الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(14) صلة السنة بالكتاب
السنة النبوية عند جميع علماء الأمة على اختلاف منازعهم وتحصصاتهم ثلاثة أقسام:
* الأول - السنة المؤكدة المقررة لما ورد في القرآن:
وضابطها: أن يأمر القرآن بأشياء، أو ينهي عن أشياء، فتأتي السنة مؤكدة ومقررة للأمر والنهي وما يشبههما.
فمثلاً: حرم الله الزنا وسماه فاحشة. فورد في السنة أحاديث تؤكد هذه المعاني، كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن".
ومثلاً آخر: قبح القرآن النفاق، وذم المنافقين. وجاء في السنة أحاديث تقرر هذه المعاني، كقوله صلى الله عليه وسلم:"آية المنافق ثلاثة: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أئتمن خان". ومع مواكبة السنة للقرآن في هذا الحديث؛ فإن فيه نوعاً من التفصيل الشارح للنفاق.
* الثاني: السنة الشارحة أو المبينة:
وضابطها: أن تشرح، وتبين، وتفصل، وتخصص، وتقيد، ما يكون في القرآن من الآيات التي تحتاج إلي بيان، أو تفصيل، أو تخصيص، أو تقييد.
وقد تقدم لنا جمل زافيو في بيان هذا القسم؛ وأهميته في حياة الأمة.
*الثالث: السنة الشارعة: وهو نوعان:
* النوع الأول: شارعة تشريعاً مفصلاً لأحكام وردت في القرآن مجملة لا تفصيل فيها. وهذا النوع كما يطلق عليه شارعاً يطلق عليه أيضاً شارحاً.
ومن أمثلته: تفصيل أحكام الربا الذي ورد تخريمه والنهي عنه في القرآن، فأحكام الربا التفصيلية طريقها السنة، والنهي عنه وتحريمه طريقه القرآن ومثله أيضاً: أحكام الصلاة، فالموجود في القرآن الأمر بإقامتها وفرضيتها، ثم تكلفت السنة بأحكامها التفصلية، التي تعددت الأحاديث النبوية في بيانها، والتي حفلت بها كتب الفقه، وكتب أحاديث الأحكام - مثل - "بلوغ المرام" لابن حجر العسقلاني، و"نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية" للزيلعى و"إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد" و"صحيح ابن خزيمة"، و"نيل الأوطار" للشوكاني، ومن قبل ذلك كله "الموطأ" للإمام مالك. وهذه الكتب لا تقتصر على بيان السنة في الصلاة فقط بل تعم كل أعمال المكلفين.
* أما النوع الثاني من السنة الشارعة، فهي التي تتعلق بأشياء أخرى تحليلاً أو تحريماً: إضافة إلى ما ورد في القرآن من أحكام.
وهذا النوع قليل جداً في نفسه وبالنسبة لما عداه من أقسام السنة، ومن أمثلته ما يأتي:
1-
حرم القرآن الأمهات والأخوات من الرضاعة. فقال تعالى {.... وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]
ولم يحرم القرآن نكاح غير الأمهات الأخوات من الرضاعة وجاءت السنة ووسعت دائرة التحريم من الرضاعة فقال صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".
- أي - البنات من الرضاعة، والعمات من الرضاعة، والخالات من الرضاعة، وبنات الأخوة من الرضاعة، وبنات الأخت من الرضاعة
…
إلخ
كذلك حرم القرآن الجمع بين الأختين في عصمة زوج واحد في وقت واحد، وصل في قوله تعالى - عطفاً على الأنكحة المحرمة -:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}
ثم أضافت السنة تحريم الجمع بين البنت وعمتها، وبين البنت وخالتها. وبين صلى الله عليه وسلم علة التحريم بقوله:"إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم".
