الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(15) وقف أحاديث الآحاد
باشر صاحب المشروع العمل في مشروعه، وهو يحمل فكرة شنيعة سيطرت عليه سيطرة تامة، فأرته الحق باطلاً، والباطل حقاً، وراح يتتبع كل شبهة تفيده في الإنتصار لما يريد. وتلك الفكرة مكونة من ادعاءين:
الأول: كفاية القرآن لمتطلبات الأمة في كل ما تحتاج إليه في الحياة دون إضافة أي شيء آخر مهما كان مصدره.
الثاني: طرد السنة النبوية من حياة الأمة، واعتبار كتابة الأحاديث النبوية "كلها" بدعة؛ والعمل بها زيادة في الدين، وهي سبب نكبة المسلمين!!
وقد عشنا من قبل مع كثير من أخطائه وأوهامه في الجزء الأول من مشروعه الضخم.
وفي هذه الحلقة نتعرض لشبهة أخرى من شبهاته: وهي ما كتبه حول أحاديث الآحاد وترك العمل بها كلية فلا يقبل منها حديث واحد مهما بلغ من درجات التوثيق والصحة!
قال هذا بعد إشاراته المتكرة بأن معظم الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من روايات الآحاد، وقليل منها موصوف بالتواتر، والموصوف بالتواتر عنهد هو أقوال الرواة إفتروها على الرسول كذباً وخداعاً؛ أو رووها عنه بالمعنى، فهي - إذن - ليست من كلامه صلى الله عليه وسلم كما يدعي صاحب المشروع!!
وبذلك ينسف السنة كلها نسفاً، فلا يبقى منها أثر واحد تطمئن إليه الأمة!!
وحديث الآحاد: هو ما رواه عدد قليل - واحد، أو اثنان، أو ثلاثة، أو أربعة - ولم يبلغ حد التواتر.
أما الحديث المتواتر: فهو ما رواه جماعة مستفيضة (كثيرة) من أول طبقة فيه إلى آخر طبقة ينتهي عندها سند الحديث.
وهذه القضية (قضية العمل بالآحاد) محسومة من قديم: حسمها علماء الحديث، والأصوليون، والفقهاء، وجمهور الأمة.
فقد نشأ الخلاف حول قبول حديث الآحاد والعمل به منذ قرون قبل مجيء صاحب المشروع؛ بل ومن عهد النبي نفسه، وخالفائه الراشدين، وجميع أصحابه، وعلى هذه السنة مضى أئمة المذاهب الفقهية وتلاميذهم وعلماء الأمصار وغيرهم.
وصار من المعلوم لإسلامياً قبول حديث الآحاد والعمل به على وجه الوجوب، وللعمل به عند الجمهور شروط:
الأول: أن يكون رواته من العدول الضابطين الثقات - أي - سلامة السند من النقد والطعن.
الثاني: سلامة متن الحديث من النقد - أي أن يكون الحديث مذكوراً بكل ألفاظه، ولم يحذف منها شيء وأن لا يكون له خبر أخر معارض له: وأقوى منه.
وهكذا ترى جمهور الأمة يستوثقون من حديث الآحاد قبل العمل به، فإذا ردوا بعضاً منه لم يكن سبب الرد كونه حديث أحاد؛ وإنما يكون سبب الرد أمراً أخر خاصاً بالحديث الأحادى المردود.
هذا هو مذهب جمهور العلماء في كل عصر ومصر، ولم يشذ عنهم إلا الخوارج والمعتزلة، فهم يرفضون حديث الآحاد جملة وتفصيلاً، وما أكثر ما شذ هؤلاء عن إجماع الأمة ولهم شبهات واهية - كشبهات صاحب هذا المشروع - تمسكوا بها في إسقاط خبر الآحاد، رغم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته به قولاً وعملاً، ويار الجمهور من بعدهم على مذهبهم إلى يومنا هذا.
ثم جاء صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية ونهج على نهج المعتزلة والخوارج وبعض الأفراد.
والذي نريد أن نوضحه - للقارئ الكريم - هنا هو أخطاء صاحب المشروع وأوهامه في رفض الأدلة التي أستند إليها الجمهور في قبول خبر الواحد؛ ووجوب العمل به بالشروط التي يجب توافرها في سنده ومتنه. فصاحب المشروع مجادل بارع؛ ولكنه ليس لد دارية بفقه اللغة ومرامي الكلام، فأخذ بهرف بمالاً يعرف دون أن ينتبه إلى عور ما يقول. ونسق إلى القراء الكرام بعض سقطاته في فهم النصوص القرآنية وغير القرآنية.
