الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقف ذَلِك الْموقف مَعَ طول الزَّمن وانفساح الْأَجَل كل ذَلِك يدل على أَن النَّاطِق هُوَ عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة لَا رجل يعظ وَينْصَح على الْعَادة
فَثَبت بِهَذِهِ المعجزة الْعُظْمَى وَقَامَ الدَّلِيل بِهَذَا الْكتاب الباقى الذى لَا يعرض عَلَيْهِ التَّغْيِير وَلَا يتَنَاوَلهُ التبديل أَن نَبينَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَسُول الله إِلَى خلقه فَيجب التَّصْدِيق برسالته والاعتقاد بِجَمِيعِ مَا ورد فى الْكتاب الْمنزل عَلَيْهِ وَالْأَخْذ بِكُل مَا ثَبت عَنهُ من هدى وَسنة متبعة وَقد جَاءَ فى الْكتاب أَنه خَاتم الْأَنْبِيَاء فَوَجَبَ علينا الْإِيمَان بذلك كَذَلِك
بقى علينا أَن نشِير إِلَى وَظِيفَة الدّين الإسلامى وَمَا دَعَا إِلَيْهِ على وَجه الْإِجْمَال وَكَيف انتشرت دَعوته بالسرعة الْمَعْرُوفَة والسر فى كَون النبى صلى الله عليه وسلم خَاتم الْمُرْسلين صلوَات الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم أَجْمَعِينَ
الْإِسْلَام أَو الدّين الإسلامى
هُوَ الدّين الذى جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وعقله من وعاه عَنهُ من صحابته وَمن عاصرهم وَجرى الْعَمَل عَلَيْهِ حينا من الزَّمن بَينهم بِلَا خلاف وَلَا اعتساف فى التَّأْوِيل وَلَا ميل مَعَ الشيع وإنى مجمله فى هَذَا الْبَاب مقتديا بِالْكتاب الْمجِيد فى التَّفْوِيض لذوى البصائر أَن يفصلوه وَمَا سندى فِيمَا أَقُول إِلَّا الْكتاب وَالسّنة القويمة وَهدى الرَّاشِدين
جَاءَ الدّين الإسلامى بتوحيد الله تَعَالَى فى ذَاته وأفعاله وتنزيهه عَن مشابهة المخلوقين فَأَقَامَ الْأَدِلَّة على أَن للكون خَالِقًا وَاحِدًا متصفا بِمَا دلّت عَلَيْهِ آثَار صَنْعَة من الصِّفَات الْعلية كَالْعلمِ وَالْقُدْرَة والإرادة وَغَيرهَا وعَلى أَنه لَا يُشبههُ شىء من خلقه وَأَن لَا نِسْبَة بَينه وَبينهمْ إِلَّا أَنه موجدهم وَأَنَّهُمْ لَهُ وَإِلَيْهِ رَاجِعُون قل هُوَ الله أحد ألله الصَّمد لم يلد وَلم يولدولم يكن لَهُ كفوا أحد وَمَا ورد من أَلْفَاظ الْوَجْه الْيَدَيْنِ والاستواء وَنَحْوهَا لَهُ معَان عرفهَا الْعَرَب المخاطبون بِالْكتاب وَلم يشتبهوا فى شىء مِنْهَا وَأَن ذَاته وَصِفَاته يَسْتَحِيل عَلَيْهَا
أَن تبرز فى جَسَد أَو روح أحد من الْعَالمين وَإِنَّمَا يخْتَص سُبْحَانَهُ من شَاءَ من عباده بِمَا شَاءَ من علم وسلطان على مَا يُرِيد أَن يُسَلِّطهُ عَلَيْهِ من الْأَعْمَال على سنة لَهُ فى ذَلِك سنّهَا فى علمه الأزلى الذى لَا يَعْتَرِيه التبديل وَلَا يدنو مِنْهُ التَّغْيِير وحظر على كل ذى عقل أَن يعْتَرف لأحد بشىء من ذَلِك إِلَّا ببرهان ينتهى فى مقدماته إِلَى حكم الْحس وَمَا جاوره من البديهيات الَّتِى لَا تنقص عَنهُ فى الوضوح بل قد تعلوه كاستحالة الْجمع بَين النقيضين أَو ارتفاعهما مَعًا أَو وجوب أَن الْكل أعظم من الْجُزْء مثلا وَقضى على هَؤُلَاءِ كغيرهم بِأَنَّهُم لَا يملكُونَ لانفسهم نفعا وَلَا ضرا وَغَايَة أَمرهم أَنهم عباد مكرمون وَأَن مَا يجريه على أَيْديهم فَإِنَّمَا هُوَ بِإِذن خَاص وبتيسير خَاص فى مَوضِع خَاص لحكمة خَاصَّة وَلَا يعرف شَأْن الله فى شىء من هَذَا إِلَّا ببرهان كَمَا تقدم
دلّ هَذَا الدّين بِمثل قَول الْكتاب {وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تشكرون} وَالشُّكْر عِنْد الْعَرَب مَعْرُوف أَنه تصريف النِّعْمَة فِيمَا كَانَ الإنعام بهَا لأَجله دلّ بِمثل هَذَا على أَن الله وهبنا من الْحَواس وغرز فِينَا من القوى مَا نصرفه فى وجوهه بمحض تِلْكَ الموهبة فَكل شخص كاسب لعمله بِنَفسِهِ لَهَا أَو عَلَيْهَا وَأما مَا تتحير فِيهِ مداركنا وتقصر دونه قوانا وتشعر فِيهِ أَنْفُسنَا بسُلْطَان يقهرها أَو نَاصِر يمدها فِيمَا أدْركهَا الْعَجز عَنهُ على أَنه فَوق مَا تعرف من القوى المسخرة لَهَا وَكَانَ لَا بُد من الخضوع لَهُ وَالرُّجُوع إِلَيْهِ والاستعانة بِهِ فَذَلِك إِنَّمَا يرد إِلَى الله وَحده فَلَا يجوز أَن تخشع إِلَّا لَهُ وَلَا أَن تطمئِن إِلَّا إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ جعل شَأْنهَا فِيمَا تخافه وترجوه مِمَّا تقبل عَلَيْهِ فى الْحَيَاة الْآخِرَة لَا يسوغ لَهَا أَن تلجأ إِلَى أحد غير الله فى قبُول أَعمالهَا من الطَّيِّبَات وَلَا فى غفران أفاعيلها من السَّيِّئَات فَهُوَ وَحده مَالك يَوْم الدّين
