْطِرَاب لفقد الْأَمْن على الْأَرْوَاح وَالْأَمْوَال

غمرت مَشِيئَة الرؤساء إِرَادَة من دونهم فَعَاد هَؤُلَاءِ كأشياح اللاعب يديرها من وَرَاء حجاب ويظنها النَّاظر إِلَيْهَا من ذوى الْأَلْبَاب ففقد بذلك الِاسْتِقْلَال الشخصى وَظن أَفْرَاد الرعايا أَنهم لم يخلقوا إِلَّا لخدمة ساداتهم وتوفير لذاتهم كَمَا هُوَ الشَّأْن فى العجماوات مَعَ من يقتنيها ضلت السادات فى عقائدها وأهوائها وغلبتها على الْحق وَالْعدْل شهواتها وَلَكِن بقى لَهَا من قُوَّة الْفِكر أردا بقاياها فَلم يفارقها الحذر من أَن بصيص النُّور الإلهى الذى يخالط الْفطر الإنسانية قد يفتق الغلف الَّتِى أحاطت بالقلوب ويمزق الْحجب الَّتِى أسدلت على الْعُقُول فتهتدى الْعَامَّة إِلَى السَّبِيل ويثور الجم الْغَفِير على الْعدَد الْقَلِيل وَلذَلِك لم يغْفل الْمُلُوك والرؤساء أَن ينشئوا سحبا من الأوهام ويهيئوا كسفا من الأباطيل والخرافات ليقذفوا بهَا فى عقول الْعَامَّة فيغلظ الْحجاب ويعظم الرين ويختنق بذلك نور

ص: 69

الْفطْرَة وَيتم لَهُم مَا يُرِيدُونَ من المغلوبين لَهُم وَصرح الدّين بِلِسَان رؤسائه أَنه عَدو الْعقل وعدو كل مَا يثمره النّظر إِلَى أَكَانَ تَفْسِيرا لكتاب مقدس وَكَانَ لَهُم فى المشارب الوثنية ينابيع لَا تنضب ومدد لَا ينفذ هَذِه حَالَة الأقوام كَانَت فى معارفهم وَذَلِكَ كَانَ شَأْنهمْ فى مَعَايشهمْ عبيد أذلاء حيارى فى جَهَالَة عمياء اللَّهُمَّ إِلَّا بعض شوارد من بقايا الْحِكْمَة الْمَاضِيَة والشرائع السَّابِقَة آوت إِلَى بعض الأذهان وَمَعَهَا مقت الْحَاضِر وَنقص الْعلم بالغابر ثارت الشُّبُهَات على اصول العقائد وفروعها بِمَا انْقَلب من الْوَضع وانعكس من الطَّبْع فَكَانَ يرى الدنس فى مَظَنَّة الطَّهَارَة والشره حَيْثُ تنْتَظر القناعة والدعارة حَيْثُ ترجى السَّلامَة وَالسَّلَام مَعَ قُصُور النّظر عَن معرفَة السَّبَب وانصرافه لأوّل وهلة إِلَى أَن مصدر كل ذَلِك هُوَ الدّين فاستولى الِاضْطِرَاب على المدارك وَذهب بِالنَّاسِ مَذْهَب الفوضى فى الْعقل والشريعة مَعًا وَظَهَرت مَذَاهِب الإباحيين والدهريين فى شعوب مُتعَدِّدَة وَكَانَ ذَلِك ويلا عَلَيْهَا فَوق مَا رزئت بِهِ من سَائِر الخطوب

وَكَانَت الْأمة الْعَرَبيَّة قبائل متخالفة فى النزعات خاضعة للشهوات فَخر كل قَبيلَة فى قتال أُخْتهَا وَسَفك دِمَاء أبطالها وسبى نسائها وسلب أموالها تسوقها المطامع إِلَى المعامع ويزين لَهَا السَّيِّئَات فَسَاد الاعتقادات وَقد بلغ الْعَرَب من سخافة الْعقل حدا صَنَعُوا أصنامهم من الْحَلْوَى ثمَّ عبدوها فَلَمَّا جَاعُوا أكلوها وبلغوا من تضعضع الْأَخْلَاق وَهنا قتلوا فِيهِ بناتهم تخلصا من عَار حياتهن أَو تنصلا من نفقات معيشتهن وَبلغ الْفُحْش مِنْهُم مبلغا لم يعد مَعَه للعفاف قيمَة وَبِالْجُمْلَةِ فَكَانَت ربط النظام الاجتماعى قد تراخت عقدهَا فى كل أمة وانفصمت عراها عِنْد كل طَائِفَة