استدل الجمهور على وجوب العمل بخبر الآحاد - بشروطه - بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرارت: 6] لأن الآية تفيد
وجوب التثبت من خبر الفاسق، وهذا يفهم منه قبول خبر غير الفاسق (العدل) ، وهذا يسمى بـ "دلالة المفهوم".
ولتوضيحه نقول: إن المعانى نوعان:
- معنى يفهم من اللفظ مباشرة - مثل أن تقول: - "إلزم مصاحبة الصالحين". فالأمر بمصاحبة الصالحين معنى مفهوم من اللفظ مباشرة، وهذا المعنى يفهم منه النهي عن مصاحبة غي الصالحين، فالمعنى الأول يسمى معنى منطوق اللفظ، والثاني معنى مفهوم من معنى اللفظ، أو هو معنى المعنى لا معنى اللفظ المباشر.
وهذا ما استدل به الجمهور أما صاحب المشروع فيشَّنُع على الجمهور لاستدلالهم بالمعنى المفهوم من المعنى قال:
"حيث زعموا أن الآية الكريمة دليل على قبول خبر الواحد متى كان عدلاً، نظراً لأن التبين المأمور به - هنا - إنما يتعلق بخبر الفاسق وحده، فصار عدم التثبيت ثابتاً في حق العدل من الناقلين" هذا قوله. ثم بنى عليه أن الاستدلال بالمعنى المفهوم باطل، وإنما يكون الاستدلال بالمعنى المنطوق، وراح يستدل على ذلك بذكر آيات ليعجز بها الجمهور منها:
{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184]، ثم يقول:"الذي يكون من نتائج الأخذ بمفهوم المخالفة أن الصيام شر للصائمين إن كانوا لا يعلمون".
هذا ما فهمه صاحب المشروع التعسفي من الآية، وهو فهم مريض يدل على الجهل بمعاني الأساليب؛ لأن قوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ليس شرطاً في خيرية الصيام كما فهم صاحب المشروع؛ بل هو أسلوب يراد به الإلهاب والتهييج وتحريك المشاعر للإقبال على الصيام، وأمثال هذا الموضع لا تكاد تحصى في القرآن الكريم.
وقد أراد صاحب المشروع من قوله هذا أن يقول لعلماء الأمة: إن دلالة المفهوم باطلة؛ بدلالة ما فهمه هو وحده من أية الصيام هذه.
ومثال ثان: هو قوله تعالى: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 10]
حيث زعم أن مفهوم المخالفة - هنا - يفيد أن غير المرسلين - وإن كانوا أتقياء - يخافون لدى الله. وفهمه هما كفهمه في آية الصيام. منشأ هذا الفهم الباطل أن صاحب المشروع لا يعرف مقاصد المتكلم من كلامه، والمقصود من الآية - هنا - نفي خوف المرسلين لدى الله دون التعرض لخوف غيرهم أو أمنهم.
ومثال ثالث: قوله تعالى: {ومَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51]
فهم صاحب المشروع أن مفهوم المخالفة هنا هو أن الله يتخذ غير المضالين أعواناً ومساعدين، وهذا فهم سخيف؛ لأن الله ليس في حاجة إلى أعوان لا من الهادين ولا من المضلين، وإنما خص المضلون هنا بالحديث
لمناسبه المقام، فإن ما قبل هذه الآية وما بعدها حديث عن أولياء الشيطان والمشركين. (راجع سورة الكهف: 50: 53)
قبول الظن ورفضه:
ويتمسك صاحب المشروع في رفض خبر الآحاد بأن علماء الحديث قالوا: إنه يفيد الظن وسرعان ما يذكر قول الله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 28 - 29]
هنا اعتمد صاحب المشروع التعسفي الظن لقتل حديث الآحاد.
والظن ورد مرات أخرى في القرآن في مقام المدح والثناء، مثل ما حكى الله عمن يؤتي كتابه بيمينه:{إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20]، ومثل:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46] ، وعلى طريقته في اتباع هواه يفرق بين الظن الممدوح في القرآن وبين الظن الذي يفيده خبر الواحد، فالأول يقين، والثاني وهم، هذا هو المنهج العلمي الصحيح عند صاحب المشروع. الكيل بمعيارين. وهذا دأبة في مشروعه، وهو يعلم أن الظن الذي يفيده خبر الآحاد هو ما لا يمكن دفع الدلالة على الحق معه وليس الوهم.
* * *