اجتثت بذلك جذور الوثنية وَمَا وَليهَا مِمَّا لَو اخْتلف عَنْهَا فى الصُّور والشكل أَو الْعبارَة وَاللَّفْظ لم يخْتَلف عَنْهَا فى الْمَعْنى والحقيقة تبع هَذَا طَهَارَة الْعُقُول من الأوهام الْفَاسِدَة الَّتِى لَا تنفك عَن تِلْكَ العقيدة الْبَاطِلَة ثمَّ تنزه النُّفُوس عَن
الملكات السَّيئَة الَّتِى كَانَت تلازم تِلْكَ الأوهام وتخلصت بِتِلْكَ الطَّهَارَة من الِاخْتِلَاف فى المعبودين وَعَلَيْهِم وارتفع شَأْن الْإِنْسَان وَسمعت قِيمَته بِمَا صَار إِلَيْهِ من الْكَرَامَة بِحَيْثُ أصبح لَا يخضع لأحد إِلَّا لخالق السَّمَوَات وَالْأَرْض وقاهر النَّاس أَجْمَعِينَ وأبيح لكل أحد بل فرض عَلَيْهِ أَن يَقُول كَمَا قَالَ إِبْرَهِيمُ {إِنِّي وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض حَنِيفا وَمَا أَنا من الْمُشْركين} وكما أَمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن يَقُول {إِن صَلَاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب الْعَالمين لَا شريك لَهُ وَبِذَلِك أمرت وَأَنا أول الْمُسلمين}
تجلت بذلك للانسان نَفسه حره كريمه وأطلقت إِرَادَته من الْقُيُود الَّتِى كَانَت تعقدها بِإِرَادَة غَيره سَوَاء كَانَت إِرَادَة بشرية ظن أَنَّهَا شُعْبَة من الْإِرَادَة الإلهية أَو أَنَّهَا هى كارادة الرؤساء والمسيطرين أَو إِرَادَة موهومة اخترعها الخيال كَمَا يظنّ فى الْقُبُور والاحجار والاشجار وَالْكَوَاكِب وَنَحْوهَا وافتكت عزيمته من أسر الوسائط والشفعاء والمتكهنة والعرفاء وزعماء السيطرة على الْأَسْرَار ومنتحلى حق الْولَايَة على أَعمال الْعِيد فِيمَا بَينه وَبَين الله الزاعمين وَأَنَّهُمْ وَاسِطَة النجَاة وبأيديهم الاشقاء والاسعاد وَبِالْجُمْلَةِ فقد اعتقت روحه من الْعُبُودِيَّة للمحتالين والدجالين صَار الْإِنْسَان بِالتَّوْحِيدِ عبد الله خَاصَّة حرا من الْعُبُودِيَّة لكل مَا سواهُ فَكَانَ لَهُ من الْحق مَا للْحرّ على الْحر لَا على فى الْحق وَلَا وضيع وَلَا سافل وَلَا رفيع وَلَا تفَاوت بَين النَّاس إِلَّا بتفاوت أَعْمَالهم وَلَا تفاضل إِلَّا بتفاضلهم فى عُقُولهمْ ومعارفهم وَلَا يقربهُمْ من الله إِلَّا طَهَارَة الْعقل من دنس الْوَهم وخلوص الْعَمَل من العوج والرياء ثمَّ بِهَذَا خلصت أَمْوَال الكاسبين وتمحض الْحق فِيهَا للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين والمصالح الْعَامَّة وكفت عَنْهَا أيدى العالة وَأهل البطالة مِمَّن كَانَ يزْعم الْحق فِيهَا بِصفتِهِ ورتبته لَا بِعَمَلِهِ وخدمته
طَالب الْإِسْلَام بِالْعَمَلِ كل قَادر عَلَيْهِ وَقرر أَن لكل نفس مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال
ذرة شرا يره} وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى وأباح لكل أحد أَن يتَنَاوَل من الطَّيِّبَات مَا شَاءَ أكلا وشربا ولباسا وزينة وَلم يحظر عَلَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ ضارا بِنَفسِهِ أَو بِمن يدْخل فى ولَايَته أَو مَا تعدى ضَرَره إِلَى غَيره وحدد لَهُ فى ذَلِك الْحُدُود الْعَامَّة بِمَا ينطبق على مصَالح الْبشر كَافَّة فكفل الِاسْتِقْلَال لكل شخص فى عمله واتسع المجال لتسابق الهمم فى السعى حَتَّى لم يعدلها عقبَة تتعثر بهَا اللَّهُمَّ إِلَّا حَقًا مُحْتَرما مَا تصطدم بِهِ
أنحى الْإِسْلَام على التَّقْلِيد وَحمل عَلَيْهِ حَملَة لم يردهَا عَنهُ الْقدر فبددت فيالقه المتغلبة على النُّفُوس واقتلعت أُصُوله الراسخة فى المدارك ونسفت مَا كَانَ لَهُ من دعائم وأركان فى عقائد الْأُمَم صَاح بِالْعقلِ صَيْحَة أزعجته من سباته وهبت بِهِ من نَومه طَال عَلَيْهِ الْغَيْب فِيهَا كلما نفذ إِلَيْهِ شُعَاع من نور الْحق خلصت إِلَيْهِ هينمة من سدنة هياكل الْوَهم نم فان اللَّيْل حالك وَالطَّرِيق وعرة والغاية بعيدَة وَالرَّاحِلَة كليلة والازواد قَليلَة علا صَوت الْإِسْلَام على وساوس الطغام وجهر بِأَن الانسان لم يخلق ليقاد بالزمام وَلكنه فطر على أَن يهتدى بِالْعلمِ والاعلام أَعْلَام الْكَوْن وَدَلَائِل الْحَوَادِث وَإِنَّمَا المعلمون منبهون ومرشدون إِلَى طرق الْبَحْث مَا دون صرح فى وصف أهل الْحق بِأَنَّهُم الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه فوصفهم بالتمييز بَين مَا يُقَال من غير فرق بَين الْقَائِلين ليأخذوا بِمَا عرفُوا حسنه ويطرحوا مَا لم يتبينوا صِحَّته ونفعه وَمَال على الرؤساء فأنزلهم من مستوى كَانُوا فِيهِ يأمرون وَينْهَوْنَ ووضعهم تَحت أنظار مرءوسيهم يخبرونهم كَمَا يشاءون ويمتحنون مزاعمهم حَسْبَمَا يحكمون ويقضون فِيهَا بِمَا يعلمُونَ ويتيقنون لَا بِمَا يظنون ويتوهمون صرف الْقُلُوب عَن التَّعَلُّق بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْآبَاء وَمَا توارثه عَنْهُم الآبناء وسجل الْحمق والسفاهة على الآخذين بأقوال السَّابِقين وَنبهَ على أَن السَّبق فى الزَّمَان لَيْسَ آيَة من آيَات الْعرْفَان وَلَا مسميا الْعُقُول على عقول وَلَا لأذهان على أذهان وَإِنَّمَا السَّابِق واللاحق فى التَّمْيِيز والفطرة سيان بل للاحق من علم آثارها فى الْكَوْن مالم يكن لمن تقدمه من أسلافة وآبائه وَقد يكون من تِلْكَ الْآثَار الَّتِى ينْتَفع بهَا أهل الجيل الْحَاضِر ظُهُور