أفلم يكن من رَحْمَة الله بأولئك الأقوام أَن يؤديهم بِرَجُل مِنْهُم يُوحى إِلَيْهِ رسَالَته ويمنحه عنايته ويمده من الْقُوَّة بِمَا يتَمَكَّن مَعَه من كشف تِلْكَ الغمم الَّتِى أظلت رُءُوس جَمِيع الْأُمَم نعم كَانَ ذَلِك وَللَّه الْأَمر من قبل وَمن بعد

وفى اللَّيْلَة الثَّانِيَة عشر من ربيع الأول عَام الْفِيل 20 ابريل سنة 571 من مِيلَاد الْمَسِيح عليه السلام ولد مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم القرشى

ص: 70

بِمَكَّة ولد يَتِيما توفى وَالِده قبل أَن يُولد وَلم يتْرك لَهُ من المَال إِلَّا خمس جمال وَبَعض نعاج وَجَارِيَة ويروى أقل من ذَلِك وفى السّنة السَّادِسَة من عمره فقد والدته أَيْضا فَاحْتَضَنَهُ جده عبد الْمطلب وَبعد سنتَيْن من كفَالَته توفى جده فَكَفَلَهُ من بعده عَمه أَبُو طَالب وَكَانَ شهما كَرِيمًا غير أَنه كَانَ من الْفقر بِحَيْثُ لَا يملك كفاف أَهله وَكَانَ صلى الله عليه وسلم من بنى عَمه وصبية قومه كأحدهم على مَا بِهِ من يتم فقد فِيهِ الْأَبَوَيْنِ مَعًا وفقر لم يسلم مِنْهُ الكافل والمكفول وَلم يقم على تَرْبِيَته مهذب وَلم يعن بتثقيفه مؤدب بَين أتراب من نبت الْجَاهِلِيَّة وعشراء من حلفاء الوثنية واولياء من عَبدة الأوهام وأقرباء من حفدة الْأَصْنَام غير أَنه مَعَ ذَلِك كَانَ يَنْمُو ويتكامل بدنا وعقلا وفضيلة وأدبا حَتَّى عرف بَين أهل مَكَّة وَهُوَ فى ريعان شبابه بالأمين أدب إلهى لم تجر الْعَادة بِأَن تزين بِهِ نفوس الْأَيْتَام من الْفُقَرَاء خُصُوصا مَعَ فقر القوام فاكتهل صلى الله عليه وسلم كَامِلا وَالْقَوْم ناقصون رفيعا وَالنَّاس منحطون موحدا وهم وثنيون سلما وهم شاغبون صَحِيح الِاعْتِقَاد وهم واهمون مطبوعا على الْخَيْر وهم بِهِ جاهلون وَعَن سَبيله عادلون