2-
زكاة عيد الفطر، والحكمة من تشريعها "التوسعة على الفقراء والمساكين". وهذه الزكاة والأحكام المتعلقة بها: من يخرجها؟ وعمن يخرجها؟ ووقت إخراجها؟ والأنواع التي تخرج منها؟ ومقاديرها؟
…
كل هذا ليس له ذكر في القرآن، وإنما طريقه السنة الثانية.
3-
في التحريم الناشئ عن الرضاع، لم يرد في القرآن متى يحرم الرضاع النكاح، ولا القدر الذي يثبت به التحريم.
لقد سكت القرآن عن هذا، ثم بينه السنة زمناً وقدراً:
زمناً: أن يكون الرضاع قبل أن يفطم الرضيع، ويستغنى بالطعام عن اللبن.
- وقدراً: أن يكون المحرم خمس رضعات مشبعات مافرقات. وفي كل هذا - وغيره- لم تخاتلف السنة الكتاب؛ لأن المخالفة تكون لو كانت السنة تأمر، بما نهى عنه الكتاب، أو تنهي عما أمر به الكتاب؛ وهذا لم يحدث قط.
وحاشا أن يكون الرسول في هذا مشرعاً من تلقاء نفسه؛ لأن الشريع بلاغ، والبلاغ لا يكون إلا عن الله الذي اصطفاه رسولاً، وأنزل عليه وحيه الأمين، ولو كان الرسول تجاوز ما لم يأذن الله تعالى له فيه لما سكت القرآن عنه لحظة؛ والله هو القائل:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46] ولم يحدث للنبي عقاب من الله، بل حدث في حجة الوداع أن أعلن الله كمال الدين فقال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً} [المائدة: 3]
فهل - يا ترى - كان هذا الإعلان الإلهي سيكون لو كان محمد صلى الله عليه وسلم زاد في الدين شيئاً لم يأذن الله له فيه؟ هذا، وقد أثبت بعض الباحثين الأصولين أن: كل تشريع مستقل حاءت به السنة - على ندرته - له أصل أصيل في كتاب الله العزيز. ولولا خشية الإطالة لذكرنا ما قيل في هذا المجال. وهكذا يبدو التوافق التام بين الكتاب والسنة، وإن غاب على بعض المتعجلين، والأمر كما قال الشاعر:
ماضر شمس الضحى في الأفق طالعة * إن لم ير ضوءها من ليس ذا بصر
وبهذا تتهاوى شبهات صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية هوياً إثر هوى.
السنة من عند الله:
السنة الثابتة هي من عند الله تعالى مثل الكتاب العزيز وإن اختلفت طرق التلقي فيهما. وهذا حق نجده في القرآن وليس دعوى.
{وبالبينات والزبر بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وفي هذا الخطاب تحديد جلي لصلة السنة بالكتاب، فكل ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال. وأفعال في مجال التبليغ كأن بياناً للكتاب. وهذا هو صريح القرآن.
- ثم في سورة القيامة (الآيات - 16 - 19) خاطب الله رسوله الكريم خطاباً ثانياً جاء فيه: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}
قارن بين البيانين في كل من سورتى (النحل) و (القيامة) تجد البيان في النحل موكولاً إلى النبي "أي لتبين" أنت يا محمد للناس الذكر - بمعنى - القرآن الذي أنوله الله إلى الناس.
وتجد البيان في سورة القيامة صادراً من الله عز وجل {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .
ومعنى هذا بكل وضوح: إن أقوال النبي وأفعاله وتقريراته التي بين بها الكتاب هي بيان الله، وإن أسند إلى النبي.
فالسنة - إذن - من عند الله تعالى، ولم يقل محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً من تلقاء نفسه.
وصاحب المشروع يكرر كثيراً وجوب إلى القرآن وحده، وها هو ذا القرآن يضيف السنة إلى الله تعالى، فعليه إن كان مخلصاً في دعواه؛ أن يؤمن بالسنة طاعة لله وفق ما جاء في القرآن.
* * *