العواقب السَّيئَة لأعمال من سبقهمْ وطغيان الشَّرّ الذى وصل إِلَيْهِم بِمَا اقترفه سلفهم {قل سِيرُوا فِي الأَرْض ثمَّ انْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين} وَإِن أَبْوَاب فضل الله لم تغلق دون طَالب وَرَحمته الَّتِى وسعت كل شىء لن تضيق عَن دائب عَابَ أَرْبَاب الْأَدْيَان فى افتفائهم أثر آبَائِهِم ووقوفهم عِنْد مَا اختطته لَهُم سير أسلافهم وَقَوْلهمْ {بل نتبع مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} {إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مهتدون} فَأطلق بِهَذَا سُلْطَان الْعقل من كل مَا كَانَ قَيده وخلصه من كل تَقْلِيد كَانَ استعبده ورده إِلَى مَمْلَكَته يقْضى فِيهَا بِحكمِهِ وحكمته مَعَ الخضوع مَعَ ذَلِك لله وَحده وَالْوُقُوف عِنْد شَرِيعَته وَلَا حد للْعَمَل فى منْطقَة حُدُودهَا وَلَا نِهَايَة للنَّظَر يَمْتَد تَحت بنودها
بِهَذَا وَمَا سبقه تمّ للانسان بِمُقْتَضى دينه أَمْرَانِ عظيمان طالما حرم مِنْهُمَا وهما اسْتِقْلَال الْإِرَادَة واستقلال الرأى والفكر وَبِهِمَا كملت لَهُ إنسانيته واستعد لِأَن يبلغ من السَّعَادَة مَا هيأه الله لَهُ بِحكم الْفطْرَة الَّتِى فطر عَلَيْهَا وَقد قَالَ بعض حكماء الغربيين من متأخيريهم إِن نشأة الْمَدِينَة فى أوربا إِنَّمَا قَامَت على هذَيْن الْأَصْلَيْنِ فَلم تنهض النُّفُوس للْعَمَل وَلم تتحرك الْعُقُول للبحث وَالنَّظَر إِلَّا بعد أَن عرف الْعدَد الْكثير أنفسهم وَأَن لَهُم حَقًا فى تصريف اختيارهم وفى طلب الْحَقَائِق بعقولهم وَلم يصل إِلَيْهِم هَذَا النَّوْع من الْعرْفَان إِلَّا فى الجيل السَّادِس عشر من مِيلَاد الْمَسِيح وَقرر ذَلِك الْحَكِيم أَنه شُعَاع سَطَعَ عَلَيْهِم من آدَاب الْإِسْلَام ومعارف الْمُحَقِّقين من أَهله من تِلْكَ الْأَزْمَان
رفع الاسلام بكتابه الْمنزل مَا كَانَ قد وَضعه رُؤَسَاء الْأَدْيَان من الْحجر على عقول المتدينين فى فهم الْكتب السماوية استثار من أُولَئِكَ الرؤساء بِحَق الْفَهم لانفسهم وضنا بِهِ على كل من لم يلبس لباسهم وَلم يسْلك مسلكهم لنيل تِلْكَ الرتب المقدسة ففرضوا على الْعَامَّة أَو أباحوا لَهُم أَن يقرءوا قطعا من تِلْكَ الْكتب لَكِن على شريطة أَن لَا يفهموها وَلَا أَن يطيلوا أنظارهم إِلَى مَا ترمى
إِلَيْهِ ثمَّ غالوا فى ذَلِك فحرموا أنفسهم أَيْضا مزية الْفَهم إِلَّا قَلِيلا ورموا عُقُولهمْ بالقصور عَن إِدْرَاك مَا جَاءَ فى الشَّرَائِع والنبوات ووقفوا كَمَا وقفُوا بِالنَّاسِ عِنْد تِلَاوَة الْأَلْفَاظ تعبدا بالأصوات والحروف فَذَهَبُوا بحكمة الارسال فجَاء الْقُرْآن يلْبِسهُمْ عَار مَا فعلوا فَقَالَ {وَمِنْهُم أُمِّيُّونَ لَا يعلمُونَ الْكتاب إِلَّا أماني وَإِن هم إِلَّا يظنون} {مثل الَّذين حملُوا التَّوْرَاة ثمَّ لم يحملوها كَمثل الْحمار يحمل أسفارا بئس مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا بآيَات الله وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} أما الأمانى ففسرت بالقراءت والتلاوات أى لَا يعلمُونَ مِنْهُ إِلَّا أَن يتلوه وَإِذا ظنُّوا أَنهم على شىء مِمَّا دَعَا إِلَيْهِ فَهُوَ عَن غير علم بِمَا أودعهُ وَبلا برهَان على مَا تخيلوه عقيدة وظنوه دينا وَإِذا عَن لأَحَدهم أَن يبين شَيْئا من أَحْكَامه ومقاصده لشَهْوَة دَفعته إِلَى ذَلِك جَاءَ فِيمَا يَقُول بِمَا لَيْسَ مِنْهُ على بَيِّنَة واعتسف فى التَّأْوِيل وَقَالَ هَذَا من عِنْد الله {فويل للَّذين يَكْتُبُونَ الْكتاب بِأَيْدِيهِم ثمَّ يَقُولُونَ هَذَا من عِنْد الله ليشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا} أما الَّذين قَالَ إِنَّهُم لم يحملوا التَّوْرَاة وهى بَين أَيْديهم بعد مَا حملوها فهم الَّذين لم يعرفوا مِنْهَا إِلَّا الْأَلْفَاظ وَلم تسم عُقُولهمْ إِلَى دَرك مَا أودعته من الشَّرَائِع وَالْأَحْكَام