من السّنَن الْمَعْرُوفَة أَن يَتِيما فَقِيرا أُمِّيا مثله تنطبع نَفسه بِمَا ترَاهُ من أول نشأته إِلَى زمن كهولته ويتأثر عقله بِمَا يسمعهُ مِمَّن يخالطه لَا سِيمَا إِن كَانَ من ذوى قرَابَته وَأهل عصبته ولاكتاب يرشده وَلَا استأذ ينبهه وَلَا عضد إِذا عزم يُؤَيّدهُ فَلَو جرى الْأَمر فِيهِ على جارى السّنَن لنشأ على عقائدهم وَأخذ بمذاهبهم إِلَى أَن يبلغ مبلغ الرِّجَال وَيكون للفكر وَالنَّظَر مجَال فَيرجع إِلَى مخالفتهم إِذا قَامَ لَهُ الدَّلِيل على خلاف ضلالاتهم كَمَا فعل الْقَلِيل مِمَّن كَانُوا على عَهده وَلَكِن الْأَمر لم يجر على سنته بل بغضت إِلَيْهِ الوثنية من مبدأ عمره فعالجته طَهَارَة العقيدة كَمَا بادره حسن الخليقة وَمَا جَاءَ فى الْكتاب من قَوْله {ووجدك ضَالًّا فهدى} لَا يفهم مِنْهُ أَنه كَانَ على وثنية قبل الاهتداء إِلَى التَّوْحِيد أَو على غير السَّبِيل القويم قبل الْخلق الْعَظِيم حاش لله إِن ذَلِك لَهو الْإِفْك الْمُبين وَإِنَّمَا هى الْحيرَة تلم بقلوب أهل الْإِخْلَاص فِيمَا يرجون للنَّاس من الْخَلَاص وَطلب السَّبِيل إِلَى مَا هُدُوا إِلَيْهِ من إنقاذ الهالكين وإرشاد الضَّالّين وَقد هدى الله نبيه

ص: 71

إِلَى مَا كَانَت تتلمسه بصيرته باصطفائه لرسالته واختياره من بَين خلقه لتقرير شَرِيعَته

وجد شَيْئا من المَال يسد حَاجته وَقد كَانَ لَهُ فى الاستزادة مِنْهُ مَا يرفه معيشته بِمَا عمل لِخَدِيجَة رضى الله عَنْهَا فى تجارتها وَبِمَا اختارته بعد ذَلِك زوجا لَهَا وَكَانَ فِيمَا يجتنيه من ثَمَرَة عمله غناء لَهُ وَعون على بُلُوغه مَا كَانَ عَلَيْهِ أعاظم قومه لكنه لم ترقه الدُّنْيَا وَلم تغره زخارفها وَلم يسْلك مَا كَانَ يسلكه مثله فى الْوُصُول إِلَى مَا ترغبه الْأَنْفس من نعيمها بل كلما تقدم بِهِ السن زَادَت فِيهِ الرَّغْبَة عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الكافة ونما فِيهِ حب الِانْفِرَاد والانقطاع إِلَى الْفِكر والمراقبة والتحنث بمناجاة الله تَعَالَى والتوسل إِلَيْهِ فى طلب الْمخْرج من همه الْأَعْظَم فى تَخْلِيص قومه وَنَجَاة الْعَالم من الشَّرّ الذى تولاه إِلَى أَن أنفتق لَهُ الْحجاب عَن عَالم كَانَ يحثه إِلَيْهِ الإلهام الإلهى وتجلى عَلَيْهِ النُّور القدسى وَهَبَطَ عَلَيْهِ الوحى من الْمقَام العلى فى تَفْصِيل لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه

لم يكن من آبَائِهِ ملك فَيُطَالب بِمَا سلب من ملكه وَكَانَت نفوس قومه فى انصراف تَامّ عَن طلب مناصب السُّلْطَان وفى قناعة بِمَا وجدوه من شرف النِّسْبَة إِلَى الْمَكَان دلّ عَلَيْهِمَا مَا فعل جده عبد الْمطلب عِنْد زحف أَبْرَهَة الحبشى على دِيَارهمْ جَاءَ الحبشى لينتقم من الْعَرَب بهدم معبدهم الْعَام وبيتهم الْحَرَام ومنتجع حجيجهم ومستوى الْعلية من آلِهَتهم ومنتهى حجَّة القرشيين فى مفاخرتهم لبنى قَومهمْ وَتقدم بعض جنده فاستاق عددا من الْإِبِل فِيهَا لعبد الْمطلب مِائَتَا بعير وَخرج عبد الْمطلب فى بعض قُرَيْش لمقابلة الْملك فاستدناه وَسَأَلَهُ حَاجته فَقَالَ هى أَن ترد إِلَى مائتى بعير أصبتها إِلَى فلامه الْملك على الْمطلب الحقير وَقت الْخطب الخطير فَأَجَابَهُ أَنا رب الأبل أما الْبَيْت فَلهُ رب يحميه هَذَا غَايَة مَا ينتهى إِلَيْهِ الإستسلام وَعبد الْمطلب فى مَكَانَهُ من الرياسة على قُرَيْش فَأَيْنَ من تِلْكَ المكانة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فى حَالَة من الْفقر ومقامه فى الْوسط من طَبَقَات أَهله حَتَّى ينتجع ملكا أَو يطْلب سُلْطَانا لَا مَال لَا جاه لَا جند لَا أعوان لَا سليقة فى الشّعْر لَا براعة فى الْكتاب لَا شهرة فى الْخطاب