فعميت عَلَيْهِم بذلك طرق الاهتداء بهَا وطمست عَن أَعينهم أَعْلَام الْهِدَايَة الَّتِى نصبت بانزالها فَحق عَلَيْهِم ذَلِك الْمثل الذى أظهر شَأْنهمْ فِيمَا لَا يَلِيق بِنَفس بشرية أَن تظهر بِهِ مثل الْحمار الذى يحمل الْكتب وَلَا يَسْتَفِيد من حملهَا إِلَّا العناء والتعب وقصم الظّهْر وانهيار النَّفس وَمَا أشنع شَأْن قوم انقلبت بهم الْحَال فَمَا كَانَ سَببا فى إسعادهم وَهُوَ التَّنْزِيل والشريعة أصبح سَببا فى شقائهم بِالْجَهْلِ والغباوة وَبِهَذَا التقريع وَنَحْوه وبالدعوة الْعَامَّة إِلَى الْفَهم وتمحيص الْأَلْبَاب لفقه وَالْيَقِين مِمَّا هُوَ منتشر فِي الْقُرْآن الْعَزِيز فرض الْإِسْلَام على كل ذى دين أَن يَأْخُذ بحظه من علم مَا أودع الله فى كتبه وَمَا قرر من شَرعه وَجعل النَّاس فى ذَلِك سَوَاء بعد اسْتِيفَاء الشَّرْط بإعداد مَا لَا بُد مِنْهُ للفهم وَهُوَ سهل المنال
على الْجُمْهُور الْأَعْظَم من المتدينين لَا تخْتَص بِهِ طبقَة من الطَّبَقَات وَلَا يحتكر مزينة وَقت من الْأَوْقَات
جَاءَ الْإِسْلَام وَالنَّاس شيع فى الدّين وَإِن كَانُوا إِلَّا قَلِيلا فى جَانب عَن الْيَقِين يتنابذون ويتلاعبون ويزعمون فى ذَلِك أَنهم بِحَبل الله مستمسكون فرقة وتخالف وشغب يظنونها فى سَبِيل الله أقوى سَبَب أنكر الْإِسْلَام ذَلِك كُله وَصرح تَصْرِيحًا لَا يحْتَمل الرِّيبَة بِأَن دين الله فى جَمِيع الْأَزْمَان وعَلى ألسن جَمِيع الْأَنْبِيَاء وَاحِد قَالَ الله إِن الدّين عِنْد الله الاسلام وَمَا اخْتلف الَّذين أوتو الْكتاب إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم {مَا كَانَ إِبْرَاهِيم يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفا مُسلما وَمَا كَانَ من الْمُشْركين} {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى أَن أقِيمُوا الدّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ كبر على الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ} {قل يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم أَلا نعْبد إِلَّا الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا وَلَا يتَّخذ بَعْضنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله فَإِن توَلّوا فَقولُوا اشْهَدُوا بِأَنا مُسلمُونَ} وَكثير من ذَلِك يطول إِيرَاده فى هَذِه الوريقات والآيات الْكَرِيمَة الَّتِى تعيب على اهل الدّين مَا نزعوا إِلَيْهِ من الِاخْتِلَاف والمشاقة مَعَ ظُهُور الْحجَّة واستقامة المحجة لَهُم فى علم مَا اخْتلفُوا فِيهِ مَعْرُوفَة لكل من قَرَأَ الْقُرْآن وتلاه حق تِلَاوَته نَص الْكتاب على أَن دين الله فى جَمِيع الْأَزْمَان هُوَ إِفْرَاده بالربوبية والاستسلام لَهُ وَحده بالعبودية وطاعته فِيمَا أَمر بِهِ وَنهى عَنهُ مِمَّا هُوَ مصلحَة للبشر وعماد لسعادتهم فى الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَقد ضمنه كتبه الَّتِى أنزلهَا على المصطفين من رسله ودعا الْعُقُول إِلَى فهمه مِنْهُ والعزائم إِلَى الْعَمَل بِهِ وَأَن هَذَا الْمَعْنى من الدّين هُوَ الأَصْل الذى يرجع إِلَيْهِ عِنْد هبوب ريح التخالف وَهُوَ الْمِيزَان الذى توزن بِهِ الْأَقْوَال عِنْد التناصف وَإِن اللجاج والمراء فى الجدل فِرَاق مَعَ الدّين وَبعد عَن سنته وَمَتى روعيت
حكمته ولوحظ جَانب الْعِنَايَة الإلهية فى الإنعام على البشرية ذهب الْخلاف وتراجعت الْقُلُوب إِلَى هداها وَسَار الكافة فى مراشهدهم إخْوَانًا بِالْحَقِّ مستمسكين وعَلى نصرته متعاونين
أما صور الْعِبَادَات وضروب الاحتفالات مِمَّا اخْتلفت فِيهِ الْأَدْيَان الصَّحِيحَة سابقها مَعَ لاحقها وَاخْتِلَاف الْأَحْكَام متقدمها مَعَ متأخرها فمصدره رَحْمَة الله ورأفته فى إيتَاء كل أمة وكل زمَان مَا علم فِيهِ الْخَيْر للْأمة والملاءمة للزمان وكما جرت سنته هُوَ رب الْعَالمين بالتدريج فى تربية الْأَشْخَاص من خَارج بطن أمه لَا يعلم شَيْئا إِلَى رَاشد فى عقله كَامِل فى نشأته يمزق الْحجب بفكره ويواصل أسرار الْكَوْن بنظره كَذَلِك لم تخْتَلف سنته وَلم يضطرب هَدْيه فى تربية الْأُمَم فَلم يكن من شَأْن الْإِنْسَان فى جملَته ونوعه أَن يكون فى مرتبَة وَاحِدَة من الْعلم وَقبُول الْخطاب من يَوْم خلقه إِلَى يَوْم يبلغ بِهِ من الْكَمَال منتهاه بل سبق الْقَضَاء بِأَن يكون شَأْن جملَته فى النمو قَائِما على مَا قَرّرته الْفطْرَة الإلهية فى شَأْن أَفْرَاده وَهَذَا من البديهيات الَّتِى لَا يَصح الِاخْتِلَاف فِيهَا وَإِن اخْتلف أهل النّظر فى بَيَان مَا تفرع مِنْهُ فى عُلُوم وضعت للبحث فى الِاجْتِمَاع الْبُشْرَى خَاصَّة فَلَا نطيل الْكَلَام فِيهِ هُنَا