ص: 72

لَا شىء كَانَ عِنْده مِمَّا يكْسب المكانة فى نفوس الْعَامَّة أَو يرقى بِهِ إِلَى مقَام مَا بَين الْخَاصَّة مَا هَذَا الذى رفع نَفسه فَوق النُّفُوس مَا الذى أَعلَى راسه على الرُّءُوس مَا الذى سما بهمته على الهمم حَتَّى انتدب نَفسه لإرشاد الْأُمَم وكفالته لَهُم كشف الغمم بل وإحياء الرمم مَا كَانَ ذَلِك إِلَّا مَا ألْقى الله فى روعه من حَاجَة الْعَالم إِلَى مقوم لما زاغ من عقائدهم ومصلح لما فسد من أَخْلَاقهم وعوائدهم مَا كَانَ ذَلِك إِلَّا وجدانه ريح الْعِنَايَة الإلهية ينصره فى عمله ويمده فى الِانْتِهَاء إِلَى أمله قبل بُلُوغ أَجله مَا هُوَ إِلَّا الوحى الإلهى يسْعَى نوره بَين يَدَيْهِ يضىء لَهُ السَّبِيل ويكفيه مُؤنَة الدَّلِيل مَا هُوَ إِلَّا الْوَعْد السماوى قَامَ لَدَيْهِ مقَام الْقَائِد والجندى أَرَأَيْت كَيفَ نَهَضَ وحيدا فريدا يَدْعُو النَّاس كَافَّة إِلَى التَّوْحِيد والاعتقاد بالعلى الْمجِيد وَالْكل مَا بَين وثنية مُتَفَرِّقَة ودهرية وزندقة نَادَى فى الوثنيين بترك أوثانهم ونبذ معبوداتهم وفى المشبهين المنغمسين فى الْخَلْط بَين اللاهوت الأقدس وَبَين الجسمانيات بالتطهر من تشبيههم وفى الثانوية بافراد إِلَه وَاحِد بِالتَّصَرُّفِ فى الأكوان ورد كل شىء فى الْوُجُود إِلَيْهِ أهاب بالطبيعيين ليمدوا بصائرهم إِلَى مَا وَرَاء حجاب الطبيعة فيتنوروا سر الْوُجُود الذى قَامَت بِهِ صَاح بذوى الزعامة ليهبطوا إِلَى مُضَاف الْعَامَّة فى الاستكانة إِلَى سُلْطَان معبود وَاحِد هُوَ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض والقابض على أَرْوَاحهم فى هياكل أَجْسَادهم تنَاول المنتحلين مِنْهُم لمرتبة التَّوَسُّط بَين الْعباد وَبَين رَبهم الْأَعْلَى فَبين لَهُم بِالدَّلِيلِ وكشف لَهُم بِنور الوحى أَن نِسْبَة أكبرهم إِلَى الله كنسبة أَصْغَر المعتقدين بهم وطالبهم بالنزول عَمَّا انتحلوه لأَنْفُسِهِمْ من المكانات الربانية إِلَى أدنى سلم من الْعُبُودِيَّة والاشتراك مَعَ كل ذى نفس إنسانية فى الِاسْتِعَانَة بِرَبّ وَاحِد يستوى جَمِيع الْخلق فى النِّسْبَة إِلَيْهِ لَا يتفاوتون إِلَّا فِيمَا فضل بِهِ بَعضهم على بعض من علم أَو فَضِيلَة وخز بوعظه عبيد الْعَادَات وأسراء التَّقْلِيد ليعتقوا أَرْوَاحهم مِمَّا استعبدوا لَهُ ويحلوا أغلالهم الَّتِى أخذت بِأَيْدِيهِم عَن الْعَمَل وقطعتهم دون الأمل مَال على قراء الْكتب السماوية والقائمين على مَا أودعته من الشَّرَائِع الإلهية فَبَكَتْ الواقفين عِنْد حروفها بغباوتهم وشدد النكير على المحرفين لَهَا الصارفين لألفاظها إِلَى غير