جَاءَت أَدْيَان وَالنَّاس من فهم مصالحهم الْعَامَّة بل والخاصة فى طور أشبه بطور الطفولة للناشىء الحَدِيث الْعَهْد بالوجود لَا يألف مِنْهُ إِلَّا مَا وَقع تَحت حسه ويصعب عَلَيْهِ أَن يضع الْمِيزَان بَين يَوْمه وأمسه وَأَن يتَنَاوَل بذهنه من الْمعَانى مَا لَا يقرب من لمسه وَلم ينفث فى روعه من الوجدان الْبَاطِن مَا يعطفه على غَيره من عشيرة أَو ابْن جنسه فَهُوَ من الْحِرْص على مَا يُقيم بِنَاء شخصه فى هم شاغل عَمَّا يلقى إِلَيْهِ فِيمَا يصله بِغَيْرِهِ اللَّهُمَّ إِلَّا يدا تصل إِلَى فَمه بِطَعَام أَو تسنده فى قعُود أَو قيام فَلم يكن من حِكْمَة تِلْكَ الْأَدْيَان أَن تخاطب النَّاس بِمَا يلطف فى الوجدان أَو يرقى إِلَيْهِ بسلم الْبُرْهَان بل كَانَ من عَظِيم الرَّحْمَة أَن نسير بالأقوام وهم عِيَال الله سير الْوَالِد مَعَ وَلَده فى سذاجة السن لَا يَأْتِيهِ إِلَّا من قبل مَا يحسه بسمعه أَو يبصره فَأَخَذتهم بالأوامر الصادعة والزواجر الرادعة وطالبتهم بِالطَّاعَةِ وحملتهم فِيهَا على مبلغ الِاسْتِطَاعَة كلفتهم بمعقول الْمَعْنى
جلى الْغَايَة وَإِن لم يفهموا مَعْنَاهُ وَلم تصل مداركهم إِلَى مرماه وجاءتهم من الْآيَات بِمَا تطرف لَهُ عيونهم وتنفعل بِهِ مشاعرهم وفرضت عَلَيْهِم من الْعِبَادَات مَا يَلِيق بحالهم هَذِه
ثمَّ مَضَت على ذَلِك أزمان علت فِيهَا الأقوام وَسَقَطت وَارْتَفَعت وانحطت وجربت وكسبت وتخالفت واتفقت وذاقت من الْأَيَّام آلاما وتقلبت فى السَّعَادَة والشقاء أَيَّامًا واياما وَوجدت الْأَنْفس بنفث الْحَوَادِث ولقن الكوارث شعورا أدق من الْحس وَأدْخل فى الوجدان لَا يرْتَفع فى الْجُمْلَة عَمَّا تشعر بِهِ قُلُوب النِّسَاء أَو تذْهب مَعَه نزعات الغلمان فجَاء دين يُخَاطب العواطف ويناجى المراحم ويستعطف الْأَهْوَاء ويحادث خطرات الْقُلُوب فتشرع للنَّاس من شرائع الزهادة مَا يصرفهم عَن الدُّنْيَا بجملتها وَيُوجه وُجُوههم نَحْو الملكوت الْأَعْلَى ويقتضى من صَاحب الْحق أَن لَا يُطَالب بِهِ وَلَو بِحَق ويغلق أَبْوَاب السَّمَاء فى وُجُوه الْأَغْنِيَاء وَمَا ينحو نَحْو ذَلِك مِمَّا هُوَ مَعْرُوف وَسن للنَّاس سننا فى عبَادَة الله تتفق مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَمَا دعاهم إِلَيْهِ فلاقى من تعلق النُّفُوس بدعوته مَا أصلح من فاسدها وداوى من أمراضها ثمَّ لم يمض عَلَيْهِ بضعَة أجيال حَتَّى ضعفت العزائم البشرية عَن احْتِمَاله وَضَاقَتْ الذرائع عَن الْوُقُوف عِنْد حُدُوده وَالْأَخْذ بأقواله وَوقر فى الظنون أَن اتِّبَاع وَصَايَاهُ ضرب من الْمحَال فَهَب القائمون عَلَيْهِ أنفسهم لمنافسة الْمُلُوك فى السُّلْطَان ومزاحمة أهل الترف فى جمع الْأَمْوَال وانحرف الْجُمْهُور الْأَعْظَم مِنْهُم عَن جادته بالتأويل وأضافوا عَلَيْهِ مَا شَاءَ الْهوى من الأباطيل هَذَا كَانَ شَأْنهمْ فى السجايا والأعمال نسوا طَهَارَته وَبَاعُوا نزاهته أما فى العقائد فَتَفَرَّقُوا شيعًا وأحدثوا بدعا وَلم يستمسكوا من أُصُوله إِلَّا بِمَا ظنوه من أَشد أَرْكَانهَا وتوهموه من أقوى دعائمها وَهُوَ حرمَان الْعُقُول من النّظر فِيهِ بل وفى غَيره من دقائق الأكوان والحظر على الأفكار أَن تنفذ إِلَى شىء من سرائر الْخلقَة فصرحوا بِأَن لَا وفَاق بَين الدّين وَالْعقل وَأَن الدّين من أَشد أَعدَاء الْعلم وَلم يكف الذَّاهِب إِلَى ذَلِك أَن يَأْخُذ بِهِ نَفسه بل جد فى حمل النَّاس على مذْهبه بِكُل مَا يملك من حول وَقُوَّة وأفضى الغلو فى ذَلِك بالأنفس إِلَى نَزعَة
كَانَت أشام النزعات على الْعَالم الإنسانى وهى نَزعَة الْحَرْب بَين أهل الدّين للإلزام بِبَعْض قضايا الدّين فتقوض الأَصْل وتخرمت العلائق بَين الْأَهْل وحلت القطيعة مَحل التراحم والتخاصم مَكَان التعاون وَالْحَرب مَحل السَّلَام وَكَانَ النَّاس على ذَلِك إِلَى أَن جَاءَ الْإِسْلَام