ص: 73

مَا قصد من وحيها اتبَاعا لشهواتهم ودعاهم إِلَى فهمها والتحقق بسر علمهَا حَتَّى يَكُونُوا على نور من رَبهم واستفلت كل إِنْسَان إِلَى مَا أودع فِيهِ من الْمَوَاهِب الإلهية ودعا النَّاس أَجْمَعِينَ ذُكُورا وإناثا عَامَّة وسادات إِلَى عرفان أنفسهم وَأَنَّهُمْ من نوع خصّه الله بِالْعقلِ وميزه بالفكر وشرفه بهما وبحرية الْإِرَادَة فِيمَا يرشده إِلَيْهِ عقله وفكره وَأَن الله عرض عَلَيْهِم جَمِيع مَا بَين أَيْديهم من الأكوان وسلطهم على فهمها وَالِانْتِفَاع بهَا بِدُونِ شَرط وَلَا قيد إِلَّا الِاعْتِدَال وَالْوُقُوف عِنْد حُدُود الشَّرِيعَة العادلة والفضيلة الْكَامِلَة وأقدرهم بذلك على أَن يصلوا إِلَى معرفَة خالقهم بعقولهم وأفكارهم بِدُونِ وَاسِطَة أحد إِلَّا من خصهم الله بوحيه وَقد وكل إِلَيْهِم معرفتهم بِالدَّلِيلِ كَمَا كَانَ الشَّأْن فى معرفتهم لمبدع الكائنات أجمع وَالْحَاجة إِلَى أُولَئِكَ المصطفين إِنَّمَا هُوَ معرفَة الصِّفَات الَّتِى أذن الله أَن تعلم مِنْهُ وَلَيْسَ فى الِاعْتِقَاد بِوُجُودِهِ وَقرر أَن لَا سُلْطَان لأحد من الْبشر على آخر مِنْهُ إِلَّا مَا رسمته الشَّرِيعَة وفرضه الْعدْل ثمَّ الْإِنْسَان بعد ذَلِك يذهب بإرادته إِلَى مَا سخرت لَهُ بِمُقْتَضى الْفطْرَة دَعَا الْإِنْسَان إِلَى معرفَة أَنه جسم وروح وَأَنه بذلك من عَالمين متخلفين وَإِن كَانَا ممتزجين وَأَنه مطَالب بخدمتهما جَمِيعًا وإيفاء كل مِنْهُمَا مَا قررت لَهُ الْحِكْمَة الإلهية من الْحق دَعَا النَّاس كَافَّة إِلَى الاستعداد فى هَذِه الْحَيَاة لما سيلاقون فى الْحَيَاة الْأُخْرَى وَبَين لَهُم أَن خير زَاد يتزوده الْعَامِل هُوَ الْإِخْلَاص لله فى الْعِبَادَة وَالْإِخْلَاص للعباد فى الْعدْل والنصيحة والإرشاد

قَامَ بِهَذِهِ الدعْوَة الْعُظْمَى وَحده وَلَا حول وَلَا قُوَّة لَهُ كل هَذَا كَانَ مِنْهُ وَالنَّاس أحباء مَا ألفوا وَإِن كَانَ خسران الدُّنْيَا وحرمان الْآخِرَة أَعدَاء مَا جهلوا وَإِن كَانَ رغد الْعَيْش وَعزة السِّيَادَة ومنتهى السَّعَادَة كل هَذَا وَالْقَوْم حواليه أَعدَاء أنفسهم وَعبيد شهواتهم لَا يفقهُونَ دَعوته وَلَا يعْقلُونَ رسَالَته عقدت أهداب بصائر الْعَامَّة مِنْهُم بأهواء الْخَاصَّة وحجبت عقول الْخَاصَّة بغرور الْعِزَّة عَن النّظر فى دَعْوَى فَقير أمى مثله لَا يرَوْنَ فِيهِ مَا يرفعهُ إِلَى نصيحتهم والتطاول إِلَى مقاماتهم الرفيعة باللوم والتعنيف