كَانَ سنّ الِاجْتِمَاع الْبُشْرَى قد بلغ بالإنسان أشده وأعدته الْحَوَادِث الْمَاضِيَة إِلَى رشده فجَاء الْإِسْلَام يُخَاطب الْعقل ويستصرخ الْفَهم واللب ويشركه مَعَ بعض العواطف والإحساس فى إرشاد الْإِنْسَان إِلَى سعادته الدُّنْيَوِيَّة والأخروية وَبَين للنَّاس مَا اخْتلفُوا فِيهِ وكشف لَهُم عَن وَجه مَا اخْتَصَمُوا عَلَيْهِ وَبرهن على أَن دين الله فى جَمِيع الأجيال وَاحِد ومشيئته فى إصْلَاح شئونهم وتطهير قُلُوبهم وَاحِدَة وَأَن رسم الْعِبَادَة على الأشباح إِنَّمَا هُوَ لتجديد الذكرى فى الْأَرْوَاح وَأَن الله لَا ينظر إِلَى الصُّور وَلَكِن ينظر إِلَى الْقُلُوب وطالب الْمُكَلف برعاية جسده كَمَا طَالبه بإصلاح سره فَفرض نظافة الظَّاهِر كَمَا أوجب طَهَارَة الْبَاطِن وعد كلا الْأَمريْنِ طهرا مَطْلُوبا وَجعل روح الْعِبَادَة وَالْإِخْلَاص وَأَن مَا فرض من الأهمال إِنَّمَا هُوَ لما أوجب من التحلى بمكارم الْأَخْلَاق {إِن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر} {إِن الْإِنْسَان خلق هلوعا إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعا وَإِذا مَسّه الْخَيْر منوعا إِلَّا الْمُصَلِّين} وَرفع الْغنى الشاكر إِلَى مرتبَة الْفَقِير الصابر بل رُبمَا فَضله عَلَيْهِ وعامل الْإِنْسَان فى مواعظه مُعَاملَة الناصح الهادى للرجل الرشيد فَدَعَاهُ إِلَى اسْتِعْمَال جَمِيع قواه الظَّاهِرَة والباطنة وَصرح بِمَا لَا يقبل التَّأْوِيل أَن فى ذَلِك رضَا الله وشكر نعْمَته وَأَن الدُّنْيَا مزرعة الْآخِرَة وَلَا وُصُول إِلَى خير العقبى إِلَّا بالسعى فى صَلَاح الدُّنْيَا
الْتفت إِلَى أهل العناد فَقَالَ لَهُم {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} وعنف النازعين إِلَى الْخلاف والشقاق على مَا زعزعوا من اصول الْيَقِين وَنَصّ على أَن التَّفَرُّق بغى وَخُرُوج عَن سَبِيل الْحق الْمُبين وَلم يقف فى ذَلِك عِنْد حد الموعظة بالْكلَام والنصيحة بِالْبَيَانِ بل شرع شَرِيعَة الْوِفَاق وقررها فى
فى الْعَمَل فأباح للْمُسلمِ أَن يتَزَوَّج من أهل الْكتاب وسوغ مؤاكلتهم وَأوصى أَن تكون مجادلتهم بالتى هِيَ أحسن وَمن الْمَعْلُوم أَن المحاسنة هى رَسُول الْمحبَّة وَعقد الألفة والمصاهرة إِنَّمَا تكون بعد التحاب بَين أهل الزَّوْجَيْنِ والإرتباط بَينهمَا بروابط الائتلاف وَأَقل مَا فِيهَا محبَّة الرجل لزوجيه وهى على غير دينه قَالَ تَعَالَى {وَمن آيَاته أَن خلق لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا لتسكنوا إِلَيْهَا وَجعل بَيْنكُم مَوَدَّة وَرَحْمَة} ثمَّ أَخذ الْعَهْد على الْمُسلمين أَن يدافعوا عَمَّن يدْخل فى ذمتهم من غَيرهم كَمَا يدافعون عَن أنفسهم وَنَصّ على أَن لَهُم مَا لنا وَعَلَيْهِم مَا علينا وَلم يفْرض عَلَيْهِم جَزَاء ذَلِك إِلَّا زهيدا يقدمونه من مَالهم وَنهى بعد ذَلِك عَن كل إِكْرَاه فى الدّين وَطيب قُلُوب الْمُؤمنِينَ فى قَوْله {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ} فَعَلَيْهِم الدعْوَة إِلَى الْخَيْر بالتى هى أحسن وَلَيْسَ لَهُم وَلَا عَلَيْهِم أَن يستعملوا أى ضرب من ضروب الْقُوَّة فى الْحمل على الْإِسْلَام فَإِن نوره جدير أَن يخترق الْقُلُوب وَلَيْسَت الْآيَة فى الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ بَين الْمُسلمين فَإِنَّهُ لَا اهتداء إِلَّا بعد الْقيام بِهِ وَلَو أُرِيد ذَلِك لَكَانَ التَّعْبِير على كل وَاحِد مِنْكُم بِنَفسِهِ لَا عَلَيْكُم أَنفسكُم كَمَا هُوَ ظَاهر لكل عربى كل ذَلِك ليرشد إِلَى أَن الله لم يشرع لَهُم الدّين ليتفرقوا فِيهِ وَلَكِن ليهديهم إِلَى الْخَيْر فى جَمِيع نواحيه
رفع الْإِسْلَام كل امتياز بَين الْأَجْنَاس البشرية وَقرر لكل فطْرَة شرف النِّسْبَة إِلَى الله فى الْخلقَة وَشرف اندراجها فى النَّوْع الإنسانى فى الْجِنْس والفصل والخاصة وَشرف استعدادها بذلك لبلوغ أَعلَى دَرَجَات الْكَمَال الذى أعده الله لنوعها على خلاف مَا زَعمه المنتحلون من الِاخْتِصَاص بمزايا حرم مِنْهَا غَيرهم وتسجيل الخسة على أَصْنَاف زَعَمُوا أَنَّهَا لن تبلغ من الشَّأْن أَن تلْحق غبارهم فأماتوا بذلك الْأَرْوَاح فى مُعظم الْأُمَم وصيروا أَكثر الشعوب هياكل وأشباحا
هَذِه عبادات الْإِسْلَام على مَا فى الْكتاب وصحيح السّنة تتفق على مَا يَلِيق بِجلَال الله وسمو وجوده عَن الْأَشْبَاه وتلتثم مَعَ الْمَعْرُوف عِنْد الْعُقُول السليمة فَالصَّلَاة رُكُوع وَسُجُود وحركة وَسُكُون وَدُعَاء وتضرع وتسبيح وتعظيم وَكلهَا