ص: 74

لكنه فى فقره وَضَعفه كَانَ يقارعهم بِالْحجَّةِ ويناضلهم بِالدَّلِيلِ ويأخذهم بِالنَّصِيحَةِ ويزعجهم بالزجر وينبههم للعبر ويحوطهم مَعَ ذَلِك بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة كَأَنَّمَا هُوَ سُلْطَان قاهر فى حكمه عَادل فى أمره وَنَهْيه أَو أَب حَكِيم فى تربية أبنائه شَدِيد الْحِرْص على مصالحهم رءوف بهم فى شدته رَحِيم فى سلطته مَا هَذِه الْقُوَّة فى ذَلِك الضعْف مَا هَذَا السُّلْطَان فى مَظَنَّة الْعَجز مَا هَذَا الْعلم فى تِلْكَ الأمية مَا هَذَا الرشاد فى غَمَرَات الْجَاهِلِيَّة إِن هُوَ إِلَّا خطاب الجبروت الْأَعْلَى قَارِعَة الْقُدْرَة العظمة نِدَاء الْعِنَايَة الْعليا ذَلِك خطاب الله الْقَادِر على كل شىء الذى وسع كل شىء رَحْمَة وعلما ذَلِك أَمر الله الصادع يقرع الآذان ويشق الْحجب ويمزق الغلف وَينفذ إِلَى الْقُلُوب على لِسَان من اخْتَارَهُ لينطق بِهِ واختصه بذلك وَهُوَ أَضْعَف قومه ليقيم من هَذَا الِاخْتِصَاص برهانا عَلَيْهِ بَعيدا عَن الظنة بَرِيئًا من التُّهْمَة لإتيانه على غير الْمُعْتَاد بَين خلقه أى برهَان على النُّبُوَّة أعظم من هَذَا أمى قَامَ يَدْعُو الْكَاتِبين إِلَى فهم مَا يَكْتُبُونَ وَمَا يقرءُون بعيد عَن مدارس الْعلم صَاح بالعلماء ليمحصوا مَا كَانُوا يعلمُونَ فى نَاحيَة عَن ينابيع الْعرْفَان جَاءَ يرشد العرفاء ناشىء بَين الواهمين هَب لتقويم عوج الْحُكَمَاء غَرِيب فى أقرب الشعوب إِلَى سذاجة الطبيعة وأبعدها عَن فهم نظام الْخَلِيفَة وَالنَّظَر فى سنَنه البديعة أَخذ يُقرر للْعَالم أجمع أصُول الشَّرِيعَة ويخط للسعادة طرقا لن يهْلك سالكها وَلنْ يخلص تاركها مَا هَذَا الْخطاب المفحم مَا ذَلِك الدَّلِيل الملجم أأقول مَا هَذَا بشرا إِن هَذَا إِلَّا ملك كريم لالا أَقُول ذَلِك وَلَكِن أَقُول كَمَا أمره الله أَن يصف نَفسه إِن هُوَ إِلَّا بشر مثلكُمْ يُوحى إِلَيْهِ نبى صدق الْأَنْبِيَاء وَلَكِن لم يَأْتِ فى الْإِقْنَاع برسالته بِمَا يلهى الْأَبْصَار أَو يحير الْحَواس أَو يدهش المشاعر وَلَكِن طَالب كل قُوَّة بِالْعَمَلِ فِيمَا أعدت لَهُ واختص الْعقل بِالْخِطَابِ وحاكم إِلَيْهِ الْخَطَأ وَالصَّوَاب وَجعل فى قُوَّة الْكَلَام وسلطان البلاغة وَصِحَّة الدَّلِيل مبلغ الْحجَّة وَآيَة الْحق الذى لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد

ص: 75