تصدر عَن ذَلِك الشُّعُور بالسطان الإلهى الذى يغمر الْقُوَّة البشرية ويستغرق الْحول فتخشع لَهُ الْقُلُوب وتستحذى لَهُ النُّفُوس وَلَيْسَ فِيهَا شىء يَعْلُو على متناول الْعقل إِلَّا نَحْو تَحْدِيد عدد الرَّكْعَات أَو رمى الجمرات على أَنه مِمَّا يسهل التَّسْلِيم فِيهِ لحكمة الْعَلِيم الْخَبِير وَلَيْسَ فِيهِ من ظَاهر الْعَبَث واستحالة الْمَعْنى مَا يخل بالأصول الَّتِى وَضعهَا الله لِلْعَقْلِ فى الْفَهم والتفكير أما الصَّوْم فحرمان يعظم بِهِ أَمر الله فى النَّفس وتعرف بِهِ مقادير النعم عِنْد فقدها ومكانة الْإِحْسَان الإلهى فى التفضل بهَا {كتب عَلَيْكُم الصّيام كَمَا كتب على الَّذين من قبلكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} أما أَعمال الْحَج فتذكير للْإنْسَان بأوليات حاجاته وتعهد لَهُ بتمثيل الْمُسَاوَاة بَين أَفْرَاده وَلَو فى الْعُمر مرّة يرْتَفع فِيهَا الامتياز بَين الْغنى وَالْفَقِير والصعلوك والأمير وَيظْهر الْجَمِيع فى معرض وَاحِد عُرَاة الْأَبدَان متجردين عَن آثَار الصَّنْعَة وحدت بَينهم الْعُبُودِيَّة لله رب الْعَالمين كل ذَلِك مَعَ استبقائهم فى الطّواف والسعى والمواقف ولمس الْحجر ذكرى إِبْرَاهِيم عليه السلام وَهُوَ أَبُو الدّين وَهُوَ الذى سماهم الْمُسلمين واستقرار يقينهم على أَن لَا شىء من تِلْكَ البقايا الشَّرِيفَة يضر أَو ينفع وشعار هَذَا الإذعان الْكَرِيم فى كل عمل الله اكبر أَيْن هَذَا كُله مِمَّا تَجِد فِي عبادات أَقوام آخَرين يضل فِيهَا الْعقل ويتعذر مَعهَا خلوص السِّرّ للتنزيه والتوحيد
كشف الْإِسْلَام عَن الْعقل غمَّة من الْوَهم فِيمَا يعرض من حوادث الْكَوْن الْكَبِير الْعَالم والكون الصَّغِير وَالْإِنْسَان فقرر أَن آيَات الله الْكُبْرَى فى صنع الْعَالم إِنَّمَا يجرى أمرهَا على السّنَن الإلهية الَّتِى قدرهَا الله فى علمه الأزلى لَا يغيرها شىء من الطوارىء الجزائية غير أَنه لَا يجوز أَن يغْفل شَأْن الله فِيهَا بل ينبغى أَن يحيى ذكره عِنْد رؤيتها فقد جَاءَ على لِسَان النبى صلى الله عليه وسلم إِن الشَّمْس وَالْقَمَر آيتان من آيَات الله لَا يخسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فاذكروا الله وَفِيه التَّصْرِيح بِأَن جيمع آيَات الْكَوْن تجرى على نظام وَاحِد لَا يقْضى فِيهِ إِلَّا الْعِنَايَة الأزلية على السّنَن الَّتِى أقامته عَلَيْهَا ثمَّ أماط اللثام عَن حَال الْإِنْسَان فى النعم الَّتِى يتمتع بهَا الْأَشْخَاص أَو الْأُمَم والمصائب
الَّتِى يرزءون بهَا ففصل بَين الْأَمريْنِ فصلا لَا مجَال مَعَه للخلط بَينهمَا فَأَما النعم الَّتِى يمتع الله بهَا بعض الْأَشْخَاص فى هَذِه الْحَيَاة والرزايا الَّتِى يرزأ بهَا فى نَفسه فكثير مِنْهَا كالثروة والجاه وَالْقُوَّة والبنين أَو الْفقر والضعة والضعف والفقد قد لَا يكون كاسبها أَو جاليها مَا عَلَيْهِ الشَّخْص فى سيرته من استقامة وعوج أَو طَاعَة وعصيان وَكَثِيرًا مَا أمْهل الله بعض الطغاة الْبُغَاة أَو الفجرة الفسقة وَترك لَهُم مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا إنظارا لَهُم حَتَّى يتلقاهم مَا أعد لَهُم من الْعَذَاب الْمُقِيم فى الْحَيَاة الْأُخْرَى وَكَثِيرًا مَا امتحن الله الصَّالِحين من عباده وَأثْنى عَلَيْهِم فى الاستسلام لحكمه وهم الَّذين إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة عبروا عَن إخلاصهم فى التَّسْلِيم بقَوْلهمْ {إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} فَلَا غضب زيد وَلَا رضَا عَمْرو وَلَا إخلاص سريرة وَلَا فَسَاد عمل مِمَّا يكون لَهُ دخل فى هَذِه الرزايا وَلَا فى تِلْكَ النعم الْخَاصَّة اللَّهُمَّ إِلَّا فِيمَا ارتباطه بِالْعَمَلِ ارتباط الْمُسَبّب بِالسَّبَبِ على جارى الْعَادة كارتباط الْفقر بالإسراف والذل بالجبن وضياع السُّلْطَان بالظلم وكارتباط الثروة بِحسن التَّدْبِير فى الْأَغْلَب والمكانة عِنْد النَّاس بالسعى فى مصالحهم على الْأَكْثَر وَمَا يشبه ذَلِك مِمَّا هُوَ مُبين فى علم آخر
أما شَأْن الْأُمَم فَلَيْسَ على ذَلِك فَإِن الرّوح الذى أودعهُ الله جَمِيع شرائعه الإلهية من تَصْحِيح الْفِكر وتسديد النّظر وتأديب الْأَهْوَاء وتحديد مطامح الشَّهَوَات وَالدُّخُول إِلَى كل امْر من بَابه وَطلب كل رغيبة من أَسبَابهَا وَحفظ الْأَمَانَة واستشعار الْإِخْوَة والتعاون على الْبر والتناصح فى الْخَيْر وَالشَّر وَغير ذَلِك من أصُول الْفَضَائِل ذَلِك الرّوح هُوَ مصدر حَيَاة الْأُمَم ومشرق سعادتهم فى هَذِه الدُّنْيَا قبل الْآخِرَة {من يرد ثَوَاب الدُّنْيَا نؤته مِنْهَا} وَلنْ يسلب الله عَنْهَا نعْمَته مَا دَامَ هَذَا الرّوح فِيهَا يزِيد الله النعم بقوته وينقصها بضعفه حَتَّى إِذا فَارقهَا ذهبت السَّعَادَة على أَثَره وتبعته الرَّاحَة إِلَى مقره واستبدل الله عزة الْقَوْم بالذل وكثيرهم بالقل ونعيمهم بالشقاء وراحتهم بالعناء وسلط عَلَيْهِم الظَّالِمين أَو العادلين فَأَخذهُم بهم وهم فى غَفلَة ساهون وَإِذا أردنَا أَن نهلك
قَرْيَة أمرنَا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فِيهَا فَحق عَلَيْهَا القَوْل فدمرناها تدميرا) أمرناهم بِالْحَقِّ ففسقوا عَنهُ إِلَى الْبَاطِل ثمَّ لَا يَنْفَعهُمْ الأنين وَلَا يجديهم الْبكاء وَلَا يفيدهم مَا بقى من صور الْأَعْمَال وَلَا يُسْتَجَاب مِنْهُم الدُّعَاء وَلَا كاشف لما نزل بهم إِلَّا أَن يلجؤوا إِلَى ذَلِك الرّوح الأكرم فيستنزلوه من سَمَاء الرَّحْمَة برسل الْفِكر وَالذكر وَالصَّبْر وَالشُّكْر إِن الله لايغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم {سنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا} وَمَا أجل مَا قَالَه الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فى استسقائه اللَّهُمَّ إِنَّه لم ينزل بلَاء إِلَّا بذنب وَلم يرفع إِلَّا بتوبة على هَذِه السّنَن جرى سلف الْأمة فَبَيْنَمَا كَانَ الْمُسلم يرفع روحه بِهَذِهِ العقائد السامية وَيَأْخُذ نَفسه بِمَا يتبعهَا من الْأَعْمَال الجليلة كَانَ غَيره يظنّ أَنه يزلزل الأَرْض بدعائه ويشق الْفلك ببكائه وَهُوَ ولع بأهوائه مَاض فى غلوائه وَمَا كَانَ يغنى عَنهُ ظَنّه من الْحق شَيْئا
حث الْقُرْآن على التَّعْلِيم وإرشاد الْعَامَّة وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ والنهى عَن الْمُنكر فَقَالَ {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون} ثمَّ فرض ذَلِك فى قَوْله ولتكن مِنْكُم أمة يدعونَ إِلَى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر وَأُولَئِكَ هم المفلحون وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب عَظِيم يَوْم تبيض وُجُوه وَتسود وُجُوه فَأَما الَّذين اسودت وُجُوههم أكفرتم بعد أَيْمَانكُم فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون وَأما الَّذين ابْيَضَّتْ وُجُوههم ففى رَحْمَة الله هم فِيهَا خَالدُونَ تِلْكَ آيَات الله نتلوها عَلَيْك بِالْحَقِّ وَمَا الله يُرِيد ظلما للْعَالمين وَللَّه مَا فى السَّمَوَات وَمَا فى الأَرْض وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور ثمَّ بعد هَذَا الْوَعيد الذى يزعج المفرطين وَتحقّق بِهِ كلمة الْعَذَاب على
الْمُخْتَلِفين والمقصرين أبرز حَال الأمارين بِالْمَعْرُوفِ النهائين عَن الْمُنكر فى أجل مظهر يُمكن أَن تظهر فِيهِ حَال أمة فَقَالَ {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر وتؤمنون بِاللَّه} فَقدم ذكر الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ والنهى عَن الْمُنكر على الْإِيمَان فى هَذِه الْآيَة مَعَ أَن الْإِيمَان هُوَ الأَصْل الذى تقوم عَلَيْهِ أَعمال الْبر والدوحة الَّتِى تتفرع عَنْهَا أفنان الْخَيْر تَشْرِيفًا لتِلْك الْفَرِيضَة وإعلاء لمنزلتها بَين الْفَرَائِض بل تَنْبِيها على أَنَّهَا حفاظ الْإِيمَان وملاك أمره ثمَّ شدّ بالإنكار على قوم اغفلوها وَأهل دين أهملوها فَقَالَ لعن الَّذين كفرُوا من بنى إِسْرَائِيل على لِسَان دَاوُد وَعِيسَى ابْن مَرْيَم ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون وَكَانُوا لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ لبئس مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فقذف عَلَيْهِم اللَّعْنَة وهى أَشد مَا عنون الله بِهِ على مقته وغضبه
فرض الْإِسْلَام للْفُقَرَاء فى أَمْوَال الْأَغْنِيَاء حَقًا مَعْلُوما يفِيض بِهِ الْآخرُونَ على الْأَوَّلين سدا لحَاجَة المعدم وتفريجا لكربة الْغَارِم وتحريرا لرقاب المستبعدين وتيسير الْأَبْنَاء السَّبِيل وَلم يحث على شىء حثه على الْإِنْفَاق من الْأَمْوَال فى سَبِيل الْخَيْر وَكَثِيرًا مَا جعله عنوان الْإِيمَان وَدَلِيل الاهتداء إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم فاستل بذلك ضغائن أهل الْفَاقَة ومحص صُدُورهمْ من الاحقاد على من فَضلهمْ الله عَلَيْهِم فى الرزق وأشعر قُلُوب أُولَئِكَ محبَّة هَؤُلَاءِ وسَاق الرَّحْمَة فى نفوس هَؤُلَاءِ على أُولَئِكَ البائسين فاستقرت بذلك الطُّمَأْنِينَة فى نفوس النَّاس أَجْمَعِينَ وأى دَوَاء لأمراض الِاجْتِمَاع أنجع من هَذَا ذَلِك فضل الله يوتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم
أغلق الْإِسْلَام بأبى الشَّرّ وسد ينبوعى فَسَاد الْعقل وَالْمَال بِتَحْرِيمِهِ الخمبر والمقامرة والربا تَحْرِيمًا باتا لَا هوادة فِيهِ
لم يدع الْإِسْلَام بعد مَا قَررنَا أصلا من أصُول الْفَضَائِل إِلَّا أَتَى عَلَيْهِ وَلَا أما من أُمَّهَات الصَّالِحَات إِلَّا أَحْيَاهَا وَلَا قَاعِدَة من قَوَاعِد النظام إِلَّا قررها